عصبة الأمم والمشكلة الحبشية
إن المشكلة الحبشية أعوص مسألة عالجتها جامعة الأمم منذ وجودها، وبقاءُ هذه العصبة أو زوالها رهينان بنجاحها أو فشلها في الوصول إلى نتيجة تؤيدها وتعيد هيبتها في نفوس الأمم والحكومات، فإن لم تصل إلى هذه الغاية من استتباب السلام العالمي، وتحقيق الأمن بين الأمم، فعليها العفاء، لا عليها السلام!
وترجع تلك المشكلة في صورتها الحديثة إلى مسائل معلقة خاصة بتعيين الحدود والمنطقة المحايدة بينهما، وطلب إيطاليا الخاص بتعويض عن حادثة «وال وال»، وتفسيرها لنصوص معاهدتي ١٩٠٦ و١٩٢٥ تفسيرًا يخالف ما تذهب إليه الحبشة.
وقد دارت في أول الأمر بين الدولتين (وهما عضوان في عصبة الأمم) مفاوضات سلمية، بقصد تسوية النزاع بينهما تارة في روما، وطورًا في الحبشة نفسها، وكانت هذه المفاوضات تنجح حينًا، وحينًا يبدو عليها الحبوط، وطريقها بتبادل الآراء بين مندوبين مفوضين من المملكتين بالمذكرات المكتوبة. وبدأت في أواخر فبراير، وأوائل مارس سنة ١٩٣٥، وإن كان النزاع يرجع إلى أوائل سنة ١٩٣٤، ومنذ الساعة الأولى ألقت الحبشة اللوم على كاهل إيطاليا كلما أنذرت المفاوضات بالفشل.
وصرح ممثل النجاشي بأن لا وسيلة لنجاح المفاوضات وضمان السلم غير عدول إيطاليا عن خطة المعاندة، ورغبتها الإجحاف بحقوق الحبشة، وطلبت الحبشة تحقيقًا عادلًا قبل المناقشة في مطالب إيطاليا، وأصرت في مذكرة بعثت بها إلى روما على طلب جواب صريح عما إذا كانت مستعدة لعرض المسألة كلها على التحكيم الدولي.
وتشبثت الحبشة بهذا الطلب العادل؛ لأنه ينطبق أولًا على روح العصر الجديد في السياسة الدولية، ويتفق مع دستور عصبة الأمم الذي أقرته الدولتان بالانضمام إليها، وتشبثت إيطاليا بمعارضة طلب التحكيم، وقالت الحبشة: «لو كانت إيطاليا على حق ما عارضت في التحكيم، وإذا صح أن أثق بالمحكمين وأضع حظي في أيديهم، فليس لدى إيطاليا ما يمنعها من سلوك خطة تماثل خطتي.»
وكانت إيطاليا من قبل شهر فبراير، بل من أواخر سنة ١٩٣٤ قد اتخذت تدابير عظيمة، ولا سيما من الوجهة العسكرية، فقابلت إصرار الحبشة على التحكيم بالامتعاض، وأنكرت عليها اعتبار النزاع بين الدولتين من اختصاص عصبة الأمم؛ لأنها شعرت بأن الحبشة تريد استدراج إيطاليا إلى مجلس عصبة الأمم الذي اجتمع في شهر مايو.
وقد استنتج كثير من رجال السياسة أن الحبشة لا بد أن تكون مرتكنة في تلك الخطة إلى بعض الدول العظمى، وأن بريطانيا في مقدمتها.
وكان ما قيل عن استعداد إيطاليا العظيم صحيحًا، فإنها بدأت بإرسال الطائرات الحربية إلى الصومال، ففي أواخر أبريل غادرت طائرة حربية مائية إيطاليا قاصدة إلى مصوع عن طريق مصر وهي تقل الجنرال بينا، والكولونيل كابا، والقومندان جورانو، والكابتن فيوري من ضباط الجيش الإيطالي، ومنها الطائرة الكبرى التي كانت تقل نخبة من عظمائها، وسقطت في جو القطر المصري بمن فيها من العظماء وما فيها من الوثائق.
ويظهر أن إيطاليا رأت أن تجمع بين أمرين؛ الأول: الاستمرار في الاستعداد استعدادًا عظيمًا لم يسبق له مثيل في تاريخها، والثاني: موافقة الحبشة على طرح المشكلة على بساط التحكيم.
وأخذ الأحباش يعتقدون أن إيطاليا لن تبقى على مسالمتها ولينها ونعومتها بعد أن يصفو لها الجو في أوروبا، وتسنح لها فرصة مناسبة؛ ولذا رأى النجاشي نفسه مضطرًّا إلى التخلي عن خطته السابقة، من إهمال القيام باستعدادات عسكرية، وإن كلفته وحكومته ما لا يطيقانه، وما لا يرغبان فيه من بذل مالٍ وتضحية برجالٍ.
وكانت إيطاليا لا تزال تقول بواجبها نحو الإنسانية والمدنية، وتتخذ من هذا الواجب ذريعة للحرب والاستيلاء على البلاد.
