مقدمة
أرَّخنا للفلسفة اليونانية، ثم الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، وأخيرًا للفلسفة
الحديثة،
١ وكنا كلما صادفنا مذهبًا كليًّا أو رأيًا جزئيًّا عَقَّبْنا عليه بالتأييد أو
التفنيد؛ إذ إننا نعتقد أن مؤرخ الفلسفة فيلسوف أيضًا، وأنه لا يليق به أن يضع نفسه موضع
الببغاء، فيقصر مهمته على حكاية أقوال الفلاسفة دون عناية يتدبرها والحكم فيها. بيد أن
تعقيبنا كان يجيء مقتضبًا لأننا كنا بسبيل التأريخ أولًا. ففي هذا الكتاب نعالج المسائل
لذاتها مُحاوِلين الكشف عن وجه الحق فيها. وعنوانه يؤذِن بأننا نقدم دراسة العقل، كما
يقدم
العامل امتحان الآلة قبل الشروع في استخدامها. ولسنا نزعم أن هذا الترتيب واجب؛ فإن الناس
جميعًا يصدقون عقلهم وحواسهم بادئ ذي بدء، وللفيلسوف المؤمن بصدق العقل والحواس أن يجاريهم
فيقتحم المنطق ويثني بالفلسفة الطبيعية مرجئًا نقد المعرفة إلى مكانه المنطقي الذي هو
علم
ما بعد الطبيعة أعم العلوم والمختص من ثمة بالفحص عن أعم المسائل.
لكن كل مُطلِع على الفلسفة يعلم أن مسألة المعرفة هي المحور الذي تدور حوله مسائل
الوجود،
بمعنى أن حلول هذه المسائل تتعين تبعًا للحل المرتضى لمسألة المعرفة، ففي تقديم هذه المسألة
إظهارٌ للأسباب الأولى التي حدت بكل فيلسوف على سائر آرائه. لما كانت المعرفة الإنسانية
تتألف من مدركات تمثل الأجسام، أي مظاهرها المحسوسة مكتسبة بالحواس الظاهرة ومختزلة في
المخيلة، ومن مدركات مجردة عن كل عرض محسوس ومكتسبة بما يسمى بالعقل، وكان الفلاسفة متفقين
إجمالًا على أن المعرفة العقلية (على تضاربهم في طبيعتها وقيمتها) أعلى من المعرفة الحسية
وحاكمة عليها؛ انتهت مسألة المعرفة إلى أن تكون مسألة العقل.
فإذا أردنا أن نعرِّف العقل ريثما نقبل على دراسته بالتفصيل، قلنا إنه قوة في الإنسان
تدرك طوائف من المعارف اللامادية. يدرك العقل أولًا ماهيات الماديات، أي كنهها لا ظاهرها،
٢ ويدرك ثانيًا معاني عامة: كالوجود، والجوهر والعرض، والعِلِّيَّة والمعلولية،
والغاية والوسيلة، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والحق والباطل. ويدرك ثالثًا علاقات
أو
نسبًا كثيرة: كالعلاقة بين أجْزاء الشيء الواحد، وعلاقات الأشياء فيما بيْنها، وعلاقات
المعاني التي ذكرناها الآن، والعدد والترتيب. فهذه المدركات غير مادية، فلا ينفذ الحس
إليها
بحال. وليست العلاقة أو النسبة موجودًا واقعيًّا، وإنما الموجود طرفاها، فإدراكها إدراك
معنى غير مادي. ويدرك العقل رابعًا ما بدئ عامة في كل علم علم وفي العلوم إجمالًا، وليس
في
التجربة شيء عام. ويردك خامسًا وجود موجودات غير مادية، كالنفس والله وخصائصها الذاتية،
وذلك بالاستدلال بالمحسوس على المعقول أو بالمعلول على البادي للحواس على العلة الخفية
عليها. وسادسًا بالاستدلال أيضًا يؤلف الفنون والعلوم، مما لا مثيل له عند الحيوان الأعجم
مع حصوله على المعرفة الحسية.
ولقضية العقل وجهان: أحدهما وجوده، والآخر قيمة إدراكه إذا كان موجودًا. والأصل في
الوجه
الأول أن فريقًا هامًّا من الفلاسفة يذهبون إلى أن الحواس الظاهرة والمخيلة هي وسائلنا
الوحيدة للمعرفة، وأن ما يسمى بالعقل إن هو إلا جملة أفعال ترجع إليها. هؤلاء يُدعون
بالحِسِّيين أو التجريبيين متى دار الكلام على المعرفة، وبالماديين متى دار على الوجود،
وذلك لقولهم: لا وجود لغير المادة، ولا معرفة دون الإحساس، ويُدعون أيضًا بالاسميين أو
اللفظيين لقولهم: ما المعاني إلا أصوات في الهواء، أي أسماء أو ألفاظ وحسب. وهم أميل
إلى
تسمية العقل بأسماء ذات دلالة واسعة غامضة قد تمتد إلى المعرفة بأسرها، فيقولون بالفرنسية:
Entendement، وبالإنجليزية:
“Mind,
spirit” Understanding مما يقابل قولنا: «الذهن» على حد تعريفه بأنه:
«قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة».
