قرة العين في خريدة لبنان
١
في ذات صباح من أبهى أيام حُزيران ظهرت عربة يجرها ثلاثة من الخيل الضوامر على الطريق الممتدة من بيروت إلى دمشق، وكانت الخيل تلهث إعياءً وقد تصبَّبت عرقًا راغيًا، وسنابكها تنشب في الأرض فتثير الغبار المتلبد، بينما الحوذي ينشطها بصوتٍ يُشبه الطعطعة، والكلاب تنبحها من دكانٍ منفردة أو بيتٍ معتزل، والقنابر تنفِر من بين السنابل وتحلِّقُ في الهواء صافرةً، هذا والشمس عند شروقها أرسلت أشعَّتها إلى العربة، فرسمت لها من الظلِّ صورةً تتابعها، صافرةً وراءها بحركاتٍ غريبة بين الأشجار العارية، والشجيرات الرميمة التي تلوح حينًا بعد حين على شفا الطريق.
مضى على الخيل نحو الأربع ساعات بعد مزايلتها بيروت، راقيةً في معارج الجبل، تطوي الرُبى بين الخَيْزلي «مشية متثاقلة» والهَيْذبي «مشية ثقيلة»، أو تراوح بين الخَبب والتقريب «مشيٌّ سريع»، لا تقف إلَّا لحظة ريثما تتنفس الصُّعداء حتى أدَّاها المسير إلى خانٍ منفردٍ شرقي الطريق، فإذا بالسائق وهو زنجيٌّ لامع السواد أوقفها وانحدر إلى الأرض أسرع من البرق وفتح باب العربة قائلًا: وصلنا يا سيدي هذا هو الخان.
فسُمع من الداخل صوتٌ لا تُحدُّ لهجتُه مكررًا «وصلنا»، ثمَّ خرج رجل طويل القامة وفي يساره خريطة حوت — لا شكَّ — بعض لوازم السفر، فمدَّ السائق يدهُ ليحملها عنهُ فامتنع هذا، وأخذ من جيبه قطعةً من الذهب ناولهُ إياها، فبرقت عينا الحوذيِّ سرورًا وأكثر من علامات الشكر وعبارات الامتنان، عارضًا نفسه لكل خدمة، ولمَّا لم يؤانس من الرجل إقبالًا عليه عمد إلى خيله يكشط عنها رغوة العرق والغبار المتلبد وهو يدعوها بألطف الأسماء، ويخاطبها بأرق العبارات ريثما عاد إليها الرمق، فبادر إلى بئر هناك غربي الطريق وجاء بماء صبَّهُ على مشافرها ودفقهُ بين قوائمها كل ذلك في لحظة، ثم استوى على كرسيه وفرقع بسوطهِ إيذانًا بالرحيل، والتفت إلى المسافر قائلًا: «أنا راجع سيدي إلى بيروت، مُر خدمةً»، فكان الجواب: «مع السلامة»، فضغط بالعنان على الخيل يُمنةً فمالت وزجرها، فرسمت نصف دائرة تستقبل بوجهها بيروت، وألهبها ضربًا بالسوط فطارت تنهب الأرض منحدرة في الوهاد إلى أنْ توارت وراء أكمة، فلم يبقَ منها أثر إلا زوبعة غبار ثارت، ثم ركدت ولم يعد يُسمع منها إلَّا فرقعة السوط ودويُّ العربة ردَّدهما صدى الروابي حينًا وخمد.
أمَّا المسافر فمشى نحو دكانٍ هناك تلاصق الخان، وكان الدكاني بصر بالعربة ورآهُ نازلًا منها، فأبدى حركات مختلفة إشارةً إلى أنهُ يصفُ الأواني ويهيئُ ما يلزم، وبادر احتفاء بالقادم إلى لقائه، وأكثر من التزلُّف إليهِ، وحمل عنه الخريطة وقدَّم له كرسيًّا قرب طاولة قد أكل الدهر عليها وشرب، وسأله أنْ يأمر بما يرغب وعدَّ لهُ قبل رجع النفس من المأكول والمشروب ألوانًا وأصنافًا، فطلب الرجل شرابًا مبردًا وجلس يتأمل ما حواليه.
وكان طويل القامة — كما سبق القول — يُناهز الخمسين عامًا، وربما ظنَّ الراني أنهُ جاوز الستين لو لم يدل نشاطه وبرق عينيه، وابتسام ثغره أنَّ قلبه أنضرُ شبابًا من وجههِ، على أنهُ لعب البياض بلمَّته وشاربه الكثيف، وتجعَّد جبينهُ ووجنتاهُ، وبدت على مُحيَّاه أمارات عياء لا يمكن وصفها، وهي آثار ما قاساه من الأكدار والمشاق في صباه مُنبئةً بحلول الشيخوخة قبل أوانها، بيد أنهُ قويُّ البنية، راسخُ القدم، وقد كان على رأسهِ قبعة بيضاء يلبسها الأوروبيون في البلاد الحارَّة، أمَّا ثيابُه فكانت صدرية وسترة من الجوخ الأسمر، وبنطلون من الكتَّان الأبيض، ورانَينِ «طماقات» من الجلد الرمادي؛ حتى لا يشكَّ من رأى زيَّهُ أنهُ جوَّالٌ إنكليزي.
فجاءهُ الشراب بعد أن أكثر الدكاني وولدان لهُ من الحركة ذهابًا وإيابًا، وهو يراقب الجميع بانعطاف ولسان حاله يقول: أليس فيكم من يعرفني؟ أليس من يخبرني عنها؟ ولمَّا لم يجد من يدرك معناه سعى في مبادلة الحديث فطلب نارجيلة، فما لبث أنْ أقبل الدكانيُّ حاملًا نارجيلةً من الزجاج الملون، لها قلب طويل من الخشب المرصع بعرق اللؤلؤ، فوقه رأس من النحاس الأصفر اللامع يلتفُّ عليها متلويًّا، كالأفعى ماربيش أحمر في طرفه حلَمة من الكهرباء، فوضعها على الأرض، وحلَّ الماربيش وثنى طرفه وقدَّمهُ بكل احترام للضيف قائلًا: «هاك سيدي أركيلة لا يوجد مثلها في البلاد»، وكانت تلك أفخر مقتناه أتحفهُ بها أحد المسافرين، فسأله الغريب: أوليس عندكم نارجيلات من نحاس كالبيضة أو من جوزة الهند؟
فأجاب الحانيُّ: لم نعد نستعملها من عشرين سنة.
– عشرين سنة؟! قال الرجل ذلك متنهدًّا، ثم أردف: وما حلَّ بالنوفرة وبصورة نابليون التي كانت معلَّقة على الجدار؟
فنظر إليه الدكاني باندهاش، ثم قال: أنت عارف كل شيء كأنك قضيت عمرك في هذه الضيعة! فاعلم أنَّ صاحب المحلِّ غيَّر من سنتين أشياء كثيرة وبدَّلها بأثاثٍ جديد، ومن جملة ما صنع أنَّهُ هدم الفسقيَّة والنوفرة، وحوَّل الماء إلى الجنائن، ولمَّا كلَّس الحيطان رفع الصورة؛ لأنها صارت قديمة وعلى ظني أصبحت الدكان أحسن من قبل، قال هذه العبارة بلهجة افتخار ونظرة رجلٍ مُعجب بنفسه.
لكنهُ رأى الغريب هزَّ رأسه مستنكرًا؛ إشارةً إلى أنهُ لا يوافقه على عبارته.
فأردف الحانيُّ كلامه بقوله: أمَّا الصورة فلم تزل باقية عندنا مطروحة في الزوايا، فشرقت عندئذٍ أسارير وجه الغريب ودخل معهُ إلى حيث أشار، ثم عاد يحمل الصورة ويتأملها بلهفة، وقد دار به ابنا الدكاني يحدِّقان إليه بدهشة، ويحولان عنهُ إلى أبيهما نظر مستفهم، ولا ريب أنهُ أخذ منهُ الفرح مأخذه؛ إذ كانت تتلى على وجهه أساطير الحب، والفوز ويومض من عينيه المغرورقتين بالدموع برق السرور، حتى إنَّ الصبيين مالا إليه أيَّ ميلٍ.
فأخذ يديهما الناعمتين وقال: تستغربان ما بدا مني ولا يتضح لكما سرُّ ما يخامرني من التأثر لمرأَى هذه الصورة، فاعلما أني أنا أيضًا رُبيت هنا صغيرًا، وطالما رافقت أبي إلى هذا المكان، فكم قضيت ساعات ألعب بالنوفرة، وأمتِّع العين بمنظر الماء تتكسَّر عليه أشعة الشمس فيتناثر دررًا في الفسقية، وأنا أرقص طربًا لهذا المشهد البديع! أمَّا الصورة فكنت أحب التأمل فيها وتقر عيني بمنظر هذا البطل العظيم، واليوم أمسى الصبيُّ رجلًا طاعنًا في السن، وعلا البياض رأسه وزالت نضارة وجههِ، ذاك الصبي أبعدتهُ صروف الدهر عن أوطانهِ، وطرحتهُ مطارح الأسفار إلى مجاهل إفريقية الجنوبية، فقضى فيها أكثر من عشرين سنة، ولكنه لا يزال يذكر النوفرة والصورة، كأنه لم يمضِ إلَّا يومٌ من حين جاء به أبوه آخر مرة إلى هذا المكان.
فسأل أحد الصبييْن: إذن أنت من بلدنا؟
فأجاب الرجل طافحًا بالسرور: نعم من ضيعتكم، لكن هذا التصريح لم يأتِ بالنتيجة المرغوبة، فإن الصبييْن قابلاه بابتسامةٍ لطيفة ليس إلَّا، ولم يبديا أدنى اندهاش أو علامة فرح ممَّا علماه من أنَّ الرجل ابن الوطن، لا أحد الجوَّالين الأوروبيين الذين يطوفون أيام الصيف في أصقاع لبنان، ولم يجد لهذا النبأ وقعًا عظيمًا في قلب الدكاني؛ ولذا لم يرجُ التعرُّف إليه فسأله: أين صاحب الخان ريشا؟
– أنت تعني طانيوس، فهذا قد مات من زمان.
– وامرأتُه الصالحة آسين؟
– ماتت أيضًا.
– فتنهَّد الغريب وصاح: مات؟ ماتت؟ ثم سكت هنيهةً وسأل: وعبد الله الراعي صاحب الشبَّابة المشهورة الذي كنا نقضي معه أيامًا؟
– سيدي إنك لا تجهل أحدًا، لكن كل من ذكرتهم قد ماتوا.
٢
فأطرق المسافر وخاض في بحر الأفكار المحزنة قائلًا في ذاته: جئت أستعلم أخبارها فلا أجسر على السؤال؛ إذ بتُّ أخشى الجواب، لكنه عاد إلى نفسه بعد حين لمَّا رأى أحد القرويين أقبل يحمل حزمة من الأشواك والأغصان اليابسة، كان جمعها من الأحراش المجاورة فطرحها عند المدخل، وجلس يستريح على مصطبة هناك ويمسح بأذيال عباءته وجهه المكلَّل بالعرق، فما تأمله إلَّا صرخ بصوت الحبور وبادر إليه، ومدَّ يده ليصافحه، فتفرَّس فيه الحطَّاب مستغربًا وكأنه لم يكترث له، فصاح المسافر: وأنت أيضًا يا بطرس منصور لا تعرفني؟ فاعتذر الحطَّاب وحلف أنَّه لا يعرف له صورة قبل ذاك اليوم.
فسأله: ألا تذكر الرجل الذي خاطر بروحهِ لينقذك من بين أرجل حصانٍ جموح؟
فلم يكن الحطَّاب ليفهم كلامه.
– هل نسيت الشاب الذي كان يدفع دائمًا عنك تعديات أولاد الضيعة، وعلَّمك ألعابًا كثيرة وأركبك مرارًا على حصانه؟
– أذكرُ أنَّ المرحوم والدي أخبرني مرَّة أني لمَّا كان عمري خمس سنين، كاد يدعسني الحصان لو لم يخلصني حنَّا الطويل، لكن هذا سافر من خمس وعشرين سنة إلى بلادٍ بعيدة وراء البحر، ومن ذاك الحين لم نعد نسمع خبرًا عنه، وما أدرانا! لعلَّ اليوم تكون عظامه صارت مكاحل، الله يرحم ترابه!
فصاح الغريب بفرح: إذن تعرفني الآن، أنا حنَّا الطويل، بل حنَّا غنطوس، ولمَّا رآه لا يبدي ولا يعيد أردف كلامه بقوله: ألا تذكر الصيَّاد الذي اشتهر في هذه الضيعة، حتى كان لا يتقدم عليه أحد كلما هجم ذئب أو ضبع، فكان هو وحده يُخلِّص البلد من شر الوحوش، ويصيب دائمًا لا يُخطئ ولا مرَّة؟ فأنا أنا الصيَّاد حنَّا غنطوس.
