تطور الغارات على الأمم
الأمور الثلاثة التي قيل إنها سبب الحرب
لقد شغلت الحرب الحبشية الإيطالية الحاضرة أذهان الكُتَّاب والقراء ورجال السياسة وعلماء الاجتماع في كل مكان، حتى غضوا الطرف عن مسألة تاريخية كبرى لها أكبر الأثر في تكوين النزاع السياسي الذي تنشأ عنه الحرب.
- الأمر الأول: الأخذ بالثأر لهزيمة عدوة الشهيرة.
- الأمر الثاني: رغبة إيطاليا في التوسع الاستعماري للحصول على ما يسد الرمق.
- الأمر الثالث: رغبة زعيم إيطاليا في إحراز نصر خارجي يعيد لأرض إيطاليا وشعبها مجد الدولة الرومانية البائدة.
هذا عن الأمر الأول، وهو تعليل الحرب التي نشبت برغبة الأخذ بالثأر.
ولا يكفي للزعيم أن يكشف للعمال عن بضعة مبانٍ قديمة، أو بعض «أقواس نصر» خاوية كحمام كراكلا، أو إصطبل نيرون حتى يعيد مجدًا بناه جبابرة الحرب، ودهاة السياسة، أمثال: يوليوس قيصر، وأغسطس، وشيشرون، وأن الإمبراطورية الرومانية هزمها العرب في ساحات الشام (واقعة اليرموك)، كما هزم البقية الباقية منها غزاة الترك في الاستيلاء على القسطنطينية.
إذن يكون الكلام على إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية التي فتحت العالم مجرد كلام جميل، وأحلام زاهية، وأماني معسولة لا يصح في الأفهام أن يُقام لها وزن. وقد تصلح بروقًا خلابة لأعين الشعب في بلاده، وهي على حد قول الإنجليز اللاذع: «بضاعة لا تصلح للتصدير»، وفي ظني أن ذكاء الزعيم يقنعه بصحة هذا الرأي.
بقي الأمر الثاني الذي يصح أن يكون هو السبب الصحيح للحرب التي نشبت، ولم يحصل إعلانها، وهو رغبة إيطاليا في التوسع الاستعماري.
التوسع الاستعماري الحديث
- الأول: الهجوم على القارات الآهلة بالمتوحشين (أستراليا وأمريكا).
- الثاني: استعمار وطن الشعوب الآيلة إلى الانحلال (كالهند والصين).
- الثالث: الهجوم على القارة السوداء (أفريقيا)، ولكن العالم ديبوا لم يفته وهو يدافع عن بعض نظريات المستعمرين الذين أتقنوا سياسة الاستعمار حتى كادوا يجعلونها فنًّا جميلًا، أن يُرجع الأمور إلى أصولها، فأشار من طرف خفي إلى وجوه الشبه بين الاستعمار الحديث وغارات القبائل البربرية في القرون الوسطى على الأمم المتحضرة التي دقت نواقيسها؛ فأضاعها الترف والتطرف في نعومة المدنية، واستنامت إلى ملذات الرفاهية.
هجوم البرابرة على الأمم المتحضرة
تاريخ الأمم هو تاريخ «النزوحات» التي حصلت بينها، وهي أشبه الأشياء بالتموجات الإنسانية الحية، ومظهرها أن قبائل رحالة قوية يضيق بها العيش والمرعى في أوطانها، فتنزح على غير هدى في طلب الرزق، ولا تلبث أن تنقض على بلاد آهلة بالسكان، وشعوب في درجات مختلفة من الحضارة، فتنزل عليها نزول الصاعقة، وتستولي عليها، فتبيد حضارتها تارة، وطورًا تخضعها لنفوذها، فإذا تمَّ الإخضاع، فإما تندمج فيها، وتفقد على مرِّ السنين وكرِّ الأعوام مؤهلات الغزو والطغيان، وإما تحتفظ بقوتها فتُفني الشعوب الأصيلة عن آخرها.
وكان منهم إباطرة أمثال كراكلا، وكانت لهم نُظُم فطرية أضافوها إلى ما وجدوه في حوزة الممالك المقهورة. وهجم النورسمان والسكسون من شمال أوروبا على إنجلترا وأيرلندا، فغلبوا القلتيين أو السلتيين على أمرهم.
هذا في الغرب، أما في الشرق فقد أغار المغول والتتار على بغداد، في أواخر القرن السابع الهجري، وهي في قمة مجدها تحت حكم العباسيين، فصنعوا بها ما صنعوا من تخريب وتقتيل، وتحطيم لآثار الحضارة، حتى جعلوا أهرامًا من الرءوس البشرية، وأغرقوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الكتب المخطوطة في نهر دجلة.