وكما هي العادة في مثل هذه الظروف أخذت المصادر الإيطالية تذيع أن جنودًا إيطالية قُتلوا وسلبوا في الإريتريا، وأن قاتليهم من الأحباش، كما أُذيع بعد ذلك أن العلم الإيطالي أُهين، وأن موظفًا إيطاليًّا كبيرًا اعتُدِيَ عليه في محطة السكة الحديد. وكان شيء أبسط من هذا بكثير سببًا في الحرب بين أوروبا والشرق، فإن فرنسا حاربت الجزائر واحتلتها لأن الداي (أمير البلاد) داعب سفير فرنسا على وجهه بمروحة خفيفة كانت في يده.
نقول: ولما فكر النجاشي في الاستعداد للطوارئ ولم يُخدع بظواهر الأمور، اتصلت حكومته ورجاله ببعض البلاد الأوروبية لتصدير الأسلحة إليها. وكان لإيطاليا عيون وأرصاد، فأصبحت بواسطتهم على بينة من تقديم المعدات الحربية إلى الحبشة، ومن مصادرها والوسطاء بين هذه المصادر والحبشة؛ فبذلت المساعي لدى الحكومات التي أغضت عن إرسال هذه المعدات، وبدأ السنيور جايدا في جريدة «جورنالي ديطاليا» يهدد من طرف خفي ويقول: «إن صداقة إيطاليا تتوقف على الخطة التي تتبعها كل دولة أو بلد بإزاء إرسال المعدات الحربية إلى الحبشة.»
والذي أدهش العالم أن إيطاليا كانت تلوم الحبشة على التسلُّح، وتعاتب ألمانيا على معونتها، وهي في الوقت نفسه تكوم الأسلحة والذخيرة تكويمًا في الإريتريا، فكأنها تستحلُّ أن تتأهب بكل الوسائل لتهجم، وتأبى على الحبشة أن تستعد لتدافع عن نفسها، ولو كان استعدادها ضئيلًا، مع الفارق بين الدولتين.
وفي أواسط مايو بدأ الرأي العام المحايد في أوروبا، داخل العصبة وخارجها، يزداد اقتناعًا بأن إيطاليا تريد على كل حال أن تحل بالسيف والمدفع أمورًا كان يمكن حلها بالطرق السلمية، وبدأ هذا الاقتناع يزيد القلق في العالم.
ومن سوء الحظ أن الدول الأوروبية بدأت في سنة ١٩٣٥ تهتم اهتمامًا عمليًّا بتنظيم جهاز لضمان السلم في أوروبا على مبادئ عصبة الأمم، فتغادرها إيطاليا لتمضي في مغامرة لا خير فيها، وأمسى «حادث الحدود البسيط» يتضخم حتى اتخذ شكل محاولة تقوم بها دولة أوروبية كبيرة للتوسع الاستعماري في جهة من أفريقيا، يعرف العالم كله أنها كانت تتمنى التوسع فيها منذ عهد بعيد.
وبدأت الصحف الأوروبية تقدم لإيطاليا النصائح بشأن المصاعب العسكرية والمالية والسياسية؛ سعيًّا وراء كبح مطامعها الاستعمارية، وعابوا عليها أنها تطلب مطالب قانونية بحملة عسكرية، وبدءوا يقولون إن حربًا استعمارية كهذه تستنزف دم الجيش الإيطالي، وتترك إيطاليا هزيلة، وتعجزها عن علاج مشاكل أوروبية مهمة مثل مشكلة النمسا.
وقد أفضى النزاع الحبشي إلى وجود اختلاف جوهري في الرأي بين إيطاليا وإنجلترا، فتبددت الجبهة المتحدة التي تحققت في ستريزا تبددًا تامًّا، وأخذت إيطاليا تحشد الجنود حتى بلغ ما جمعته مليون جندي تحت السلاح.
وفي أواخر يونيو، تشكَّلت لجنة للتحكيم واجتمعت في لاهاي — وهي لجنة مختلطة — وقال الحبشان إنه إذا قضى المحكمون المكلفون بالبحث في تسوية النزاع بحكم ضد الحبشة؛ فإنها تصدر تصريحًا تكون فيه ترضية لإيطاليا.
وأخذ الدوتشي يخطب في الملايين متهددًا ومتوعدًا، ويرد النجاشي بخطب قومية متواضعة، قوامها الصلاة والبكاء والاستغاثة بالله والأنبياء والقديسين، والاستنجاد بأوروبا وأمريكا المتمدينتين حتى في الأعياد والحفلات الدينية.
أنا أتحدى أي إنسان أن يُبيِّن لي أية ناحية أخلَّت فيها الحبشة بواجبها كعضو في عصبة الأمم منذ ظهر هذا النزاع؟ وأي عمل من أعمالنا استثار هذه الحرب؟ إذا كان الحق في جانبنا، وإذا كانت الأمم المتمدنة عاجزة عن منع الحرب؛ فلتقف على الأقل موقفًا لا يمنعنا عن الدفاع عن أنفسنا.