فأجاب الحطَّاب مترددًّا: ربَّما يكون ذلك، أمَّا أنا بلا مؤاخذة من جنابك يا سيدي فلا أعرفك، وكيف أعرفك وأنت خواجة غنيٌّ كبير وأنا فلاحٌّ مسكين ما طلعت في عمري خارج الضيعة؟
قال هذا وألقى ظهرهُ ليستند إلى الحزمة، فكأنه أضرَّ به الحر والتعب، أو ظنَّ أنَّ الغريب يسخر به فلم يبال بشأنه ولم يعبأ بأقواله، وليست كذلك حالة أمثاله إذا رأوا في بلدهم غريبًا ولا سيما أوربيًّا، فإنهم يرحبون به ويكرمون مثواه.
فساء المسافر إعراضُ الحطَّاب فلم يزد إيضاحًا، بل عاد فلفَّ الماربيش على النارجيلة، وهمَّ بالانصراف قائلًا بكل هدوء: لا تخلو الضيعة من أصدقاء لم ينسوني، فأنت يا بطرس منصور لا تُلام؛ لأنك كنت صغيرًا في تلك الأيام، ولا شكَّ أنَّ الطحَّان نمر بشارة يعرفني لأوَّل وهلةٍ، فكيف شغله؟
– خربت مطحنته ونبت موضعها الدلب والحور.
– والطحَّان نمر ماذا جرى له؟
– أظن أنه انتقل مع عائلته إلى بيروت، والله أعلم بحاله، ولربما مات أيضًا، والآن افهم يا خواجة أنك تتكلَّم عن زمن جَدي، لكنك لا تحصل على جواب إلَّا من حفَّار القبور الساكن في كوخ عند المقبرة فهو يعرف كل شيء، ويعد لك على أصابعه كل الحوادث التي جرت من مئة سنة.
– لا يخفى عليَّ ذلك ولا يبعد أنَّ يوسف روحانا جاوز التسعين.
– يوسف روحانا؟ … ما هذا اسم الحفَّار، اسمه فارس عبود.
فتنفَّس الغريب الصعداء وهتف: أشكرك اللهمَّ؛ لأنك أبقيت على أحد أترابي.
– كأن فارس صاحبك يا خواجة؟
– صاحبي! لا، فإننا كنَّا في خصامٍ دائم، ومرَّةً كنَّا نتصارع فزجَّيتهُ في الساقية الطامية من الأمطار فكاد يغرق، ولكن ذلك قديم العهد ولا ريب أنَّ فارسًا يُسر بلقائي وأنا ذاهبٌ إليه في الحال.
وعندئذٍ أخذ قطعةً من الفضَّة وأعطاها للدكاني، واعدًا بأن يتردَّدَ إليه ليدخِّن عنده بالنارجيلة، فأجاب هذا: المحل محلكم يا سيدي، والكل تحت أمركم، وأشار إلى أحد ولديه أن احمل خرج الخواجة ورُح في خدمته.
فشكر الرجل قائلًا: ما من داعٍ إلى أنْ تتعبهُ، ونفح الصبيَّ بدرهم وأخذ منهُ الخريطة، وانحدر في طريقٍ متوعرة شرقي الخان، وقد خرج الدكاني يشيعهُ مكثرًا من إشارات الاحترام وعبارات الامتنان: «شرفتم الله يحفظكم، ربنا يُطِل عمركم»، حتى توارى المسافر عن أبصاره فعاد وهو لا يتمالك من الفرح لما نالهُ من الحُلوان.
٣
فسار المسافر ينوي خميلةً من الصنوبر، كان عهدها في صباه يروق له منظرها، فما أدركها حتى تقبَّض وأخذ منه الحزن؛ لأن عينهُ لم تقر إلَّا على أغراسٍ حديثة، أمَّا الأشجار الباسقة التي كان يستظلُّ تحتها فوجدها قد عبثت بها أيدي الدهر، وتلاعبت بها عواصف الرياح، فكسرتها، وقطعت فئوس الحطَّابين جذورها المتأصلة في الأرض، فأصابها ما أصاب السكَّان من الخراب والفناء، وقد قام مكانها شجيرات لم يألف جنسها ولم تفدهُ خبرًا عن أحوال الأهلين.
بيد أنَّه كان يسمع تغريد الطيور المعشِّشة فوق الأغصان، فوجدها لم تزل تصدح كمألوف عادتها، فتشنِّف الآذان بأصواتها المطربة؛ وكذلك كان يعمل في قلبه حفيف الشجر؛ لتلاعب النسيم بأغصانها، وقد علاها الجدجد وهو يصرصر لحَمارَّة القيظ، وكانت الزهور تبعث إليه بروائحها الذكيَّة فتلذُّ حاسة شمه، ففي كلِّ هذه المناظر لم يجد ما غيَّرتُه الأيام سوى أعمال البشر، أمَّا الطبيعة فلم تنفك تجري على ما وضعتها لها الحكمة الأزلية من النواميس.
فمشى في الخميلة حينًا يلوح على محيَّاه ما يزدحم في قلبه من العواطف، فطورًا يغلبه الفرح لوصولهِ إلى مسقط رأسهِ، وتارةً الكدر لوجوده نفسهُ غريبًا في وطنه، ويبدو في حركاتهِ ما يتنازعه من عوامل الخوف والرجاء، فحينًا يخشى أنْ يدوي في أذنه الجواب على كل سؤالٍ عن الأحباب «مات، ماتت»، فيقدِّم رِجلًا ويُؤخِّرُ أخرى، وحينًا ينعش الأمل فؤاده فيرجو أنْ تكون سهام الدهر أخطأت تلك التي وجَّه إليها أفكاره وعواطفه، بيد أنَّه لا يشك أنَّها لو بقيت في قيد الحياة لا تزال بعدُ ثابتة على عهده، فيمكنهُ الاستمتاع بلقياها فينسى بقربها ما تجشَّمه من الأخطار وقاساه من الأهوال، فيزيد هذا الفكر في نشاطه وسرعة مشيه.
وما كاد يخرج من الخميلة، حتى لاح لهُ مشهد بديع فرأى رياضًا أريضةً اكتست بحُلةً خضراء، وشَّاها بنان الربيع تنساب في أرجائها جداول المياه، كأنها أفاعٍ تتململ، أو دموعٍ تتسلسل، أو لجين يسيل، أو صفحة سيف صقيل، ومنها ما يجري في قنيٍّ واسعة، ثمَّ يهوي من عَلٍ فيدير المطاحن ويُسمع لها دويٌّ وجعجعة تطنُّ لها الآذان، فسار قليلًا وإذا ببيوت الضيعة برزت للعيان وهي مبنيَّة من الحجر المنحوت الأصم، منها بيضاء السطوح، ومنها ما علاها القرميد الأحمر، وقد امتازت بين هذه المساكن كنيسة الضيعة مكلَّلة بقبة جرسٍ، يزينها صليبٍ أبيض يلمع كالنجم الهادي.
هي القرية، هو الوطن، فما كادت شفتاه تنطق بذلك، حتى همت على خدَّيه دموع الفرح، وسقطت من يدهِ الخريطة، فمدَّ ذراعيه كأنه يحاول الطيران وفي قلبه من العواطف ما يعجز عن وصفها القلم، فإنه جاب البلاد وطاف عواصم الممالك الأوروبيَّة، وتفقَّد مصانعها ومعالمها، ولكنه لم يداخلهُ قط يومًا من عجائبها ما داخلهُ لدى نظرهِ لمسقط رأسهِ بعد طول الفراق ومر البعاد.
وكانت الشمس ساعتئذٍ توسطت كبد السماء، فقُرع جرس الكنيسة إيذانًا بصلاة الظهر، فخرَّ الرجل جاثيًا على ركبتيهِ ولم يمنعهُ حرُّ الشمس من كشف قبعتهِ وإحناء رأسهِ، خاشعًا فصلَّى صلاةً حارَّةً، ثمَّ وجَّه ألحاظهُ نحو السماء فأرسلت عينهُ إلى أبي المواهب عبارة الشكر الجزيل خارجة من صميم الفؤاد، وبعد ذلك أخذ خريطته وأسرع في السير وعينُه شاخصة إلى قبة الجرس ولسان حاله يقول: «سقياكِ يا كنيسة الوطن، فإنكِ أنتِ لم تتبدلي ولم تغيرك الأعوام، ففيكِ نلتُ نعمة العماد وما بين جدرانكِ فزت بنعيم المناولة الأولى، فطالما قرَّت بكِ عيني وطابت نفسي بما فيكِ، لقد أتاح لي السعد أنْ أعود فأراكِ وأرى على مذبحكِ تمثال البتول في حُلَّتها السماوية، وتاجها الفضي، وأشاهد إيليا النبي وفي يدهِ الحُسام، وأرى جرجس يطعن التنين المريع، وكم حلمت به فهالني رؤيا التنين في منامي! أعود فأسمع الأناشيد الشجية وطالما أنعشتني نغماتها.»
قال هذا وأدَّاهُ السير إلى جسر فوق ساقية، فانبسط قلبهُ ولاحت أنوار نفسهِ على وجهه، فتهلل حبورًا وهتف: إلى هذا المُقام شيَّعتني أنيسة، هنا ودعتها وأودعتها فؤادي، وفي ذلك الزمن كانت الرياض زاهرة كما هي الآن، والطيور تغرِّد كأنها تعللنا بالأماني.
فأمسك عن الكلام وعبر الجسر وهو يتنهد ويقول بصوتٍ خافت: لعمري! إنَّ تلك الزهور شهود الوداع قد ذَبُلت وفنيت، وتلك الطيور قد ماتت، وهاك صغار صغارِها تُنعش الآن همَّة الشيخ الفاني، وقد كادت تغني أيام الهناء، وأنيسة ما حالها؟ ما حلَّ بها يا ترى أو هي في قيد الحياة؟ هل بقيت على العهد ثابتة؟ ما أدراني أنها لم تتأهل ورزقها الله أولادًا شُغلتْ بهم عن كل شاغل؟ بعدنا عن العين فسلاكم القلب، فأهل الوطن لا يذكرون المنكود الحظ الذي ساقهُ سوء طالعه فأبعدهُ عن الديار.
قال هذا وبدا على ثغرهِ تبسُّم الهزء والتهكم، لكنه ما لبث أنْ زجر هذه الأفكار فقال: ويحك أيها القلب الضعيف، ثارت فيك الغيرة كأنك لم تزل في ربيع الحياة، مضى زمن الصبا فدع الأوهام … ما هي حقوق مثلك فجئت تطالب بها؟ أو يُطلب من الأحياء أنْ ينتظروا بصبر عودة الغريب من عالم الأموات …؟ ولكن أتراها لا تعرفني أو لا تذكر قديم العهد بيننا …؟ إلهي إنْ يكن لي بعض المقام في زوايا قلبها، فلا أندم على رجوعي من بلادٍ سحيقة ومعاناتي أهوال الأسفار، وأنزل ناعم البال وهدة قبري بين أهلي وإخواني …
وفيما هو على تلك الحال تتناوشهُ الأفكار المُحزنة دخل القرية، فحاول أنْ يتعرَّف بالبيوت الجديدة، فساءهُ منظر القرميد وشكله الهرمي فوق المنازل، وكأنَّهُ اعتبر تشييد البنايات على نسق أوروبي إجحافًا بحق لبنان ومجده، وكاد يخامرهُ شكٌّ في أنهُ ضلَّ طريقه ودخل غير قريته.
على أنهُ أبصر بيتًا صغيرًا عرفه فهرول إليه وولجهُ دون تردد، فتراءى لهُ في داخله امرأة بقربها شيخ أحنت ظهره الأيام وهو ساكن كالصنم، وجهه مائلٌ إلى الأرض، ورأسه مسند إلى عصا توكَّأ عليها بيدٍ مرتجفة، فما وقعت عينهُ على الشيخ إلَّا عرفهُ فدنا منه، وأمسك بيده وصاح بصوت الفرح: تبارك الله الذي أبقاك يا أبا ناصيف، فأنت بقية فاضلة من الزمن الماضي، أفلم تعرفني؟ ألا تذكر ذاك الصبي الغر الذي كان يطفر من فوق السياج ويأكل مشمشك قبل نضجه؟
قال هذا ونصت للشيخ فسمعهُ يغمغم قائلًا: «ست وتسعين سنة.»
– صدقت، إني أعلم أنك طاعنٌ في السن … إنما ناشدتك الله يا أبا ناصيف أنْ تخبرني عن أنيسة ابنة الصبَّاغ، هل هي في قيد الحياة؟
فكرَّر الشيخ مجمجمًا: «ست وتسعين سنة.»
وكانت المرأة قد ثابت إلى نفسها من دهشة عرَتها؛ لدخول هذا الموسر الغريب إلى بيتها، فقالت له: إنهُ أعمى وأطرش يا خواجة، لا تتعب نفسك فلا يسمعك.
– أعمى وأطرش؟! يا لله من صروف الزمان، ما أكثر نكباتها في خمسٍ وعشرين عامًا؟ فكأني أمشي بين أطلال عصرٍ بالية.
قالت المرأة: سمعتك تستعلم عن أنيسة ابنة الصبَّاغ يا سيدي، فصبَّاغنا له خمس بنات، ولكن لا واحدة منهن اسمها أنيسة، فالبكر اسمها مريم اقترن بها معلم المدرسة، والثانية راحيل، والثالثة جميلة …
فصاح المسافر بفروغ صبر: لا أسألك عن هؤلاء، بل عن عائلة أيوب حسون البحمدوني.
قالت المرأة: هؤلاء ماتوا كلهم من زمان طويل.
