المشهد الخامس
(شبه حجرة بسيطة تكاد تكون
عارية، الزوج ممدد على حصيرة، الزوجة منحنية عليه
تسقيه، وبشر يقف أمامه رافعًا يديه بالدعاء.)
بشر
:
أحيا الله قلبك، ولا أماتك حتى يميت
جسمك.
الزوج
:
أنت؟
بشر
:
رب أشعث أغبر لا يُؤبَه به، لو أقسم على
الله لأبرَّه.
الزوج
:
ادعه أن يبرَّ بي.
المرأة
(صائحة)
:
أرأيت؟ انحلت عقدة لسانه! بارِكه ليشرح
صدره.
بشر
:
البركة من عند الله.
الزوج
:
ادع لي.
بشر
:
أسأله أن يتوب عليك من كل ذنبٍ تبتَ منه
ثم رجعت إليه.
الزوج
:
وأنا القاتل وأمير القتلة؟
بشر
:
وما أصابكم من مُصيبةٍ فبما كسبت أيديكم.
الزوج
:
ليتها أصابتني وحدي.
المرأة
(باكية)
:
ضيعتني وضيعت ابني.
الزوج
:
هل يمكن أن يغفر لي؟
بشر
:
وَلَوْ يُؤَاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا
تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
الزوج
:
حملي ثقيل يا بِشر.
بشر
:
الله يخفف عنك.
الزوج
:
متى يا بشر؟
بشر
:
أمسُك قد مات، يومُك في النَّزع، وغدًا لم
يولدْ بعد، بادر بالعمل الصالح.
الزوج
:
فات الوقت … (يتسلل الابن من الباب دون
أن يلحظه أحد، يقف جانبًا ويستمع).
بشر
:
سيطيب السفر إلى الله … فاشغل وقتك بأعز
الأشياء.
الزوج
:
ما هو يا بشر؟
بشر
:
هو اشتغالك بالله.
الزوج
:
خلفي عقبات … وأمامي عقبات.
بشر
:
حقًّا … حقًّا … هي عقبات ست
(في حماسةٍ شديدة كأنه يتلو من
كتاب):
أن تغلق باب النعمة كي تفتح باب
الشدة.
تغلق باب العز وتفتح باب
الذل.
تغلق باب الراحة كي تفتح باب
الجهد.
تغلق باب النوم وتفتح باب
السهر.
تغلق باب الثروة كي تفتح باب
الفقر.
تغلق باب الأمل لتدخل من باب
الموت.
الابن
(يصفق ضاحكًا)
:
فات الوقت! فات الوقت!
بشر
:
من هذا؟
المرأة
:
ولدي! ولدي الغائب! (تقبل عليه وتضمه
وتقبله).
الابن
:
فات الوقت! ما جدوى أن تعظ الموتى؟
بشر
:
أبقاك الله. نحن جميعًا موتى أحياء، نحن
جميعًا أحياء موتى.
المرأة
:
هو أبوك على كل حال … كاد أن يقتلني في
ظهر السوق لولا هذا الشيخ.
الابن
:
شيخ الزهاد ببغداد … لمَ لم تتركه يفعل؟
المرأة
(باكية)
:
وترضى أن يقتل أمك؟
الابن
:
يرضيني أو يسخطني، ما قيمة هذا؟ ألم
يقتل هو والخليفة وأعوانه مدينة بأكملها؟
ألم يرض كل الناس ويركعوا عند قدميه ويديه
الملوثتَين بالدماء؟
الزوج
:
تظلمني حتى في موتي؟ لم يركع إلا
الأوغاد.
الابن
:
حراسك وجنودك هم حراس الحاكم وجنوده.
الزوج
(لبشر)
:
يظلمني حتى في موتي.
الابن
:
ومن ظلمني وظلم بغداد؟ من جعلها تسقط في
دمائها على أقدامكم؟
الزوج
:
لكني ثُرتُ على الفقر.
الابن
:
واستعبدت الفقراء.
الزوج
:
بل أدبت الأوغاد لأعطيهم … لست الثائر
وحدي.
الابن
:
ثرت وثائر … كم تمتهن الثورة!
الزوج
(متألمًا)
:
دعه يا بشر … وأتم دعاءك لي.
بشر
(داعيًا)
:
ستر الله عليك.
الزوج
:
روحي في حلقي.
بشر
:
الله يهون كربة روحك … سيطيب السفر إلى
الله.
المرأة
:
قل شيئًا لأبيك.
الابن
:
ما قال الشيخ سيطيب السفر إلى الله.
