الاسم والمعتقد والأخلاق والأصول الأولى
أصل الحبشة من اسمها يدل على الجمع والضم واللم، وفي لغة العرب «حبش» جمع، و«تحبش» القوم تجمعوا، و«الحباشة» جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة. ولما صار لفظ «الحبشة» يدل على جنس معلوم من بني آدم نُسبت إليهم الشدة في السواد، وفي حِدَّة الأصوات. وفي العربية المحكية في مصر يقال: «تحبيشة» و«حباش» مجموعة مؤلفة من جملة عناصر خصوصًا في الطعام أو الفاكهة.
وهذا الاسم ينطبق على الواقع؛ فإن أهل الحبشة خليط من شعوب مختلفة، أولها الفرع الشرقي من أسرة حام، وهو أغزرها عددًا، وأقدمها إقامة، وأعرقها أصلًا، وهم الكثرة الغالبة في الأمة، ويرجع احتلالهم لهضبة الحبشة إلى ما قبل العصر الحجري، ولم يتمكنوا من الاحتفاظ بنقاوة دمائهم، فاختلط بهم زنوج على الفطرة من سكان النيل الأبيض، وحميريون من أصل سامٍ من جنوب جزيرة العرب.
ولا تزال آثار هذا الاختلاط ظاهرة في شمال الحبشة، وأهل هذه المنطقة يسمون أنفسهم «إيتو بيافيان»، وهم الذين أطلق عليهم العرب اسم الأحباش أو «الخليط»، ومن كلمة حبش جاءت كلمة الإفرنج «إبيسنيا».
واللغة الحبشية الرسمية التي يتكلمها المتعلمون فنن من اللغة السامية، وترجع إلى اللغة الحميرية أقدم فروع اللغة السامية، وقد جلبها معهم النزلاء الأُوَل الذين نزحوا من اليمن إلى ضفاف عطبرة ومأرب والنيل الأسود وبحيرة تانا.
وكان الشعب الحبشي يدين بالوثنية الأفريقية، فدخلت عليه معتقدات سامية، ولكن الدين الإسرائيلي لم ينتشر فيه لأسباب كثيرة، إلى أن جاء القرن الرابع المسيحي فأدخل فرمنتيوس السكندري النصراني العقيدة النصرانية، وما زالت ديانتهم إلى الآن. وقد يعجب الإنسان من بعض المفارقات الاجتماعية التي تجمع بين المتناقضات؛ فالنجاشي وهو ملك مطلق أو ملك الملوك يتمتع بسلطة لا تحدها العادات المرعية، وهي قانون عرفي محفوظ غير مكتوب ولا مدوَّن، ويتحتم على كل إنسان أن يحترمه ويرعاه. ويخضع للنجاشي كل الرءوس، وتحت الرءوس الدجازماك والكانيازماك، وهما رئيسا الميمنة والميسرة.
وأن مسيحيتهم لا تزال فطرية ولم تخلص من شوائب قديمة … كل هذا تنسبه بعض ممالك أوروبا للحبشة، وتنسى أنها هي السبب في بقاء تلك العورات التي تُضخمها وتُبالغ في وصفها، وتُهوِّل بها حتى تُسيء إلى سمعة الحبشة. ونسيت هذه الممالك الأوروبية أن الحبشة كانت مستقلة ومتمتعة بالحرية عندما كانت تلك الممالك نفسها ترزح تحت نير حكام وطغاة وظالمين مستبدين من أهل البلاد وغيرهم.
