تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق
«شيئانِ يَملآنِ الوِجدانَ بإعجابٍ وإجلالٍ يَتجدَّدانِ ويَزدادانِ على الدوامِ كلما أَمعنَ الفِكرُ التأمُّلَ فيهما: السماءُ ذاتُ النجومِ من فَوقي، والقانونُ الأخلاقيُّ في صدري.»
إذا أمكنَ لنا أن نُقسِّمَ تاريخَ الفلسفةِ إلى مرحلتَين، فستَكونُ فلسفةُ «كانْت» هي النُّقطةَ المِفصليةَ التي دشَّنَت ثورةً كوبرنيكيةً غيرَ مسبوقةٍ في التفكيرِ البَشريِّ تَحدَّدَتْ بها مَعالمُ مرحلةٍ جديدة؛ ﻓ «كانْت» هو جغرافيُّ العقلِ البشريِّ الذي أمكنَ له أن يُحدِّدَ خرائطَ التفكيرِ الحديثِ في صُورتِها الأشدِّ تجريدًا ومثالية. وفي كتابِه هذا الصادرِ عامَ ١٧٨٥م، والذي يُمثِّلُ ثمرةً ناضجةً من ثِمارِ المرحلةِ النقديةِ لفلسفتِه، يُؤسِّسُ «كانْت» لمَعالمِ الأخلاقِ الحديثةِ تأسيسًا جذريًّا؛ إذ يجعلُ من فِكرةِ «الحُريةِ» الشَّرطَ الوحيدَ لوجودِ الأمرِ الأخلاقيِّ المُطلَق؛ فالحُريةُ عنده ليسَت سوى الخضوعِ الإراديِّ للقانون (أو التحديدِ الذاتيِّ مثلما يُسمِّيه) الذي يُشرِّعُه الإنسانُ لنفسِه ولغيرِه؛ فعلى كلِّ إنسانٍ حين يَفعلُ فعلًا أخلاقيًّا أن يُعامِلَ الإنسانيةَ في شخصِه وفي شخصِ كلِّ إنسانٍ سواه باعتبارِه دائمًا غايةً في ذاتِه لا وسيلة.