٤
فما تمالك الرجل أنْ اندفع إلى خارج الدار، كأنَّ به مسًّا وصاح بصوت اليأس: ربَّاه أو ماتت هي أيضًا؟ أنيسة ماتت؟ ويلي فإني لا أسمع غير هذا الجواب «مات، ماتت» ولستُ أجد في بلادي من يعرفني ولا ترمقني عين صديق.
قال هذا وأخذ يمشي على غير هدى يوسع الخُطى، ولا يدري أين يؤديه المسير، فما كان منه إلَّا أنْ وصل بعد هنيهةٍ إلى المقبرة بجوار الكنيسة، فنظر مليًّا إلى منازل الأموات وهو واجم، ثم تنهَّد الصعداء وقال بصوتٍ خافت: هنا عند خروجنا من الكنيسة قامت معي أنيسة على قبر أمي، وعاهدتني أنها تثبت على ودادي وتصبر إلى يوم رجوعي، فقبلت عربونًا مني صليب فضَّة … ما أنكد حظَّكِ أيتها الفتاة، أنا سافرتُ إلى دار الغربة وأنتِ انتقلتِ إلى عالم الأموات، فلم يسعدني دهري بأن اجتمع بكِ بعد مر الفراق … وما أدراني أني لست قائمًا على قبرك أدوس ثرى لحدك؟
فما أتمَّ هذا الكلام حتى خارت قواه فسقط على بلاطة ضريحٍ وقد بلغت روحهُ التراقي، ثم أجال طرفًا عليلًا في أكناف المقبرة فساءه حالها؛ إذ رأى كلَّ قبر فيها عبارة عن ركام حجارة، وتمنى لو جرت في بلدهِ عادة استحسنها في الأقطار الغربية، وهي أنْ تنصب الأمُّ صليبًا على ضريح ولدها رمزًا إلى الرجاء، ويشيِّدُ الابن فوق تربة والديه أثرًا يعلن برَّهُ بهما، ويزين الصديق لحد صديقه بالرياحين والزهور دليلًا على حفظ الوداد، وكان قبل سفرتِه وهو حدَثٌ يتردَّد إلى المقبرة ليزور رمس والديه ويقدم الصلاة لراحة نفسيهما، فلم يعد يهتدي اليوم بعد رجوعه إلى قبريهما.
وكانت المقبرة ساعتئذٍ قفرة لم يزرها أحد عند الهاجرة فخلا له الجو، لِبَثِّ شكواه وبعث نفثات الصدر وسجم الدموع السخينة.
وفيما هو على تلك الحال يفكر في زوال هذه الدنيا وأهوال الموت وغوامض الأبدية، إذ طرق مسامعهُ وقعُ أقدام، ولم يكن القادم سوى الحفَّار الشيخ قد جاء حاملًا مجرفة ومعولًا، وكانت هيئته الرثة تُنبئ على فقره وصروف الزمان قد حنت صُلبَهُ وأشعلت رأسه شيبًا، وجعَّدت وجههُ، إلَّا أنه لم يزل بعدُ برق النشاط يلمع في عينيه.
فما وقعت عين المسافر على هذا الشيخ إلَّا عرف منه خصمهُ القديم فارسًا عبودًا، وهمَّ أنْ يطير إليه لو لم يثبطه عن مرامه ما نابه من الفشل إلى ذاك الحين، فلزم مكانه ليرى إنْ كان يعرفه فارس.
فوقف الحفَّار على بُعد خطوات منه، وتأمله برهةً، ثم أخذ يرسم في الأرض شكلًا مربعًا مستطيلًا؛ ليحفر هناك قبرًا جديدًا، ولم يكن عمله ليشغله عن مُسارقة النظر إلى الغريب، فما لبث أنْ لاحت على وجهه أمارات سرورٍ مُنكَر.
فظنَّ المسافر أنها بشائر الفرح بلقاء عشير الصبا، فخفق فؤاده طربًا، وعلَّل النفس بأن فارسًا يُسرع إليه ويناديه باسمه.
أمَّا الحفَّار فوجَّه إليه نظرة الحقد والسخرية، ومدَّ يده إلى ما وراء ظهره تحت عباءته التي شدَّ ذيلها إلى وسطه، وأخرج حبلًا أعقد من ذنب الضبِّ فزاد فيه عقدة، وقد بدت عليه ملامح الفوز، حتى إنَّ الغريب نهض ودنا منهُ وسأله منذهلًا: ماذا تفعل؟
قال الحفَّار: هذا يعنيني، قد طال انتظاري حتى نفد صبري وهذه العقدة لحسابك.
فصاح الغريب بفرح: إذن تعرفني؟
– ومن أعرَف بك مني أو أنسى خصمًا رماني يومًا في الساقية، ولولا القليل لغرَّقني عن حسد؛ لأن أنيسة ابنة الصبَّاغ كانت تفضلني عليه …؟
– أنت؟ تفضلك عليَّ أنيسة؟ لا صحة لما تدَّعي.
– لا شكَّ في قولي، وهل نسيتَ يا حسود أنَّها حفظت كل السنة تذكارًا مني جلبتُه لها من مار إلياس فأتيتَ ونزعتهُ من صدرها؟
فقال الغريب بلهجة من الحزن: فارس دعنا من أحاديث الصبا ولا تذكرنَّ ما مضى، ولكن صدِّقني إنَّ قلب أنيسة لم يَمِل قط إليك وإنْ قبلت هديتك، فلأنها من مزار مار إلياس ولئلا يسوءك إباؤها، وأنا كنت وقتئذٍ في عنفوان الشباب تلعب الخُيلاء برأسي فلم أُحسن ملاطفتك لها، ولكن هل يليق بنا أنْ نُثير مكامن الأحقاد بعد خمسٍ وعشرين سنة مضت فأفنت خلائق برمتها؟ أنت وحدك عرفتني أفتكون لي عدوًّا لَدودًا؟ ألا بحياتك هات يدك فأصافحها وننسى ما مضى، ونقضي ما تبقَّى من العمر في وفاق وإخلاص؟ واعلم أنَّ لديَّ وسائل أستطيع بها أنْ أخفف عنك مشاق الحياة.
فنكص الحفَّار بفظاظة وقال بصوتٍ أجش: أنا أنسى ما مضى؟ لا أنساهُ أبد الآبدين ولات حين وفاق، فإنك نغَّصت عيشي … ما كان يمضي يوم إلَّا ذكرتك فيه وهيهات أنْ أذكرك بخير وأنت سبب شقائي.
فلطم المسافر خديه وصاح: إلهي إلهي الحقد وحده يعرفني، والبغض وحده لا ينسى ولا يموت.
فقال الحفَّار ساخرًا: حملتك الأقدارُ إلى هنا لكي تجتمع بأهلك الذين ماتوا، ليطمئن بالك دبَّرتُ لحنَّا الطويل قبرًا نعمَّا القبر، فسأدفنه — إنْ شاء الله — عند حائط الكنيسة بقرب الميزاب؛ حتى يصبَّ عليه ماء السطح ويُطَهِّر نفسه الأثيمة.
فوثب الغريب عند هذا الكلام الذي خرق فؤاده كالسهم، وامتقع لونهُ، وتطاير من عينيه الشرر، بيد أنه لم يكن إلَّا أسرع من ارتداد الطرف حتى ثاب إليه وقارُه وسكن جأشهُ، وباخت نار غضبه فقال متنهدًا: إنك تأبى مصافاة أخٍ ردَّهُ الله بعد نيِّفٍ وعشرين عامًا، وما كان سلامك عليه إلَّا السخرية والإهانة، أفارسُ إن ذا لفعل ذميم، لكنني أُغضي على القذى وأصفح عن السيئة، فقل لي أين قبرا والديَّ فقد طال بي البحث ولم أهتدِ إليهما.
فقال الحفَّار بصوتٍ حاكى همهمة النَّمر: لا أعرف، فإني منذ ربع قرنٍ قد حفرت أكثر من مرَّة في المكان الواحد وبعثرت ما في القبور من العظام.
فكان لهذا الكلام وقعٌ أنكى من الحسام في قلب المسافر، فهاجت فيه الأفكار وماجت، وبقي مدةً مطرقًا خافتًا، أمَّا الحفَّار فعاد إلى عمله ولكن بتراخٍ، كأنَّه اضطرب لسوء صنيعه نحو الغريب.
والحقُّ يُقال: إنَّ فارسًا لم يكُ برجل سوء فما لبث أنْ عاد إلى نفسه وراعه ما ثار في قلبه من عوامل الانتقام، وداخلهُ الندم على ما فرط منه في حق إنسان كان له عشيرًا في صباه، فزف إلى خصمه الكئيب نظرةً يُستشفُّ منها الحنو، ثم دنا إليه بهدوء وأمسك بيده وقال له بسكينة: يا صاحبي حنَّا، سامحني فإني أسأت إليك، ولكن لو كنت تعرف ما قاسيت بسببك.
فصافح الغريب يده وصرخ: دع يا صاح ذكر ما مضى، فإن جوارحي تهتز طربًا لمجرد تلفظك أيها العزيز باسمي أنا الغريب، وهاك نسيت مذ الآن ما فرط منك من الكلام، وقد عمل في قلبي ما لم تعمله السهام، فقل لي ناشدتك الله أين قبر أنيسة فأرويه بمدامعي؟ ولا بدعَ أنها تفرح في العلى إذا رأتنا نتصالح ونتآخى عند مدفنها. مدفنها؟ يا ليتها أُدرجت في لحدها فتكون استراحت من الحياة؟
– فهي إذن حيَّة؟ أنيسة بعدُ في قيد الحياة؟
– بئس الحياة وقُل بالأحرى موتًا.
– كلامك قطَّع كبدي أفدني بربِّك ما حلَّ بها؟
– إنها عمياء.
– أنيسة عمياء … ربي ما هذا المصاب؟ فلا يعود إذن يشخص إليَّ بصرها.
قال ذلك بصوت يفتِّت الجلمود وخرَّ على الأرض متلاشيًا … ولمَّا عاد إليه بعض الرمق ألحَّ في السؤال فأجابه الحفَّار: إنها عميت منذ عشر سنين، وهي الآن تدور على أبواب المحسنين تتسوَّل، فكلما ساعدني الله أعطيتها بعض دريهمات، ولا نخبز خبزةً دون أنْ نُفرز لها حصتها.
فوثب المسافر وضمَّ فارسًا إلى صدره وهتف: أشكرك ألف شكر، وجازاك الله خيرًا على ما أحسنت إليها، وسأكافئك — إنْ شاء الله — عنها فأنا غنيٌّ من فضل الله ولست أنسى معروفك، فأخبرني — رحم الله أجدادك — أين هي فأطير إليها وأنشلها من وهدة الشقاء؟
فأشار الحفَّار بيده قائلًا: هناك قرب البيت المغطَّى بالقرميد الأحمر، ذاك البيت الصغير، وفيه يسكن سركيس الحائك مع عائلته وأنيسة ساكنة معهم.
٥
فما سمع المسافر هذه الكلمات إلَّا اندفع كالسيل مارًّا في وسط بنايات الضيعة، حتى وصل إلى بيت الحائك … وكان هذا البيت عبارة عن سافات من الحجر الأصم غير المنحوت، تكاد لا يتخللها مِلاط قد قامت كالجدران، وفوقها مُدَّت كسقفٍ جذوع من الصنوبر بارزة الأطراف، يعلوها طبقة من التراب والنحاتة، وفوق الكل مُحالة يعرفها العامة بالمحدلة ولا نظن سطحًا من مساكن لبنان القديمة يخلو منها، وهناك مصطبة قد ضربت فوقها بعض الدوالي قبَّة خضراء، وقامت إلى جوانبها أصناف من البقول والرياحين كثر في خلالها الحبق، وكان بالقرب صبيٌّ لا يتجاوز السادسة من عمره مع ثلاث بنات أصغر منه، وكلهم يلعبون حُفاةً تسترهم بعض أسمال الثياب، وهم مكشوفو الرأس غير مبالين بحر الشمس، وكانوا إذ ذاك يجعلون في الأرض حفرًا يغرسون فيها أغصانًا مقطوعة، ويحملون إليها الماء في كِسَر إبريق أو قِطَع خزف.
فلمَّا بصرت البنات بالغريب أطرقت كل منهنَّ حياءً وهي تنظر خلسةً إلى هيئته وزيَّه، أمَّا الصبي فحدجه ببصر غير هيَّاب تدل نظراته على بعض الدهشة والفضول.
ولم يكن المسافر لتلهيهُ المناظر أو يتوقف في سيره، بل زفَّ إلى الأولاد ابتسامةً وولج المنزل حيثما وجد رب البيت جالسًا إلى نَولِه يحيك، وامرأته في زاوية تغزل الحرير، وكلاهما لم يزالا في مقتبل العمر تلوح عليهما لوائح القناعة والرضى بحالهما، وكل ما حولهما يدل على أنهما امتازا بالنظافة، وحسن الترتيب.