٣ وطبيعي أنه لو صح مذهبهم لعاد البحث في مسائل الوجود إلى تحليلها للكشف عن
كيفية تكوينها من الصور الخيالية والعادات النفسية، أي عادت الفلسفة كلها إلى مسألة
المعرفة. وقد حدث هذا فعلًا من جانبهم، وكان محتومًا أن يحدث بناء على مبدئهم. لذا كان
أول
ما عنينا به إثبات وجود العقل بإثبات أصالة أفعاله ومغايرتها لأفعال الحواس، وكان هذا
موضوع
الباب الأول.
ما نكاد نضع هذه النتيجة حتى يبرز لنا الوجه الآخر لقضية العقل، ذلك أن العقل قد
يكون
موجودًا ثم يكون أداة غير صالحة للإدراك، فهل باستطاعته الوصول إلى اليقين، أو هو مضطر
لتعليق الحكم والتزام الشك؟ هذه مسألة عامة مبدئية تتخصص في ثلاث مسائل؛ الأولى: هل
باستطاعة العقل أن يبرر يقينه بإدراكه؟ الثانية: هل باستطاعته أن يبرر اليقين بإدراك
الحواس؟ الثالثة: هل باستطاعته أن يجاوز دائرة الوجود الطبيعي إلى ما بعد الطبيعة؟ في
هذه
المسائل نلقى الحسيين بأدلتهم، ونلقى بنوع خاص طائفة من الفلاسفة نسميهم بالتصوريين؛
٤ لأنهم يدعون أن الإدراك أيًّا كان إنما يقع على التصورات الماثلة في الذهن، كما
يحدث في الأحلام، لا على موضوعات متمايزة من التصورات، وأن تصديقنا بوجود الأجسام بقيمة
المعاني والمبادئ العقلية إن هو إلا تَوهُّم، ومن باب أولى التصديق بالروحيات.
وقد اصطنع الحسيون هذا المبدأ التصوري، واتحدوا مع أصحابه، فأجابوا جميعًا على المسائل
الثلاثة بالنفي. وهذا موقف خطير للغاية يقضي على الفلسفة كعلم للوجود. ونحن ننحاز إلى
وجهة
الإثبات، ونبين أن قوانا العارفة آلات صالحة للإدراك صادقة بالرغم مما تقع فيه أحيانًا
من
أخطاء، وأن هناك حقائق لا يتطرق الشك إليها: منها أولية بينة بنفسها، ومنها كسبية يتبرهن
اليقين بها بالأولية، فتستطيع المضي في الفلسفة، ومعالجة المسائل الوجودية.
هذه المسائل منها عامة ومنها خاصة: المسائل العامة نجد مكانها في هذا الكتاب، وهي
تدور
على معنى الوجود بالإطلاق، وعلى الأمور التي تلحقه بهذا الاعتبار، فنلحق كل موجود وتدخل
في
تفهم حقيقته، مثل الجوهر والعرض، والقوة والفعل، والعلة الفاعلية والعلة الغائية. وتؤلف
المسائل الخاصة كتابًا آخر: «الطبيعة وما بعد الطبيعة» ونقسمه إلى قسمين: أحدهما يضم
مسائل
الوجود الطبيعي، فيفحص عن تركيب الكائن المادي إجمالًا، ثم عن خصوصياته وهي الكائنات
الحية
نامية وحاسة وناطقة. والقسم الآخر يرتفع إلى الله علة الوجود الطبيعي، ويحاول تعرف ذاته،
وفسخ الإشكالات التي أثارها الحسيون والتصوريون بشأن إمكان البرهنة على وجود الله، وإمكان
إضافة صفات إلى الذات الإلهية. وبعد الفلسفة النظرية تجيء الفلسفة العملية أو فلسفة
الأخلاق، نتناولها في كتاب ثالث نسميه: «الأخلاق الإنسانية»، للدلالة على أن للإنسان
أخلاقًا لائقة به، مغايرة للأخلاق التي توحي بها الطبيعة الحيوانية الخاضعة للذة الجسمية
والمنفعة المادية. وعلى هذا الوجه نعوض مذهبًا تامًّا يتسم باليقين والإيمان، وبدونهما
لا
حياة للإنسان بما هو إنسان.
وإذا سُئلنا عن اسم هذا المذهب وعن مصدره، قلنا: إنه المذهب العقلي
Intellenctualisme٥ ولكن المذهب العقلي المعتدل
Modetre يؤمن
أيضًا بالوجود ويقدر تعلقه عليه. ثم قلنا إن أفلاطون قد سبق إلى بعض لمحات منه، ولكن
أرسطو
هو زعيمه الأول الذي استخلص معانيه الأساسية ومبادئه المنطقية والميتافيزيقية وصاغ
تعريفاتها واستخرج نتائجها، وإن الفلاسفة الإسلاميين، وبخاصة ابن سينا وابن رشد، قد أسهموا
فيه باللسان العربي المبين. فنحن نعود إلى هؤلاء جميعًا، ونؤيد شروحهم وأدلتهم، ونبين
تهافت
الذين حادوا عنها من الفلاسفة المحدثين. لقد تنوسيت تلك التعاليم القديمة وطال عليها
النسيان، أو صارت تروى لمحض التأريخ دون اعتقاد لها بقيمة فكرية وحقيقة وجودية، لا بل
مع
اعتقاد أن الآراء الحديثة قد نسختها، كما نسخ العلم الحديث العلم القديم، ونسخ كلُّ حديث
كلَّ قديم فيما يقال، فعسى أن يقتنع قارئ هذا الكتاب بأن الحق مكنون في هذا القديم الذي
نبعثه.