طموح مصر إلى فتوح أفريقيا
آخر جهود مصر في توسيع أملاكها في أفريقيا
تنازلت الحكومة العثمانية في سنة ١٨٦٦ لمصر عن سواكن ومصوع، مقابل زيادة في الجزية التي كانت تقبضها تركيا من مصر مساناة، فأخذت الحكومة المصرية تسعى في توثيق المواصلات بين مصوع وكسلا، فأنشأت بينهما خطًّا حديديًّا يمر في سنهيت التي اعتبرتها مصر داخلة في منطقة كسلا.
ولم تكن تلك الأهمية لتخفى على نجاشي ذلك الزمان (١٨٦٦)، وهو تيودورس، فادَّعى امتلاك سنهيت للحبشة.
ولكن تيودورس ما لبث أن جر على نفسه حربًا مع الإنجليز، وإليك بيان أسباب تلك الحرب بالإيجاز؛ فإن سياسة بريطانيا في شرق أفريقيا في أواسط القرن التاسع عشر كانت في الاتصال بحكام الحبشة، حتى توطَّدت روابط المودة بين الإنجليز وتيودورس ملك الحبشة، وفي نهاية الأمر جردت عليه حملة انتهت بانتحاره خوفًا من الوقوع في الأسر، وسقوط ماجدلا، عاصمة ملكه، في يد سير روبرت ناييبير، الذي صار لورد ناييبير أوف مجدالا بعد انتصاره على الأحباش.
وأصل هذا البلاء أنه في سنة ١٨٠٥ هبط أرض الحبشة إنجليزي عظيم هو الفيكونت جورج فالنتيا، وكاتم سره هنري صولت، فطافا بالبلاد وتعرَّفا بالملك إمبوالاصيوني، وقدَّما إليه الهدايا والتحف؛ لأن الهدايا تصون الصداقات، ثم رحلا. وبعد أربع سنين عاد صولت بهدايا نفيسة وخطاب توصية للملك، وهو مزود بأوامر تقضي عليه أن يضع تقريرًا وافيًا عن أحوال البلاد، وأن يتصل بالقبائل المتاخمة للسواحل ليدعوها للمتاجرة مع بريطانيا.
فنحن نعد الفيكونت وكاتم أسراره طلائع الغزو الأوروبي في الحبشة، وإن كنا نعلم أن إنجلترا لم تكن ترغب في شيء أكثر من اجتلاب الأحباش إلى أسواقها، وهي تتبع في ذلك الطرق الودية والدبلوماسية.
وعاد صولت إلى إنجلترا ووضع كتابًا في سنة ١٨١٣ عن رحلته إلى الحبشة، وبذلك انتهت مأمورية الرائدين الأولين، وهي سياسة ودية. وفي سنة ١٨٣٠، زار الحبشة الأسقف جوبات وزار «جندار» بصحبة مستر كوفن الذي رافق صولت في رحلته السابقة، وفي سنة ١٨٤٠ اتصلت حكومة الهند بالرأس شملا سلاسي، حاكم شوا، وعقدت بينهما معاهدة صداقة وولاء (١٨٨٤)، وطاف بالحبشة رائدان حربيان؛ هما: هاريس وجونستون، وعقبهما وكيلان من ديوان المخابرات؛ هما: بلودن وبل، التقيا بالسويس وتذرعا بالحيلة والذكاء حتى تمكَّنا من الطواف بالحبشة، ثم عادا إلى إنجلترا؛ فعُين أحدهما — مستر بلودن — قنصلًا لدولته في مصوع، وعمله الظاهر الدعوة لترويج المصنوعات الإنجليزية.
ظهر في أفق الحياة الحبشية «لدج كاسا» (بعد ذلك تيودورس الثاني)، وكان شهمًا مجازفًا، فتغلب على خصومه ومزاحميه، وكان رجلًا خياليًّا يعتقد أنه بطل رباني مرسل من العناية الإلهية لأداء وظيفة سامية للوطن، وهي جمع كلمة الأحباش، ولمُّ شعثهم تحت عَلَم واحد؛ لتبلغ ذروة المجد والقوة، فيخشاها العالم كله.
وكان الرأس علي يرى غير رأيه، ويُفضِّل التأني وتقديم الرأي على الشجاعة، فكانا في أخلاقهما على طرفي نقيض، فساءت العلاقة بينهما، وتنازلا في مواقع عدة انتهت بأن خلص لدج كاسا من الرأس علي بأن أصابه بجرح في رأسه أرداه قتيلًا.