ولما كان الشعب الإنجليزي مفرطًا في تقديس الحرية لأفراده، ولا يتقيد أحد منهم بآراء غيره ولو كان أقرب الناس إليه؛ فقد رأينا سير جون سيمون، وزير الخارجية، يسير في سياسة غايتها إنصاف الحبشة، وإحقاق حقها، وفي الوقت نفسه تتقدم لادي جون سيمون زوجته في جريدة «جورنالي ديتاليا» بمقال تصف فيه فظاعة النخاسة التي تُرتكب في الحبشة، ولكن على الرغم من مقالة لادي سيمون، فإن بيوتًا مالية كثيرة على شاطئ الأطلنطي تقدمت تعرض قروضًا ضخمة على الحبشة، وتقدم لها ألوف المتطوعين بغير أجر، من أمريكا وأيرلندا ومصر واليابان وألمانيا وتركيا.
وقامت بشأن اليابان ضجة منذ زمن طويل؛ فقد أشيع أنهم يفكرون في مصاهرة النجاشي، وأنهم يدربون الأحباش على حرب السيوف، وأن لهم مصالح خطيرة في الحبشة تجارية وزراعية واقتصادية؛ ولذا هاج سخط الطليان على اليابان، فقال بعض ذوي الرأي فيهم: إن مسلك اليابان بمثابة تحدٍّ لسلطان الاستعمار الآسيوي للأجناس البيضاء، وإن تعاون الغربيين ضد هذا الخطر الأصفر أمر لازم. كل هذا حاصل ودائر وإيطاليا تريد اتقاء تدخل عصبة الأمم، والزعيم يُصرِّح بذلك فيقول: «إن إيطاليا ترفض تدخل العصبة في الخلاف بيننا وبين الحبشة، وسنقوم بإنفاذ رغبتنا ومطلبنا مع اليقظة السياسية والحربية، ودون إهمال الحال في أوروبا.»
وفي أواخر يونيو، نشأت حالة جديدة خطيرة، وهي أن إنجلترا خشيت شقاقًا يدب بينها وبين فرنسا؛ لأنها رأت لها ضلعًا قويًّا مع إيطاليا، وما زال «الدوتشي» يفتن موسيو لافال ويتودد إليه، ويعاهده ويعقد معه المواثيق، ويذكره بتضحية إيطاليا في الحرب العظمى بانضمامها لجانب الحلفاء، واكتراثها الحاضر بحماية حدود فرنسا الشرقية، فأرادت إنجلترا أن تضمن اتحاد فرنسا معها في عرض المسألة على عصبة الأمم، وتنفيذ ميثاق العصبة بنصوصه.
وقد زاد التقرب بين الدولتين أن إيطاليا أخذت تعرض كل يوم مطالب جديدة، وشروطًا لم يسبق فحصها وهي تُظهر أن الامتيازات المقترح منحها لا تكفيها، ثم هي تلح في طلب معونة مالية يصعب تقديمها؛ لأن الدول لا تريد تعضيدها على الحرب بالقروض. وكانت إيطاليا تخشى عصبة الأمم؛ لأنها تخشى تحول الرأي العام العالمي ضدها؛ إذ يظهر له من خلال البطء الذي تقتضيه إجراءات عصبة الأمم أن القضية الإيطالية غير عادلة لدى فحصها من وجهة القانون الدولي.
ومن ذلك التاريخ ساءت الحالة المالية في إيطاليا، ولم تغطِّ الحكومة أوراق النقد بنسبة أربعين في المائة من الذهب، وسقطت قيمة الليرة الإيطالية في الأسواق الخارجية.
وقد أدَّى طعن إيطاليا في مسلك اليابان إلى مظاهرات عنيفة في شوارع طوكيو ضد إيطاليا، وأخيرًا تورطت إيطاليا فقبلت عرض المسألة على مجلس عصبة الأمم، وقيل عن بعض المصادر: إنها رضيت بذلك لأنه يكسبها وقتًا لتمام الاستعداد، مع أنها تشحن في كل يوم بواخر حوافِلَ بالجند والعتاد.
وقد دفعت نحو مليون جنيه لشركة قناة السويس رسومًا لمرور السفن المحملة رجالًا وسلاحًا وذخائر. وكان قرارها هذا في آخر يوليو، وقد عيَّنت أعضاء وفدها في العصبة؛ وهم: بارون الوازي، وسنيور جوارناشكيلي، وكونت بيترو ماركو، وسنيور كورتيزي، والأستاذين ليسوني، وبيراردي.
أما الإنجليز فقد جعلوا على رأس وفدهم مستر أنتوني إيدن، الذي تمقته إيطاليا، ويحمل عليه سنيور جايدا في جريدته صباح مساء، وشدت أزره بوليم سترانج ووليم مالكن وتومسون. وفرنسا يمثلها لافال وبعض أعوانه. وقد أخذت إنجلترا تصرف جهودًا جبارة في اكتساب فرنسا لصف العصبة، وصار مركز لافال من أحرج المواقف؛ لأنه أمسى كزوج الضرتين يتراوح قلبه بين الاثنتين، ووراءه والد إحداهما يسوقه بالسياط، وهو مجلس النواب الفرنسي، فإنه يأبى أن يعضد لافال إيطاليا على الحرب؛ فتسقطه أحزاب الشمال بين عشية وضحاها.