إن الأحباش فضَّلوا أن يعيشوا أحرارًا وهم حفاة عراة يقاومون الجوع والظمأ، ويقاسون أهوال الفقر والفاقة، وقد وضعوا الحرية والعزة القومية فوق كل اعتبار آخر. وفي الوقت نفسه تعيش على ظهر هذه الأرض أمم سابحة في بحبوحة من النعم، وسارحة في فردوس من الهناء المادي، ولكنها في الوقت نفسه رازحة تحت نير العبودية، وأفرادها يلبسون الخز والديباج والحرير والسندس، ورجالها يحلون صدورهم بالنياشين والأوسمة، ويحملون ألقاب الشرف المصطنع، والتي يظنون معها أنهم فوق البشر، ويدوسون في رفق ولين بأقدام مكسوة بجوارب من الحرير الناعم، وفي أحذية من جلد ملون لين الملمس على أرض ممهدة لا أشواك فيها، ولا صخور جارحة.
وإنه ليوجد رجال من العقلاء والعلماء والشرفاء، والذين يؤخذ برأيهم، ويُقام لقولهم وزن. وهؤلاء الرجال يُفضلون في صراحة وشجاعة حياة الأحباش وأخلاقهم على أنهم حفاة وعراة وفقراء، وجائعون وعطشانون؛ لأنهم متمتعون برجولتهم كاملة، ولأنهم يعرفون أسمى حقوق البشر، ويحتفظون بها، ويدافعون عنها. يفضلونهم على هؤلاء الأعيان والنبلاء الناعمين المنعمين «المطقمين»، «المطمرين»، «المجمرين» كأنهم خيول مطهمة أُعِدت لركوب سادتها في الحرب والسلم، ومع كل تلك النعومة والرشاقة وحسن القيافة تجد هؤلاء السادة بمعزل عن إدراك المُثل العليا التي تُمجدها أوروبا، والتي أدركتها الحبشة وهي لا تزال على الفطرة الإنسانية.
وحجة هؤلاء الرجال في هذا الحكم الذي يبدو غريبًا، هي أن كل العلوم والمعارف، والثقافة، والتربية الفردية أو القومية، وتهذيب الأمة للأم، وعناية الوالد بالولد، وتمجيد آثار الجدود، وصيانة التقاليد في الأسرة والقوم والوطن، وكل ما تؤدي إليه معدات الحضارة الحديثة. كل تلك ترمي إلى غاية واحدة؛ وهي غرس بذور الحرية والشجاعة في قلوب الأمة، والاستهانة بالماديات في سبيل المعنويات، وتفضيل الحياة العليا المحفوفة بالمهالك على الحياة الدنيئة المحاطة بأنواع النعم والملذات.
وقد قام نزاع قديم بين علماء التربية وعلماء النفس على أي نوع من تربية الأطفال أصلح لتنميتهم على أرقى المبادئ وأسماها؛ حتى يصبحوا رجالًا يعتمدون على أنفسهم، ويُفضلوا الصالح العام على الصالح الخاص، ويُقدموا منفعة الوطن على منفعة الأسرة والفرد.
فقالوا: تربية الأنجلو سكسون هي المُثلى، وألَّفوا في ذلك كتبًا منها: «سر تقدم الإنجليز السكسون»، وسبقه أميل روسو، وأميل القرن التاسع عشر، ثم قالوا: التربية الفرنسية أو الألمانية.
وإنهم لكذلك وإذا بتربية الحراج والغابات والهضاب ورءوس الجبال والخلاء والعراء تبذُّ كل هذه الأنظمة، مع أنها تربية لا تنطوي على برنامج دقيق لآداب المائدة، أو قواعد الرقص الحديث، أو بيان النظم التي تُحتِّم لبس القمصان اللامعة، وسترات الأسموكنج والفراك. هذه التربية البعيدة جدًّا عن حياة الصالونات، والبعيدة جدًّا عن «نفاق المجتمع المثقف ثقافة عليا» بذَّت جميع مظاهر الحضارة الأخرى في وجوب الدفاع عن كيان الأمة التي ينتمي الفرد إليها.
