علاقة الحبشة بمصر والإسلام قديمًا وحديثًا
كانت الحبشة تدين بالوثنية كسائر الشعوب الأفريقية، ولكن اتصالها ببني إسرائيل مَا أدَّى إلى انتحالها الدين الموسوي، فلما أذن الله للمسيحية أن تنتشر، ودانت لها الإمبراطورية الرومانية، وانتشرت النصرانية في اليونان والشام ومصر، امتدَّت من مصر إلى الحبشة. وكانت الحبشة منذ أول أمرها ترمي إلى الفتح، فتغلبت على اليمن، إلى أن غلبهم الفرس في عهد كسرى، فأجلوا عنها وارتدوا إلى حدود بلادهم وراء البحر الأحمر بعد أن ملكوا اليمن خمسة وسبعين عامًا.
وكانت الحبشة قبل ظهور الإسلام بخمسين ومائة عام والنجاشي على عرشها في قمة مجدها، تجري بأمرها في البر والبحر تجارة واسعة، ويمخر البحار أسطول لها قوي أخضع لها ما جاور شطوطها من البلاد. وقد خطب أهل بيزنطة ودَّها وولاءَها، واعتبروها ممثلة للسلطة المسيحية في البحر الأحمر، وبأمرهم فتحت الحبشة بلاد اليمن على يد قائد حبشي خلعه أبرهة الأشرم، المشهور في تاريخ الإسلام بصاحب الفيل؛ لأنه هو الذي قاد حملة الفيل إلى مكة وحاول تدمير الكعبة، فكان ما كان من خبر فشلهم وهلاك جيشهم.
وكان عبيد الله بن جحش من أكابر العرب في السؤدد والنفوذ، وفي التفكير أيضًا، فكان في الجاهلية يبغض الوثنية، ويتشكك فيها، ويريد أن يعيش حر الفكر غير مقيد بعبادة الأصنام أو أية عبادة أخرى من قبيلها، وكان هو وثلاثة من صحبه هم: زيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل يحقرون الوثنية وينكرونها، ويعتبرون أهلها في ضلال، حتى إن عبيد الله بن جحش انبرى لأصحابه وقال: «تعالوا، والله ما قومكم على شيء، وإنهم لفي ضلال، فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور؟! يا قوم، التمسوا لكم دينًا غير هذا الذي أنتم عليه!»
وظل عبيد الله بن جحش فيما هو فيه من الثورة على الوثنية حتى ظهر الإسلام، فكان في مقدمة الذين أسلموا، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، وقد صحبته في هجرته إلى الحبشة امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهي أخت معاوية.
أما أم حبيبة فبقيت على دينها، وهو الإسلام، حتى عادت من هجرتها مع مَن عاد من المسلمين، وصارت من أزواج النبي وأمهات المؤمنين. وكانت على عقل راجح، وخُلُق متين.
لما ظهر الإسلام بشيء من القوة بدأت قريش تناوئه، وتعاكس ذويه، وتُنزل بهم ما تقدر عليه من صنوف الاضطهاد والتعذيب والبلاء؛ حتى بلغ التعذيب التقييد بالسلاسل والحبس والجلد، حتى القتل! فضجَّ المسلمون واستغاثوا بالله ورسوله، فأشار النبي عليهم بالهجرة إلى بلاد الحبشة النصرانية؛ لأنها قريبة من وطنهم؛ ولأن بها ملكًا — هو النجاشي — لا يظلم أحدًا، وقيل إن النبي عليه الصلاة والسلام وصف أرض الحبشة بأنها أرض صدق … وقد أشار النبي على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة والبقاءِ بها حتى يجعل الله لهم فرجًا مما هم فيه؛ فأطاعوا أمر رسول الله وخرجوا من مكة فارين بدينهم إلى الله.