وقد طارت في جو مصر أثناء تلك الفترة أكثر من أربعين طائرة حربية إيطالية إلى الصومال وإريتريا، غير التي تشحن مفككة لتُركَّب في موطنها.
وأخيرًا قررت العصبة أن مجلسها سيجتمع في يوم ٤ سبتمبر لبحث مسألة الحبشة بحذافيرها، ولم تصرح إيطاليا بأنها لن تلجأ إلى القوة، بل أبدت تحفظًا إزاء هذا القرار يدل على أنها لم توافق صراحة على أن يبحث المجلس في المسألة الحبشية بجميع وجوهها في يوم ٤ سبتمبر.
وقد شعرت الحبشة أن إيطاليا تريد أن تكتسب الوقت، فأخذت تستعد من جانبها، وترسل جنودها إلى الجنوب والشمال، ووقَّعت الحبشة مع اليابان عقدًا في ٢ أغسطس لتوريد مقدار هائل من الأسلحة والذخائر؛ للتعجيل بتزويد الجيش بالعدة الحديثة، واشترت الحبشة في أسواق طوكيو ألوفًا من الأسياف اليابانية المرهفة.
لقد عاد خطر الحرب، وأخذت الفاشستية الإيطالية تتأهب لإضرام النار، وإهراق الدماء في الحبشة، التي يريد شعبها أن يعيش في ظل السلم والحرية.
وكانت هذه الخطبة أمام الجناح الإيطالي، وأراد بعض المتظاهرين أن يحطم صورة بعض رموز الأماني الإيطالية. وفي الحق أن اجتماع مجلس عصبة الأمم في أوائل أغسطس لم يسفر عن شيء سوى تأجيل خطر المشكلة شهرًا.
وفي خلال شهر أغسطس ازدادت الحال تحرجًا بين بريطانيا وإيطاليا، وشعرت بريطانيا بدنو موعد انعقاد عصبة الأمم في ٤ سبتمبر، وضرورة الانتهاء بتصميم ذي خطورة، كما أحست بتأخرها في التأهب لمقابلة الحوادث، بعد أن استعدَّت إيطاليا استعدادًا مهولًا في الجو والبر والبحر، فأخذت تحشد أسطولها في البحر الأبيض، وتتخذ لطائراتها أماكن ثابتة، وانشغلت بإحكام إقفال جبل طارق، وتأمين جزر البحر الأبيض الواقعة تحت حكمها.
وكان هذا الاستعداد البحري العظيم ردًّا على مذكرة السنيور موسوليني للعصبة، وهي مستند ضخم أوضح فيه بتفصيل مُمِلٍّ أطوار الخصومة المزعومة، وصنوف الاعتداءات التي يقول: إنها وقعت من الحبشة خلال مدة طويلة، وهذه المذكرة مصحوبة بصور فوتوغرافية.
ومذ بدأت بريطانيا مظاهراتها البحرية والجوية، أخذت تنتشر شائعات عن إمكان اتِّقاء الحرب، وتقهقر إيطاليا وقبولها بامتيازات اقتصادية أقل من الانتداب لتعوض عليها «خسارتها» في البر والبحر.
فشل المؤتمر الثلاثي في باريس، وهو الهيئة التحكيمية الثانية التي فشلت. أولاها اللجنة المختلطة «لاهاي»، وهذه هي الثانية.
وما زالت فرنسا وبريطانيا على استعداد لبذل الجهود لتسوية الخلاف بين الدولتين، ورجال العصبة يذكرون أن شعوب العالم جاهدت في السنين التي تلت الحرب بجد وإخلاص لإيجاد عهد دولي جديد يقيها شر ويلات الحروب؛ لأن الحرب هي العدو الألد لكل تقدم.
وكانت إيطاليا في مقدمة الأمم التي سعت هذا السعي المشكور، وعقدت في بلادها مؤتمرات السلام، مثل: رابالو، ولوكارنو، وكيلوج، وستريزا، وقطعت معظم الدول على نفسها عهودًا في ميثاق باريس بالعدول عن اتخاذ الحرب أداة للسياسة الوطنية. وعلى هذا الرأي كان مندوبو إنجلترا وفرنسا، إلا مندوب إيطاليا، فقد قدَّم بيانًا قوامه ٥٠٠٠ كلمة كلها مطاعن قاسية في الحبشة، وأيد مطاعنه بتقرير لوجارد، وببعض ما كتبته لادي سيمون خاصًّا بتجارة الرقيق، وأن الحبشة تعتدي على أرواح الطليان وأموالهم، وتمتد أقدامهم إلى حدود الأراضي الإيطالية، وردَّ مندوب الحبشة على تُهَم إيطاليا ونفاها وفنَّدها، وقد عُدَّ بعضها بمثابة إعلان حرب من إيطاليا على الحبشة.