فلما فاجأهما الغريب عراهما الانذهال لأول وهلة فتركا شغلهما وبادرا إليه اعتقادًا منهما أنه ضل سبيله، فوافاهما يطلب إيضاحًا، فتلطَّفا بدعوته إلى الجلوس، لكنه قال لهما بصوتٍ يتلجلج: أهنا ساكنة أنيسة حسون؟
فوقعا في حيرةٍ عند هذا السؤال، وتبادلا نظرةً لا تُوصف، وقد منعهما فرط الدهشة عن الجواب، ثم عاد الحائك إلى نفسه فأجاب: نعم يا سيدي، أنيسة ساكنة هنا، لكنها خرجت منذ ساعة، فهل ترغب في مواجهتها؟
فهتف المسافر: ترى أين هي الآن؟ أليس من سبيل إلى أنْ تحضر في الحال؟
– هذا صعب يا سيدي، فإنها خرجت مع بنتنا الصغيرة روزة تدور دورتها الأسبوعية، لكنها ترجع بلا ريب بعد ساعة، فإنها ما تأخَّرت ولا مرَّة، تفضَّل فاسترح، ربما تكون تعبان.
– اسمحا لي بانتظارها هنا.
فأسرعت المرأة إلى خزانة وأخرجت منها مسندًا وسجادة وألحت على الغريب أنْ يستريح عليهما، فتأثر هذا ممَّا صادف من الحفاوة به وجلس مستأنسًا، ثم كشف القبعة عن رأسه وأخذ يمسح جبينه المكلَّل بالعرق، وقد سكن ما جاش في نفسه من الجأش.
وكانت المرأة قد أشارت إلى بناتها فبادرت إحداهنَّ إلى العين تستقي ماء باردًا، وأقبلت هي مع الصغيرتين على إضرام النار وإعداد النارجيلة والقهوة، أمَّا الحائك فقام بين يدي ضيفه، كأنه ينتظر أوامره أو يفكر في عمل كل ما من شأنه أنْ يشرح صدره ويسره، ولا يخفى أنَّ أهل لبنان أشبه الناس بالعرب في حسن الضيافة.
فلم ينتبه الغريب بادئ بدء إلى احتفاء أهل البيت به؛ لأنه وجَّه كلَّ أفكاره وكل عواطفه نحو التي قد طار إليها فؤاده، وكان يسرح أنظاره في زوايا المكان علَّهُ أنْ يصادف من الموجودات ما يخبره عن أنيسة، وفيما هو على تلك الحال ذاهلًا شعر بيدٍ ناعمة أخذت بأنامله، فإذا بالصبي الذي شاهده يلعب مع البنات منتصبًا أمامه، وكان هذا الصغير تخلَّف عن أمه وأخواته ولحق بالغريب، كأنَّ قوةً تدفعه نحوه فوقف بين يديه يشخص إليه بعينين زرقاوين تلمعان انعطافًا، ويزف عن ثغرٍ كالدرِّ ابتساماتٍ تسبي الألباب.
فنادتهُ أمهُ قائلة: تعال يا بطرس، ما هذه الجسارة يا بني؟
وكأنَّ الصغير لم يسمع نداء والدته فبقي يداعب الرجل، وقد أُعجب هذا به وحنَّت إليه جوارحه، وهو لا يقف على سر تبادل الانعطاف بينهما، فقال للولد بصوت الحنو: حُيِّيت من ملاك صبوح الوجه وضَّاح الجبين، فقد خرقت نظراتك فؤادي، وأنت بكل تحفة جدير يا وجه الخير.
وأخرج من جيبه كيسًا صغيرًا لهُ حلقات فضيَّة يتخلَّلها بعض اللآلئ، فدس فيه شيئًا من النقود وقدمه للصبي فطار هذا فرحًا بالهدية، لكنه ما برح قابضًا على يد الغريب يتأمله كأنما قرت به عينه.
فتقدمت الأم وقالت له بصوت التوبيخ: بطرس لا تكن قليل الأدب، اشكر فضل الخواجة وقبِّل يده، فقبَّل الصغير يد المُحسن إليه وهتف بأرق النغمات: كثَّر الله خيرك يا سيِّد حنَّا الطويل …
فما أعظم ما كان انذهال المسافر وتأثُره عندما سمع هذا الصغير يتلفظ باسمه، فاغرورقت عيناه بالدموع، وأخذه بين يديه وحدَّق إليه وسأله قائلًا: أيها الملاك الكريم! كيف علمت من أنا ولم ترني البتة، فمن أنبأك عن اسمي؟
فأجاب الغلام متبسمًا: أنيسة الضريرة.
قال الرجل: وكيف عرفتني أنني أنا هو ولا غيري؟
– عرفتك يا سيدي على الفور، فإني لمَّا كنت أذهب مع أنيسة لندور على الأبواب ما كانت تنقطع عن ذكرك، وقد سمعتها مرارًا تقول: إنك طويل وعيونك سود لامعة، وإنك ستعود حاملًا إلينا التحف والهدايا … ولذا لما رأيتك ما خفت منك؛ لأن أنيسة أوصتني بأن أحبك ووعدتني أنك تعطيني عند رجوعك حصانًا …
وكان المسافر يُصغي إلى كلمات الصبي بمنتهى اللذَّة، فضمهُ إلى صدره شديدًا والتفت إلى الحائك وامرأته فصاح قائلًا: أيها الوالدان إنني آخذٌ على نفسي العناية بشأن ولدكما فأجعله في المدرسة؛ ليتعلم ويتثقف فلا ينقصه شيء، فهو أول من عرفني وأحبني، ولذا فإني أسعى في أنْ تكون معرفته لي علَّة نعيمه على الأرض.
ولا حاجة إلى وصف دهشة ذينك الوالدين وفرحهما، فقال الأب متلجلجًا: قد غمرتنا بفضلك يا سيدي … ولكن نحن كلُّنا عرفناك، وقد ظننا أنَّ العيان يخدعنا؛ لأن أنيسة لم تخبرنا أنك رجلٌ غني خطير.
فصاح المسافر: وأنتما أيضًا تعرفانني يا وجوه الخير فسقيًا لكما، يا لله إني أراني بين خلاَّني عند أهلي في وطنٍ لم أجد فيه بادئ بدء إلَّا الموت والنسيان.
فأشارت المرأة إلى صورة العذراء في مشكاةٍ وقالت: هنا كنا نوقد قنديلًا كل يوم سبت لأجل رجوع حنَّا غنطوس … أو لراحة نفسه.
فرفع المسافر طرفهُ إلى السماء كأنما زال عنه حملٌ فادح فصاح: تعالت أحكامك يا كريم، فإنه بفضلك غلب الحب البغضاء، لئن يكن الحفَّار أكمن الحقد في أعماق فؤاده، فأنيسة عاشت بذكري وأضرمت كل ما حواليها بنار الحب، فجعلتني حاضرًا مع طول غيبتي، وبُعد سفرتي، وطبعت القلوب على مودَّتي، أشكرك اللهم على عظيم نعمتك.
وعقب هذا الكلام سكوت طويل، فكان المسافر يحاول أنْ يتجلَّد لما عراه من شديد التأثر، وصاحبا البيت مطرقان تهيُّبًا وإجلالًا، وقد تظاهر الحائك أنه عاد إلى نوله ولكنه ما برح يسارق النظر إلى ضيفه؛ ليبادر إلى خدمته إنْ بدا منه إشارة.
٦
أمَّا هذا فدخَّن بالنارجيلة تباعًا وهو لا يرشُدُ، ثمَّ عاد فأخذ بيدي الصبي وقال بصوتٍ مستكين، هل مضى على أنيسة زمن وهي مقيمة عندكم؟ فجاءت المرأة بمغزلها ودنت من المسافر، كأنَّها تتهيأ للحديث فجلست وأجابت: إني أخبرك يا سيدي كيف انتقلت إلينا أنيسة، يجب أنْ تعلم أنه بعد موت حسون الشيخ وامرأته تقاسم أولادهما التركة، ولم تكن أنيسة ترضى بأن تتزوج وأنت أدرى بسبب امتناعها، فتخلت عن حصتها لأخيها على شرط أنها تقضي عمرها في بيته، ثم أخذت تشتغل بالخياطة وكانت تجمع كميَّات من الدراهم وافرة توزعها كلها على سبيل الإحسان.
وكانت تعود المرضى وتستدعي لهم الطبيب على نفقتها إنْ كانوا من أهل الفاقة، وكان كلامها العذب يعزِّي الحزين، ويدها البيضاء تنعش قلب البائس، فيومًا من الأيام — ولم يكُ قد مضى على زواجنا إلَّا ستة أشهر — عاد زوجي إلى البيت يشكو مرضًا عضالًا سبَّب له من ذاك الحين هذا السعال الذي تسمعه، ولولا رحمة الله وشهامة أنيسة، لكان زوجي يوسف في عداد الأموات، آهٍ يا سيدي لو كنت تعلم ما بذلت أنيسة في سبيلنا مجردًّا لوجه الله، فإنها جاءتنا بأغطية صوف وكان وقتئذٍ فصل الشتاء ونحن فقراء، واستدعت طبيبًا من سوق الغرب؛ ليفحص مرض زوجي وأخذت تسهر عليه هي بعينها فتخفف آلامه وتؤنسني بكلامها الرقيق، فما أحنَّ قلبها وأشرف نفسها! فكنت تراها لا تهتم بشأنها، بل توجه أعمالها لخدمة الغير كأنها ما دخلت الدنيا إلَّا لأجل القريب، وما أتعس ما كانت حالتنا لولا هذا الملاك، فهي دفعت عنَّا ثمن الأدوية وكانت تمدنا بالدراهم.
وكانت محبوبة من الجميع، وحينما كانت تدخل بيوت الأغنياء تطلب منهم المساعدة لفقرائها، لم يكن أحد يطاوعه قلبه أنْ يمنع عنها العطاء، وبقي يوسف مريضًا مدة شهر ونصف وأنيسة تساعدنا، حتى تمكن زوجي من معاودة أشغاله.
فقال المسافر متنهدًا: لا شك أنَّ حبكما عظيم للضريرة.
فرفع الحائك رأسه وكانت الدموع تتلألأ في عينيه فصاح بلهجة التأثر الشديد: لو كان دمي يعيد إليها بصرها، لتركته يسيل حتى آخر قطرة.
فأخذ هذا الكلام من حنَّا غنطوس كل مأخذ، وفعل فيه ما لا يوصف، حتى فطنت المرأة إلى حالته فأومأت إلى رجلها أنْ يلزم السكوت وعادت إلى سياق حديثها فقالت: وبعد ثلاثة أشهر رزقنا الله صبيًّا، وهو الذي بين يديك، ويوم عماده توسلَّت إلينا أنيسة بأن نسميه حنَّا، أمَّا سلفي فطلب أنْ ندعوه بطرس باسمه، وسلفي رجلٌ طيب القلب لكنه عنيد، فبعد الأخذ والرد تقرر أنْ نسمي ولدنا حنَّا بطرس، فنحن نناديه باسم بطرس إكرامًا لسلفي، أمَّا أنيسة فلا تدعوه إلَّا حنَّا، وهو مثل الحمل حفظته السيدة، وقد تعوَّد الاسمين، ويعلم أنه يُدعى حنَّا باسمك أنت يا سيدي …
فضمَّ المسافر الصبي على صدره وقبَّله مرارًا، ثم أخذ يتأمله ولم ينطق ببنت شفة، وكان فؤاده يطفح سرورًا، فنسي حينئذٍ الخمس والعشرين سنة التي قضاها في الغربة لا يرى صديقًا ولا نسيبًا ولا أنيسًا، نسي ما قاساه من الأتعاب، وما تجشمه من الأخطار، فكفاه حظًّا أنه عاد ما بين قوم يعرفونه وينظرون إليه نظر الوداد؛ ولسعادة حظه قد وجد أنَّ أنيسة لم تزل حيَّة، فكان لقلبه هذا الفكر أشبه بوابل المطر على الرمال المحرقة يردده في جنانه: أنيسة لم تزل حيَّة قريبة منه وعمَّا قليل يراها ويضمها بين ذراعيه … فضمَّ الصبي وقبله ثانيةً لا يعي، والصغير ينظر إليه جذلًا مسرورًا.
٧
وكانت الأم تتأمل في هذا المشهد، وقد عرا قلبها اهتزاز طرب لا يوصف، ثم عادت إلى حديثها فقالت: وكان أخو أنيسة اتفق مع أحد تجار بيروت على مشترى فيالج «شرناق» هذه النواحي كلها، وكان الناس يزعمون أنَّ هذا الشراء يغنيه كثيرًا، وفي واقع الأمر ربح في البداءة أرباحًا طائلة، ولكن لم تمضِ عليه أيام إلا أفلس التاجر، وكان أخو أنيسة قد كفل كل الغرماء، فدفع لهم جميع أمواله وباع ما عنده، ولم يفِ بذلك نصف ديونه، وما لبث أنْ مات من الغم والقهر، الله يرحمه … وحينئذٍ عرض فارس عبود على أنيسة أنْ تسكن معه في بيت أبيه …
فقطع المسافر كلامها، وسأل باغتًا: وما فعلت أنيسة؟
– لم تتردد عن الجواب بالرفض، وقد عرفنا فيما بعد سبب رفضها، ولما كانت رقيقة القلب تُلاطِف الجميع، كان فارس عبود يسعى في مكالمتها، فكانت تجيبه بحشمة وأدب وتمر في طريقها، ومع أنها فقيرة خطبها كثيرون من الشبان من أحسن عيال الضيعة، ولكنها أبت أنْ تجيب هذا الطلب.