المرأة
(مولولة)
:
سافر … سافر!
بشر
:
يرحمه الله … (يتقدم نحو الميت … يتمتم
بالآيات ويرفع يديه بالدعاء، ينحني عليه
ويغمض عينيه، ويمسح رأسه بيده، ويضم ذراعيه
إلى صدره، يرجع إلى مكانه وهو ما زال
يتمتم بالتسبيح والدعاء).
بشر
:
وا طول حزناه! زاد البكاء فلا عزاء،
واشتد الخوف فلا أمن.
المرأة
(باكية)
:
هداه الله ببركتك … ماذا كنا نفعل
لولاك؟
بشر
:
بل أشرق نور في القلب ففاضت فيه البركة.
المرأة
:
كان بعيدًا عنه … فهل سيقربه منه؟
بشر
:
إنما يريد قرب القلوب لا قرب الأجساد.
المرأة
:
عاش كوحشٍ ضارٍ، والآن ينام كطفلٍ عارٍ.
بشر
:
انكشف حجاب الغرور، وانفتحت أبواب
الملكوت.
الابن
(فجأة)
:
هل يدخل منها قاتل؟
بشر
:
القاتل والمقتول عباد الله.
لمَ يقسو قلبك يا ولدي؟
الابن
:
بل يغضب كالبركان ويهدر كالطوفان!
بشر
:
ليس بيدك الميزان.
فارحم يا ولدي؛ كي يرحمك
الرحمن.
الابن
:
أرحم من لم يرحَم؟
أمي المسكينة.
المرأة
:
أمك غفرت يا ولدي كل
ذنوبه.
فكر في مثواه الآن.
بشر
:
والله غفور يا ولدي.
الابن
:
اسأل بغداد … فهل تغفر؟
بشر
:
أمك صفحت يا ولدي.
الابن
:
ومدينتنا؟ أوليست أُمًّا؟ (يندفع إلى
النافذة يشير إلى المدينة الهاجعة في
الليل).
انظر يا شيخي الطيب،
ها هي ترقد عارية كالمسخ
الأجرب.
ما من أحدٍ فيها إلا وهو
معذب.
إن كان القتل عجيبًا فالقاتل
أعجب.
انظر للقصر الساطع
كالكوكب.
يجلس فيه على عرش القوة وحش
مرعب.
كيف أضاء الوحش قناديله؟
من لحم الفقراء، وشحم البؤساء،
ودمع المظلوم المتعَب.
انظر يا شيخي الطيب، وانظر واغضب.
بشر
:
انظر أنت ولا تغضب … فكر في مثواه الآن
كما قالت أمك.
الابن
:
أمي … لا أملك إلا بضع دنانير، خذيها
للَّحَّاد يجهز نعشه.
المرأة
:
ليتك بللت دنانيرك بدموع العين.
الابن
:
إن جفت عيني ففؤادي
يدمع.
هيا انطلقي، فالفجر سيطلع.
المرأة
:
أبقاك الله.
ادع له يا شيخي الطيب.
كلمه حتى أرجع …
(تنصرف).
بشر
:
ولدي.
إن كنت تعيش بعيدًا عن هذا
البيت.
فأين تعيش، وماذا تعمل؟
الابن
:
أهرب من بيت ليس بيتي.
من وطنٍ ليس بوطني.
من بلدٍ صارت غابة.
أطلق فيها الكلب كلابَه،
والذئب ذئابَه.
بشر
:
ويلي من غضبك!
توشك أن تحرقني نارك.
ماذا تعمل؟
الابن
:
أجهد أن أوقظ بعض الأحياء الموتى.
بشر
:
أين؟
الابن
:
في جامع دجلة.
بشر
:
واعظ؟
الابن
:
أحيانًا شاعر.
دومًا ثائر.
ولهذا عشت غريبًا منذ صباي
الباكر.
بشر
:
بدأ الإسلام غريبًا،
ويعود كما بدأ غريبًا.
طوبى للغرباء.
الابن
:
أسأل نفسي حين يطل
نهاري.
حين يجن عليَّ الليل:
هل أصلح نفسي؟
أم أصلح ما أفسده غيري؟
بشر
:
طوبى للغرباء إذا فسد الناس.
الابن
:
وإذا فسد الأب؟
بشر
:
لا تقسُ عليه.
الابن
:
كم هو قاسٍ.
حتى بعد الموت فظيعٌ قاسٍ
(يقترب من جثمان أبيه،
يتحسسه في خوف، ويضع وجهه بين يديه.)