وكانت ألمانيا تلزم الصمت، وتقول صحافتها: إن السياسة الألمانية لا علاقة لها بالمشكلة الحبشية، ولكن المسألة تهمها من وجهة أخرى؛ وهي ضرورة السلم واليسر في البلدان الأخرى؛ لتتمكن ألمانيا من عمل التجديد الوطني في بلادها، ولكن العالم كله يعلم أن ألمانيا متربصة بإيطاليا والنمسا، فإذا أعلنت الحرب مدَّت يدها إلى النمسا وضمتها إليها، وحققت حلم النازي وحلم بيسمارك، وحلم الجامعة الألمانية، فتصبح دولة الرايش أقوى مملكة في أوروبا.
ولا يغني إيطاليا عن ذلك استعدادها على الحدود النمسوية وحشد جنودها، كما فعلت في العام الغابر عند الثورة النمسوية. وبعض رجال السياسة على رأي خاص في عصبة الأمم وخططها وما أصابها من ضروب الفشل، وما ارتكبته من الأغلاط في أساليب عملها بتعكر جو الثقة بين الدول، فصارت تتدلل عليها وتتهددها بالانسحاب، بل وتنسحب فعلًا كلما حاولت أن تنفذ خططها القومية كما فعلت اليابان وألمانيا.
وفي الوقت الذي اتحدت فيه كلمة أوروبا على إنصاف الحبشة كان المسلمون فيها يعاهدون إمبراطورهم على الدفاع عن الوطن، وقد أشاع البعض في مصر أن المسلمين مضطهدون في إثيوبيا، وأنهم رازحون تحت مظالم الاضطهاد الحبشي الذي منشؤه التعصب الديني. وفي أواسط الصيف اجتمعت الجمعية الوطنية الإسلامية في الحبشة وقررت مقابلة النجاشي، وعرض خدمتهم العسكرية الوطنية على جلالته؛ بشرط تسليحهم وتدريبهم تدريبًا حربيًّا، ومساواتهم بإخوانهم النصارى في بعض الحقوق. وهكذا صح ما قلناه، في غير هذا الموطن من الكتاب، من أن حروب الدول في الحبشة ساعدت على تكوينها واتحاد عناصرها.
والشعب البريطاني يدعم العصبة لأن نظامها يكفل السلام العام. وإن نظام عصبة الأمم هو أسمى فكرة في تاريخ البشر، وتحقيقه ليس من الأمور الهينة حتى في أكثر الأحوال ملاءمة. وكان شعبنا يعمل، ولا يزال، لترقية الحكم الذاتي وتنميته في دائرة الإمبراطورية. وكنت منذ أسابيع الواسطة في حمل البرلمان البريطاني على إقرار مشروع عظيم متشعب الأبواب للحكم الذاتي في الهند.
وقد اقتبسنا الأفكار الجوهرية من خطبة سير صمويل هور لأنها أهم خطبة ألقيت في العصبة بعد خطب سترزمان وبريان، ويلفتنا فيها أنه أغفل ذكر الخلاف الناشب بين إيطاليا والحبشة، ودار حول المسألة العالمية بلباقة ومهارة، وقرر أن إنجلترا شعبًا وحكومة تعلم أن النزاع العالمي هو على «القوت» الذي أساسه المواد الخام في المستعمرات، وأن إنجلترا مستعدة لإعادة النظر في تقسيم هذه المواد بالعدل والإنصاف.
وقد أفرغ نظريات الحرب العظمى الخاصة بحماية الأمم الضعيفة وحقها في الحياة في قالب لطيف، ولكنه لم يجعلها أساس الكلام، بل جعل يُطمئن الأمم ذات المطامع على المواد الخام إلى درجة تقسيم الثروة العامة بين الجميع لإزالة المخاوف. وهذا تطور عجيب في السياسة الدولية.
ومما يدلنا على أن سير هور كان أقرب إلى العدل، أن الرأي البريطاني انقسم في شأنه، ونقده المتطرفون، ولكن الطبقات الوسطى أُعجبت به.
أما فيما يتعلق بالنزاع الجوهري، فإن الساسة في العصبة أخذوا يملون طريقة تأليف اللجان، ويحاولون حل المسألة على يد مجلس العصبة مباشرة (البندان ٤ و١٥). وقد ضغط سير هور على موسيو لافال حتى حدد موقفه تحديدًا جليًّا، وانضم إلى العصبة وهو على أحر من الجمر؛ لأنه لا يريد أن «يخون» إيطاليا. ولم تنسَ له إيطاليا هذا الجميل، بل قالت: إنه بذل أقصى الجهد، ولكنه خضع للتأثير المباشر. وكان مسلك «الدوتشي» في هذا كله أنه يزدري الأساليب السياسية، ويزدري القرارات الدولية، ويريد أن يصل إلى غايته بكل الوسائل.
لم يكن سير هور أفلاطونيًّا في خطبته، بل عندما كان صوته يهز أعواد المنابر في جنيف، كانت البوارج والمدمرات وحاملات الطائرات والطرادات والغواصات البريطانية تجوب البحر الأبيض، وتدنو من موانيه، وتعد الدفاع عن الثغور والجزائر والشواطئ.
وفي تلك الفترة خشي «الدوتشي» من هجوم ألمانيا على النمسا أثناء حرب الحبشة، فتقرب إلى برلين ليعقد محالفة «عدم تعدٍّ»، فكان ذلك سببًا في نفور الرأي الفرنسي منه، وهذا الذي حوَّل «دَفَّة» موسيو لافال بالعصبة.