ولم يكن التخلص من مثل هؤلاء الطالبين بأمر السهل، وبعضهم ظنوا أنَّ رفضها ناتج عن احتقار لهم، فسعوا في اضطهاد هذه البنت القديسة، وحاولوا أيضًا أنْ يلقوا عليها التهم الشنيعة، ولكن خابت مساعيهم؛ إذ لم يكن في الضيعة من يصدق تلك الإشاعات القبيحة في حقها، ولا يظن السوء في أنيسة إلا من يشك في الفضيلة عينها.
ولم تخل مع ذلك من مقاساة الإهانات، وما يصعب تصديقه أنَّ الذين خلصتهم من الموت ونشلتهم من وهدة الفقر هم نفسهم ألحقوا بها الأذى، فتلك حالة العالم، ومصائب هذه الابنة الكريمة أغلقت دونها أبواب القلوب عوض أن تستميل إليها الجميع.
هذا، ولم ينفك طلاَّب أنيسة عن ملاحقتها، وإنما توقف فارس عبود وحده عن الإلحاح لما رأى ثبات عزمها، لكنه عمد إلى حيلة نغَّصت عيشها، فإنه دنا منها ذات يوم وفي يده رسالة حاشيتها سوداء، وقال لها: قد وصلت أخبار عن حنَّا الطويل.
فلما سمعت أنيسة ذكرك برقت عيناها وسألت قائلة: ما يكون الخبر؟ فأجاب فارس بمظاهر الحزن الشديد: ما هو خبرٌ سار.
– أهو مريض؟
– يا ليته … لكن …
– أفمات؟ قل بحياتك، قل لي الحقيقة، لا تخفِ عني شيئًا.
فلم يكن من فارس إلا أنه نشر تلك الرسالة وقرأ مضمونها زاعمًا أنَّ كاتبها أحد أنسباء حنَّا غنطوس المقيم في الإسكندرية، وهو يقول فيها: إنَّ المركب الإنكليزي الذي سافر عليه حنَّا قد غرق، وإنَّ كلَّ الركاب هلكوا، وإن الربان مع بعض الملاَّحين تمكنوا وحدهم من النجاة.
وكان وجه أنيسة وقت القراءة قد علاه اصفرار الموت، وكل جسمها يرتجف، فقال فارس بكل فظاظة: لم يَعُد لكِ إذن من رجاء، فانظري فيما تعتمدين، فإن قلبي لم يزل على حاله رغمًا عن رفضك في الماضي، فأنت الآن فقيرة يتيمة، لا سند لك ومع ذلك إني أعرض عليك اليوم كمن ذي قبل أن تكوني شريكتي في مالي وبيتي وأرزاقي، فهل تقبلين؟
فلما سمعت أنيسة هذا الكلام عادت إلى نفسها، وكفكفت دمعتها، وقالت له بمنتهى العزم: أنت يا فارس أظهرت في كل آن الصدق والمروءة، وطالما دفعت عني شر المضطهدين، وأفضل وسيلة لأبدي لك شكري هي أن أخاطبك اليوم بصراحة، اعلم يا فارس أني لست مُطلقة الحرية، فقد خُلقت لحنَّا، إنني أنتظر رجوعه، فلا أُخلف وعدي ولو قُضي عليَّ الصبر ثلاثين سنة، والآن أكرر أمامك اليمين أني أثبت على عهده ولو نزلت إلى قبري، إنما قلبي يحدثني أن حنا لم يمت، وأنه لا ريب يعود.
فلما تأكد فارس ثبات عزمها زينت له مروءته ألَّا يعود إلى ملاحقتها، وقد أعجب بشهامتها، فقال لها بصوت التأثر: أنيسة، إنك حرة، وليس لي عليك حق، ولكن اذكري دائمًا أنَّ فارسًا عبودًا مُخلصٌ لك، وأنه يجود في سبيلك بكل عزيز ليبرهن لك عن وداده.
وفي الواقع، إنَّ فارسًا لم ينفك من ذلك الحين عن الإحسان إليها.
٨
وفي تلك الأثناء كانت أنيسة ساكنة عند أحد الجيران المسمى ناصرًا، فاتفق أنَّ ابنه عاد من مصر مصابًا بمرض العيون، وما مضى على رجوعه خمسة عشر يومًا إلَّا بُلي بالعمى، وكانت أنيسة ترثي لحاله، فتسهر عليه في مرضه، وتعتني به وتلازمه رحمةً به، حتى انتقلت إليها العدوى وفقدت البصر …
ثم مات ناصر وسافر أولاده، فطلبنا حينئذٍ من أنيسة أن تسكن معنا، ووعدناها أننا نحبها ونخدمها طول العمر فقبلت طلبنا، فأحلف لك يا خواجا أنه مضى عليها في بيتنا أكثر من خمس سنوات، ولم نتكلف عليها شيئًا، وليس لنا في ذلك أدنى فضل، فهي لطيفة، رقيقة، قنوعة، وحياتك يا خواجا، إنها قديسة حقًّا، ويكفينا أن نلقي إليها النظر حتى نحتمل بصبر كلَّ أكدار المعيشة ونصنع الخير، فأولادنا يحبونها حبًّا شديدًا، ويكرمونها كما يُكَرَّم عبيد الله، وتراهم يتسابقون إلى خدمتها، ويتنافسون لعمل ما يرضيها …
فتنهد المسافر، وقال بحسرةٍ: أنيسة تتسول؟!
فتوهَّمت المرأة أنه يوجه إليهم اللوم، فقالت: نعم، إنها تتسول يا سيدي، على أننا لسنا المذنبين، فلا يخطر ببالك أننا نسينا فضل أنيسة علينا، وكنا نحب أنْ نقاسي الجوع كلنا ولا تخرج للاستعطاء، ولكن ما الحيلة، فإننا بذلنا جهدنا حتى منعناها التسول، فامتنعت مدة حتى كثر عدد أولادنا، فافتكرت أنيسة أنَّ وجودها يُثقل علينا، وطلبت أنْ تسعفنا بطريقة من الطرائق، فلم تجد وسيلة، فحزنت جدًّا حتى مرضت، فأخذت تبكي وتطلب إلينا أنْ نسمح لها بالتسول، فلم نر بدًّا من إجابة طلبها.
وعلى كلٍّ يا سيدي ليس ذلك عارًا على ابنة ضريرة، وإن نكن فقراء، فليس — والحمد لله — يعوزنا شيء، وغالب الأحيان تجبرنا على أنْ نقبل منها مما تجمعه، ولا يمكننا أنْ نبقى معها دائمًا في نزع، ولكن ما نأخذه بيدٍ نردُّه عليها بالأخرى أضعافًا، فإننا ولو على غير علم منها نكسوها ثيابًا أفضل من ثيابنا، ونقدم لها طعامًا أحسن من طعامنا، وكل يوم نقدم لها شيئًا زائدًا، فالآن مثلًا نزيد على عشائها بيضتين، أما ما يبقى معها من صدقات المحسنين، فإنها تحفظه لأولادنا حتى يكبروا كما فهمتُ ذلك من معنى كلامها، حقًّا يا خواجا مثل هذه القديسة تستحق أعظم مكافأة على حسناتها، ولكن لسوء الحظ نحن عاجزون عن مقابلتها بغير الشكر.
هذا، والمسافر يصغي كل الإصغاء إلى تفاصيل الحديث، لا ينطق ببنت شفة ولا يبدي حركة، بيد أنه كان يدخن بالنارجيلة، وثغره يفتر ابتسامًا، وعينهُ تغرورق بدموع الفرح، ويده تلاطف الصبي، وكلُّ ملامحه تدل على ما خامره من التأثر وداخله من الحبور.
فصمتت المرأة وأقبلت على مغزلها تبرمه، فبقي المسافر ساعةً وهو غائص في بحر الأفكار السارة، ثم ترك الصبي ومشى إلى الحائك وقال له: دع عنك شغلك هذا.
فلم يفقه الحائك معناه ولبث في حيرةٍ من لهجته.
فصاح المسافر: دع عنك هذا النول ومدَّ يدك لأصافحها يا صاحب معمل الحرير.
فكرَّر الحائك باندهاش: أنا صاحب معمل الحرير؟ إنك تمزح يا سيدي.
– هيَّا واطرح هذا النول فإني أهبك معملًا كامل المعدات تدير دواليبه آلةٌ بخارية. وكأني أراك لا تثق بكلامي مع أني لا أنطق بغير الحقيقة.
قال هذا وأخرج من جيبه قبضة دنانير وأردف قائلًا: ليس ما يمنعني من أنْ أعطيك هذا المال في الحال، ولكنك أحب إليَّ وأرفع في عيني من أنْ أضع في يدك ذهبًا، فإنني أجعلك صاحب معمل عظيم، وأهتم كل الاهتمام بمستقبل أولادك فلا ينقصهم شيء حتى بعد موتي، والفضل في ذلك لأنيسة، فإنكم أحسنتم إلى الضريرة وآويتموها، وأكرمتم مثواها، وأحببتموها، فأنا خطيبها أكافئكم عنها فأبرهن بصنيعي هذا على أنَّ الإحسان لا يضيع، لقد أخذتم بناصر أنيسة في الضراء، فيحق لكم أنْ تشاركوها في السراء، وما كانت أنيسة لتهجركم، يا صاحب المعمل لسنا نفترق عنكم مدى الحياة.
ثم قام وقبض على يد الحائك يصافحها ويهزها بشدة، كما هي عادة الأجانب عند المصافحة، فتبادل الحائك وامرأته نظرة التأثر ولم يقويا على إدراك معناه حق الإدراك، فحاول المسافر أنْ يزيدهما إيضاحًا وإذا ببطرس الصغير جذبه بثوبه، كأنَّه يرغب في أنْ يقول له كلامًا ذا شأن.
فسأله الرجل: وما لديك يا حبيبي؟
فأجاب الغلام: يا سيدي حنَّا قد جاءت الساعة التي فيها تعود أنيسة، فهل تريد أنْ أذهب لملاقاتها فأبشرها بقدومك؟
فأخذ الرجل بيد الصغير وسار به نحو الباب قائلًا: هيَّا وسر أمامي نحوها.
وهكذا خرج مع الصبي وأسرع يوسع الخطى في القرية، فلما شاهده أهل القرية على تلك الحال برزوا من البيوت رجالًا ونساءً، فرأوا بطرس الصغير مرتديًا ثوبه القصير، حافيًا حاسر الرأس، يطفر إلى جانب الغريب قابضًا على يده يكلمه ويمازحه.
فأخذ منهم العجب مأخذه ولم يكونوا يعقلون ما هي العلاقة بين الصبي وهذا الخواجا الغني الذي عدوه أقلما يكون قنصلًا، ومن يصف عظيم اندهاشهم لمَّا رأوا الرجل انحنى نحو الصغير وقبَّلهُ.
فازدحم الواقفون بالأبواب وكثر الحدس والتخمين، وكان للنساء من الحديث النصيب الأوفر، وذهب القوم مذاهب شتى أقربها إلى الصواب، هو أنَّ هذا الخواجا الغني أو القنصل خطر له أنْ يتبنى الصبي فسار به ليعتني بتربيته، وذلك أمرٌ ليس بالنادر، والحق يقال: إنَّ بطرس ابن الحائك سركيس كان أجمل صبيان الضيعة، يستميل إليه القلوب بعينيه الزرقاوين، ولوائح الذكاء والنجابة البادية على محيَّاه الصبوح، ولكن بعض العقلاء لاحظوا أنه لمن المستغرب أنْ يتبنَّى الخواجا الصبي ويسير به حافيًا.
ولم يمضِ القليل إلَّا أصبح أهل الضيعة في الطرق لا يشغلهم شاغل عن الحديث في هذا الأمر، وبودهم لو يسألون الغريب إيضاحًا، ولكن لم يكن منهم من يجسر على السؤال، فكلهم تهيبوا مما رأوا من طول قامته وكبر قبعته، ولم يخطر لأحدٍ منهم ببال أنَّ الرجل ابن الوطن …
٩
وبينما هم في قيل وقال كان الغريب يجري حثيثًا لا يلوي على عنان، وقد خُيل له أنَّ القرية كلها أضاءت بنورٍ سماوي فتراءت له بمشاهد، لم يجد لها مثيلًا في المدن والعواصم التي زارها في أسفاره، وقد لاحت الرياض لعينيه مكتسية بحُلَّةٍ خضراء بهيجة وزفَّ إليه النسيم نفحات زكية تنعش القلوب، وبدت له البيوت الحقيرة بمظهر العظمة والجمال، وكأنَّه شُغل عن الصبي فمال بكليته إلى دواعي الفرح والنعيم، وقد شخصت عينه إلى مكان بعيد كأن بصره يحاول أنْ يخرق حجابًا كثيفًا من شجر التوت يخفي عنه منعطف الطريق، وإذا بالغلام يجذبه بشدة ويهتف قائلًا: هناك، هناك أنيسة مع أختي روزة.
وإذا بشبحٍ أبيض ظهر بين خلال التوت، ثمَّ تقرب فرأى المسافر ابنةً ضريرة لم تَعُد في مقتبل العمر تقودها طفلةٌ في الخامسة من عمرها.
