هل لإيطاليا أمل في الفوز؟
من أغرب أنواع التهويل، وأوسع أبواب الإرهاب التي لجأت إليها إيطاليا وولجتها «مزعجة» الطائرات، و«معجزة» الغارات والغازات، فتوعدت الأحباش بأسراب من عفاريت الجو تصب على رءوسهم وأبدانهم صنوفًا من المتفجرات والمشتعلات والخانقات … بيد أن ثقات الحروب الحديثة في إيطاليا نفسها لا ينتظرون أن تجني جيوشهم فائدة كبيرة من تلك الأسراب المحلقة أو المعلقة؛ لقلة الأهداف التي تتجه إليها.
ولا جرم أن للطائرات أثرًا نافعًا في استطلاع حركات العدو، ولكن مدى طيرانها فوق جبال الحبشة محدود بما يمهد لها من المطارات، وهو من أشق الأمور على القيادة الإيطالية؛ لوعورة المسالك، وندرة الفسحة في الأرض الحائزة للشروط المطلوبة.
وأكبر المناصرين لإيطاليا لا يجزمون بما يعود عليها من الأجنحة الملتهبة أو المسمومة؛ لأن الحكم على هذا النوع من آلات الحرب لا يزال مرهونًا باختبار سلاح الطيران الإيطالي في الحبشة، ففرح إيطاليا به والتنويه بنتائجه قبل التثبت من مقدماته سابقٌ لأوانه.
وليست الحبشة قومًا واحدًا ولا قبيلًا منفردًا، بل خليط من شعوب وقبائل شديدة الشكيمة، يجري حب الاستقلال في دمائهم، ويضيفون إلى منعة معاقلهم الجبلية الوعرة كراهية للغرباء المعتدين لا حد لها، ويشجعهم على الاستمرار فيها والاستزادة منها فتيانهم الذين رضعوا لبان العلم في أوروبا وأمريكا ومصر.
ومن هذه الشعوب الأمحريون أو الأمهريون الذين تُكتب المعاهدات بلغتهم؛ لأنها أرقى اللغات الحبشية، والشوعيون وغيرهم.
ومهما يكن عدد جيوش الطليان، فإن أفران الحبشة وخنادقها ومفاوزها ستنادي هل من مزيد؟ لأن الجيش الأجنبي الزاحف، ولا سيما من الشمال، عليه أن يحصن القواعد التي يعتمد عليها في مواصلاته، مع عاصمة إريتريا ومينائها، وهما: أسمرا ومصوع، وعليه أن يُبقي فيها حاميات كبيرة، فوق أنه محتاج إلى إنشاء الطرق ثم تأمينها بعد إنشائها.
ولا نظن أن موسوليني يخفى عليه أن كل تقدم من ناحية إريتريا محفوف بالخطر؛ لأن فتح البلاد يقتضي احتلال المراكز العسكرية، وتنظيم إدارتها، وإبقاء حاميات كبيرة فيها، فضلًا عن أن الجيوش الإيطالية الجرارة تحتاج إلى مئونة وذخيرة تكادان تُعجزان أعظم الأمم وأغناها؛ فهي مضطرة لاستيراد كل ما تحتاج إليه من الوطن الأقصى، وهو عمل شاق كبير النفقات، ولا يمكنها التعويل على أرزاق الحبشة؛ لأن حاصلاتها الزراعية لا تكاد تكفي الأحباش أنفسهم، مع قلة ما يحتاجون إليه بالمعارضة إلى ما تحتاج إليه الجيوش الأوروبية المفطورة على الترف في بلاد أفريقية بعيدة، وفي حالة حرب … مع أمة موتورة ومهاجمة في عرينها.