وفي نظرنا، ومع عطفنا على الحبشة، أن هذا الخطاب يعد غلطة سياسية. وإننا نفهم الدافع لمندوب الحبشة على هذا الخطاب ونرثى له، فإنه إنما استنفر الشعور المسيحي، واستصرخ الغرب، واستنجد بأمم الحضارة لأنه يئس من الارتكان إلى القوة المسلحة أو كاد، ولأنه ظن أن حظيرة عصبة الأمم أصغى أذنًا، وألين جانبًا، وأرق قلبًا من وزارات الخارجية، وسفارات دول أوروبا، ولو أن بجواره في العصبة دولة كمصر، جارة أفريقية، وصديقة شرقية؛ لكانت له لهجة أخرى في الخطاب، وأسلوب آخر في الجدل.
وفي هذا الوقت جاءَ من أمريكا صوت مستر كودل هيل يُذكِّر إيطاليا بميثاق كيلوج الذي وقَّعت عليه اثنتان وستون دولة، وأيده روزفلت وأعلن حياده. كل هذا حادث وسنيور موسوليني يقول إن بريطانيا تعارضه لأنها تريد الاستيلاء على الحبشة!
وأثناء ذلك تحركت مسألة قناة السويس، فكان الرأي القانوني هو على استمرار فتحها لجميع الدول في جميع الأوقات، ودُهش العالم أجمع لأن مصر ذات الشأن العظيم في النزاع لا يُسمع لها صوت في عصبة الأمم؛ لأنها ليست عضوًا فيها، مع أن دولًا أصغر منها بمراحل تتمتع بالعضوية كفنزويلا وأراجواي.
ولا نظن أن دولة في التاريخ القديم أو الحديث نالت العطف الذي نالته الحبشة، فإن أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا تضافرت جميعها على نصرتها.
ستقوم أيرلندا بواجبها كاملًا، ليس الإنسان وحشًا ضاريًا، وليس النصر دائمًا للأقوى، والأكثر شراسة (اقرأ بين السطور قوله: انظروا لنا وقارنوا!) إذا كان واحد من المعتدين تطلق يده والآخر تُغَل يده، فخير لنا أن نعود إلى نظام المعاهدات السرية.
وحتى مملكة ابن سعود الوهابية (ولا نقول هذا استصغارًا لشأنها، بل لبعدها عن حلبة الوغى) عرضت معاونتها العسكرية لعصبة الأمم في مقاومة التعدي الإيطالي، وبذلك يكون السنيور موسوليني قد فاز في حشد كل الدول المسيحية والإسلامية والوثنية ضد إيطاليا في الشرق الأدنى والأوسط والأقصى.
لقد أسفر اجتماع العصبة عن تأليف لجنة خماسية لحل النزاع حلًّا مباشرًا نهائيًّا، وعرض هذا الحل على الدولتين المتنازعتين، فإن قبلتاه حبًّا وكرامة، وإن رفضته إحداهما تكأكأ الكل عليها لقهرها وإرغامها. وقد أتمت اللجنة الفرعية عملها في وضع التقرير بالمقترحات في نصف شهر سبتمبر، وقد بُني على أساس اقتراحات مؤتمر باريس التي رفضتها إيطاليا، وقد وُضع بالإجماع مع الحرص على سلامة حقوق السيادة القومية.
وفي الوقت نفسه ذاع أن الحرب تعلن في آخر سبتمبر، والرأي العام في الحبشة على أن زمن الخطب والمفاوضات قد انتهى، وأن معين عصبة الأمم قد نضب، وعجزها ظهر وثبت.
وقد رفضت إيطاليا جميع اقتراحات اللجنة الخماسية بغير تردد، وهي تتلخص في إبطال الرقيق، وتشجيع الاستثمار الاقتصادي لموارد الحبشة، ورقابة الأمور المالية والضرائب الحبشية، وتخلي إنجلترا وفرنسا عن شقة من الأرض في الصومال لإيطاليا، وإعطاء الحبشة منفذًا إلى البحر.
وفي ٢١ سبتمبر، اجتمع وزراء إيطاليا وخطبهم الدوتشي ساعة، وقرروا بعد المناقشة رفض الاقتراحات بأكملها.
واقترح مندوب إيطاليا تجريد الحبشة تجريدًا تامًّا من السلاح، وأن تتولى إيطاليا إعادة تنظيم جيشها، وأن تتخلى الحبشة لإيطاليا عن منطقة من أراضيها ممتدة إلى غربي أديس أبابا من الشمال إلى الجنوب؛ لتصل بين الإريتريا والصومال الإيطالي، وإصرار إيطاليا على أن أي منفذ بحري يُعطى للحبشة يجب أن يكون عن طريق الممتلكات الإيطالية.
وقال بعضهم متهكمًا في التعليق على هذه الشروط: إنها لا تُفرض حتى في حالة انتصار إيطاليا انتصارًا باهرًا بعد حروب مهلكة، فما بالك بطلبها أثناء السلام!