وإن أوروبا التي تعيب على الحبشة ما تعيبه حتى يصفها بعض المتعنتين أنها لا تستحق وصف الأمة، ولا تسمو إلى عضوية جامعة الأمم، تتناسى وتتجاهل أن الحبشة قضت أكثر من ثلاثة قرون منعزلة عن العالم المتمدن، ومحاطة بقبائل معادية تقطن الأراضي الجرداء، والصحاري الصخرية الملتفة حول الهضبة الخصيبة التي أوت إليها النواة الأولى التي تكوَّن منها الشعب الحبشي، وأن هذا الهامش الصخري الأجرد الخالي من كل عناصر الحياة ومظاهرها ليتسع حتى يبلغ ثلاثمائة ميلٍ أحيانًا، فهو نطاق فظيع قاسٍ ضربته الطبيعة بيد من حديد، وجعلته حائلًا لا يغلب. عدو من الحجر الصلد، وحارس لا ينام وإن كان من جلمود الصخر.
وفي تاريخ الأمم وأخلاقها ساعات حاسمة، ومواقع فاصلة، فتمتاز أمة عن الأخرى وتفضلها بالطريقة التي تقابل بها صروف الدهر في تلك الساعات، وهاتيك المواقع، ومثلها في ذلك مثل الأفراد لدى الشدائد والملمات، فنرى أمة يهولها اعتداء الأجنبي عليها، ويفت في عضدها، ويضعف من نخوتها، وينهك من قوة إرادتها، وما تزال تنحط وتتهالك وتنحل عناصرها حتى تتوارى وتهلك.
وهذه أمة غير صالحة للبقاء، وعاجزة عن الكفاح في سبيل الوجود، وهي أمة كُتب عليها الفناء، وحُكم عليها بالنفاد، ولا فرق في ذلك بين أمة قديمة أو حديثة، عريقة أو طارئة، متدينة بدين مُنزَّل أو وثنية، شرقية كانت أو غربية.
وهناك أمة تزداد قوة كلما تعرضت للآلام، وتنمو فيها الفضائل الدفاعية والهجومية كلما اعتدى عليها الأغيار، أو قبض على خناقها القرباء، تتيقظ فيها فكرة المجد كلما حاقت بها الأخطار، وتدب فيها حيوية جديدة كلما حاول عدوها إدناءَها من الموت، وتسري في أعضائها دماء جديدة، وتجري في أعوادها أمواهُ الحياة.
ومن هذا النوع الثاني أمة إثيوبيا، فقد كانت نتيجة احتكاكها أثناء القرن التاسع عشر احتكاكًا سياسيًّا، تارة تسوق إليه الصداقة، وطورًا يؤدي إليه العداء مع ثلاث ممالك من أهم ممالك العالم، وهُنَّ مصر وبريطانيا وإيطاليا، أن أفادت الحبشة من التقبيل والضم مرة، والتصادم والتلاحم أخرى، والرمي بالورد والهدايا تارة، والتراشق بالنبال والسهام طورًا، أنها جمعت كلمتها، ولمَّت شملها، وتعلمت من سياسة هذه الدول الثلاث — وقد كانت كل منها إمبراطورية في عصرها — ومن ضروب سياستها وفنون حروبها ما جعلها في نهاية القرن التاسع عشر تخرج ظافرة قاهرة غالبة فائزة رافعة علم الحرية تحت لواء منليك الأول، أحد ملوكها.
وكان يُعرف من قبل بملك شوا، وقد صار نجاشي الحبشة وإمبراطورها بعد أن أخضع تيجريه، ولاستا، وأمهرا، وجوجام، وعناريا، وجراجحة، وولموا، وجيما، وغيرا، وجوما، وليكا، وواليجا، وكافا.
لقد كافحت الحبشة في سبيل حياتها قرنًا كاملًا، فقد بدأت أوروبا تتدخل في شئونها سنة ١٨٠٥ ممثلة في سياحة شخصين؛ هما: الفيكونت جورج فالنتيا، وكاتم أسراره هنري صولت، وانتهت بمعركة عدوة التي هزمت فيها إيطاليا في شخص الجنرالات باراتيري، والبرتوني، وإريموندي، ودابورميدا.