الابن
:
الأسد الفاتك،
رجلٌ هالك.
آه ما أقسى الموت!
ما أقسى الموت! (ينشِجُ
بالبكاء).
بشر
:
ادعُ له بالرحمة، وانسَ جروحك.
الابن
(ينهض ويقترب منه في
غضب)
:
لا! لا ما أنا ناسٍ!
الابن
(يقطع المكان جيئةً
وذهابًا)
:
كنت كأني القابض بيديه على
الجمر،
أحيا بين الناس غريبًا،
في أرض الغربة،
وأنا بين اثنين.
وأحلى الأمرين مُر؛
أن أصلح نفسي عند فساد
الناس.
أو أصلح ما أفسده الناس.
بشر
:
إنك رجلٌ صالح!
إن يُرِد الله بعبدٍ خيرًا
يفتح باب العمل عليه،
ويغلق باب القول.
الابن
(مستمرًّا)
:
رجلٌ صالح!
في الحالين أعيش ذليلًا
مقهورًا،
وأواجه جيشًا من فقراء
مقهورين.
أحلم بالثورة … أخطب … أغضب،
ثم أعود فأشنق غضبي
في حبل الصمت.
أتلفت حولي.
لا أعوان ولا أنصار،
كأني بين الناس حمارٌ
ميت.
أنظر بالقلب إلى ما بين
يدي،
فيَعشى بصرُ فؤادي،
بصر عيوني؛
ولهذا أستوحش منهم،
وكأني حي وسط الموتى.
مفتونون بحب الدنيا،
وبتعظيم الرؤساء،
بالشهوات وبالشبهات،
وبالأموال وبالأقوال.
كانوا إخوانًا متحابِّين،
فصاروا أعداء متعادين.
كتلٌ صماء،
تنحدر إلى هاوية،
لا يسقط فيها الحجر ولا الوحش
الملعون.
أسألهم من فوق المنبر:
هل أنتم أُمَّةُ خير الخلق؟
هل وجَّهتم أوجهكم للحق؟
هل صليتم لله وصمتم،
أم للقابع في القصر
العالي،
بين الجارية وبين الزِّق؟
همَج عُرج،
وذئاب مختلسة،
أُسْدٌ ضارية،
وثعالبٌ جارية،
وكلابٌ نجسة.
بشر
:
اسكت يا ولدي … استغفر،
لا يلعن خلق البارئ
إلا من أسكره حب الدنيا،
فاضطربَ على موج الكفر.
الابن
:
حاشا لله!
إني أَسكر من حب الله،
ولست أفيق بغير لقائه،
ما أكثر ما كنت أسائل
نفسي
حين أصلي في جوف الليل،
ودمع عيوني ينهل،
وصوتي يشرق بدعائه:
لو كان بقلبي ذرةُ حُبٍّ
للدنيا،
ما صحت لي سجدةٌ.
يا ربي، أخرج حب الدنيا من
قلبي،
حبب فيَّ قلوب الضعفاء،
أسكني بين الفقراء،
اجعلني ممن يعمل بالعلم،
ويقرن ذل الطاعة
بالصدق وبالحلم.
بشر
:
تلكُم هي حال الحب؛
ليست في تعليم الخلق؛
بل موهبة من عند الحق.
الابن
:
هو همي،
لم أُشغل عنه بسواه.
ومنه فِراري وإليه،
لن يشغلني عنه نعيم
الجنة،
كيف ستشغلني الدنيا عنه؟
بشر
:
وإذا أسكنت الدنيا قلبك،
هربت آخرتك منه.
الابن
:
لكن مع هذا …
بشر
(مقاطعًا)
:
اسمع يا ولدي
قول أبي سليمان:
الدنيا تهرب ممن يطلبها،
تطلب من يهرب منها.
فإذا أدركت الهارب جرحته،
وإن أدركها الطالب قتلته.
الابن
:
لكن مع هذا بقي سؤالي
ينتظر جوابًا يرحم حالي:
إن نحن تركنا الدنيا،
نحن الفقراء وأحباب الفقراء،
فلمن نتركها يا شيخ؟
أولم نُستخلف فيها؟
أولم يُلقَ على كاهلنا
عبء أمانتها،
لما أشفق أن يحملَها
الجبل وأشفقت الأرض؟
أوليس الوارث
هذا الإنسان؟
ومن الإنسان؟
إن لم يكن العارف
تستيقظ فيه عين القلب،
وتغفو عين الجسد
فلا يبصر غير الرب.
