أنا القمر
(١) البقرة والحبل
اتَّفقَت البقرة والكلب ذات مساءٍ على الهرب من الحقل والانطلاق في فضاء الحرية. وفي الموعد المحدَّد جاء الكلب حسب الاتفاق، وراح يعالِج بأسنانه الحبْل الذي يربط البقرة بالوتَد، ولكن البقرة أثنَتْه عن ذلك قائلة: «يكفي أن تفكَّ العقدة؛ إنه حبلٌ متين، وأنا أريد أن أحتفظ به، كما أنه كل ما أملك في هذه الدنيا.» فعَل الكلب ما طلبَتْه البقرة، وترَك الحبل مُعلَّقًا في رقبتها … وانطلَقا معًا.
في الوقت الذي كان الكلب قد قطع فيه مسافةً طويلة، كانت البقرة قد توقفت في منتصف الطريق بعد أن اشتبك الحبل بصخرةٍ كبيرة. وهكذا كان من السهل على صاحِبها الذي يتبعها، أن يُمسِك بها ويعود بها إلى الحقل مرة أخرى … وفي طريق العودة، كانت البقرة تقول لنفسها وهي حزينة: «لقد أخطأتُ خطأ جسيمًا عندما حاولتُ أن أحتفظ بالحبل، وإنَّ تعلُّقي بالمِلْكية هو مِحنَتي!»
(٢) النجار والغابة
خرج النجَّار إلى الغابة بحثًا عن شجرةٍ قوية ليستخدمها في البناء. تفحَّصَ الغابة كلها ولكنه لم يجد بُغيته؛ حيث كانت الأشجار جميعًا في نفس الحجم تقريبًا. وبينما كان يفكر في العودة، لمح عند طرف الغابة شجرةً ظنَّ أنها تفي بمطلبه، فقال لنفسه: هذه هي الشجرة التي أريد، حقًّا … ليس لها مثيل في هذه الغابة. نظرت الشجرة إليه قائلة: «أنتَ مخطئٌ يا سيِّدي، ربما تكون قد قرأتَ ما كتبَه عنا بعض الأغبياء الذين يعتقدون أن لا خصوصية لأحدٍ منا. رغم أنني أقف في مؤخِّرة الجماعة، إلا أننى واحدةٌ من كل، أنا وغيري في هذه المجموعة من الشجر، نُكوِّن هذه الغابة، وفي ذات الوقت يمكنني أن أرفع بناءً بمفردي، فإن كنتَ لا ترى ذلك خصوصية فلن تجد بيننا شجرةً واحدة تنفعك، أما إذا كنتَ تعتبر ذلك تميُّزًا … فكل شجرةٍ منا متميِّزة!»
(٣) بائع البرتقال
اقتربت السيدة العجوز من بائع البرتقال وسألتْه: «بلدي؟!»
قال البائع: «بل سُكَّري، كم واحدةً تريدين؟!» قالت العجوز: «أنا أبحث عن برتقال بلدي، إن زوجة ابني حامل وتطلُبه!»
هكذا فقدَ البائع زبونًا.
بعد وقتٍ قصير ظهرتِ امرأة حامِل واقتربت وسألتْه: «بلدي؟!»
قال البائع من فوره: «نعم نعم! بلدي لذيذ الطعم، كم واحدةً تريدين؟» قالت السيدة: «أنا أبحث عن برتقال سُكَّري، حَماتي لا تأكل البرتقال البلدي.» مرةً أخرى فقدَ البائع زبونًا آخَر.
إنَّ مَن يحاول غشَّ الناس لا يغشُّ، إلا نفسه!
(٤) الضفدع الطبَّال
قرَّرَ ثعبانٌ أن يُوقف مسيرة عربة يدٍ مُحمَّلة بالبضائع كانت تمرُّ على الطريق. حاشدًا كل قوته لمعركة السلب والنهب، ذهب إلى ضفدعٍ صديق يطلب مساعدته قائلًا: «ستكون موقعة كبيرة، ولن يتمَّ ذلك في هدوء؛ ولذا أنا في حاجة إلى قارع طبلٍ شهير مثلك.» ابتهج الضفدع لاختياره لهذه المهمة، وبمجرد أن اقتربت العربة نفخ نفسه وبدأ في النَّقيق بأقوى وأعلى ما يستطيع. أما الثعبان الذي ملأتْه تلك الجَلَبة بالحماس، فقد تقدَّم منتفخًا بالزهو والغضب وتمدَّدَ في منتصف الطريق لكي يعترض سَير العربة ويقلبها … ولكنها دهسته وقتلته في الحال!
الضفدع الذي لم يعرف بما حدث، ظل على نقيقه حتى بعد أن كان سربٌ من الطيور قد هبط في المنطقة وأكل أشلاء الثعبان ونظَّف ساحة القتال … أما الطيور التي أزعجَها النقيق المتواصل فقد قرَّرَت أن تأكل الضفدع حيًّا، ورغم أنها لم تكن تعتبره مجرمَ حرب، إلا أنها كانت تعمل حسب القانون الطبيعي … جميع الأصوات الرديئة، والقصائد الرديئة، التي تُزيِّن للطغاة أعمالهم، لابد أن يتمَّ كنسُها معهم!
(٥) جائزة الطاووس
أعلنَت العنقاء عن مسابقة في الخريف لأجمل ريش، تتنافس فيها جميع الطيور ويُمنَح فيها الفائز لقب «أجمل الطيور». ذاع الخبر وجاء الجميع في الموعد المحدَّد … الغراب في الساتان الأسود، النَّورس في الحرير الأبيض، الطائر الصفَّار في المُخمَل الذهبي، الطاووس في المُقصَّب الجميل … الكل يريد أن يشارك، والكل يريد أن يحصل على الجائزة.
وبعد التحكيم، حصل الطاووس على الجائزة الأولى … وها هي ذي العنقاء تُقلِّده ميداليةً لامعة، تحمل عبارة «أجمل الطيور».
وبينما كان الطاووس يهمُّ بمغادرة المكان، تحلَّقَ الجميع حوله … سقسق الدُّوري قائلًا: يا أجمل الطيور، ريشك رائعٌ حقًّا، دعْنِي آخُذ بعضَه لأريه لشقيقاتي، ثم إنه نزع بعض الريش وطار!
وغرَّدَت القُبَّرة قائلة: يا أجمل الطيور، ريشك جميل مثلك، دعْنِي آخُذ بعضه لأُمتِّع عيون شقيقاتي، ثم إنها فعلتْ مثلما فعل الدوري. وشقشق طائر القُرْقُف: يا أجمل الطيور … ريشك لا مثيل له، دعْنِي آخُذ بعضه لأبعث البهجة في نفوس شقيقاتي … وفعل الشيء نفسه … ريشتان هنا، وريشتان هناك … لم يتبقَّ للطاووس سوى القليل القليل … وعندما حلَّ الشتاء، لم يكن هناك ما يقيه البرد، فهجع إلى جانب شجرة وهو يرتعد. سألَتْه العنقاء مَشدوهة: كيف أصبح أجمل الطيور فرُّوجًا بلا ريش؟ ردَّ عليها المسكين: اتركيني وشأني، مسابقتكِ لم تجلبْ لي سوى الشقاء والبؤس، فقد نزع الجميع ريشي عني.
وهكذا لم يَعُد الطاووس يَتيه جمالًا كما كان من قبل. إن ريش الطاووس الجميل تراه الآن في آنية الزهور في بيوت الناس، ولا بد أن تمرَّ سنواتٌ وسنوات حتى ينبت ريش صاحبنا مرة أخرى!
(٦) كرامة النمر
جلس النَّمِر مهمومًا يفكر في تلك المصيبة التي حلَّت به؛ لقد تسلَّلَت الفئران إلى عرينه لتسرق ما كان يختزنه من لحمٍ طيب! ذهب النمر يستشير قردًا صديقًا، فنصحه القرد بأن يقتني قطًّا يكفيه شر الفئران! هزَّ النمر رأسه مستكبرًا مستنكرًا وهو يقول: «كيف وأنا النمر؟! ألا يعني ذلك أن مَلِك الحيوانات قد أصبح أقل مقدرةً من قطٍّ صغير؟!
إن ذلك من شأنه أن يحطَّ من كرامتي ويقلل من شأني أمام حيوانات الغابة … والله لن يحدث ذلك أبدا!»
ومنذ ذلك الحين، أصبح النمر يتعامَى عن الفئران ويتركها تفعل ما يحلو لها!