قال سنيور موسوليني إنه حسب لكل شيء حسابه، فهل حسب حساب شق الطرق، وبناء الجسور، ونقل المواد اللازمة لها من إيطاليا إلى جنوب البحر الأحمر، ومنه إلى أسمرا ثم إلى المناطق التي يحتلها الجيش الزاحف؟ وهل حسب حساب السيول التي تجرف أثناء تدفقها الجسور والطرقات والمستودعات ومواد البناء؟
تكلمنا عن الإريتريا، وما تكلفته إيطاليا في سبيلها من القناطير المقنطرة من الذهب، والجيوش المجهزة، وأثبتنا أنها لم تعد على إيطاليا بطائل، وليس لهذه المستعمرة قيمة سوى أنها تسيطر على منافذ التجارة الحبشية من الشمال، وهي تجارة يسيرة، وأكبر الصعاب فيها تعرض أهاليها لقلة الماء الناشئة عن ندرة الأمطار، وقصر فصلها في كل عام.
ولكنها تصلح قاعدة عسكرية، ولعل هذه الصلاحية هي التي أغرت الطليان بها، فبذلوا ما بذلوا ظنًّا منهم أنها تُسهِّل عليهم الاستيلاء على الحبشة، ولكن ما عُرف عن الأحباش من حبهم للحرية، وتمسُّكهم باستقلالهم يجعل كل طمع في التوسع متعذرًا إن لم يكن مستحيلًا.
فقد سلَّحت الطبيعة هذا الشعب النبيل بطبيعة البلاد الجغرافية والطوبوغرافية، فكانت تلك الطبيعة من أقوى الوسائل التي يعتمد عليها الأحباش في الدفاع عن الوطن وحريته.
أما الجبال الحبشية فكثيرة، ومنها ما يبلغ ارتفاعه ١٠٠٠٠ قدم، أو ١٥٠٠٠ قدم.
وإذن تكون الجيوش الإيطالية معرضة لمخاطر الجبال، وطول المسافات، وقلة الماء، وعقبات الخنادق الطبيعية التي خددها نهر التاكاز وروافده، وكل هذه العقبات الكبرى تعرقل أي تقدم عسكري في الحبشة وراء عدوة.
ولكن الأحباش لم تغب عن ذاكرتهم هذه الموقعة، فاستعدوا لاتقاء ما ينسج على منوالها، أو يقاس على غرارها، ولا يُلدغ الحبشي من جحر مرتين!
وإذن لا منفذ للطليان في تلك الجبال والوهاد؛ لأن قنن الجبال الشامخة قد تصعد في الجو كناطحات السحاب، بل إنها لتخترق السحب، وتعلو في الجو فوق مناكب الغيوم، وتنخفض انخفاضًا مفاجئًا إلى أودية سحيقة ذاهبة في جوف الأرض، وليس بين هذا العلو الشامخ وذاك الهبوط السحيق سوى بضعة سهول مختنقة، فكأن هضبة الحبشة أضراس آلة جهنمية تسحق كل من يقع بين فكيها!
وكأن الطبيعة مُشفقةٌ على الحبشة من هجوم أخلاف الرومان المتحضرين ومعيدي مجد الإمبراطورية! فلم تكتفِ بتضريسهم بتلك الأنياب الصخرية، فكسَتْ بعض وديانها بنوع من الأتربة الحمراء التي تبدو صلبة جافة، حتى إذا ضُغط عليها أقل ضغط (وناهيك بأحذية الجنود، وعجلات السيارات والدبابات والطائرات، وحوافر الخيل) تحوَّلت فورًا دقيقًا متناهيًا في النعومة، فإذا جادها الغيث، ولو كان رذاذًا، تحوَّلت معجونًا زلقًا كالصابون، فيَعسُر السير فيها حتى ولو كان مشيًا على الأقدام، فتضطر الجيوش إلى الوقوف في أماكنها حتى تجمد أعين السماء، وتشرق الشمس فتجف التربة بحرارتها.
وإذا ما غيَّرت الجيوش الإيطالية خطتها، وحاولت احتلال جبال تانا الشرقية والشمالية، فإنها تعرض مؤخرتها لهجوم العصابات؛ لأن تلك المنطقة الوعرة لا تزال في أيدي عصابات لا تعرف للراحة طعمًا، ولا تسكت على تغلغل المحاربين الغرباء في مواطنها.