من موقعة قرع إلى موقعة عدوة من سنة ١٨٧٦ إلى سنة ١٨٩٦
في سنة ١٨٦٩ اشترت إيطاليا ثغرًا صغيرًا اسمه عصاب في شمال بوغاز باب المندب باسم شركة بحرية هي «فلوريو روباتينو»، وفي سنة ١٨٨٢ حلت الحكومة الإيطالية نفسها محل تلك الشركة، فنزلت بثغر عصاب مستعمرة إيطالية وأقامت، ثم أرسلت نائبًا عنها يُدعى الكونت إنتونلي إلى الإمبراطور منليك الثاني على رأس بعثة ليعين تلك المستعمرة الإيطالية، فأكرم الإمبراطور وفادتها، وعقد معها معاهدة صداقة كانت الضربة الأولى على الحبشة؛ لأنها اعترفت بحقوق لإيطاليا في بلادها.
وفي سنة ٨٥ احتلت إيطاليا بعض الثغور والجزائر أهمها مصوع التي كانت لمصر بحق تنازل الدولة العثمانية عنها للخديو إسماعيل مقابل زيادة الجزية، وكان ذلك بموافقة إنجلترا، ثم اتجهت نية إيطاليا إلى تأسيس مستعمرة قوية في البحر الأحمر، وكان هذا بداية تكوين الإريتريا التي أمست خنجرًا في ظهر الحبشة من ذلك التاريخ إلى الآن.
فإن نفوذ إيطاليا لم يلبث أن انتشر وزاد، فغضب له الملك منليك الثاني الذي كان لا يزال ملك شوا، وزاد غيظه أن احتل الأميرال الإيطالي شيمي ميناء مصوع، ونفى منها المحافظ المصري إلى السويس، وأمر الحامية المصرية بإخلاء المدينة، وكانت هذه السياسة الاستعمارية تنفيذًا لخطة فرنسيسكو كريسبي، أحد أتباع الثلاثة الذين بنوا إيطاليا الحديثة؛ وهم: متزيني، وجاريبالدي، وكافور.
وفي يناير سنة ١٨٨٧، التقى الجيش الحبشي بالجيش الإيطالي في دوجالي، وكان الفرق بين الجيشين عظيمًا في العَدَد والعُدد، فهُزم الطليان، وقُتل معظمهم، وأُسر بعضهم، وعادة الأحباش في كل حروبهم أن يلقوا خصومهم بجيش يفوقهم عشرات المرات حتى يُدخلوا الارتباك والاضطراب في صفوفهم.
ووصلت أنباء هزيمة الطليان إلى روما، فسببت غضبًا وطنيًّا كما حدث في مصر سنة ١٨٧٤، وكذلك أعدت إيطاليا جيشًا قوامه اثنا عشر ألف عسكري، كما أعدت مصر في سنة ١٨٧٥ جيشًا قوامه ١٥٠٠٠ عسكري، وأبحر جيش إيطاليا من نابولي يقصد إلى إريتريا، وتوسط الإنجليز في الصلح فلم يفلحوا، وفي مارس سنة ١٨٨٨، مرض قائد هذا الجيش فجأة فتوقف عن القتال، واستعمل الطليان حيلة للإيقاع بين الأحباش والسودان والإنجليز فلم يُوفَّقوا، وعرضوا على منليك أن ينضم إليهم في القضاء على الملك يوحنا صديقهم القديم فرفَض عرضهم، وقَبِل هداياهم من السلاح والمال.
ولم يكن يوحنا قاهر المصريين بالملك الذي يُستهان به، فإنه حارب التعايشي في القلابات، وهزم الدراويش في المتمة، ولكن شهر مارس الذي حمل له النصر في سنة ٧٦ على المصريين جاءه بالبلاء في سنة ٨٨، فخرَّ قتيلًا في ٩ مارس في نفس ساعة انتصار الخليفة على جيش الأحباش.
ولما كان الأحباش من أهل الفطرة الذين يفقدون رشدهم إذا فقدوا قائدهم، فقد ركبوا رءوسهم وفروا وتركوا جثة مليكهم وقائدهم بين يدي الدراويش، فأمر التعايشي بدفنه بعد أن سلب كتبه وسلاحه، وبعث بها إلى عاصمة ملكه، وانتهز منليك هذه الفرصة وقد حلت له الأقدار عقدة كان عن حلها عاجزًا، فنادى بنفسه ملكًا على ملوك الحبشة.
وكان الطليان متربصين، وقد ظنوا أن الدهر قد حالفهم فاحتلوا مدينة دوجالي التي هزموا لديها، وانتهزوا فرصة انشغال منليك بنشوة النصر المعنوي والصعود إلى العرش، فعقدوا معه معاهدة في مايو سنة ١٨٨٨ في أوشيال.
