الوجه الأخير للاستعمار
وهو وجه «المحاق». وقد عادت فكرة الاستعمار كالعرجون القديم، وأظهر ما في هذا الوجه هجوم إيطاليا على الحبشة على الرغم من وجود عصبة الأمم. وخطورة الأمر ترجع إلى أن كلًّا من الحبشة وإيطاليا عضو في تلك العصبة. وقد بذلت دول أوروبا غاية ما تستطيع في التوفيق والحيلولة بينهما وبين الحرب، فأعلنت إيطاليا بعملها إفلاس العصبة، وأثبتت أن حب الاستعمار لا يزال نارًا تتأجج في صدور أهل أوروبا، حتى بعد الحرب العظمى ومؤتمر نزع السلاح.
مما يُثبت التناقض الإيطالي وعدم الثبات على المبادئ أن مندوب إيطاليا في عصبة الأمم في جلسة ١٥ سبتمبر سنة ١٩٢٣، وهي الجلسة التي قُبلت فيها الحبشة في العصبة، وكان إذ ذاك هو الكونت بونينو لونجاري (سلف بارون الوازي) قال إنه يُرحب باسم إيطاليا بقبول الحبشة، تلك الدولة العريقة في الحرية والعقيدة منذ ثلاثة آلاف سنة لدى دخولها في عصبة الأمم، وإن إيطاليا تعد طلبها العضوية في العصبة تحية عظمى تقدمها الحبشة إلى العصبة. وقد دافع عنها خير دفاع وقال: إنها مصدر نور وحضارة في أفريقيا.
وإذ كانت القبائل المتوحشة تغير على الأمم المتحضرة بأقواس، وسهام، وسيوف، ورماح، وخوذات، ودروع، فإن إيطاليا المتحضرة تغير على الحبشة بالطائرات، والغازات، وأشعة الموت، والأساطيل، والدبابات، والمدافع الرشاشة، وقنابل الديناميت. وهذه الأمة الحبشية نفسها لم تكن تملك إلا الأقواس والنبال والرماح.
الأدلة المادية على أن الحرب الناشبة غايتها طلب الرزق!
إن منطقة الدناكل التي تقترح لجنة الخمسة إعطاءها لإيطاليا ليست سوى مهد قديم لبحر جف ماؤه، فلا تنمو فيه عشبة خضراء، ولا يمكن حتى الحبشي نفسه أن يجد فيها وسيلة للارتزاق، تلك هي صحراء أوجادين أو الصحراء الحجرية … وقد عالجنا بعض الصحراء الليبية وصيرناها صالحة للسُّكنى. أما الصحاري الجرداء القاحلة المملوءة صخورًا هائلة صماء؛ فلا يمكننا أن نفعل بها شيئًا.
ماذا يقول سنيور بنيتو موسوليني لو أن دولة أقوى من دولته أعلنت عليه حربًا جائرة، وكادت أن تقهره، فعرض عليها جزيرة صقلية وجنوب شبه الجزيرة لتستعمرها، فرفضت عرضه، وطلبت سهول لومبارديا وتوسكانيا لخصوبتهما، وذلك بحجة أن عمالها عاطلون، وزُرَّاعها لا يجدون ما يزرعون، هل يطيق الحياة حينئذ، أم يقبل التنازل عن أرض الوطن؟
النتيجة
ولكن على الرغم من هذا التطور الذي تمَّ في مدى عشرين قرنًا؛ فإن سبب الغارات لا يزال واحدًا، وهو التوسع في طلب القوت، والبحث وراء الرغيف اللدن، سواء أكان في أمريكا أو أفريقيا أو آسيا.
ولما كانت القبائل البربرية قد انقرضت، فلا شعوب سلافية تنحدر من الشمال على روسيا، ولا هون، ولا فيزيجوت، ولا فندال، ولا تتر، ولا مغول؛ لأن دول أوروبا أبادتها في منابتها، فقد حلَّت تلك الدول المتحضرة نفسها محل تلك القبائل، واتخذت خطة الهجوم والإغارة، وهي لا ترحم حتى نفسها، حتى تُغير ألمانيا على الألزاس، وإنجلترا على أيرلندا، وروسيا وألمانيا والنمسا على بولونيا، وذلك بأسباب شتى؛ كالحدود الطبيعية (نهر الرين)، وضرورة الجوار (أيرلندا)، أو الخوف من النزعة الحربية (ضد بولونيا).
الزمن تغير والعالم تطور، ولكن غريزة الشر، ورغبة الاعتداء، والطمع الأعمى فيما بين يدي السوى باقية لم تتحول، سواء أكان الحاكم ملكًا مستبدًّا، أو رئيس جمهورية شعبية، أو زعيمًا فاشيًّا!