أما الحبشة فقد قبلت مشروع الخمسة بدون تحفظ، وما زالت إيطاليا تهدد بالانسحاب من العصبة.
وقد جنَّدت كل كائن ممكن تجنيده، حتى إنها نبشت الأرض على الكبتن جينون، وهو ضابط في الستين من عمره (كان عمره ٢٠ عامًا في الموقعة) نجا مع الأفراد القلائل الذين نجوا من معركة عدوة! وقيل إنه تطوع للخدمة في شرق أفريقيا. ونحن نعجب بشهامة هذا الجندي الشيخ، لا لأنه ساعٍ إلى حتفه بظلفه — فإن الأعمار بيد الله — ولكن لأنه يعود عن طيب خاطر إلى المكان الذي رأى فيه الموت رأي العين بعد انقضاء أربعين عامًا تحوَّلت خلالها حاله، وابيضَّ شعره، وانحنى ظهره، وضعضعته الأيام، ولكنها لم تفت في عضده، وإن كان في إيطاليا من طرازه واحد فرد، ففي الحبشة ألوف ينتظرون الحرب والصدام، فإنها تستعد لتجنيد مليون مقاتل، فتدفق سيل من رؤساء القبائل للاندماج في الجيش.
ومما يُؤسف له أن مستر فرنك كيلوج، صاحب الميثاق السلمي الدولي الشهير، قد استقال من عضوية محكمة لاهاي الدولية، والسبب الظاهر أحوال ترغمه على التغيب عن المحكمة، والسبب الصحيح ضجره وقرفه مما وصلت إليه حالة بعض زعماء شعوب أوروبا ممن وقَّعوا على ميثاقه.
وقد خيَّم اليأس على نفوس العصبة بعد رد الدوتشي، فإن ردَّه لا يدل على أنه عاد إلى المسالمة والوفاق. وقد قدم هذا الرد لأنه يعلم أن الحبشة لا تقبله، وأن أعضاء العصبة لن يقبلوه، ولم يبق إلا أن تنسحب إيطاليا من العصبة.
ولا يزال بعض النوكى والحمقى يظنون أن الدوتشي قد يعود إلى المصالحة، ويظنون أعماله من قُبيل «البلف» والتهويش، والحقيقة في ذهن العقلاء والمفكرين أن الرجل جاد الجد كله، قد يكون مغامرًا، وقد يكون شاعرًا بالخطر، ولكنه بلا ريب قد وزن كل الأمور، وحسب لكل شيء حسابه، ولم تفته صغيرة ولا كبيرة، وأن حوله فئة من أهل السياسة والحرب قد عاونوه على الوصول إلى نتيجة تسرُّه وتسرُّهم، واتخذوا لها أهبتهم، ولسانهم الناطق سنيور جايدا، منشئ جورنالي ديطاليا، وشاعر الفاشستيَّة المداح والهجاء، ورافع لواء المعاداة لإنجلترا، وفاضح أسرار الاستعمار، على زعمه.
وعلى هذا الرأي حكومة الحبشة وشعبها، ومعظم رجال السياسة والصحافة في إنجلترا وألمانيا، بل إن حوادث الأيام نفسها تؤيد صحة عزم الدوتشي، فلم ترَ في تاريخ العالم أن عشرة آلاف رجل يُرسلون في يوم واحد لميدان الحرب دون أن تكون الحرب مؤكدة وواقعة. وقد وقعت فعلًا!
كل هذا حادث وعصبة الأمم مستمرة في أداء عملها، وأعضاؤها يعتقدون أنهم قادرون على منع الحرب، وبعد أن رفضت إيطاليا اقتراحات الخمسة، وقدَّمت اقتراحات مستحيلة القبول عقدت لجنة الثلاثة عشر المؤلفة من جميع أعضاء مجلس العصبة، ما عدا العضو الإيطالي؛ لوضع تقرير عن النزاع بين إيطاليا والحبشة، فقرر شكر إمبراطور الحبشة؛ لأنه أمر بسحب جنوده ثلاثين كيلومترًا وراء الحدود رغبةً منه في اجتناب الحوادث، وتلت طلبه البرقي بإرسال لجنة دولية ترقب مَن يبدأ بالاعتداء، فاتفقت على صيغة الجواب، ووعدته خيرًا. ويعد هذان العملان حكمًا تمهيديًّا ضد إيطاليا، ولهذا الاجتماع الإجماعي سابقتان في حرب جران شاكو، وفي نزاع الصين واليابان، وستظل دورة انعقاد الجمعية العمومية للعصبة مستمرة إلى أن ينجلي الموقف، فاحتجَّ مندوب إيطاليا على استمرار الاجتماع إلى أجل غير مسمًّى؛ بحجة أن العصبة غير مرتبطة ارتباطًا رسميًّا بالنزاع الناشب.