فما وقعت على الضريرة عين المسافر إلَّا وقف في مكانه لا يتحرك وتأمل بحزنٍ في تلك المسكينة وهي تمشي الهوينا نحوه … أفتلك هي أنيسة المحبوبة …؟ أفتلك هي الفتاة الجميلة التي لا تزال مطبوعة على صفحات قلبه صورتها اللطيفة؟ بيد أنه لم يكن إلَّا أخف من ارتداد الطرف حتى بادر مسرعًا إلى الفتاة ولما دنا منها لم يتمالك أنْ صاح: أنيسة أنيسة.
فما سمعت الضريرة صوته، حتى شعرت في جسمها بهزةٍ كادت تسقط بسببها مغشيًّا عليها، ثم تركت يد الابنة الصغيرة ومدَّت ذراعيها إلى الأمام، كأنها تطلب شيئا وصاحت: حنَّا حنَّا، وركضت إلى ذاك الذي ناداها وفي يدها صليبٌ من الفضة أخرجته من صدرها وأشارت إليه بحركة لا توصف، ووقعت بين ذراعي حنَّا غنطوس، فحاول هذا أنْ يعانقها بمزيد الشوق فمانعتهُ بلطفٍ، وإذ ساءه امتناعها أمسكت بيده وقالت: يا حنَّا، لا أقوى على مثل هذا النعيم … لكنني عاهدت الله … فهيَّا بنا إلى المقبرة.
فلم يدرك الرجل لها غايةً، غير أنه فهم من لهجتها أنَّ لذلك سببًا خطيرًا فلبى طائعًا، وسار بها إلى المقبرة وهو لا يبالي بالقرويين الذين تواردوا من كل صوبٍ وأحدقوا بهما.
فمضت به أنيسة إلى إحدى زوايا المقبرة ودنت من بلاطة ضريح قد غار نصفها تحت التراب، فأومأت بيدها إليها وقالت: هنا رقدوا، ففهم مغزى كلامها وانحدرت من عينيه الدموع.
فأردفت أنيسة قائلة: أتذكر يا حنَّا ملتقانا هنا في يوم من أيام الربيع لخمسة وعشرين عامًا مضت؟ لقد كنتُ في تلك الأيام أتمتع بنور الشمس … وكانت الطبيعة حينئذٍ، كأنها في جذل والزهور تبسم عن ثغرها الفتَّان بين القبور، والطيور فوق أشجار المقبرة تغرد طربًا، ونحن وحدنا كنَّا فريسة الأحزان، أو تذكر ذلك؟
– أذكره، كأنه جرى يوم أمس.
– كنَّا نذرف الدموع؛ لأنك كنت عازمًا على السفر إلى الأقطار الشاسعة، فاستحلفتني بحق أمك التي أحببتها كأمي، أنْ أنتظر رجوعك فوعدتك بذلك، وقبلت منك عربونًا على العهد بيننا، هذا الصليب الفضي، أتذكر يا حنَّا؟
فلم يُحر الرجل جوابًا وكادت تخنقه العبرات، وهو الذي لم يعبأ بالأخطار والأهوال أصبح يبكي ويشهق كالطفل.
فقالت أنيسة: لم يمضِ عام إلَّا جئتُ إلى هذا المُقام في تاريخ يوم سفرك لأجدد العهد، وقد جددته أكثر من عشرين مرَّة، ولو طالت غيبتك أيضًا لما أخلفت لك عهدًا ولا ظننت بك سوءًا، واليوم لا يسعدني الدهر بأن أمتع بمرآك عيني، بيد أنني أجدك قريبًا مني وأسمع صوتك الشجي كمن ذي قبل، فكفاني نعيمًا يا إلهي، وما أنا بأهل لمثلها نعمة، فلنشكرنَّ الله يا حنَّا على أنه جاد بجمع شملنا بعد مُرِّ الفراق، هيَّا نجثو ونستمطر غيث الرحمات على من رقدت هنا تحت الثرى وهي ترانا من العلى وتستمدُّ لنا البركات.
قالت هذا وجثت على ركبتيها ولثمت بلاطة الضريح فاقتدى خطيبها بها، فهتفت قائلةً: صلِّ صلِّ فقد عاهدت الله على ذلك.
ثم رفعت يديها نحو السماء وصلَّت بصوتٍ منخفض، ثم نهضت ونهض حنَّا فعانقته وضمتهُ شديدًا إلى صدرها، فخارت قواها لما عراها من التأثر ووقعت بين يديه، ولولا دموعها المدرارة وتبسم ثغرها لخيِّل للرائي أنَّ روحها فارقت جسدها، وكان بطرس الصغير ينظر بفرح إلى هذا المشهد، ويصفق بيديه طربًا ويصيح قائلًا: هذا حنَّا الطويل، هذا حنَّا الطويل.
١٠
في ذات صباح من أيام تموز — وقد مضى نحو الشهر على ما سبق ذكره — كانت العربة العمومية المعروفة بالديليجنس تصعد كالعادة فوق رُبى لبنان من بيروت إلى دمشق، فوقفت عند خان الشيخ محمود ريثما خرج منها شابان في مقتبل العمر عليهما شارات الحظ وملامح السرور، وفي يمين كل منهما عصًا ضخمة أعدَّاها ليستعينا بها على السير في الجبل.
فوقفا برهةً يسرحان الطرف في تلك الربوع التي كستها الغزالة عند بزوغها حلَّة الأنوار، ونظم لها الندى من اللآلئ عقودًا، ولبثا ينفثان من صدرهما هواء المدينة ويستنشقان بتنعُّم نسيمَ الجبال البليل فتنتعش منهما الأرواح والأبدان.
ثم ثنى كلٌّ طرفي بنطلونه فوق حذاءٍ متين الصُنع مهيَّأ للمشي في الوعر، وسارا بهمة في تلك الطريق التي تراكم فيها التراب، وهما يتداولان الحديث بحماسة ولا يشك من يسمعهما أنهما من أرباب القلم ورجال الأدب.
وما زالا يمشيان بنشاط ينعشهما نسيم الصباح ويدفعهما التحمس، وإذا بأصغر الشابين توقف عن السير وصاح برفيقه: ألا أنصت يا هذا.
وكان طرق مسامعه نغمات الزمَّارات والدفوف صادرة من الوادي يتخلَّلها حينًا بعد حين طلقات البنادق.
فقال لهُ رفيقه: وهل من عجب؟ فهؤلاء القرويون أطاعوا اليوم داعية الأفراح، ويحق لهم أنْ يتناسوا حصة أكدار الحياة.
فأجاب قائلًا: لا أنكر ذلك، على أني أود لو أعرف الداعي إلى مثل هذه المظاهرات مذ لاح الصباح، فإنني راجعتُ البارحة قبل مغادرتنا بيروت تقويم السنة، فلم أجد لعيدٍ ذكرًا في هذا الأسبوع، وقد مضى نحو العشرة أيام على عيد مار إلياس، فيا ترى ماذا جرى؟
وهنا أدَّى السير بالشابين إلى خان القرية الذي عرفناه قبلًا ولم يكونا يجهلانه، فقال أكبرهما: لقد مشينا نحو الساعتين فبلغ مني العطش مبلغًا، هيَّا بنا نروي الغليل في هذا الدكان، ونأخذ لنا من الراحة نصيبًا ونغتنم الفرصة لنسأل الدكاني عن الخبر اليقين.
فما ولجا الدكان إلَّا قهقها ضحكًا، فإنهما شاهدا صاحبنا الدكاني يخطر في ملابس العيد فيسحب على الأرض ذيل سروال لعب الهواء بإثنائه فنفخه كالقلوع، وكان لابسًا صدرية من المخمل الأحمر، مزركشة بالحرير وفوقها زنار عريض كثير الألوان.
فقابل ضيفيه بابتسام الفوز، ولم يبادر إلى خدمتهما، بل بقي يتعثر بأذياله، وقد لاحت عليه علائم السأمة والكدر فصاح، ملكة، ملكة، عجِّلي فإني أسمع صوت الدف، يا لله! إنَّ العيد سيفوتني بسبب هذه المرأة.
فبادرت ملكة تحمل سلَّة من الزهور، وما كان أجملها في خمارها الأزرق البسيط، وثوبها الوردي المتسع، ونطاقها الحرير الأسود لا يشين صورتها قبعة كبيرة، ولا يخفي ساعديها أردان عظيمة منتفخة كالتي تألفها نساء اليوم.
فلم يكن كلمح البصر إلَّا قدَّمت ملكة للشابين شرابًا مبرَّدًا، ثم مضت لتنظر آخر نظرة في ملبوسها.
فعيل صبر الدكاني وصرخ: ملكة، وحياة أبي إذا لم تحضري تركتكِ وسرتُ وحدي.
وبينما الشابان يرويان الغليل ويتبسمان ممَّا يسمعان ويريان، إذ لاحت منهما التفاتة فأبصرا على الجدار صورة نبوليون عليها من الألوان أصناف وهي أغرب الهيئات.
فصاح أحدهما بالدكاني سائلًا: ألا بربك يا هذا ما حداك إلى تعليق الصورة في الجدار على تلك الحالة؟ أو خطر لك أنْ تُبقيها أبد الدهر؟
فأجاب الدكاني وهو يتبسم ابتسامة معنوية: نعم نعم، فليضحك من شاء فهي مبدأ ثروتي وبسببها صرتُ أربح سنويًّا ثلاثين ليرة.
١١
وعندئذٍ سُمع طلقات بنادق كثيرة دفعةً واحدة، أوشكت أنْ تُطير الكأس من أيدي الشابين، فصاح الدكاني بحنق: يا لله! قد دارت أفراح العرس، ويل هذه المرأة لا شك أنها تضيع عليَّ الوقت وتحرمني من الحفلة.
فسأله أكبر الشابين: بربك يا عم ألا أخبرتنا بأي عيد تحتفلون اليوم؟ وما الداعي لمثل هذه الحركة في ضيعتكم؟
فأجاب الدكاني: داعٍ عظيم مهمٌّ فوق العادة، ولا شك أنَّ جرائد بيروت تذكره.
– هل زاركم المطران؟ فإني أسمع جرس الكنيسة يقرع منذ ساعة.
– ما حزَرتَ.
– أقدم عليكم القنصل؟
– بل أفضل من القنصل.
– فإذن متصرف لبنان، على أنه منذ أسبوع يتجول في شمالي لبنان بجهات الأرز ولا أخاله إلَّا باقيًا هناك.
– أنت بعيد.
– فلم يبقَ إلَّا والي سورية، لكن بلغنا أنه اليوم في نواحي طرابلس، ألا بحقي يا عم أفدنا عن الحقيقة وخلصنا؟
– الحكاية من أغرب ما يكون، ما سمع أحد بمثلها، فلو كنتم تعرفونها أنتم الذين تؤلفون الكتب لأغنتكم عن اختلاف القصص، وهذه الصورة لها علاقة شديدة مع قصة أنيسة الضريرة.
فقال أصغر الشابين منذهلًا: أنيسة الضريرة؟! أنعِم بهذه القصة مُلحقًا لرواية وردة المغرب.
فصاح رفيقه باسمًا: على رسلك — أيها الشاعر — ولا تستقلَّ بالقصة وحدك، فالمثل يقول: كونوا إخوة واقسموا قسمة الحق.
– لا نتخاصمنَّ على القصة قبل أنْ نسمعها.
قال ذلك والتفت إلى الدكاني وتوسَّل إليه قائلًا: بحياتي عنك يا عمِّ تروي لنا هذه النادرة ونحن نعدك بأن نقدم لك نسخة منها مطبوعة.
فصاح الدكاني: ذلك مستحيل في هذه الساعة، فإني مستعجل … وها امرأتي وصلت — والحمد لله — تعاليا معنا إلى الضيعة وأنا أخبركما على الطريق بكل ما جرى، وأذكر لكما هذه الحكاية.
وكانت المرأة قد دخلت تخطر في ثوب العيد، فاندفع الدكاني يجري وقد جذب معه الشابين وأخذ يروي لهما مع التفاصيل قصة حنَّا الطويل وأنيسة الضريرة، وهما يعيرانه أذنًا صاغية وقلبًا واعيًا، والمرأة تتبعهم ولا تغفل ذكر نبذة أو إبداء ملاحظة في أثناء الحديث.
«فاعلموا أنَّ حنَّا غنطوس بعد موت والديهِ لم يكن له ملجأ، فانتقل إلى بيروت طلبًا للرزق، ولمَّا ضاقت عليه المذاهب دخل في مركب إنكليزيَّة بصفة وقَّاد، وهكذا مرَّ في أسفاره بكل موانئ البحر المتوسط وبلاد الإنكليز، ففي ذات مساء كانت هذه المركب مارَّة بمضيق جبل طارق، فاصطدمت بمركب أخرى فانفلقت ولم تلبث أنْ ابتلعتها اللجج قبل أنْ تتمكن من الوصول إليها المراكب التي بادرت إلى نجدتها، ولم ينج إلَّا بعض البحَّارة.
وبعد أيام قلائل انتشر الخبر في كل الأصقاع وطار إلى جبال لبنان، وعلم أهل ضيعتنا بالمصاب واعتقدوا جميعهم إلَّا أنيسة بموت حنَّا الطويل غرقًا، وفي الواقع أنه لم يمت، بل كان في عداد من سلم من البحَّارة، وعاد إلى أسفاره فقادته إلى رأس الرجال الصالح.