وكان رجل إيطاليا لدى التعاقد هو أنطونيلي نفسه الذي اتصل بمنليك منذ أربع سنوات، وظن أنه تخصص في السياسة الحبشية.
ولكن هذا السفير الإيطالي أخطأ المرمى، وخان الأمانة؛ لأنه كتب بلغته ما لا ينطبق على ما كُتب باللغة الحبشية، وفسَّرت إيطاليا معاهدة أوشيالي بأنها تبيح لها وضع الحبشة تحت الحماية الإيطالية، لترهقها بالأمر الواقع.
وكان منليك في ذلك الوقت مشغولًا بأمرين؛ الأول: الانتقام للملك يوحنا من خليفة المهدي، والثاني: حفلة تتويجه، فأتمَّ التتويج في سنة ٨٩، وعدل عن حرب الدراويش مؤقتًا، وانتهزت إيطاليا هذه الفرصة، فزادت نفوذها في الحبشة ببذل المال والهدايا للقواد، وبلغت قوتها أقصى مداها في سنة ٩٥، وأصبح مركزها ثابتًا لا يزعزع في إريتريا.
وكانت إيطاليا أرسلت في سنة ٩٢ إلى الحبشة بقائدين من أشهر قوادها، ولكن وجودهما في إريتريا لم يُوهن من عزيمة النجاشي، ولم يعقه عن إعلان تخلصه من معاهدة أوشالي، وردِّ قرضٍ إيطالي بلغت قيمته أربعة ملايين ريال.
- الأول: مفاوز الحبشة وجبالها التي حفت بالمكاره والمهاوي والمهالك؛ كانهمار السيول، وقلة الماء، وانتشار الأمراض.٣
- الثاني: خطة الأحباش في الحروب، وهي إرباك العدو بجيوش جرارة تفوق جيوشه أضعافًا مضاعفة، وطبيعة الحبشي المحارب الذي اشتهر بالخفة والدهاء، والاستدراج للعدو، والإحاطة به من كل جانب، وإرهابه بالسيوف والرماح التي تقطر دمًا، ثم القسوة في معاملة العدو وكل من ظفر به، والإجهاز على الأسرى.
- الثالث: خضوع الجيوش الحبشية لقائد عظيم هو في الوقت نفسه زعيم وطني لا يعمل لمجده الشخصي، ولكن لينقذ الوطن، وكان هذا القائد العظيم والملك المغوار منليك الثاني، فهزم الطليان في موقعة «أمبا الأجي»؛ فانتحر قائدهم توسيلي، وكان يُعين النجاشي في هذه الحرب الطاحنة وزيره ويده اليمنى، القائد الرأس ماكونين (والد هيلاسيلاسي)، فتمكن من حصار مكالي، ولم ينسحب عنها إلا بعد أن أخذ من الطليان غرامة حرب قدرها مليون ريال.
وحاول براتيري أن يعقد الصلح، فرفضه منليك، وصحت عزيمته على منازلة الطليان في موقعة حاسمة، فاستعد بالسلاح الذي أمدته به بعض الدول الأوروبية، وحشد جيشًا قوامه ربع مليون جندي، ولما أصبح على غاية الاستعداد، وأخذ للموقعة الفاصلة أهبته، عرض على براتيري أن يدفع للحبشة ٢٥ مليون ريال، وأن ينسحب إلى حدود إريتريا، فرأى القائد الإيطالي أن الشرطين بمثابة التعجيز له ولدولته، فرفضهما، ولكن إيطاليا عادت فندمت بعد الهزيمة.
وبعد أن تمَّ النصر للحبشة، واستولى منليك على أسلاب الجيوش المهزومة، اقتفى أثر الفلول الهاربة إلى إرتيريا فمر بحدودها، ووضع يده على حصن أدجري واستولى عليه، وأخلى الطليان من تلقاء أنفسهم مدينة كسلا، وحاولوا أن يجمعوا جيشًا جديدًا، ولكنهم عجزوا عن القتال بعد أن دبَّ الرعب في قلوبهم.
وكان منليك قد أنشأ مدينة أديس أبابا، ومعناها بالحبشية الزهرة الجديدة، وجعلها عاصمة ملكه، فأرسل الطليان إليها في أكتوبر سنة ٩٦ وفدًا لعقد الصلح، فكانت أشبه بسدان سنة ١٨٧٢، وفرساي سنة ١٩١٩، فعُقدت المعاهدة، وقد نص فيها على إلغاء معاهدة أوشالي، وهي أصل البلاء؛ لأنها أُسست على الخداع، وتغيير الحقيقة، وجنى كريسبي وأنطونيلي ثمرات أعمالهما!
وعاش منليك بعد ذلك الفوز ١٧ سنة كان أثناءها موضع الاحترام والتقديس في أفريقيا والشرق، ومصدر الرعب في بعض ممالك أوروبا، ولا سيما إيطاليا.