مقدمة المُترجم
يُعد تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ثمرةً ناضجة من ثمار المرحلة النقدية في فلسفة كانْت.
ظهر
الكتاب في عام ١٧٨٥م في ريجا
Riga لدى الناشر يوهان فريدريش هارتكنوخ
J. F. Hartknoch؛ أي بعد ظهور الطبعة
الأولى من كتابه الرئيسي «نقدُ العقل الخالص»
١ بأربع سنوات، وقبل طبعته الثانية بعامَين، ولَكِنَّ كانْت كان قد اكتسب الفكرة
الأساسية في مذهبه الأخلاقي منذ عام ١٧٧٠م، وهو العام الحاسم في نشأة فكره النقدي كله،
والذي
ظَهرَت فيه رسالته اللاتينية «صورة ومبادئ العالم الحسِّي والعالم العقلي» متضمنةً لِنظريته
في
الزمان والمكان كصورتَين قَبْليَّتَين من صور الحساسية كما سنراها فيما بعدُ في عمله
الرئيسي،
مُمهِّدةً للطريق النقدي الذي سيشغل الفلسفة الحديثة من بعده إلى يومنا هذا. كان هذا
العام هو
عام الكشف الخطير، الذي سيُؤدِّي إلى ثورة في العلوم العقلية، تشبه الثورة التي أحدثها
كوبرنيكوس في علم الفلك؛ ثورة في منهج «الفكر الإنساني»، بدأت من «نقد العقل الخالص»
وامتدَّت
إلى جميع العلوم، فهَدمَت صَرح الميتافيزيقا السائدة في عصره، ووَضعَت مكانها بناءً مُحكَمًا
متماسكًا، وأَرسَت أُسُس أخلاقٍ جديدة. نمَت هذه الأخلاق مع نظرية المعرفة في وقتٍ واحد،
وامتدَّت
بجذورها في أرض النقد؛ بحيث يكون من الخطأ البالغ أن نُحاول الفصل بينهما، أو أن نبحث
أحدهما
بِمعزِلٍ عن الآخر.
استطاع كانْت في هذا الكتاب لأَوَّل مرةٍ أن يدعم أفكاره عن الأمر الأخلاقي المطلق،
وأن يعرض
الخطوط الرئيسية للأخلاق النقدية، وأن يُمهِّد بذلك خير تمهيدٍ لكتابه الرئيسي في الأخلاق،
ونعني به «نقد العقل العملي» الذي سيظهر في عام ١٧٨٨م. كان كانْت حريصًا على أن يُبسِّط
مذهبه
الأخلاقي للقارئ العادي، فأراد أن يجعل من كتابنا هذا شبيهًا بكتابه «مقدِّمات لكل ميتافيزيقا
مستقبلة تريد أن تصبح علمًا» الذي نشره قبله بعامَين، وأراد به أن يُوضِّح لعامَّة القُراء
ما
استعصى عليهم فَهمُه من «نقد العقل الخالص» (وكم أحزنه أن يُسيء الناس استقباله وفهمه
حزنًا
كاد يُخيِّب أمله!) ولكن النجاح الشعبي الذي عقَد عليه الآمال لم يتحقق بكليته؛ فإن الفصل
الأوَّل الذي يبدأ فيه من «المعرفة العقلية الشائعة بالأخلاق» قد صادف قبولًا لدى القراء؛
إذ عَرف كانْت كيف يعالج هنا أفكارًا ومشكلاتٍ يتعرض لها كل إنسانٍ في كل يومٍ ويُحاول
أن يُحدِّد
موقفه منها، كما عَرف كيف يَستشهِد لما يقول بأمثلةٍ مُستقاة من الحياة اليومية التي
نحياها
جميعًا. فلما انتقل إلى الفصل الثاني وحاول أن يدعم بعض أفكاره الفلسفية دعمًا فلسفيًّا،
شق
على بعض القُراء أن يتابعوه، ووجدوا في لغته المُعقَّدة عناءً أيَّ عناء. حتى إذا وصل