وكان لهؤلاء المدمرين زعماء نابهون؛ أمثال: جنكيزخان، وتيمورلنك الأعرج، وغيرهما.
وإن المؤرخين ليصعدون في سلم التاريخ إلى ما هو أبعد من ذلك، فيذكرون هجرات قبل التاريخ؛ مثل نزوح قبائل اليمن بعد خراب سد مأرب إلى الشمال، ومنهم قبائل احتلَّت الحجاز ومكة، وطردت القبائل السابقة كقبيلة جرهم، وصعدوا إلى الهكسوس الذين أغاروا على مصر وملكوها، وقهروا ملوكها، وأغارات القبائل الوحشية على بابل وآشور، ولم ينسوا أن يصفوا خروج بني إسرائيل من مصر بأنه نزوح قبيلة قوية لفتح فلسطين المستضعفة.
وغير خافٍ أن هذه القبائل كلها إنما أغارت على الأمم المتحضرة في سبيل الرزق والتحضر، ورغبة الاستقرار في بلاد مجهزة بكل أدوات المدنية.
ما أشبه اليوم بالبارحة!
نقول: لما جاس هؤلاء الرَّحالون المشبعون بروح الاستطلاع والغزو خلال الممالك، وعادوا إلى أوطانهم بأنباء مدهشة تشبه أنباء سندباد البحري، لحقهم من الإنجليز ليفنجستون، وستانلي، وأمين باشا (وهو ألماني)، فكشفوا أفريقيا ومنابع النيل.
لقد حدث للمرة الأولى حادث فاجع لم يسبق له مثيل في هذه البلاد، ألا وهو أن رجلًا إنجليزيًّا مسيحيًّا قتل نفسه بعد أن قتل أولاده خشية الجوع والبرد. وإنها لعلامة جد خطيرة، وأمر له ما بعده حدث في يوم عبوس قمطرير.
فحينئذ — وحينئذ فقط — هبت تلك الأمم للاستيلاء على البلاد الضعيفة، أو ذوات الحضارة المنحلة؛ مثل: الهند، وشمال أفريقيا، والهند الصينية، ووادي النيل إلخ.
الأسباب التي انتحلتها دول أوروبا لتبرير الاستعمار
ولما كانت دول أوروبا قد ضربت في الحضارة بسهم نافذة، واتَّخذت لها رداء من المدنية، ووجهًا مستعارًا من مكارم الأخلاق، ولا سيما بعد ظهور مبادئ الثورة الفرنسية، وتوكيد حقوق الإنسان، وانتشار فكرة الحرية والمساواة بين الأمم، وصارت لهم حكومات منظمة ومسئولة أمام مجالس نيابية، وصحافة قوية تنشر كل ما يُقال ويُكتب في أنحاء العالم؛ فقد خجلوا أن يُجاهروا بالسبب الحقيقي لغاراتهم الجديدة على أمم العالم، وهو الخوف من الجوع، وخشية الإملاق المهدد لكيانهم، فاتَّخذوا أسبابًا باطلة، وألبسوها ثياب الحق فقالوا: «إنما نفتح البلاد ونُغير عليها لا لمنفعتنا ولكن لخيرهم، فنحن نريد تمدينهم وتحضيرهم، ونريد حمايتهم من أنفسهم، ومن طغيان حكامهم.»
وقد برعت أوروبا في تنفيذ خططها، وأتقنت سياسة الاستعمار، ومصَّرت الأمصار، ودوَّنت الدواوين، وأنشأت المكاتب والمدارس لتخريج الرجال، وتأهيلهم للخدمة في المستعمرات، وعلَّمتهم لغات البلاد المقصودة بالحكم؛ كالعربية، والهندية، والأندنوسية، حتى لغات الزنوج والشلوك أتقنوها، ووضعوا لها القواميس والمعاجم، ووضعوا القوانين والشرائع لحكم تلك البلاد، وأسسوا وزارات جديدة أطلقوا عليها اسم وزارات المستعمرات، قد يكون شأنها في بعض الدول أعظم من شأن وزارة الأمور الخارجية كما هي الحال في فرنسا الآن.
العراك بين الدول العظمى على المستعمرات
وحقيقتها أنها حرب سببها الاستعمار الذي تنبهت عناصره بعد غزوة إيطاليا في طرابلس، وطمع ألمانيا في نصيب من المستعمرات أوفر مما كان لديها، فتكشفت الحرب عن سلبها ما كان لديها، والحكم عليها بالإعدام السياسي، والموت المدني ولو إلى حين.