(٧) أنا القمر
قمرٌ مكتمل مُعلَّق في المساء يغمر نورُه الوادي! مسحورًا بجماله وضيائه قال عابر سبيل: ما أعظمك! إنك أجمل من الشمس التي تنير النهار بينما أنت تنير الليل، أيها الملاك الرائع، لولاك لأظلم العالَم! في نفس الوقت، كان لصٌّ كامنٌ في ركنٍ ما من ساحة بيت يُحَملِق في السماء وهو يقول: اغْرُب عن وجهي أيها الشيطان الرجيم، ليتني أستطيع أن أستدعي كل سحب العالم السوداء وأُلقي بها عليك، علَّها تمنع إطلالة وجهك الشاحب الذي يُقيِّد حركتي، عليك اللعنة!
في هدوءٍ شديد قال القمر وهو يبتسم: لستُ أعظمَ من الشمس التي أستمدُّ منها نوري، وما أنا بشيطانٍ رجيم يمنع الخير عن الناس … أنا القمر!
(٨) ثقة في محلها
تورَّطَ حارسٌ من حرَّاس الأسواق في قضية، وقبل مثوله للمحاكمة كان قد تمكَّن من رشوة القاضي بأن قدَّم له حمارًا هدية. وجاء اليوم الموعود فحصل الحارس على حكمٍ بالبراءة. بعد انتهاء الجلسة، اقترب الحارس من القاضي وهمس إليه: يعلم الله أنني بمجرد دخولي هذه القاعة، غمرني شعورٌ قويٌّ بأن العدل أساس الملك، وأنه سوف يأخذ مجراه على يديك! قال القاضي: أنا أتوخَّى العدل دائمًا في عملي، وعلى أية حال شكرًا لثقتك الغالية بي. قال الحارس: العفو يا سيدي، إن ثقتي بالحمار لأشد!
(٩) منطق
عندما شعرَت الدجاجة بأنها لم تَعُد تتحمَّل الخطر أكثر من ذلك، ذهبت إلى الحيوانات القوية تشكو إليهم الثعلب الذي يُهدِّد أفراخها، وتطلب منهم أن يُقيموا العدل ويوقفوه عند حدِّه. قالت الدجاجة في ضعف: انظروا إلى عينه وسوف تَفهمون كل شيء!
زمجر النَّمِر قائلًا: لا خوف على أفراخك ولا هم يحزنون، لقد نظرتُ في عين الثعلب وما وجدت فيها سوى الخجل … أو لعله الخوف!
ونخر الخنزير البرِّي قائلًا: الثعلب يُفسِح لي الطريق كلما رآني، وما في عينه سوى التواضع والطيبة!
وعوى الذئب قائلًا: أعرفه معرفةً جيدة، إنه أول مَن ينسحب عند أي صراع، في عينه ضعفٌ شديد!
قالت الدجاجة: ولماذا لم يرَ أحدٌ منكم ما في عينه من خُبثٍ وقسوة؟!
قال النَّمِر: أمسكي عليكِ لسانك، أنا لا أسمح لك بتلفيق التُّهَم ضد الثعلب. وقال الخنزير البرِّي: إياكِ والتحامل!
وقال الذئب: كلماتُكِ محسوبةٌ عليك، ومن الخطأ أن يستأسِد الضعيف على القوي، تمامًا مثلما من الخطأ أن يستأسِد القوي على الضعيف!
(١٠) قرار
نَفِدَ الماء من مستكشفَين في وسط الصحراء، قال أحدهما: هناك نبعٌ قريب في اتجاه الجنوب، وقال الآخر: بل هناك نبعٌ في اتجاه الشمال. رغم أنها كانت مسألة حياة أو موت، أصرَّ كلٌّ منهما على رأيه. وبعد تفكيرٍ وجدل قرَّرَا إجراء قرعة فجاءت النتيجة في صالح الاتجاه جنوبًا … ولكنهما لم يجدَا شيئًا هناك. وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، قال أحدهما: أنا آسف، لقد أخطأت، وصمَت الثاني لحظةً ثم قال: من ذا الذي يستطيع أن يجزم أيُّنا كان على خطأ؟ … ربما كان علينا أن نفترق قبل ذلك يا صديقي!
(١١) الأسد والحمل
لِحَظِّه العاثر، وقع حملٌ لطيف في قبضة أسدٍ هصور. بكى الحمَل مستعطِفًا؛ فرَقَّ له قلْب الأسد وقرَّرَ أن يتركه وشأنه. معتقِدًا أن الأسد الطيب قد أحبَّه، بقي الحمل في مكانه على أمل أن يتخذه الأسد ابنًا له … ولكن الأسد الذي عاد من جولته اليومية، وجده هناك في نفس المكان، فالتهمه دفعةً واحدة!
(١٢) مساواة
كل صباح، كان الرجل يأتي بقفصٍ يُوزِّع منه الطعام على حميره، وبمجرد الانتهاء من ذلك، يبدأ الشجار والشغب بين الحمير. الرمادي يقول إن نصيبه من الطعام أقل من نصيب الحمار البُنِّي، والبُنِّي يشكو؛ لأن طعام الحمار الصغير أشهى من طعامه، والصغير يعترض؛ لأن طعام الرمادي سهل الأكل والهضم. لم يكن بينهم حمارٌ واحد راضٍ عن وضعه. وبعد أن ظلَّت المشكلة تُؤرِّق صاحِبهم وقتًا طويلًا، أصبح يُحضِر قفصًا فارغًا ويتظاهر بأنه يوزع الطعام منه كالعادة. في البداية خاب أمل الجميع؛ لأنهم لم يجدوا شيئًا، ولكنهم سرعان ما اعتادوا الأمر، قانعين بأنه طالما ليس هناك طعام، فإن أحدًا لن يمتاز عن الآخر … وهكذا تساوى الجميع!
(١٣) الذئب العجوز وابنه
وَجد ذئبٌ عجوز وابنه مأوًى لهما وسط الرُّكام أثناء عاصفةٍ جبلية ممطرة. وبعد أن هزمهما الجوع، لفظ الذئب العجوز لابنه وصيته مع أنفاسه الأخيرة: تذكَّرْ هذه الكلمات جيدًا … لا تُصدِّق أحدًا في أي وقت ولا في أي مكان مَهما قدَّم إليك من وعود، أعطِ أنتَ وعودًا كاذبة وتصنَّع الإخلاص والثقة، سيصبح الجميع ممتَنًّا لك حتى وإن لم تفِ بها. استخدِم كل السبل ضد من يقف في طريق بقائك ولا تنسَ يا بني لِلحظة أننا ذئاب.
هزَّ الذئب الصغير رأسه فواصَل العجوز: لقد دفنتُ عنزًا صغيرة في أيكة تحت هذا الركام بعد أن شربت دمها، وبعد موتي يمكنك أن تحصل على ما تبقَّى. ودمعَت عينا الذئب الصغير تأثُّرًا وامتنانًا لوالده الذي استمر قائلًا: وأوصيك يا بني بعد أن أموت، بأن تدفنني في حفرةٍ عميقة حتى لا تأتي الحيوانات الأخرى وتنهش جسدي. وعَدَه الصغير بأن يفعل كما أوصاه … ثم مات الذئب العجوز. استمرَّت العاصفة العاتية … ولم يتوقف سيل المطر، وعندما أوشك الصغير على الموت جوعًا، مزَّق جسد أبيه والتهم جزءًا كبيرًا منه … لقد كان يعرف جيدًا أن العجوز يخدعه، وبالطبع لم تكن هناك عنزٌ في الأيكة. وأن يلتهم أبَاه ميتًا لكي يظل هو على قيد الحياة، لَدليلٌ على أنه ذئب حقيقي!
(١٤) هدية للنمر
ابتاع ثعلب كُرنبَتين، وطلب من العنز أن تحملهما مع رسالة، هدية إلى نمرٍ صديق كان يحتفل بعيد ميلاده. راحت العنز التي كانت سعيدةً بهذا التكليف تُفكِّر وتفكِّر … النمور لا تأكل الخضروات، ولا بد أن الكرنب سيكون من نصيبي!
وعلى وجه السرعة، وصلت العنز إلى عرين النمر وسلَّمته الرسالة والكُرنبَتين. قرأ النَّمِر رسالة صديقه الثعلب وابتسم قائلًا: يا له من مخلوق كثير النسيان! ألم يتذكر أنني لا آكل الخضروات؟ فليكن الكرنب من نصيبك يا عزيزتي.
وبكلمة شكرٍ قصيرة التهمَت العنز الكرنبتين. وعندما همَّت بمغادرة المكان، وجدت النَّمِر يسدُّ عليها الطريق وهو يزمجر: لقد أخبرني صديقي الثعلب في رسالته بأنكِ هدية عيد ميلادي، فكيف إن تركتُك أُمتِّع نفسي بالهدية؟!
وانقضَّ عليها ليكسر رقبتها بقضمةٍ واحدة.
إن الجَشعِين فقط هم الذين يغفلون عن الأخطار الشديدة!