لمن نتركها يا شيخ؟
للأوغاد الأشرار؟
للكذابين النهابين؛
كلاب السلطة،
وذئاب الخسة والحطة،
وطغاة الدين والدنيا،
المسعورين على الدرهم
والدينار؟
يا شيخي … بك أقسمت عليه.
بشر
:
جل علاه!
هو يهديني للخير،
ويؤنس روحي،
وهو البلسم وشفاء جروحي.
الابن
:
بك أقسمت عليه.
هل تقبل قسمي؟
بشر
:
لا … لا تفعل،
فأنا لا أعرف منزلتي منه،
أنا لا أعرف منزلتي منه،
لست كمعروفٍ الكَرْخي،
رضي الله تعالى عنه،
ومكاني الآن أمامك،
لا تحت العرش ولا بين
يديه.
لا أدري إن كنت قريبًا
منه،
أو إن كان سيبعدني عنه.
الابن
:
أوترفض أن أقسم بك؟
فبمن أقسم أو أتقرَّب منه؟
بالراقد في بركة دَم؟ … (يشير إلى
جثة أبيه، ويقول في سخرية):
بالأسد الفاتك، والثور الهالك؟
بالصقر الجارح،
والوحش الجائح؟
عاجله السم
وأرداه السهم!
بشر
:
دعه لمن بيديه الأمر،
لن تنفعه يا ولدي،
لن يأتيه ضررٌ منك،
قد أسلم لله زمامَه.
الابن
:
وأنا أسلمت نواصيَّ إليه،
يا من تطَّلع عليَّ إذا ليلي
جن،
وأنا في الخلوة أذكر
اسمك،
وأناجيك بدمع العين،
أسفِر لي عن طلعة شمسك،
أدخلني روضة قدسك،
ألهمني أعمل ما أعمله
لك،
أترُكُ ما أتركه لك،
لا يملأ قلبي لا يشغله
غيرك،
وإذا ثُرت فعذري أن
الثورة
من أجل عُلاك.
وإذا عثَرت قدمي أو قدم
صحابي،
فالقصد رضاك.
هل يرضيك خراب الروح،
وموت العقل،
وذل النفس؟
هل تقبل عينك أن تطَّلع
على هذا القُبح،
وهذا البؤس؟
بشر
:
لن يَنشِل هذا البلد من
البؤس،
إلا تطهيرُ النفس.
ذلك هو دربي لا أعرف دربًا
غيره.
الابن
:
لا … لن يصلح بغداد،
إلا جُهد وجهاد.
لن ينقذ هذا البلد
الجاحد،
إلا أن يُجتث الرأس
الفاسد،
والفرع الفاسد.
تفصله ضربة سيف، أو ضربة
فأس.
لن يصلح هذا البلد سوى
الثورة.
بشر
:
ما الثورة؟
الثورة تحرق، والثورة
تصعق.
تكسر قيدًا كي تضع قيودًا
أوثق.
الثورة حُلم يا ولدي،
والحالم أخرق.
الابن
:
بل راعٍ فينا مسئول،
واتَتْه الحكمة والقدرة
أن يخطو فوق الصحراء،
فتخضر النبتة والشجرة.
بشر
:
والثائر يصبح جلادًا،
والثورة فرسًا أو مُهرة.
ويصير الثوار جرادًا
يلتهم الأخضر والخضرة.
لا … لا … لا.
لن ينشل هذا البلد من
البؤس،
إلا تطهير النفس.
الابن
(رافعًا صوته)
:
لن ينشل هذا البلد من
الظلم،
إلا تطهير الحاكم
والمحكوم،
وتطهير الحكم.
بشر
:
ومَن الطاهر عندك؟ مَن طهَّره؟
الابن
:
شرع الله الحق،
نار الحرية والصدق.
(في هذه اللحظة يدخل
جنود فتحوا الباب عَنوةً، في أيديهم سيوف
وسلاسل وقيود.)
أحد الجند
:
الحرية والحق؟
الابن
:
قلت الحرية والصدق.
الجندي
:
الصدق أو العدل أو الحق،
أهنالك فرق؟
ما الفرق؟
قل ما شئت لمولانا.
الابن
:
من مولاكم؟
بشر
:
لا نعرف إلا مولانا الحق.
جنديٌّ آخر
:
أنت هنا يا بشر؟
جندي ثالث
:
بخ! بخ! بخ!
وقع الصيد، فأحكِم إغلاق
الفخ!
بشر
:
الأمر لمولانا الحق،
هو يلهمنا الصدق.