وكانت الفرقة الأولى من المهاجرين مؤلفة من أحد عشر رجلًا وأربع نسوة تمكَّنوا من الفرار من مكة، فلما بلغوا بلاد الحبشة أكرم النجاشي وفادتهم، ثم عادوا إلى مكة ظنًّا منهم أن قريشًا كفَّت أذاها عن المسلمين، فرأوا بأعينهم من الأذى أشد مما عانوا في بداية أمرهم، فعادوا بهجرتهم إلى الحبشة وقد بلغوا ثمانين رجلًا غير النساء والأطفال، وما زالوا بها إلى أن هاجر النبي إلى المدينة.
وقد استمر الفريق الأول في الحبشة ثلاثة أشهر كان عمر بن الخطاب قد أسلم في أثنائها، فاشتد ساعد المسلمين في مكة، وظن المهاجرون أنهم لن يلقوا بها عنتًا؛ فعادوا إلى وطنهم، ولكن آمالهم حبطت عندما رأوا من ظلم أهل مكة أكثر مما رأوا من قبل، فعادوا إلى الهجرة في عدد أوفر.
عاد المسلمون المهاجرون الأوائل من الحبشة بعد ثلاثة أشهر بعد أن أسلم عمر بن الخطاب، ونصرَ الإسلام بمثل الحمية التي كان يحاربه بها من قبل، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين، وعادوا حين شبَّت الثورة في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبتها.
والثابت في كتب التاريخ أن أهل قريش لم يطمئنوا إلى هجرة المسلمين إلى الحبشة، فبعثوا برسولين إلى النجاشي يحملان أنفسَ الهدايا وأغلاها ليقنعوه برد المسلمين المهاجرين إلى وطنهم، وقد علم أهل مكة أن النجاشي تفضَّل فبسَط حمايته على المسلمين المهاجرين بعد أن سمع أقوالهم في وصف دينهم الجديد.
أما رسولا مكة إلى النجاشي فكانا عَمْرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة. وقد دل القرشيون بهذا الانتخاب على صدق فراستهم، وحسن اختيارهم، ولا سيما في اختيار عَمْرو؛ فقد سبقت له أسفار إلى الحبشة؛ لأنه كان في الجاهلية يتَّجر ببضائع اليمن والحبشة إلى الشام، وأهمها الأدم والعطر.
أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعثَ الله إلينا رسولًا منا نعرف نَسَبَه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بالصدق والأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام؛ فصدَّقناه وآمنا به على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا.
فقال النجاشي: «هل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه عليَّ؟»
قال جعفر: «نعم!»
وتلا من سورة مريم إلى قوله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.
فلما سمع البطارقة هذا القول مصدقًا لما في الإنجيل أخذوه وقالوا: «هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح!» وقال النجاشي: «إن هذا والذي جاء به موسى لَيخرجُ من مشكاة واحدة.» ثم التفت إلى عمرو ورفيقه وقال لهما: «انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما!»
ولكن عمرو بن العاص لم تخمد جذوة مكره، ولم تنطفئ شعلة دهائه، فعاد من الغد إلى النجاشي بفتنة جديدة، ولكنها فشلت، وقال النجاشي للمسلمين: «ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط.» وقد أخذ عودًا وخطَّ به على الأرض، وأحسَن وفادتهم، وأكرَم ضيافتهم، وعامَلهم بالعدل والدعة.
وقد برَهن الأحباش وعلى رأسهم النجاشي والبطارقة أنهم شعب كريم عريق في الشفقة والإنسانية والعطف على كل مظلوم أو مضطهد، سواء كان على دينهم أو على دين يخالفه، فغمروا المسلمين المهاجرين بحُسن الجوار، وجميل المعاملة؛ مما جعل المسلمين يطمئنون إلى جوارهم، ويسكنون إلى حمايتهم من أهل مكة الذين تتبعوهم بالأذى حتى في المنفى.
ودلَّ النجاشي والأحباش على أنهم أهل مروءة ونجدة، وقد صدق نظر رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ بعث بأصحابه إلى الحبشة منتظرًا معاملتهم بالعدل والحسنى.