(١٥) الذبابة الصغيرة والمصباح
المصباح الصغير مشتعل، وخيط دخانه الرفيع يتأرجح في الهواء … ونحوه طارت ذبابةٌ صغيرة مادَّةً ظِلَّها الكبير على الحائط الأبيض. تراقصت شعلة المصباح وأشارت إلى ظل الذبابة قائلة: يقول الناس إنك صغيرة، ولكن انظري إلى ظلك الكبير على الحائط، هذا دليل على أنهم مخطئون. ردَّت الذبابة بدهشةٍ لا تخلو من ارتياب: وهل أنا كبيرة فعلًا إلى هذا الحد؟! ولكي تتأكد من ذلك، طارت في اتجاه الحائط ببطء لكي ترى نفسها عن قرب. لحظة … وانكمش الظل! قال المصباح في وقار: وا أسفاه! لِمَ لا تثقين بكلمات مخلصٍ أمين؟ إذا كنت تريدين رؤية حجمك الكبير عليك أن تنظري من مكاني … وإلا فإنك تَظلمين نفسك! عندما سمعت الذبابة ذلك؛ استدارت لكي تطير نحو المصباح … لكي يكبر ظلها ويكبر … مدَّت شعلة المصباح ذراعيها نحوها بدفءٍ وحنان وهي تقول: أَقبِلي يا حبيبتي. اقتربي مني! اقتربي! نظرت الذبابة حولها فرأت ظلها على الحائط كبيرًا مثل صحنٍ مستدير، وعندما غلبها الانفعال، ألقَت بنفسها في أحضان الشعلة. انتفض الضوء في لحظةٍ خاطفة، ثم عاد إلى توهُّجِه السابق. اختفت الذبابة، واختفى الظل. فابقَ بعيدًا عن أولئك الذين يُبالِغون في تصويرك لغرضٍ في النفس دفين!
(١٦) الجرادة الرمادية والجرادة الخضراء
في بقعةٍ من حقل القمح الناضج، كانت تعيش جرادةٌ رمادية اللون. وفي مكانٍ قريب، كانت جرادةٌ خضراء اللون تعيش وسط الحشائش. وذات يوم قفزَت الجرادة الرمادية قفزةً هائلة لتجد نفسها وسط الحشائش، وبمجرد أن هبطتْ هناك سمعتْ من يقول: مَن أنت؟ وماذا جاء بكِ إلى هنا؟
تلفَّتَتْ حولها فوجدَت الجرادة الخضراء أمامها.
«أنا جرادة رمادية، أعيش هناك في حقل القمح القريب، جاءت قَفزَتي كبيرة فسقطتُ هنا … على أية حال، أنا آسفة!» ثم إنها تأمَّلت مُضيفتها ذات الرأس الأخضر والجسم الأخضر والجناحين الأخضرين مثل لون الحشائش تمامًا، ولم تملِك إلا أن تعجب بكل ذلك، ثم إنها نظرت إلى نفسها، إلى لون جسمها الشاحب مثل الرماد وأدركتْ كم كانت قبيحة! خجِلت من نفسها، وقفزَت عائدةً إلى حقل القمح حيث تعيش!
وفي اليوم التالي، شُوهدت الجرادة الرمادية تَتسلَّل مرة أخرى نحو الحشائش، كانت تحاول أن تحكَّ نفسها في الحشيش، ونجحَت في أن تصبغ جسدها باللون الأخضر الجميل … نظرتْ إلى نفسها مُعجَبة، ورقصتْ سعيدةً لما فعلَت، وقفزتْ عائدةً إلى حقل القمح!
وعندما ظهرتْ بثيابها الجديدة أمام بقية الجراد، انقضَّ عليها من الخلف فرس النبي ذو اللون البني … لقد كانت ثيابها الخضراء الجميلة سببًا لموتها، بعد أن كشفَتْها لأعدائها!
(١٧) الحيوانات الأليفة وصاحبها
قطٌّ أسود وأرنب أبيض، ماهران ولكنهما شرِهان، دائمًا يسرقان الطعام من المطبخ. ذات يوم، اشترى صاحبهما سلَّةً من السمك وسلَّة من الكرنب وراح يبحث عمن يحملها إلى منزل عمه.
قال القط: أنا أحمل السمك، وقال الأرنب: وأنا أحمل الكرنب! ولكن صاحبهما لم يكن غبيًّا إلى ذلك الحد، فهو، على الأقل، يعرف أن القط يحب السمك والأرنب يحب الكرنب … لذلك رفض عرضهما … قال القط: دعْنِي إذن أحمل الكرنب، وقال الأرنب: دعني إذن أحمل السمك. فكَّر الرجل مَلِيًّا، القطط لا تأكل الكرنب، والأرنب لا يأكل السمك … فعلًا … إنهما يريدان مساعدتي هذه المرة!
سعيدًا، مطمئنًّا، عهِد إليهما بالهدايا لحملها إلى منزل عمه، ولكن ما لم يكن يتصوره أنهما سوف يتبادلان السلَّتين في الطريق! ها هو ذا الأرنب يأكل الكرنب والقط يأكل السمك … ويضحكان من صاحبهما! إنهم حمقى … أولئك الذين يحذرون الأخطار المباشِرة ويغفُلون عن غير المباشِرة!
(١٨) حوض الاستحمام المسحور
ارتطمتْ سنُّ المحراث بجسمٍ صلب، ليكتشف الفلَّاح حوض استحمامٍ مسحور كان مدفونًا بالأرض. إن أنتَ ألقيت فيه بثمرة كستناء صارت مائة ثمرة، وإن ألقيت فيه بعملةٍ فضية صارت مائة مثل … وهكذا الأمر إن أنتَ ألقيتَ فيه بأي شيء! فرح الفلَّاح بهذا الاكتشاف العظيم الذي يمكن أن يعوله وأُسرته مدى الحياة، عندما وصل الخبر إلى صاحب الأرض جاء مسرعًا وهو يقول: «لقد وجدتُ هذا الحوض في أرضي أنا، وهو ملكي.» واستولى عليه من الفلاح الأجير. وقبل أن يمرَّ وقتٌ طويل سمع عمدة القرية بالخبر فجاء مسرعًا وهو يقول: «هذا الحوض اكتُشِفَ في أرضٍ تحت إدارتي، وبالتالي فهو من نصيبي.» وأرسل أعوانه وصادروه … وصل الخبر إلى المَلك الذي أعلن على الملأ أن كل بوصة من أرض البلد ملكٌ له، وعليه فإن الحوض المسحور من بين ممتلكاته كذلك … وهكذا انتهى المطاف بالحوض إلى المَلك الذي أفاد منه كثيرًا، فتضاعفتْ ثروته وتضاعفت. فكَّر الملك طويلًا، ثم إنه كان يخشى أن يسرق أحدٌ ذلك الحوض، فقرَّرَ أن يكتشف سرَّه حتى يستطيع أن يحتفظ به.
قفز الملك إلى داخل الحوض وراح يتفحَّصُه جيدًا ولكنه لم يجد بداخله شيئًا، وبمجرد خروجه من الحوض، حدث شيءٌ مثير … لقد خرج وراءه ملكٌ آخر، ثم ثانٍ فثالث فرابع وهكذا حتى أصبحوا مائة … جميعهم مثل الملك الأصلي تمامًا، تسابَق الجميع للاستيلاء على العرش، وتدافع الجميع نحو القصر للاستيلاء على المَلكة والثروة والمَحظِيَّات والجواري … وراح كلٌّ منهم يُصدِر أوامره!
إن فأْرَين لا يمكن أن يعيشا في جُحرٍ واحدٍ معًا، فكيف يمكن أن يتحمَّل العالم كل هذا العدد من الملوك؟! كان لا بد من أن يحارب الجميعُ الجميعَ. كوَّن كلٌّ منهم لنفسه جيشًا يحاول به أن يُخضِع الناس لحكمه ويستولي به على المدن ويضمَّ الأراضي إلى ملكه بالقوة … وفي النهاية دبَّت الفوضى في جميع أنحاء البلاد.
إنَّ أحدًا من الملوك لن يسامح أحدًا. كانوا جميعًا من نفس العجينة. كانوا مائة مثلٍ لا فرق بين أحدهم والآخَر.
في ركنٍ قَصِيٍّ، كان الفلَّاح الأجير الذي اكتشف الحوض يتنهَّد حسيرًا وهو يقول: ليتني متُّ قبل هذا، إن رغبة الملوك في السيطرة والنفوذ والتملُّك عصِيَّةٌ على التحجيم … وكلٌّ منهم على استعدادٍ أن يخوض قتالًا، حتى مع طيفه … حتى النهاية.