وكنت لا تسمع في تلك الأيام إلَّا من يحدث بأخبار الترنسفال ومناجم الذهب والألماس فيه، فخطر لصاحبنا أنْ يقصد تلك الوجهة طمعًا في المكسب.
ففي بادئ الأمر قاسى من الأكدار والأهوال ما لا يوصف، لكن الأيام كانت قد حنَّكته وشدَّدت عزيمته، وزادته خبرةً في الحدادة، وعلم الحيل التي يسميها الفرنج ميكانيك، كما سمعتها مرارًا من السياح الذين يزورون هذه البلاد، فاشتغل عند قبيلة البويرس وزاول مهنة تصليح الأسلحة وأدوات الفلاحة، حتَّى أدَّت به الأحوال إلى مدينة أخبرنا عنها وقد فات اسمها عن بالي، فعرض خدماته على شركة هناك تشتغل باستخراج الذهب والألماس، وهي من أعظم الشركات فقبلته، والعبيد أهل تلك البلاد لا حقَّ لهم على ما يظهر بامتلاك الأراضي، ولا يسوغ لهم إلَّا الاشتغال في المناجم بصفة فَعَلة ولا يقبضون أجرتهم ذهبًا، وكل وكلاء الأشغال يجب أنْ يكونوا من البيض ولا سيما المناظرين في المناجم؛ لأن العبيد الفعلة يسعون جهدهم في إخفاء شذرات الذهب والألماس.
ولمَّا وصل حنَّا إلى تلك البلاد كان عدد البيض دون القليل، فلذا قبلتهُ الشركة مع الشكر ودفعت له راتبًا مهمًّا، وعلاوةً على ذلك كانت تعطيه خُمس الألماس المهرَّب الذي يكتشف عليه، ولما كان قنوعًا في معيشته، صادقًا في خدمته، مجتهدًا في أعماله لم يلبث أنْ جمع كميَّة من المال وافرة، وقد كان حاصلًا على ثقة واعتبار مخدوميه وحب العبيد المشتغلين تحت إمرته، وليس من طبعهم حب البيض.
ولمَّا ثار العبيد كان هو من النزر القليل الذين سلموا، وبقي بيته سالمًا محفوظًا على حين أنَّ منازل مديري الأشغال والمستخدمين أحرقها الثائرون، ولما هدأت الخواطر وكان عنده رأس مالٍ مهم عزم على الشغل لحسابه، فاشترى قرب المدينة أراضي مهجورة وبعد الكد ومعاناة الأتعاب أسعده الحظ بالاكتشاف على معادن ذهبيَّة.
ولم تمضِ سنوات قليلة حتى أصبح من أرباب الملايين، وكانت نفسه لا تزال تحنُّ إلى بلاده، فترك أشغاله وجمع ما عنده من المال وقفل راجعًا إلى سوريَّة، وقد مضى عليه شهر كامل في ضيعتنا هذه مسقط رأسه، وفيها جمعتهُ الأيام بخطيبته أنيسة الضريرة التي صبرت على الفراق أكثر من عشرين سنة، أمَّا باقي القصة فستعلمانه اليوم …»
١٢
كان الدكاني يسرد على الشابين تلك الأخبار مع التفاصيل وهو يلهث تعبًا، وما أتى على آخرها حتى أعياه الجهد، لكن رفيقيه لم يقنعا بما ذكر، بل طمحت أبصارهما إلى غير ذلك من مُلحقات الحديث، فسأله أحدهما قائلًا: على أنك يا عم نسيت أنْ تخبرنا عن العلاقة بين قصتك وصورة نبوليون المتعلقة على جدار دكانك.
فأجاب قائلًا: الحق معك، فاعلما أنَّ حنَّا الطويل دفع لي ثمنها كمية من الدنانير، ولا يزال كما أخبرتكما يدفع لي ثلاثين ليرة في السنة على شرط أني أبقيها كما كانت — فيما مضى — قبل سفره، وكما رأيتماها في محلها، فإنه تقر عينه بمرآها، وتطيب نفسه بذكر الأيام السالفة.
ولا يخطرنَّ ببالكما أنه اكتفى بما أحسن إليَّ، بل عمَّ فضله الجميع، وليس حنَّا الطويل أول مسافر عاد إلى بلاده، فإن كثيرين بعد أنْ جمعوا المال رجعوا إلى ضيعتهم، ولكن لم يهتموا بغير نفسهم فاشتروا الأراضي وبنوا البيوت الفاخرة، أمَّا حنَّا فإنه فعل ما لا ننساه على طول الزمان، لا شك أنكما رأيتما أساس بناء عند مدخل الضيعة فهذا مستشفى يبنيه للمرضى، ومأوى للشيوخ العجزة، وهو عازم على تشييد مدرسة للصبيان وأخرى للبنات.
ومع ما هو عليه من الغنى الوافر لا تراه يتعجرف أو يزدري بأحد، بل يتكلم مع الصغير والفقير بكل لطف، ويسلِّم على الجميع بكل رقة، وخلافًا لكل الذين يرجعون من البلاد لم يأخذ عن الأوروبيين إلَّا العوائد الحسنة، وهو يقوم خير قيام بواجباته الدينيَّة ويحضر الذبيحة الإلهية كل أحد وعيد ويصلي بحرارة، كأنه لم يخرج من ضيعتنا.
وبعد أنْ اهتم بكل الناس افتكر في نفسه فاشترى بيت مصيف كان بناه أحد تجار بيروت وسينتقل إليه مع أنيسة وعائلة الحائك سركيس التي تبنَّى كل أبنائها، ولم يغفل عن الحفَّار فارس، بل أعطاه مالًا كثيرًا.
واليوم يُعقد له الإكليل على أنيسة، وهذا عيد عظيم لأهل الضيعة، والبرهان على ذلك أنهم سيذبحون عشرة خراف، وفي هذا الصباح سيحضر حنَّا قدَّاسًا احتفاليًّا ليشكر الله على نعمه الجزيلة نحوه …
وفي أثناء هذا الكلام وصل الشابان إلى القرية ولم ينته بعد حديث الدكاني، غير أنهما شُغلا عن سماع الختام بما وقعت عليه أعينهما.
فكانت القرية قد برزت بأجلى مظاهر الزينة، وكانت أبواب المنازل والنوافذ كلها مزدانة بالزهور وبالخضرة، وعلى البعض منها أشعار رقيقة تتضمَّن ألطف التواريخ، وكانت تخفق في كل جهة الأعلام المختلفة الألوان.
وعلى باب حنَّا الطويل قد كتب بالزهور اسم العروسين على أجمل منوال.
أمَّا عن ازدحام الناس فحدِّث ولا حرج، فكانت جماهير القرويين قد بادرت من جميع الضياع والمزارع المجاورة؛ ليحضروا مثل هذا العيد النادر المثيل بينهم.
١٣
وكان الشابان يتنقلان بين الجموع فيراقبان حركات الأفراح، ويسمعان الأغاني المطربة، ولما دنا المركب القادم من بيت حنَّا الطويل بادرا إلى أكمة هناك يشرفان منها على الصفوف؛ لئلا يفوتهما من المشهد شيء.
وأول ما لاح لأعينهما عشرون ابنة بين السادسة والعاشرة من العمر متشحات بالحلل البيضاء، وعلى رءوسهنَّ أكاليل الورد، وفي أيديهنَّ طاقات الزهور، وعلى ثغورهنَّ ابتسامات الصبا.
فأخذ المشهد من أصغر الشابين كل مأخذ وهاج خاطره فهتف قائلًا: لله ما أبدع ما نراه، فإن عيني لم تقع على مثل هذا في المدن العظيمة، سقى الله جبال لبنان فكأنما هي مأوى الجمال والصفا، ورونق الحياة، ونضارة الشباب والأفراح، لعمري! إنَّ هذا المنظر أخذ بمجامع لُبِّي فيا ليتني استصحبتُ آلة التصوير الشمسي، لكنت أخذت عن هذا الموكب رسمًا تقر به العيون، على أنه لا يفوتني ولا بد أنْ أنظم فيه شعرًا يبهج القلوب.
ثم ظهرت صفوف صبايا في مقتبل الشباب يرفلن في الحلل الملونة، وتتدفق الحياة من وجوههن النضيرة ماءً ونورًا، ويعلو جبينهن الوضَّاح من الحياء إكليل زاهر، وبعدهنَّ طلعت نساء الضيعة في ثيابٍ تليق بمقامهنَّ، وفي مقدمتهنَّ امرأة الدكاني تختال زهوًا وفي أيديهنَّ المزاهر ينثرن منها الروائح الذكيَّة.
ووراء الصفوف حنَّا الطويل وأنيسة الضريرة تستند إلى ذراع خطيبها، كأنها ناءت بها الأفراح بعدما قاست من أشكال الهوان وأنواع الشقاء مدة خمسة وعشرين عامًا، وكانت تفوح من ملابسها وهيأتها أرواح الحشمة، وعلى صدرها الصليب الفضي يلمع دليلًا للأفراح كما كان في الضرَّاء عربون الرجاء.
وكان يتبع الخطيبين سركيس الحائك وامرأته وأولادهما، والجميع في الملابس الفاخرة وقد بلغ الفرحُ منهم مبلغًا، وأصغر الأولاد بطرس يمشي مرحًا وينظر نظر السرور إلى كل من حواليه.
وما أعظم ما كانت دهشة الشابين؛ إذ وقعت عينهما بعد ذلك على رهط من الشيوخ هم من بقايا الزمان الماضي، بِيضُ الشعور أو صُلع الرءوس، قد أحنت ظهورهم الأيام، فاستعانوا على السير بالعصا أو دبوا حتَّى خُيِّل للرائي أنهم قطيع يدفعهم الموت إلى هاوية القبر، وكان يتقدمهم أبو نصيف ذلك الشيخ الأصم الأعمى الذي عرفناه في أول القصة، يقوده جد معلم المدرسة وكلٌّ منهما قد انحنى حتى لثم التراب.
وهؤلاء الشيوخ وحدهم قد عرفهم حنَّا الطويل قبل سفرته وعرفوه وشهدوا أعماله، وأقروا بفضل شجاعته أيام كان في ضيعته ينافس أقرانه في اقتحام الأخطار.
فدخلت تلك الجموع الكنيسة وقد ضاقت عنهم فبقي الشابان في الخارج مع من تبقى، وما لبثا أنْ سمعا التراتيل على وقع الصنوج والأجراس، وزفَّ إليهما النسيم نفحات البخور فعلما أنَّ القدَّاس الاحتفالي قد بدأ.
وبعد تلاوة الإنجيل المقدَّس ألقى الكاهن عظة ملائمة لمقتضى الحال، وكيف لا يغتنم مثل هذه الفرصة السعيدة؟ وهو الذي عرف حنَّا الطويل في حداثته، وهو الذي أرشده وأعده للمناولة الأولى، وهو الذي زوده بركته الأبوية ساعة رحيله عن الضيعة منذ خمسة وعشرين عامًا، فضلًا عن أنَّ شيخوخة هذا الكاهن الجليلة وفضائله كانت تجعل لكلامه وقعًا عظيمًا في النفوس، ولم تكُ عبارته منسجمة، لكنها صادرة عن قلبٍ مفعم بشعائر التقى والوداد، فأثرت في قلوب السامعين أيَّ تأثير حتى ذرفت أعينهم الدموع ولا سيما تلك الابنة الضريرة، فقد انهملت منها العبرات مدرارة عند سماعها ذكر خطيبها وأسفاره، وعودته سالمًا بعد مُرِّ الفراق وتفانيه في خدمة الله والقريب.
وفي الختام استمطر الواعظ بركات السماء على الرجل الفاضل، ذي الأيادي البيضاء الذي عمَّ صنيعهُ كل أهل ضيعته، ومن يصف مشهد الكنيسة في تلك الساعة المهيبة، فكنت ترى الجميع جاثين على الأرض يضجون بالدعاء الحميم، قارعين الصدور ومجاهرين بالصلاة لله أنْ يطيل بقاء هذا الرجل المُحسن ويحفظه مع عروسه في رغدٍ ونعيم؛ ليهنأ بهما أهل الضيعة أجمعون، وقد اشترك مع الحضور كل من قضي عليهم بالقيام خارج الكنيسة.
فصاح أكبر الشابين وقد أخذته هيبة المشهد: ما أبدع هذا المنظر، لعمر الحق! إنَّ هذا الشيخ الجليل بلغ في كلامه مبلغًا من البلاغة عظيمًا وهو لا يدري، فقد صدق الأقدمون في قولهم: «من أراد فصاحةً فحسبهُ أنْ يكون له قلبٌ شَعُور.»
فلم ينتبه رفيقه إلى قوله السديد، بل صاح: لا بُدَّ لي من الوقوف على جليَّة هذه القصة، رضيت بذلك أم عذلتني، فقد عقدت النية على التعرف إلى حنَّا المذكور، فإن النفس تحدثني بنشر هذه الرواية الرائقة.
قال الكبير: ما كنت لأعذلك في ذلك … ولكن على رسلك، ها قد فرغ القوم من الصلاة وتراهم خارجين، انظر الحفَّار فارس عبود، والحائك سركيس.