جندي
:
عدنا للحق وللصدق؟
هيا … هيا.
مولاك ومولانا،
من بيديه الأمر،
يطلب أن تحضر معنا
أنت وصاحبك الحافي،
بشر أبو النصر.
الابن
:
ما التهمة؟ لن أتحرك!
جندي
:
هيا … هيا.
ما هذا الحظ؟
لا تتعبنا مُدَّ يديك،
وكذلك أنت،
مد يديك ورجليك.
بشر
:
لا تتحرك يا ولدي،
لا تأبَه له.
جندي
:
قالوا رجلٌ مجذوب طيب،
من أحباب الله،
ولا يعرف غير الحب،
هيا … هيا.
الابن
:
قلنا لن تتحرك.
جندي
:
من لا يتحرك يهلك.
المرأة
:
ما هذا؟ من أنتم؟
الابن
:
حراس الشر.
بشر
:
وجند الشيطان.
جندي
:
ما هذا يا بشر؟
أيكون جزاء الإحسان
سوى الإحسان؟
(يستل السيف من غِمده،
وكذلك يفعل بقية الجنود.)
(تدخل المرأة مع
اللَّحَّاد الذي ينطلق باحثًا عن جثمان الميت،
ويطوف على الحاضرين واحدًا واحدًا وهو
يقول.)
اللحاد
:
أين الميت؟ أين الجثة؟ هل هو هذا؟ هل هو
هذا؟ أم هو هذا؟
المرأة
:
هنا يا رجل!
جندي
:
أعمى أنت؟
اللحاد
:
معذرة يا سادة، فكلانا حيٌّ ميت … لا
يبقى غيره، من يعرف حيًّا من ميت؟ من يعرف
حيًّا من ميت؟!
جندي (يركله بقدمه بعد أن
توقف عنده).
اللحاد
:
لا دائم إلا وجهه،
لا دائم إلا وجهه.
(وينكب على عمله وهو
يردد بعض الآيات.)
المرأة
(تلتفت إلى
الجنود)
:
ماذا تبغون؟ من أرسلكم؟
جندي
:
في العادة يرسلنا الله،
أو الشيطان،
قاضي الشرع، أو المحتسب أو
السجان.
أما الليلة فخليفتنا،
يرعاه الله،
لمح النار،
وشمَّ دُخان.
سأل العرَّاف عن الطالع
والميزان.
قال حَذَار!
فهي الثورة والثُّوار!
هاتوا القيد مع السجان.
المرأة
:
القيد مع السجان؟
أدِّبهم يا بشر،
ازجرهم،
واسكب في الآذان
ما أدبت به المسكين،
الميت في الأكفان.
جندي
(بوقاحة)
:
هيا يا بشر تقدَّم،
واسكب في الآذان (يشرع الجنود
آذانهم ضاحكين).
بشر
(يتقدم منهم، يمسك
واحدًا من كتفه ويهمس في أذنه فيغرق في
الضحك)
:
إن كنت لا تراه
فإنه يراك،
فإنه يراك … (يزعق فجأة):
ليسقط هذا القيد!
جندي
:
ومن أدراك؟
نحن نراك،
ونحكم قيدك.
نحن نراك.
جندي آخر
:
وإذا شئت
شددنا القبضة،
فوق قفاك (يضحكون بشدة).
بشر
(يائسًا منتظرًا
المعجزة)
:
إن كنت لا تراه،
فإنه يراك.
فإنه يراك.
الجنود
(وهم يتمون وضع القيود
في يدَي بشر والابن ويتحركون نحو
الباب)
:
بشر
:
ربي! لمَ يجفوني نورك؟
هل نفد الزيت بمصباحي؟
سبحانك ربي! قد قدرت وقدرك
سر،
أن أصرع وحشًا في الظهر،
ويصرعني وحش في الفجر.
إن كنت فتحت بقلبي جرحًا
فوق جروحي،
فالطف يا رب بعبدك،
واكشف عنه الضر،
هيا يا ولدي.
المرأة
:
هيا؟ وإلى أين؟
ولدي … ولدي!
بشر … بشر!
ربي! هل يفجعني زوجي في
الليل،
ويتركني ولدي في الفجر!
ولدي … ولدي!
بشر … بشر!
(يخرجون بينما يتردد
نداؤها وهي تندفع مسرعة خلفهم.)
اللحاد
(مُنكَبًّا على
عمله)
:
لا دائم إلا وجهه.
لا دائم إلا وجهه.
من يعرف ميتًا من حي؟
من يعرف حيًّا من ميت؟!