(١٩) بحثًا عن الزهور
العجوز الذي كان معروفًا بحبِّه للزهور، والذي قضى ذات مرة عامًا كاملًا وهو يبحث عن أصنافٍ فريدة وجديدة منها، عند عودته ذات مرة إلى منزله، وجد جمعًا من الناس يتحلَّقون حول زهور المشمش الجميلة ويُبدون إعجابهم الشديد بها. العجوز الذي كان معروفًا بحبه للزهور دخل إلى منزله مسرعًا ونادى الخادم: «هناك زهورٌ رائعة خارج البوابة وحولها جمعٌ من الناس، اذهب واعرف لنا من صاحبها وسوف أشتريها منه مَهما كان ثمنها.» … ابتسم الخادم وهو يقول: «إنها زهورك يا سيدي، لقد نَمَت واستطالت بعض أفرع المشمش من خلال فتحات السور.» مدهوشًا، دخل العجوز الذي كان معروفًا بحبه للزهور إلى حديقته ليكتشف أن ما قاله الخادم كان صحيحًا، فتنهَّد قائلًا: «لا بد أن يكون قد أصابني الخوف، زهور المشمش كثيرة في حديقتي … كيف سحرتني تلك الزهور إلى هذا الحد؟!»
(٢٠) ابن عِرس والقنفذ
سمع ابن عِرس أن لحم القُنفُذ لذيذ الطعم، وظلَّت الفكرة تُلِحُّ عليه فيسيل لُعابه. ولكنه عندما كان يلتقي أحدهم، كان القنفذ ينكمش على نفسه ويتحول إلى كرةٍ تُغطِّيها الأشواك المدبَّبة النافرة!
ولم يكن ابن عِرس ليستطيع أن يلمسه؛ لذلك كان ينصرف حزينًا محسورًا! وذات يوم تشاجر قُنفذان وتخاصمَا، فقرَّرَ أحدهما أن يُوقِع بالآخَر، فذهب إلى ابن عِرس وقال له: هل تريد أن تتذوَّق لحم القنفذ؟ إن الأمر لفي غاية السهولة، وها أنا ذا أُفضِي إليك بسرٍّ … القنافذ لا تخشى شيئًا سوى فُساء ابن عِرس، جرِّبْ ذلك، إن الرائحة النفَّاذة عندما تهزم أحدهم، سوف تجعله يتمدَّد أمامك لا حول له ولا قوة ولا أشواك، وتصبح بطنه الطريَّة جاهزةً أمامك للأكل! طرِبَ ابن عِرس لتلك المعلومات، وسرعان ما طبَّق ذلك على القنفذ الذي كان — فعلًا — أكلةً دسمة له … وبعد ذلك أكل جميع القنافذ.
أحيانًا … يدفع المرء ثمنًا باهظًا لأعماله الخرقاء … يُدمِّر أصدقاءه … ويُدمِّر نفسه أيضًا!
(٢١) الذهب والنحاس
يسأل التلميذ أستاذه: ما معنى التحيُّز؟
أمسكَ الأستاذ بسِوارَين مختلفَين في الحجم وقال له: انظر!
هذا السِّوار الكبير مصنوع من النحاس، ولكن إذا وضَعه أحد الأغنياء في مِعصَمه فسوف يظنه الناس ذهبًا، وهذا السِّوار الصغير من الذهب الخالص، ولكنه إذا ظهر في مِعصَم أحد الفقراء فلن يشكَّ أحدٌ في أنه نحاس. فهمت؟
(٢٢) أقوى دليل
أمسكتِ الأفعى بطائرٍ أعرج، وقبل أن تبدأ في التهامه ظهر الثعلب، واختطفه منها. قالت الأفعى مُحتجَّةً غاضبة: «أنا التي أمسكتُ به.» قال الثعلب: «بل أنا الذي أمسكتُ به من شهورٍ مضتْ وعضضتُه في رجله، ألا ترين أنه أعرج؟»
ولأن الأفعى لم تكن نِدًّا للثعلب، ولأنه قدَّم الدليل، انسحبتِ الأفعى حزينةً كسيرة البال.
وقبل أن يبدأ الثعلب في التهام الطائر، ظهر الذئب واختطفه منه، فقال الثعلب مُحتجًّا: «أنا الذي أمسكتُ به.»
قال الذئب: «ليس صحيحًا. أنا الذي أمسكت به منذ ستة أشهر وتركتُه لأنه كان هزيلًا حينذاك، وقد قصصتُ بعض ريشه وتركته في جُحري، لكنه استطاع أن يهرب … انظر! ألا ترى أن مؤخِّرته ما زالت بلا ريش؟»
الثعلب الذي كان يعرف أن كلام الذئب كله هُراء، لم يقل شيئًا، ولذلك انصرف حزينًا كسير البال. وقبل أن يبدأ الذئب في التهام الطائر، ظهر النَّمِر واختطفه منه. قال الذئب مُحتجًّا غاضبًا: «أنا الذي أمسكتُ به!» قال النمر: «ليس صحيحًا! إنه طائري منذ عامٍ ونَيف ولا يحقُّ لأحدٍ منكم أن يلمسه.» رد الذئب والثعلب والأفعى في وقتٍ واحد: «هذا افتراءٌ واضح، فالطائر عمره لا يزيد عن عامٍ واحد، فكيف تقول ذلك؟ وكيف تُثبِت لنا صحة كلامك؟» قال النمر: «أستطيع بكل تأكيد، منذ عامٍ أو أكثر قليلًا، صِدتُ طائرًا أعرج، لم يكن في ذيله ريش، فبكى مستعطِفًا لكي أتركه وشأنه على وعدٍ بأن يُقدِّم لي أطفاله … ألا ترون أن هذا الطائر لا بد أن يكون ابنه؟!»
(٢٣) موت الماتادور
استثار الماتادور ثورًا عنيفًا في حلبة المصارعة فجحظَت عَينَا الثور واشتعلتَا بالغضب وبدأ هجومه الكاسح. الماتادور المجرِّب سرعان ما أدرك قوة خصمه وحاول أن يتفادى هجمات الثور. وبات من الواضح له أنه سوف يخسر المعركة.
أما الثور الذي كان يعرف أنه سيفوز وبدأ يعامل الماتادور على هذا الأساس فامتلأ بالغرور والكبرياء. مُستغِلًّا غفلة الثور وهو يستدير. سدَّدَ إليه الماتادور طعنةً قوية في حلقه، فتدفَّق شلَّال الدم وسقط على الأرض مع خوارٍ طويل.
وعندما كان الماتادور يحاول أن يستدير مُلوِّحًا للجماهير المبتهجة، نهض الثور من رقدته ليهاجم خصمه بأحد قرنيه من الخلف، ليخترق صدره ويُطيح به. قال الماتادور وهو يحتضر: «الطعن من الخلف أسلوبٌ جبان.»
قال الثور وهو يتنفَّس بصعوبةٍ بالغة: «نعم! وأنت فعلتَ الشيء نفسه» … ثم سقط على الأرض مرة أخرى.
(٢٤) الثعلب الذي سقط في المستنقَع
أثناء تجواله، وجد الثعلب نفسه أمام مستنقَعٍ كبير فأراد أن يختبر مهارته في أن يجتازه بقفزةٍ واحدة، إلا أنه سقط في منتصفه وغاصَ في الطين. حاوَل الثعلب أن يخرج فلم يُفلِح، وأخذ يصرخ بأعلى ما يستطيع ظانًّا أنه قد يُخيف الجبال والغابات وكل ما حوله فيأتي أحدٌ لكي ينقذه.
ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث، وظلَّت الغابات والجبال تراقبه في صمتٍ وعلى أفواه الجميع ظِلُّ ابتسامةٍ ساخرة!
وبعد أن جعله الفشل يهدأ قليلا ويفكر قليلًا، قرَّرَ الثعلب أن يُقدِّم بعض التنازلات من جانبه قائلًا لنفسه: «الآن يمكن أن أنادي بصوتٍ أقل ارتفاعًا.» لكنَّ أحدًا لم يتحرك لنجدته. وفي النهاية تخلَّى عن كل محاولاته وهو يقول: «لا شيء يهم! الحل الوحيد هو أن أتحلَّى بالروح الرياضية!»
وأنتَ يا صاحبي، لا تُصادِق إنسانًا كهذا! ولكن لتعتبر بقصته، فبعض الناس عندما تكون هزيمتهم ثقيلة يصرخون بأعلى صوت، ثم بعد ذلك يَهدءُون ويَهدءُون، وفي النهاية تجدهم يكلِّمون أنفسهم!
(٢٥) البحَّار وابنه
في يومٍ قارس البرودة، أخذ البحَّار طفله الصغير معه، وانطلقَا للعمل. وبعد تجذيفٍ مُجهِد ونشاط وهِمة، شعر البحَّار بالحر الشديد من فرط الجهد الذي بذله، فخلع مِعطَفه الثقيل مُكتفِيًا بقميصٍ خفيف كان يرتديه تحته. ثم أطرق للحظة وذهب إلى القبو حيث كان يجلس الطفل وقال له: «انزع عنك مِعطَفك يا بني فالجو شديد الحرارة.» وساعده على خلع ملابسه لكي يصبح مثله في لباسٍ خفيف.