ومما يجدر ملاحظته من الوجهتين السياسية والقانونية أن إيطاليا التي تتهدد العصبة بالانسحاب، وتحاول التقليل من قدر قراراتها في نظر العالم، لم تترك ناحية من ناحيات النقد القانوني ضد العصبة إلا تناولتها بكثيرٍ من الدهاء والحيطة، كما يفعل أمهر المحامين وأحذقهم، فمن ذلك قولهم: إن الوقت مناسب لتطبيق البند ١٦ من عهد العصبة على الحبشة، وهو ينص على «إخراج العضو الذي لا يليق أن يبقى في العصبة …» والبند ٢٢ الخاص بالانتداب، وأن العقوبات لا تُفرض إلا في حالة الانشقاق المفاجئ لا في الحالة الراهنة، حيث سبق للمجلس أن تدخل في الأمر، وقد تخلفت إيطاليا عن حضور جلسة ٢٦ سبتمبر؛ لتحتفظ بكامل حريتها فلا يصدر أي قرار في مواجهتها.
وفي وسط هذا التوتر الشديد في أعصاب العالم تكلم سنيور بنديتو موسوليني فقال (٢٧ سبتمبر ١٩٣٥): «لقد فكرت مليًّا، وحسبت كثيرًا، ووزنت كل شيء، ولن يستطيع أحد وقف مليونين من أبناء إيطاليا يتوقون إلى شرف الذهاب إلى شرقي أفريقيا لخدمة وطنهم، والموت في سبيله إذا قضت الضرورة، وأنا أختار التضحية بالحياة على السلام (كذا).» وقد تقدم الدوتشي بقلمه يكتب بدون توقيع في جريدة المنبر «تريبونا»، التي صدرت في ٢٧ سبتمبر بروما، فقال: «إن العقوبات لا وجود لها في ميثاق العصبة، والمادة ١٦ تشير فقط إلى قطع العلاقات المالية والتجارية، ولما كانت إيطاليا الفاشستية لم تقترض درهمًا واحدًا في تاريخها، فلا يمكن أن يُنكر عليها ما لم تطلبه، والبلاد التي تدعو بإلحاح إلى توقيع العقوبات هي التي تبيعنا أكثر مما تشتري منا، فإذا لم تشأ أن تبيع لنا أو تشتري منا فإننا نشكرها، ولكن إذا حاصرونا فمعنى ذلك الحرب، ونحن نحارب أيضًا.»
وفجأة تغيرت لهجة الدوتشي وأعوانه بعد أن أيقنوا أن العصبة جادة في خطتها، ومصممة على تنفيذ ما صحت عزيمتها على تنفيذه، فعدل بارون الويزي مندوب إيطاليا عن مغادرة جنيف تنفيذًا لأوامر جديدة وصلت إليه من روما.
واجتمع وزراء إيطاليا في يوم ٢٨ سبتمبر، وعرض عليهم موسوليني تطورات الحالة منذ الاجتماع الأخير، واعتذر عن رفض اقتراح الخمسة؛ بحجة أنها أغفلت مصالح إيطاليا التي تؤيدها وتؤكدها معاهدات ١٨٨٩ و١٩٠٦ و١٩٢٥ — وأغفل الدوتشي معاهدة ١٨٩٦ التي عقدت بعد معركة عدوة — وسخر من حسن الظن بالنجاشي في سحب جنوده وراء الحدود، وأخيرًا قرر المجلس ما يأتي:
- أولًا: إيطاليا لن تبادر العصبة بالعداء.
- ثانيًا: إيطاليا تحترم المصالح البريطانية، وهي مستعدة لعقد معاهدة مع إنجلترا تطمئنها على مصالحها في شرق أفريقيا.
- ثالثًا: تجتنب إيطاليا كل ما من شأنه توسيع الخلاف بينها وبين الحبشة.
وقد فُسِّر هذا العمل بأنه مساومة إيطالية، ومناورة جديدة للدخول في مفاوضة ثلاثية خارج العصبة، وأن معناه أيضًا تأجيل إعلان الحرب.
ولكن الطليان يعتبرون هذا البلاغ تحديًا لإنجلترا، وإنجلترا ترفض أن تتفاوض خارج العصبة.
وقد انتهى شهر سبتمبر ولم تعلن الحرب، ولم تنجح العصبة في حسم النزاع، ولم تتزحزح إيطاليا عن موقفها إلا بحيلة تقصد بها إلى كسب الوقت، وإحداث الفشل في صفوف العصبة.
أما سفر وحدات الجيش، فكان جهارًا عن طريق قناة السويس، فلماذا لم تُحرِّك بريطانيا ساكنًا؟ ولماذا لم تحتج إلا بعد زيارة كابتن إيدن لروما؟
بعد أن مضى على هذا التصريح يومان، اعتدت إيطاليا على الحبشة بالطائرات والمدافع بدون إعلان حرب (٢ أكتوبر سنة ١٩٣٥)، وما زالت تحارب وتخذل إلى يوم ١٢ أكتوبر الذي سبقته فترة سكون وتردد. وقد رفعت العصبة «الحظر» فأرسلت الدول بالأسلحة إلى الحبشة، وأجمعت الأمم على مقت إيطاليا، خصوصًا بعد أن ظهر عجزها عن اكتساح الحبشة في أسبوع كما أنذرت وأمَّلت وادَّعت، ولم تكسب إلا تنفيذ العقوبات الاقتصادية كنص البند السادس عشر من عهد العصبة.