وتُوِّج كاسا ملكًا على الحبشة باسم تيودورس الثاني؛ لأنه عَلِمَ من بعض الأساطير أن سيأتي على الحبشة ملك قوي اسمه تيودورس يلم شمل الأمة والوطن، ويحكم بالعدل والإنصاف، فترهب الدول جانبه، ويعم اليسر والرخاء عهده، فاعتقد كاسا (ومعناها بالحبشي عوض) أنه هو المقصود بالذات، وإن لم يعتقد فقد أراد أن يكون هو، فتُوِّج في ٧ / ٢ / ١٨٥٥ ملك ملوك الحبشة.
واجتمع الصديقان بلودن وبل ثانية في معسكر تيودورس عقيب تتويجه، وقد تزوجا من سيدتين حبشيتين عريقتين في المجد، وكانا صديقين للرأس علي، فلما قهره كاسا؛ لاذا بمعسكر الغالب معًا.
وقام تيودورس ببعض شئون الإصلاح في البلاد، وحدث أن مستر بل (أحد الاثنين) قُتل برصاصة طائشة مجهولة المصدر، فحزن عليه تيودورس حزنًا شديدًا؛ لأنه كان يعول عليه، وكان يجد في عشرته السلوة التي يلقاها الملوك في الندامى.
فكان عهد تيودورس نذيرًا بهلاك الصديقين؛ فإن بلودن الذي بقي بعد مصرع بل، وهو قنصل إنجلترا بمصوع، مرض وأراد السفر إلى وطنه للعلاج، فأبى عليه تيودورس مفارقته، فخطفه بعض خصومه، ودفع النجاشي ديته، ثم اشتدت عليه وطأة المرض، فتبع رفيقه السابق بل إلى الدار الآخرة، وبموتهما فَقَدَ النجاشي تيودورس (كاسا سابقًا) خير أعوانه، فساءت علاقته بإنجلترا حتى نشبت الحرب بين إنجلترا والحبشة.
فطلب الإنجليز من حكومة مصر (عهد إسماعيل) أن يأذن لهم باجتياز بعض الأرض المصرية الواقعة على بحر القلزم، فلم يكتفِ إسماعيل بإجابتهم إلى ذلك، ولكنه لاستيائه من تيودورس وضع الأسطول المصري كله، الذي كان في البحر الأحمر، تحت تصرفهم، وكلَّف حاكم مصوع بمساعدة الإنجليز في كل ما يرغبون، وانتهت الحرب بين إنجلترا والحبشة بموت تيودورس، كما قدمنا، في سنة ١٨٦٨، وصيرورة العرش الحبشي إلى يوحنا.
الرأس يوحنا وحروب مصر والحبشة
كان يوحنا في أول أمره راهبًا صغيرًا في دير، ولكنه ما لبث أن تركه وترأَّس عصابة من الأقوياء، وأخذ يقطع الطريق على السابلة، ثم اشتد ساعده، وزاد بطشه، وعلا نفوذه حتى تمكَّن من تبوُّء كرسي الحكم في مقاطعة البحري، والتغلب على الرأس باريو.
وكانت الدولة المصرية قد توغلت في فتوحها حتى بلغت خط الاستواء، فوقع في خلدها أن تجعل النيل كله مصريًّا، فسيرت حكومة مصر إلى جوف بلاد الحبشة رجلًا سويسريًّا اسمه متزنجر لمعرفة أحوالها، واستمالة كبار رءوسها، فتوغل متزنجر في الحبشة، وغاب خبره حينًا عن مصر، ثم عاد حاملًا شيئًا من منتجاتها، وزيَّن لحاكم مصر إذ ذاك، وهو الخديو إسماعيل، التغلب عليها وامتلاكها، مغتنمًا فرصة الفتنة بين أمرائها، وأقسم له بأغلظ الأيمان أنه يملكها ويدوخها بنفر من العسكر المصري وشيء يسير من النفقة.
فأُعجب الخديو برأيه، ومال إليه، فولاه الحكم على مصوع (مفتاح الحبشة)، فسار متزنجر إلى مقر وظيفته، واغتنم في سنة ١٨٧٢ فرصة غياب يوحنا في محاربة القالا في الجنوب واستولى على سنهيت المذكورة آنفًا، وهي عاصمة البوغوس، وتُعرف باسم «كرن»، واستمال الرأس محمد الذي كان يكره يوحنا، واشترى منه مقاطعة قريبة من مصوع اسمها «آيلت».
وخشي يوحنا عاقبة الفتح المصري، وأخذ يرى شباك الدولة المصرية حوله بعين الرعب والحذر، وينظر إلى تقدم الجنود بقلب مضطرب، ووقع في خلده في أول الأمر أن يستظل بحماية أوروبا بأن يُصوِّر لهم الهجوم المصري بصورة غزو إسلامي لبلاد مسيحية، يستدعي أن تقابله النصرانية الأوروبية بحرب صليبية جديدة، فأرسل صديقه جون شارلز كركهام إلى الملكة فيكتوريا وباقي عواهل أوروبا في تلك المهمة، ولكنه لم يجد من أحدهم أُذنًا مصغية، وعاد رسوله بخُفَّي حُنين.