استمر الصيَّاد في التجذيف، وبعد وقتٍ قصير شعر مرة أخرى بحرارةٍ حارقة، فخلع قميصه قائلًا: «يا له من يومٍ شديد الحرارة!» ثم ذهب إلى الطفل وجرَّده من قميصه ليصبح مثله.
وبينما كان الصيَّاد يعمل بقوة وقطرات العرق تتفصَّد من مسامِّه مثل اللهب، كان الطفل الصغير يتجمَّد مثل لوحٍ من الثلج داخل القبو.
(٢٦) البئر والنهر
لم تكُفَّ البئر عن التدخل في شئون جارِها النهر، وراحت تنتقده بقسوة وهي تقول: «ماؤك مملوء بالطين، وأنتَ بعيدٌ عن متناوَل الناس، خريرك لا يتوقف ولا تكفُّ عن الجريان، وهل تُسمَّى هذه حياة؟! ألم يكن من الأفضل أن تكون عميقًا مثلي، ثابتًا في مكانك، لا تُعكِّر مياهك ذرَّة طين واحدة؟ ما أجملني! أنا هنا أُطِلُّ من نافذتي الصغيرة المُشرَعة على السماء اللازوردية، وهذه لَعَمري هي الحياة الجديرة بأن نحياها!»
ولم يكُف النهر عن التدخل في شئون البئر.
فجأة، ارتفع ماؤه في غضب، وضرب شاطئيه بعنفٍ وفاضَ عنهما فأغرق كل ما حوله.
وفي طريقه … كان يكتسح حَلْق البئر لتختفي مع الفيضان، وتهوي إلى الأعماق السحيقة … هناك مع كيانها المستمر.
(٢٧) أساليب الحية
الحية الرقطاء التي كانت تريد أن تقتل الشجرة، فكَّرَت طويلًا ثم قرَّرَت أن تستخدم أحدث أساليبها المُرعِبة. كانت قد قرأتْ أن بعض الأشجار تموت عندما تلتَفَّ حولها النباتات المتسلِّقة.
قالت الحية لنفسها: «… وحيث إنني أضخم من أي نبات متسلِّق، فإنني عندما ألتفُّ حولها بقوة سوف أجعلها تذوي وتموت شيئًا فشيئًا، هذا إذا لم أتمكن من قتلها في الحال.»
وتسلَّقَت الحية الشجرة ولفَّت نفسها حول جذعها وهي تحاول أن تُنفِّذ خطتها بسرعة، ولكنها كانت كلما نظرت إلى الشجرة وجدتها ثابتةً في مكانها كما هي.
قرَّرَت الحية غاضبةً أن تواصل ضغطها أكثر فأكثر، وبعد دقائق معدودة، كانت تتهاوى على الأرض مثل حبلٍ مُمَزَّق.
(٢٨) الثعبان والموسيقِي
أطلَّ الثعبان برأسه من الجُحر وقتل حَجَلًا كان يبحث عن طعام. وعندما علمت زوجة الحَجَل بما حدث كان حزنُها أشدَّ من غضبها، فراحت تبكي وتُوَلوِل حتى خيَّم جوٌّ من الكآبة على غابة الربيع.
الموسيقِي، الذي كان يمرُّ بالمصادفة راح يُنصِت إلى عويل زوجة الحَجَل. إن جُرحَها مؤلمٌ بلا شك، والأنغام وحْدَها هي التي يمكن أن تُعبِّر عن ألمها وحزنها!
وضع الموسيقِيُّ لحنًا جمَع فيه كل مشاعر الفقد والألم والاستنكار والغضب وكان كل من يستمع إليه مع الصبح إذا تنفَّس، أو في الليل إذا سجى، يشعر بالألم، فيغلي الدم في العروق ويخفق القلب؛ لذا خرج جميع سكَّان الغابة يبحثون عن ذلك الثعبان القاتل، وكانوا كُلَّما التقوا في طريقهم ثعبانًا قتلوه.
إن الفن لا بد أن يكون دائمًا من أجل العدل والحرية، فهو الذي يستحثُّ الإنسان دومًا ويُحفِّزه ليحشد قواه لمعاقبة كل الشرور.
(٢٩) الثعلب والذئب والماعز
هجم الثعلب على قطيع الماعز وخطف أصغرها. ومن هول الصدمة، ظنَّتْه الماعز ذئبًا فراح القطيع كله يصرخ: «الذئب! الذئب! لقد عاد الذئب ليقطع الطريق علينا ويفترسنا.»
وعندما التقى الذئب والثعلب قال الثعلب: «إن الماعز تحاول أن تُشوِّه صورتك مرة أخرى يا صديقي دون بيِّنة!»
قال الذئب: «العيِّنة بيِّنة يا صديقي! فأنا أكثر منك شهرةً وأعظم خطرًا؛ ولذلك عندما يُذكَرُ العدوان لا بد أن يُذكَرَ اسمي.»
(٣٠) الأفعى الذهبية والأفعى الفضية
اخترع رجلٌ دواءً فعَّالًا يشفي من لدغة الأفاعي، وحمله إلى السوق مع زوجٍ من الأفاعي لكي يُجرِّبه أمام الناس. طلب الرجل من الأفعى الفضية أن تلدغه في رقبته ولكنها رفضت، بينما أطاعت الأفعي الذهبية أمره.
وفي دقائق معدودة، كانت رقبة الرجل قد تورَّمَت وبدَا مثل الخنزير. ولكنه بمجرَّد أن وضع الدواء على الجرح اختفى الورم في الحال، وكأنَّ شيئًا لم يكن! وهنا صاح المشاهدون صيحة إعجابٍ واحدة وتدافَعوا لشراء ذلك الدواء العجيب فباع الرجل كل ما كان يحمله منه.
وفي طريق العودة، وعندما وجدت الأفعى الفضية أن الرجل لم يَعُد لديه قطرةٌ واحدة من الدواء هجمتْ عليه ولدغَتْه فمات في الحال.
قالت الأفعى الذهبية وهي تُوبِّخها: «أيتها الغبية! ولماذا لم تلدغيه عندما طلب منكِ ذلك؟» قالت الفضية: «كان الدواء الفعَّال معه حينذاك، وما كان بمقدورنا أن نلدغه فيموت. إن كل ما فعلتْه لدغَتُك هو أنها ساعدَته على أن يبيع دواءه المرعب.»
فضحكتِ الذهبية وهي تقول: «كيف كان يمكننا أن نلدغه حتى الموت لو أنه لم يَبِع الدواء كله؟ فلْتعلَمِي أنني ساعدته على أن يبيع دواءه؛ لكي أتمكن من أن أُنزِل به ذلك الجرح المميت.»
(٣١) إنكار الذئب
غطَّى الجبلَ ثلجٌ كثيف فلم يجد الذئب ما يأكله. ورغم أنه لم يكن قد نسي العلقة الساخنة بعِصِيِّ أهل القرية، تسلَّلَ إلى التل القريب وخطف دجاجة. وبفضل سرعته هذه المرة استطاع أن ينجو من مطاردة الفلاحين له، فكان يقول مزهُوًّا: «لن يتمكن أحدٌ من مطاردتي، أنا الذئب الذي يستطيع أن يحصل على ما يريد في وَضَح النهار!»
ثم إنه حمل الدجاجة في فمه وصعد إلى الجبل لكي يلتهمها بشهيَّة.
وفجأة، انتابتْه المخاوف والشكوك عندما لمح خيطًا من الدم يمتدُّ صاعدًا الجبل مع آثار أقدامه … «لو أن أهل القرية جاءوا مصادفةً ورأوا ذلك! ماذا يمكن أن أقول لكي أدافع عن نفسي هذه المرة؟
ليس أمامي سوى الإنكار!»
وهكذا بدأ الذئب يصيح في اتجاه الوادي: «يا أهل القرية … اسمعوا جميعًا، لا تُصدِّقوا الشائعات التي تحاول أن تُشوِّه سمعتي.»
ثم إنه ذهب ليمسح بفمه آثار الدم والأقدام. كان كلما حكَّ الثلج بأسنانه، زاد خط الدم وضوحًا، فلم يكن لدى الذئب الوقت لكي يلعق فمه جيدًا!
(٣٢) الإبريق الأثري
الرجل الذي ورث عن أجداده إبريقًا أثريًّا، كان يحمله معه كل يوم إلى مكان عمله مملوءًا بالشاي لكي يروي ظمأه. وعندما كان لا يستعمله كان يضعه أمامه في مكانٍ أمين لكي يحافظ عليه.