١٤
وكانت الجموع قد اصطفت وعادت إلى بيت حنَّا من حيث أتت، فدنا الشابان من الحفَّار فارس وسألاه أنْ يقدم بطاقتهما إلى صاحب المنزل، فلبَّى هذا طلبهما عن طيبة خاطر فأُدخلا إلى القاعة الغاصَّة بالمدعوين، وأقبل عليهما رب البيت يصافحهما بوداد، فقال لهما: يظهر يا سيدي من البطاقة التي تكرمتما بها أنكما من رجال الأدب وأرباب الصحافة، ولا ريب أنكما ترغبان في مقابلتي حصة على انفراد.
فقال كبيرهما: نحن يا سيدي قد اغتنمنا أوقات العطلة لنضرب في نواحي لبناني، وقد ساقتنا التقادير إلى هذه القرية وأسعدنا الحظ أنْ نشهد يوم نعيمك، فجئنا نشترك مع ذويك في تقديم أخلص التهاني لك، ومع ذلك فإننا نمتن لك إنْ تكرَّمت علينا بزيادة الإيضاح على ما عرفناه.
فتبسَّم حنَّا وقال: أدركت المقصود، فإنكما لا تغفلان حتى في زمن العطلة عن اجتناء الأخبار، ونعمَّا تفعلان، وإنْ كان لا بُدَّ من نشر مقالةٍ فيما شهدتما اليوم فإني أرجو من فضلكما أمرًا واحدًا.
أجابا: مُر فأمرك مطاع وكل حاجةٍ مقضيَّة.
قال حنَّا: إنَّ رجائي أنْ توقظا القُرَّاء من سنة الغرور، وتستلفتا الأبصار، وتنتبها الخواطر إلى ما وراء المطامع من الخيبة والفشل، ووراء الأسفار في طلب المعادن من الأخطار، أجل، إنَّ الله وفقني فتمكنت من إحراز نصيب من المال وافر، فالناس يغترون بمظاهر ما يرون، ويتعلمون عمَّا تكبدت في سبيل ما جمعته، والله أعلم بما قاسيت من المتاعب والأكدار والأهوال حتى زهقت الروح قبل الحصول على النزر اليسير.
هذا، وقد خطر على بال حنَّا شقاؤه الماضي فصاح: آه ما أتعس مثل هذه الحياة! فإنَّ الرجل يقضى عليه أنْ يتجرد نوعًا ما من حريته فيأجر ذاته للغير، ويطأطئ رأسه، ويحني ظهره تحت الأثقال، ويقف بالأبواب متسولًا، ويسوم نفسه ذلًّا فوق ذل، صابرًا على قرس البرد ولفح الحر، معرضًا روحه لأنواع المخاوف والأخطار، وما كنت لأعود إلى مثل تلك الحال ولو أعطيت مال قارون، فإني يشهد الحق لولا عون الله ينصرني ونور الأمل ينعشني، لمتُّ كمدًا أو قتلت نفسي يأسًا، وطالما سألت الله أنْ يمنَّ عليَّ بالرجوع إلى بلادي، ولو كان قوتي الخبز والزيتون فأقضي العمر سعيدًا في فقري وأعيش حرًّا على جبال لبنان الجميلة تحت سمائه البديعة.
ثم أشعل لفافةً من التبغ وأردف حديثهُ بقوله: لقد مرَّ الآن بخاطري ذكر حادثٍ لا يسعني إلَّا أنْ أرويه لكما فتكرما بالإصغاء.
وكان الشابان آذانًا تسمع وأعينهما شاخصة إلى حنَّا، ولسان حالهما يرجوه ألَّا يبخل عليهما بسرد كل ما لديه من الأخبار والتفاصيل، فقال: لما كنت في أوائل أيام دخولي إلى بلاد الترانسفال لم يكن لي أدنى خبرة بأخلاق أهلها، ففي ذات مساء عدت إلى منزلي بعد الفراغ من شغلي وكنت يومئذٍ ناظرًا على أحد المناجم، وكنت أُمرت بالذهاب في الغد إلى مدينة الرأس؛ لقضاء مهمةٍ كلَّفني بها مدير المنجم، ولما خلوت في منزلي استولت عليَّ عوامل السرور مما أحرزته من المال بجدي واقتصادي، وقوي فيَّ الأمل أن أفوز بثروةٍ طائلة بها أبلغ المنى، فمرَّ ببالي ذكر وطني وأهلي وخلاني، وطابت نفسي بذكرى أنيسة.
فغصت في بحر الأوهام والأماني، وفكرت في رجوعي إلى لبنان العزيز، وبيتٍ أبنيه فيه، وهدايا أتحف بها أنيسة، وعيدٍ أقيمه لنا يوم إكليلنا، وبقيت على تلك الحال أبني من الآمال قصورًا شاهقة، وقد سها عن بالي أنَّ الليل قد أرخى جلابيبه، وليس من نور يضيء في ظلمائه سوى نار سيكارتي.
فإذا بالباب يُطرق، فصحت بالطارق أن ادخل.
فولج زنجيٌّ ووقف مترددًا يجيل نظره في أكناف الغرفة، كأنه يخشى رقيبًا، ثم همس إليَّ قائلًا: كلمة يا سيدي؛ لأن الوقت ضاق بي، ولكن كلمة تتعلق عليها ثروتك وحياتي، إنني أحد الفَعَلة المشتغلين في المنجم الخامس، كنت عائدًا من شغلي فعثرت في طريقي بقطعة من الألماس لا نظير لها عند الملوك، وجدتها بين أنقاض منجم مهجور، فهي ملكي ولي حقُّ التصرف بها، ولكن لا سبيل لي إلى أنْ أبيعها في هذه البلاد؛ لأن الزنوج الفعلة يتهمونني بأنني سرقتها، وكذلك يتعذر عليَّ أنْ أفرَّ هاربًا؛ إذ لا مال عندي، وأبواب النجاة مغلقة دوني، فيشق عليَّ أنْ تبقى قطعة الألماس عندي من غير جدوى، وقد فضَّلت أنْ أبيعها وأنتفع بثمنها، ولما كنت أسمع أنك كريم النفس رءوف بالزنوج لا تسيء معاملتهم، حملني الأمل أنْ أوافيك وأعرض عليك تلك القطعة الفاخرة، فتحصل بها على الغنى ولست أسألك لقاءها إلَّا ليرة إسترلينية.
فما سمعت كلامه إلَّا اعتراني الذهول وبقيت جامدًا كالصنم، أمَّا الزنجي فأخذ يقلب بين يديه قطعة الألماس بحجم الجوزة الصغيرة وهي صافية الماء، خالصة على زعمه ليس فيها حبَّة رمل.
ثم قال: وحقك يا سيدي لقد وقع تحت يدي أكثر من ألف قطعة كبيرة ولكني لم أجد في عمري أصفى منها، فبمثلها تزدان تيجان الملوك، أنت يا سيدي من البيض وليس من يتهمك بالسرقة، فإن جدت عليَّ بالنزر اليسير فزت بالمال الكثير حلالًا.
١٥
فأغراني أمل الربح وأعطيت الزنجي كل ما كان عليَّ من الدراهم وأخذت منه الحجر الكريم، وفي الغد سرت في رفقة قاصدين مدينة الرأس ودليلنا رجل من الزنوج.
وفي ثاني الأيام خرج علينا جماعة من الزولوس، فصاح الدليل: لا سبيل للمقاومة يا سيدي، فإن عفا عنَّا الأعداء وقنعوا بالمال غنيمة نسلِّمهم كل ما معنا، فإن ذلك لزهيد.
فصحت: كيف زهيد؟ لا لستُ أسلِّم، وفي الحال أطلقت عليهم المسدس فجرحت منهم واحدًا، وانقضَّ علينا الباقون كالكواسر فقتلوا الدليل وكلُّ رفقائي وقدَّر الله أن بقيتُ حيًّا ولكن مثخنًا بالجراح، فأخذ زعيم الزولوس سلاحي واقتسم رجاله ثيابي وأمتعتي ومالي، وقد نزعت امرأةٌ منهم قطعة الألماس وعلَّقتها بعنق ولدها ظنًّا منها أنها حرز حريز.
وما مضى عليَّ في الأسر أيام حتى شفيت من جراحي وعادت إليَّ القوى والنشاط، وقد اختبرتُ بنفسي حينئذٍ أنَّ الصنيع لا يضيع، فإنه كان بين الزولوس رجل قد اشتغل من ذي قبل مع فعلة المناجم عندنا، وكنت أحسنت الصنيع إليه مرارًا، فهو الذي توسل إلى زعيم القوم ليعفو عن حياتي وهو أيضًا ألح إليه بعد شفائي أنْ يُطلق سراحي ويردَّ عليَّ ثيابي وبعض مالي.
فطلبت أيضًا قطعة الألماس ولكن المرأة أبت أنْ تردها عليَّ؛ اعتقادًا منها أنها تميمة تدفع عن ولدها كل أذى، فأخفيت ما بي وأظهرت الجلد، ولما جنَّ الليل خلوت بالولد فسددت فاه ونزعت الجوهرة منه وفررت هاربًا على جناح الريح.
وما زلت أصل السير بالسُّرى وعوامل الخوف تتنازعني وأنا أبتعد عن الطرق المطروقة، ولا أجسر على المعاطاة مع الناس؛ مخافة أنْ تُسلب مني الجوهرة الثمينة التي كانت في جيبي ويدي عليها دائمًا لا تتخلى عنها، وقد وصلت بعون الله إلى مدينة الرأس بعد معاناة المشاق والمخاوف، وأوَّل ما باشرته أني بعثت برسالة برقية إلى جبل لبنان بواسطة صديق لنا في بيروت وفحوى الرسالة: «ابشري يا أنيسة فإني عائدٌ إليكِ بالأموال الطائلة.»
ثم سعيت في الوصول إلى عميد الجوهريين أسأله عما تساوي الجوهرة التي بنيتُ عليها الآمال، وكنت أدخل المخازن لأختار منها تحفًا لأهديها لأنيسة وأصحابي في لبنان، ولم أكن أرضى بغير الأصناف الفاخرة، وطالما تبسمتُ استخفافًا عندما كنت أسمع التجار يقولون: إنَّ الأصناف التي أشير إليها يزيد ثمنها الأضعاف عمن سواها.
ولم يكن إلَّا أيام قلائل حتى شاع أني من أغنى خلق الله، وفي الحال تقاطر إليَّ من كل صوب عدد وافر من أبناء وطني وخلَّاني ولم أكُ أدري بوجودهم في تلك الأصقاع قبل أنْ طارت شهرة غناي، وما أكثر من كان يدعوني حينئذٍ أو يعرض عليَّ خدماته.
وكثر تحدث الناس عن ثروتي قائلين: ما أسعد هذا السوري فإنه عاد من مناجم الترانسفال بالقناطير المقنطرة.
ولما أتيتُ عميدَ الجوهريين وعرضت عليه قطعة الألماس تأملها وبعد الفحص قال متهكمًا: ما أتقن الصناعة فيها، فلو عرضتها على بائع الحلي الزجاجية اشتراها بعشرة شلنات، أمَّا أنا فلا أشتري الألماس الكذاب.
ولا حاجة إلى وصف ما ألمَّ بي عندما ثبت لي أنَّ الزنجي خدعني وباعني عوض الألماس زجاجًا، والله أدرى بحالي ساعة هبطت من شاهق القصور …
وبعد أنْ قمت بالمهمة التي كلفوني بها عدت عاجلًا إلى مقري الأول في الترانسفال وعاودت أشغال الناظر في المناجم، وكم وكم وجب عليَّ من الكد والسهر، وكم وكم تجشمت من الأخطار وركبت متون الأهوال حتى أحرزت هذا المال الذي لا أجد له قيمة غير أني أستخدمه لخير وطني وراحة قرينتي.
وكان الشابان لا تزال تحدثهما النفس في طلب الأخبار والاستفسار عن التفاصيل الكثيرة، ولكنهما أطاعا داعي الأدب، فأمسكا عن السؤال وشكرا لصاحب البيت ما لاقياه لديه من الحفاوة والإكرام، ثم استأذنا في الانصراف فشيعهما بكل لطف راجيًا ألَّا يبخلا عليه بالزيادة لدى عودتهما من السفر.
وما خرجا وخلا لهما الجو إلَّا بادر أصغرهما وهو من الشعراء المجيدين فالتقط عن الأرض عودين صغيرين فأدبر عن رفيقه، ثم أقبل عليه وقد برز من كلٍ من يديه طرف عودٍ وقال: هيَّا احزر.
فقال رفيقه: أراك عجولًا في الأمر.
– لا بُدَّ من التعجيل، هيَّا احزر، فنعرف من منَّا يكون صاحب الحق بإيراد هذه الرواية.
فسحب رفيقه أحد العودين، فرمى الشاعر العود الثاني، وقال متنهدًا: أنا الخاسر وأنت الرابح.
وهذا السبب — أيها القارئ اللبيب — في أنك قرأت رواية أنيسة الضريرة نثرًا لا شعرًا، ويا حبذا لو ربح الشاعر لكنت تقرأها في قصيدة عامرة الأبيات رقيقة المعاني، فتقول: إنَّ من الشعر لدرًّا.