وأيقن يوحنا أنه لا يحك جلده مثل ظفره، فصمم على أن يتولى جميع أمره، وأن يقوم بالدفاع عن نفسه بنفسه.
فامتد سلطان مصر على ساحل القلزم الغربي عامة من خليج السويس إلى تجوره، وتجاوزه إلى رأس جردافوي على المحيط الهندي متناولًا بذلك نفس أرض الصومال.
وقد شبه لحكومة مصر بعد شراء زيلع واحتلال هرر أن اكتساح الحبشة بات أمرًا لازمًا، ولم يعد منه مناص، فجهزت حملة الأميرالاي أرندروب الطوبجي الدانماركي في شتاء ١٨٧٥، فسار قاصدًا إلى «عدوة» إحدى عواصم يوحنا. وكانت إنجلترا وفرنسا قد سلحتا الحبشة بالأسلحة النارية، سواء بالبيع أو بالإهداء.
وفي أكتوبر سنة ١٨٧٥، علم يوحنا بزحف المصريين نحو أسمرا، فاستنفر جميع المقاتلين من رعاياه في سائر أنحاء المملكة، فلبوا نداءه أفواجًا، وأخذ يوحنا يمكر بجيش أرندروب ويخدعه، فيتقدم تارة ويتأخر طورًا، ثم يختفي، ويظهر بعد ذلك فجأة، ولا يلبث أن يعود إلى الاختفاء لإطماع عدوه في نفسه، حتى انطلت حيلته على المتحمسين في الجيش المصري، ولم يكن هذا إلا استدراجًا من يوحنا لخصومه، والتقى الجيشان على ضفاف نهر المأرب، وكان عدد الأحباش بنسبة ألف لكل عشرة من المصريين، فهُزموا.
وقد أوصت الحكومة المصرية راتب باشا وبقية قواد الحملة، وهم من الشركس والترك والأمريكان والأوروبيين، بمراعاة شروط القانون الدولي في الحرب، واتِّباع الأصول المتفق عليها عند الأمم المتحضرة، فيمنعون الجيش من ارتكاب أي عمل وحشي، ويحملون الجند على تجنب الإساءة إلى غير المحاربين من الجيوش، فلا يقلعون زرعًا، ولا يهلكون ضرعًا، ولا يقتلون شيخًا، ولا يذبحون طفلًا، ولا يهينون امرأة، ولا يحرقون بيتًا.
ومن غرائب المصادفة أن رئيس حركة النقل في تلك الحملة كان أحمد عرابي بك — الذي أعدته الظروف في الأيام التالية لإضرام نار الفتنة العسكرية المعروفة في التاريخ باسمه — وكان رأي الضباط الأمريكيين فيه حسنًا جدًّا، ويقول الكولونيل داي إن عرابي كان يكون ضابطًا من خيرة الضباط في قُطر غير القطر المصري، فاستبدل وأقيم مكانه الضابط شاكر الشركسي. وضابط مصري آخر هو علي الروبي أفندي، الذي اشتهر فيما بعد في حوادث الثورة العرابية، عهد إليه برياسة فرع المهمات، وكان ضابطًا من أحسن الضباط، وامتدحه رؤساؤه وزملاؤه الأمريكيون.
وكان النجاشي يوحنا يتقدم نحو الجيش المصري المنكود الطالع كسابقه بخُطى الثعالب وعزم الأسود، حتى أصبح على بُعد بضع ساعات من «تياخور» و«عدي راسو».
غير أنه إذا بكت مصر دمعًا سخينًا على أولادها الذين ضحَّى بهم في تلك الأودية السحيقة جهلُ قوادهم الأتراك والشراكسة، فإن الحبشة وإن تغنَّت بالفوز في «قرع» لم تجد بدًّا من البكاء بدل الدمع دمًا، فإن عدد قتلاها لغاية ١٠ مارس سنة ١٨٧٦ بلغ خمسة آلاف، ناهيك بالجرحى، والذين فروا ولم يبلغوا ديارهم إلا معطوبين.
وقد ثبت أن الجيش الحبشي الذي فتك بأرندروب وحملته كان يزيد على سبعين ألف مقاتل، ولم يقل الجيش الحبشي الذي قاتل في «قرع» عن خمسين ألفًا.
وفي ١٢ مارس دارت مفاوضات الصلح بين مندوب النجاشي والسردار راتب، فصدر الأمر إلى السردار بعقد الصلح بأحسن ما يمكن من الشروط، والجلاء عن البلاد.