وحدث ذات يوم أن رآه أحد التجار، فعرض عليه ثمنًا كبيرًا ولكن الرجل رفض أن يبيعه. إلحاح التاجر، جعل صاحب الإبريق يدرك قيمته الأثرية ويزيد من حرصه على عدم التفريط فيه.
وبعد أن انصرف تاجر التُّحف، راح صاحب الإبريق يفكر يبحث له عن مكانٍ أكثر أمانًا. إذا وضعه فوق الطاولة فلربَّما سرقه أحدهم، وإن وضعه في الخزانة فلربما كسرته الفئران.
وراح الرجل يطوف بأرجاء المنزل ممسكًا بالإبريق في يده، وبعد حيرةٍ طويلة اهتدى إلى فكرةٍ جهنمية! لقد استقرَّ رأيه أن ينام ممسكًا بالإبريق حمايةً له من السرقة وعبث الفئران.
في البداية، وجد صعوبة في النوم، ولكنه استسلم للنعاس بالتدريج. إن أحدًا لا يعرف حتى الآن ما هو الحلم الذي رآه وهو نائم ليجعله يترك الإبريق من يديه فيسقط على الأرض مُحدِثًا دويًّا هائلًا وقد تحوَّل إلى قطعٍ صغيرة.
(٣٣) الديك والدودة الصغيرة
لمح ديكٌ دودةً صغيرة تزحف على الأرض، فنفش ريشه واستجمع قُوَّته ورُوح القتال بداخله وانقضَّ عليها.
الإوَزَّة التي كانت ترقُبُه من بعيد، ظانَّةً أنه كان يحشد لمعركةٍ حامية، ضحكتْ وهي تقول ساخرةً منه: «يا لتلك الروح التي تُحرِّك الجبال!»
قال الديك في ثقة: «ليس من خيار! إن أصغر الأعداء لا بد أن يُعامَل معاملة الأعداء!»
(٣٤) البقرة وابنها
في صباح ربيعيٍّ جميل، أخذ الفلاح بَقرته وذهب ليحرث الحقل، وخلف البقرة كان صغيرها يسير متقافزًا نشطًا. عندما علَّق الفلاح البقرة في المحراث قالت لصغيرها: «اذهب يا حبيبي لتمرح وتلعب في ذلك المرعى القريب.» ولكن العجل الصغير الذي كان يحب أمه قال: «لا يا أمي، لا أريد أن أتركك في هذه الظروف الصعبة، سأتبعك في سيرك وأنا على ثقةٍ من أن وجودي خلفكِ طَوال الوقت سوف يُخفِّف عنك.» شعرتِ الأم بالسعادة وتركته، ولكنها كان يجب عليها أن تضع عينها عليه طوال الوقت خشية أن يعثر في سيره خلفها أو يضل عنها، ولذلك كانت بطيئةً في عملها على غير العادة.
الفلاح الذي ساءه ذلك، كان يحثُّها بالسوط من وقتٍ لآخر لكي تُسرع الخطى، كما كان نصيبها من السباب أكثر من أي وقتٍ مضى.
وأخيرًا قالت البقرة لابنها: «إن كنتَ تحبني حقًّا يا بني، اتركني الآن واذهب إلى ذلك المرعى، حتى لا يستمر الفلاح في عقابي بهذه القسوة التي ترى، يكفي ما تلقَّيتُه حتى الآن من سِياطٍ على ظهري بسببك.»
وأنا أريد أن أنصحك يا صديقي إن كان لي أن أفعل ذلك، هناك عواطف لا فائدة منها، ربما تكون عزيزةً عليك، ولكن غالبًا ما يكون من الأفضل التخلِّي عنها.
(٣٥) النسر وابنه
بعد أن حلَّق النَّسر العجوز ذات يوم لفترةٍ طويلة، هبط فوق صخرة على قمة جبلٍ شاهق وراح يحدث نفسه: «أنا أشعر بالتعب فعلًا ولا بد أن أستريح.» ولكنه بعد أن استراح طويلًا لم يستعِدْ قُوَّته ولا الرغبة في التحليق.
ابنه النسر الصغير القوي الذي كان يرى ذلك، جاء من البعيد البعيد وهبط إلى جوار والده لكي يحميه وقرَّرَ ألا يتركه وحيدًا. النسر العجوز الذي كان يشعر بضعفه يتزايد وابنه إلى جواره قال: ما هكذا يا بني، إنك بحراستك لي تُشعِرُني بمزيدٍ من الضعف والمرض. دعني أحاول. طِرْ أمامي، وحلِّق بجسارةٍ كي أراك، فلربما رفع ذلك من روحي وحفزني على الطيران.
حلَّق النسر الصغير في السماء والعجوز يراقبه، وفجأة … كان يطير بشجاعةٍ وجسارة مثله.
عندما ينسى شخصٌ كبير السن كيف يمشي، عليه أن يرى كيف يمشي الصغار، حينذاك ستتحرَّك قدماه!
(٣٦) الثعلب والسلطعون
عندما كان الثعلب يُطارد بطَّة، زلَّت قدمه ولم ينتبه إلى ما كان تحته فكاد أن يغرق في النهر، إلا أنه استطاع أن يتشبَّثَ بجذع شجرةٍ في اللحظة المناسبة فتسلَّقَه وخرج بسلام.
ومنذ ذلك اليوم، أصبح الثعلب يخاف النهر حتى الموت ويعتبره أكبر خطرٍ في العالم.
وبينما هو نائم ذات يوم، شعر بألمٍ شديد في ذيله مثل وخز الإبر، فقفز مذعورًا ليجد السلطعون قابضًا على ذيله بأسنانه الحادة.
وبكل ما كان يشعر به من ألمٍ وغضب، فكر الثعلب أن يُلقِّن السلطعون درسًا لا ينساه مدى الحياة، فقرَّرَ أن يُلقي به في النهر لكي يُغرقه.
ولكي لا يضيع وقته، حمله بسرعة وألقى به في الماء وهو يضحك قائلًا: والآن … سوف تتعلم ألا تستأسد مرة أخرى على الثعلب.
ولكن على عكس ما كان يتوقع، نظر السلطعون إليه وهو يضحك — أيضًا — قائلًا: «شكرًا يا سيدي علي عطفك وحنانك.» ثم انطلق في سلام.
الثعلب المصدوم، الذي طالما اعتبر نفسه أذكى الحيوانات، كان يقف مدهوشًا لا يستطيع أن يجد تفسيرًا لما حدث.
(٣٧) بوذا والجسر
بالقرب من أُخدودٍ عميق، وفي أحد المعابد النائية، كانت ثلاثة تماثيل خشبية لبوذا تقف في شموخٍ وكبرياء. الرَّجُلان اللذان جاءَا إلى المكان ولم يستطيعا عبور الأُخدود إلى الجانب الآخر فكَّرا طويلًا، ثم هداهما التفكير إلى إقامة جسر، ولم يجدَا أمامهما غير التماثيل التي أوحت إليهما بفكرةٍ جديدة.
إن أي تمثال من الثلاثة يصلح لأن يكون جسرًا سواءٌ من ناحية الطول أو المتانة.
دقَّقَ الرجلان النظر في المنحوتات. الأول، ذو الوجه الأخضر والأسنان الطويلة كان يقف مزهُوًّا وكأنه يُعبِّر عن قوة الرب وجبروته.
الثاني … كان الشرر يتطاير من عينيه؛ ولذلك لم يجرؤ الرجلان على لمس التمثالين الأولين.
كان التمثال الثالث يبدو عطوفًا رحيمًا، تعلو وجهه ابتسامة دعةٍ وطيبة. ومن النظرة الأولى تأكَّد للرجلين أنه الأنسب للقيام بدور الجسر.
فهو على الأقل … بوذا المتسامح الذي لن ينتقم منهم على فعلتهم.
حمل الرجلان التمثال خارج المعبد ووضعاه بين حافتي الأُخدود فوصل بينهما، ثم عبَرا إلى الناحية الأخرى بسلام.
بوذا، الذي ظل على وضعه مُستلقِيًا، كان يبكي وهو يقول: يا لها من أيام! تلك التي أعطت الفرصة لأمثال أولئك أن يستأسدوا في الأرض، بينما حرمتني القدرة على رد الإهانة لمجرد أن لي وجهًا رحيمًا.
(٣٨) العشب ودليل اتجاه الريح
قالت ورقة عشب لدليل اتجاه الريح: «يلومني الناس دائمًا؛ لأنني أميل مع كل ريح! ورغم أنك أسرع مني في الاتجاه مع الريح إلا أن أحدًا لا يذكرك بسوء … أيُّ ظلمٍ هذا؟!»
قال دليل اتجاه الريح: «أنتِ مخطئةٌ يا عزيزتي، إن واجبي هو الذي يُملِي عليَّ أن أُحدِّد اتجاه الريح لكي أُحذِّر الناس، ولكن ماذا عنك؟ إنك تميلين بمجرد أن يتحرك النسيم وتعرفين الاتجاه خلسة، وعندما تهبُّ الريح تستسلمين لقوَّتِها! لا تنسَي الفارق بيننا!
أنا أقابل الريح مباشرةً عندما تهبُّ وأُشير إلى اتجاهها، ولكنك تنحنين معها. إن الأمر لمختلفٌ جدًّا … أليس كذلك؟»
(٣٩) الطائر والتفاحات المعطوبة
بقيت ثلاث تفاحات على الشجرة، نسيها الجميع هناك حتى أصابها العَطَب كما وصفتها الشاعرة اليونانية «سافو» بحزنٍ شديد ذات يوم.
عصفت الريح، فأطاحت بالتفاحات التي سقطت فوق بعضها متدافعةً بالمناكب متنابذةً بالألقاب … فزاد العطب.
ذهبت التفاحات الثلاث يحتكمن لطائرٍ لكي يفصل بينهن، نظر الطائر مَلِيًّا ثم قال: «كيف لي أن أقضي بينكن وأنا لا أعرف ماذا حدث ولا سبب الشجار؟
كل ما أراه أمامي هو أنكن جميعًا فاسدات معطوبات، لا فضل لواحدةٍ على الأخرى، وكلما حميَ القتال بينكن زاد الفساد والعطب!»
(٤٠) الرحلة
بدأ رجُلان رحلتهما إلى إحدى المدن القريبة وانطلقَا في طريقهما، يتبع أحدهما الآخر. مضى وقتٌ طويل قبل أن يكتشفا أنهما قد ضلَّا الطريق.
قال الأول: «ظننت أنك تعرف الطريق ولذا تبعتك.
والآن يبدو لي أنك لا تعرفه.»
وقال الآخر: «وظننتُ أنا أيضًا أنك تعرفه، ولذلك سرت أمامك، معتمدًا على أنك سوف تقوم بتوجيهي إن أنا سلكتُ الطريق الخطأ، وإذا بك أنت الآخر لا تعرفه.»
(٤١) الثعلب والسلحفاة
بينما كانت السلحفاة تسير في طريقها ببطء، مستغرقةً في تفكيرٍ عميق، ظهر الثعلب أمامها فجأة، فما كان منها إلا أن أدخلت رأسها وأرجلها داخل جسدها الصلب. كان الجوع قد تمكن من الثعلب حتى إن مَعِدَته كانت تُصدِر أصواتًا عالية كأنها تستغيث؛ ولذا ما إن وجد السلحفاة أمامه حتى اندفع نحوها، إلا أنه لم يعرف كيف يأخذ قضمته من ذلك الجسد الصلب. فكر الثعلب طويلًا، ثم قرَّرَ أن يجلس بجوارها منتظرًا!
مرَّ وقتٌ طويل، حتى ظنَّت السلحفاة أن الثعلب قد انصرف فبدأت تُخرج رأسها بحذر، وكانت تلك هي اللحظة التي ينتظرها الثعلب فانقضَّ بأسنانه على رأسها ورقبتها.
صرختِ السلحفاة من الألم وهي تندب حظَّها قائلة: «كيف استطاع الثعلب أن يخدعني وأنا الأذكى؟» ضحك الثعلب ضحكة غرورٍ وانتصار وراح يقول: «آنَ الأوان لتعرفي أن الثعلب هو الأذكى.» وبمجرد أن فتح فمه للكلام كانت السلحفاة قد خلَّصَت رأسها من بين فكيه وأعادته إلى داخل جسدها. ومن ذلك المكمن الأمين كانت تقول: «كم أنت غبي أيها الثعلب! لقد عاد إليَّ ذكائي في اللحظة التي تخلَّى عنك فيها ذكاؤك!» ولم يكن أمام الثعلب سوى أن يركل جسد السلحفاة عدة مرات من شدة الغيظ وينصرف حزينًا، جائعًا!
(٤٢) القارب والمد
الرجل الذي كان يعرف أن المد سيجيء بعد قليل، صنع لنفسه قاربًا ووضعه على الشاطئ على أُهْبَة الاستعداد.
«عندما يأتي المد، وهو لا بد آتٍ، فسوف أُدلِّي القارب في النهر لأنطلق مع المدى الفسيح».
وعندما بدأ المد قليلًا قليلًا، قال الرجل: «من الأفضل أن أنتظر، وعندما يعلو المد أُنزل القارب.» وعندما بدأ المد في الارتفاع قال الرجل: «بعد قليلٍ سوف يعلو بما فيه الكفاية.»
ثم إنه أزاح قاربه قليلًا إلى مسافةٍ أبعد من الشاطئ … ارتفع المد وارتفع، فأزاح الرجل قاربه أبعد فأبعد حتى صعد به إلى التل.
الرجل الذي كان يعرف أن المد سيجيء بعد قليل وقف يقول لنفسه: «لعل الوقت غير مناسبٍ الآن للنزول بالقارب فالمد عالٍ أكثر مما ينبغي.»
(٤٣) الذكاء بعينه!
الثَّرِي الذي كان على درجةٍ كبيرة من البخل، أعطى خادمه زجاجةً وطلب منه أن يشتري له خمرًا … ولم يُعطِه نقودًا.
الخادم المدهوش تساءَل في حيرة: «كيف أشتري شيئًا يا سيدي دون نقود؟» قال الثري: «إن أي إنسان يمكنه أن يشترى خمرًا بنقود، هذا أمر عادي. أما أن يشتريها دون نقود فذلك والله الذكاء بعينه، وهو دليل كفاءة ومقدرة.»
خرج الخادم متجهًا إلى السوق وهو يفكر، وبعد قليلٍ عاد بذات الزجاجة ليقدمها إلى سيِّده قائلًا: «لقد اشتريت الخمر … تفضل يا مولاي!»
الثري الذي كان على درجةٍ كبيرة من البخل، راح يتأمَّل الزجاجة فارغةً ثم قال للخادم: «ماذا أشرب أيها الأحمق؟ إنها فارغة.»
قال الخادم: «إن أي إنسان يمكنه أن يشرب الخمر من زجاجةٍ مملوءة به، أما أن يشربها من زجاجةٍ فارغة فذلك والله الذكاء بعينه، وهو دليل كفاءة ومقدرة!»
(٤٤) النحَّات والتمثال
راح النحَّات يعمل بكل جِدٍّ ومثابرة إلى أن استطاع في النهاية أن يصنع تمثالًا ضخمًا من الحجر الصَّلد. استجمع كل قوته ورفعه على قدميه ثم راح مزهُوًّا يطوف به وهو سعيدٌ بما صنعت يداه.
فجأةً فتح التمثال عينيه، وعندما رأى النحَّات يطوف حوله صرخ فيه غاضبًا: «من أنت؟ وكيف لك أن تجرؤ على الوقوف أمامي؟»
كان النحَّات قد رأى في المنام أنه يصنع تمثالًا على هيئة الإله الذي يعبده، ولكنه الآن بعد أن رأى غضب الإله الجمِّ ركع أمامه في ضعةٍ وراح يستعطفه: «عفوك ورضاك يا سيدى عن عبدٍ ذليل!»
وسرعان ما لاحت على وجه التمثال ابتسامة رضا، طابت نفس المثَّال الذي شمله الإله بعطفه وكرمه.
تقول الأجيال التالية التي استمعت إلى هذه القصة إن التمثال الحجري نسي أن النحَّات الصغير هو الذي رفعه على قدميه وجعله يقف وإن النحَّات الصغير أيضًا قد نسي أن التمثال مِن صُنعِ عقله ويديه … ثم تبدَّلَت الأدوار.
(٤٥) أسماء!
معجبًا بقطِّه الماهر في صيد الفئران، أسماه صاحبه «نَمِرًا»، وراح يتباهى بذكائه وشجاعته أمام ضيوفه. وذات يومٍ قال أحدهم بعد أن توسَّم في القط تلك الصفات: «لماذا لا تُسمِّيه «تِنِّينًا» يا صديقي؟ إن التِّنِّين أقوى من النَّمِر.» فوافق الرجل وسمَّى قطَّه بالتنين.
وجاء ضيفٌ آخر فقال لصاحبه: «إن التِّنِّين يصعد إلى السماء معتمدًا على السحب، فلماذا لا تُسمِّيه «سحابًا»؟» فوافق الرجل.
ثم كان ضيفٌ ثالث توسَّم في القط شجاعةً وقوة فقال: «لماذا لا تُسمِّيه «الريح» إنها والله لأقوى من السحاب الذي يتلاشى أمام جبروتها؟» فوافق الرجل وسمَّى قطه «ريحًا». ثم جاء ضيفٌ رابع ليقول: «ولماذا لا تُسمِّيه «جدارًا» إنه الشيء الوحيد الذي يستطيع الصمود أمام الريح مَهما عصفت؟» فغيَّر الرجل اسم القط إلى «جدار».
ثم كان ضيفٌ خامس ليكتشف كل مواهب القط فقال لصاحبه: «مهما كانت متانة الجدار يا صديقي، فإن فأرًا صغيرًا يستطيع أن يثقبه … لماذا لا تُسمِّيه «فأرًا»؟!»
(٤٦) الحوت الطيب
كان القرش، أكثر الأسماك شراسةً ووحشية في البحر، يقضي معظم يومه في مطاردة الأسماك الصغيرة وابتلاعها؛ ولذلك كانت كل الحيوانات البحرية تهرب من أمامه في اللحظة المناسبة كلما رأته قادمًا من بعيد. وعلى العكس منه، كان الحوت رحيمًا طيِّب القلب، يُشفق على الأسماك الهاربة أمام القرش فيفتح لها فمه وهو يقول مبتسمًا: «لا تخافي أيتها الأسماك الصغيرة، تعالي واختبئي في فمي لكي أحميك من غدر القرش.» وكانت أسراب السمك تنطلق نحوه وتدخل في فمه راضيةً فيغلقه عليها، ثم يُخرِج الماء من فتحةٍ في أعلى رأسه في حركةٍ استعراضية.
أما القرش فلم يكن يجرؤ على مواجهة الحوت، أضخم، وأقوى كائنٍ في البحر، وكان حين يراه يفِرُّ من أمامه مذعورًا … وبعد لحظات كان الحوت يفتح فمه بنفس الرقة والرحمة ليستقبل سربًا جديدًا من الأسماك!
على مسافةٍ قريبة. كانت السلحفاة التي ترقب المشهد تتعجَّب قائلة: رغم أن الحوت يقوم بدور المنقِذ لتلك الأسماك الصغيرة، إلا أنني أراها دائمًا تدخل فمه ولا تخرج منه أبدًا!
(٤٧) السحب الصباحية
كل صباح، كانت عروس البحر الجميلة تصعد إلى الجزيرة قبل شروق الشمس وتجلس على الصخرة الشاهقة. ولكن شقيقتها الكبرى التي ترى ذلك مَضْيَعةً للوقت، كانت تُطِلُّ برأسها من الماء كل صباح وتُوبِّخها: «أيتها الكسولة التي لا تعرف قيمةً للوقت، أليس لديكِ ما يستحق العمل قبل أن تخرج الشمس من بيتها؟»
فكَّرت عروس البحر في كلام شقيقتها ومدَّت يدها لتجذب من البعيد والقريب كل ما تستطيع من سحب وضباب وراحت تنسج منها ثوبًا جميلًا. وعندما استيقظت شمس الصباح وخرجت من بيتها كان أول شيءٍ تفعله هو أن تُلقي بأشعتها الذهبية على سطح الماء وتتخلَّل نسيج العروس الذي تحوَّل إلى سحابة تضوي بكل ألوان قوس قزح.
(٤٨) رجل وشجرة وعصفور
في أحد أيام الصيف الحارَّة، جلس رجلٌ تحت شجرة يستظلُّ بظلِّها. بينما هو كذلك سقطت مُخلَّفات عصفورٍ فوق رأسه تمامًا. نهض الرجل في فزعٍ والتقط حجرًا قذف به إلى أعلى الشجرة صَوْبَ العصفور الذي طار وحلَّق بعيدًا دون أن يمسسه سوء.
جُنَّ جنونُ الرجل فأمسك بفأسٍ وانهال على جذع الشجرة يقطعه، فزعت الشجرة وأخذت تبكي وهي تقول: «قد أنعمتُ عليك بظل، فهل يكون هذا جزائي؟» قال الرجل:
«ألم تشاهدي العصفور المتربِّع على غصنك وهو يُلقي عليَّ بمخلَّفاته؟» قالت الشجرة: «وما ذنبي؟» قال: «بل هو ذنبك وما كان ذلك ليحدث إلا بسببك، ومَهما بكيتِ وتوسَّلتِ فلا بد أن أقطعك.» واستمرَّ الرجل يعمل فأسه بقوة، وما هي إلا دقائق معدودة حتى سقطت الشجرة وهي تقول باكية: «إن معظم كوارث هذا العالم سببها الجهل، وما أنا إلا إحدى ضحاياه.»
(٤٩) الحقيقة والوهم
مشت الحقيقة عاريةً في الطريق، فأخذ الناس ينظرون إليها باستغراب!
كانت الحقيقة ذاهبةً إلى القصر لمقابلة الملك. على باب القصر، استوقفها أحد الحراس الأشِدَّاء:
– مَن أنتِ؟
– أنا الحقيقة.
– وماذا تريدين؟
– أرجو أن تخبر جلالته أنني قد جئتُ لمقابلته.
ذهب الحارس إلى وزير البلاط وأخبره بما حدث، فقال الوزير: لا بد أنها امرأةٌ مجنونة، اصرفها من هنا فورًا.
وذهب الحارس ليطرد الحقيقة، بينما ذهب الوزير لينقل الرسالة إلى الملك الذي ضحك وهو يقول: حقيقة عارية؟! يا له من سُخف!
ارتدَتِ الحقيقة لباس الفقراء ومشَتْ في الطريق، فلم يُعِرْها أحدٌ أدنى اهتمام … كانت مرة أخرى ذاهبةً إلى القصر لمقابلة الملك.
وعلى الباب استوقفها أحد الحراس الأشِدَّاء وسألها نفس الأسئلة.
فقالت: أنا واعظة، وأريد أن أقابل جلالته.
ذهب الحارس ليخبر الوزير أن هناك امرأة في ثيابٍ بالية تدَّعي أنها واعظة وتريد أن تقابل جلالة الملك. فكَّر الوزير للحظات ثم قال: كيف تجرؤ واعظةٌ في ثيابٍ رثَّة أن تطلب لقاء الملك؟ أخبِرْها بأن تذهب إلى الكنيسة لتعِظ الدَّهْماء هناك.
نقل الحارس الرسالة إليها، وطردها شرَّ طردة.
وعندما أخبر الوزيرُ الملكَ بما حدث قال جلالته غاضبًا: ألا يكفي ما أسمعه من مواعظ تافهة؟!
ارتدَتِ الحقيقة هذه المرة ملابس زاهية ومشَتْ في الطريق، كان كل من يلتقيها يُحيِّيها باحترام ويتبعها ويستمع إلى ما تقول … كانت الحقيقة في الطريق للقاء الملك.
ومثل كل مرة، استوقفها الحارس ولكنه سألها باحترام: هلَّا تفضلتِ يا سيدتي وأخبرتِني باسمك وبسبب مجيئك؟
قالت: أنا الوهم! وقد جئتُ لمقابلة جلالة الملك.
انطلق الحارس ليخبر الوزير: بالباب يا سيِّدى سيدةٌ أنيقة، تقول إن اسمها الوهم وترغب في لقاء جلالة الملك. فهرع الوزير وذهب ليخبر الملك الذي هبَّ واقفًا:
– افتحوا الأبواب، ولْتُعزَف الموسيقى.
وخرج الملك والملكة والحاشية وعِلْية القوم ليكونوا جميعًا في استقبال الوهم.
هكذا استطاعتِ الحقيقة أن تدخل القصر في النهاية.
(٥٠) القط الصاخب والكلب الصموت
كان لرجلٍ قطٌّ يصطاد له الفئران وكلب يحرس له منزله. ولكن القط كان لا يكفُّ عن المُواء فلم يُمسِك بفأرٍ واحد، ثم إن صاحب المنزل لم يغمض له جفنٌ بسبب الإزعاج.
اشتعل غضب صاحب المنزل فتناول السوط وراح يجلد القط بلا رحمةٍ وهو يقول: «ولِمَ كل هذا الإزعاج؟ إياك أن ترفع صوتك مرة أخرى!»
عندما سمع الكلب ذلك، قال لنفسه: «لا ترفع صوتك إذن وإلا كان مصيرُك مثل القط.»
وفي اللية ذاتها، تسلَّلَ لصٌّ إلى المنزل وسرق أشياء كثيرة. كان الكلب يرى كل شيء ولكنه لم يجرؤ على النُّباح.
في الصباح اكتشف صاحب المنزل السرقة، فأمسك بالكلب وانهال عليه بالسوط وهو يقول: «لماذا لم تنبح عندما رأيتَ اللص؟ لماذا لم تُحدِث جَلَبةً لتُنبِّهنا؟»
وأنت يا صديقي سيكون مصيرك الجَلْد — طبعًا — إذا رفعتَ صوتك عندما لا يكون عليك أن تفعل ذلك … وأيضًا إذا لم ترفعه عندما يكون من الضروري أن تفعل ذلك.