إلى الفصل
الثالث والأخير، وحاول أن يضع يد القارئ على لُبِّ مذهبه الأخلاقي، ونَعنِي به فكرة الحرية،
استبدَّ اليأس بأغلب القُراء، وأحسُّوا كأنهم يسيرون في غرفةٍ معتمة كما كان «جوته» يقول
كلما
قرأ شيئًا لكانْت! إنهم لَيَقرءون ويَقرءون، دون أن يفهموا ما يَقصِده الفيلسوف. كان
عليهم إمَّا
أن يستسلموا لليأس من فهمه، وذلك ما فعله الكثيرون، أو يعكفوا على دراسته دراسةً شاقَّة
صارمة
قد تمتد لسنواتٍ طويلة، والقليلون هم الذين واتتهم الشجاعة والصبر على ذلك، وفي مقدمتهم
الشاعر العظيم شيللر (١٧٥٧–١٨٠٤م). لقد كانَت الصعوبة التي وجدها القُراء — وما يزالون
يجدونها ويتنهَّدون منها حتى اليوم في فهم كانْت — هي النتيجة الطبيعية للحياة الصلبة
النادرة
التي عاشها الفيلسوف، ولأربعة عشر عامًا طويلةً عاشها يومًا بعد يوم، بل ساعةً بعد ساعةٍ،
بين جدران عالَمه النقدي، يصحو وينام وهو يسأل نفسه أسئلة كهذه: كيف تصبح القضايا التركيبية
القَبلية ممكنة؟ كيف أستطيع أن أجمع بين عُنصرَين مُتنافرَين كالمحسوس والمعقول؟ كيف
أوفق بين
عالم الطبيعة الذي تُسيطِر عليه الضرورة، وبين عالم الأخلاق الذي تسوده الحرية؟ كيف يضع
العقل
قوانين العالم، وماذا يستطيع أن يعرف، وما هي الحدود التي عليه أن يقف عندها فلا يتعداها؟
ما الذي يجب عليَّ أن أفعله وأيُّ أملٍ أستطيع أن آمُله؟ … إلخ حتى تنتهي هذه الأسئلة
جميعًا إلى
سؤال الأسئلة وتصُب فيه: ما هو الإنسان؟
عالمٌ كما نرى غريبٌ على معظم الناس، لا عجب أن ينفر منه رجل الشارع، كما ينفر منه
المنطقي
والديالكتيكي والميتافيزيقي السادر في ضباب أحلامه، ولا عجب أيضًا أن يخرج كانْت منه
إلى
الناس وقد تَكَوَّن فكره العبقري، وتَشَكَّل أُسلوبه بالصورة التي نعرفها اليوم، والتي
نُحاول أن
نقترِب منها، فيختلف نصيبنا من الإخفاق والتوفيق.
لا تقوم الأفكار الأساسية للأخلاق عند كانْت كما يذهب البعض خطأً، على أساس قَبْليٍّ
بحت سابق
لكل تجربةٍ إنسانية؛ فلا يصحُّ هنا أن نخلط أَوَّل المذهب بآخره، ومقدِّمته بنتائجه.
لقد كان وهو
يضع هذا الكتاب دائم التفكير فيما تُقدِّمه له التجربة، دائم الاشتغال بالعلوم التجريبية
بِوجهٍ
عام، متصلًا اتصالًا لا ينقطع بالحياة اليومية وبما يسميه بالعقل الإنساني الشائع المُشترَك.
لقد وصل عن طريق التجربة إلى أن الأفكار الأساسية في الأخلاق، مثلها في ذلك مثل القوانين
الطبيعية بوجهٍ عام والمُسلَّمات التي يفترضها كل كائنٍ عاقل عند كل تجربةٍ يمارسها،
إذا أراد أن
يصل إلى معرفةٍ من أي نوع، إنما نجد أَصلها ومُستقرها في العقل، ولا تأتي من التجربة
بأية حالٍ
من الأحوال. وإذن فنحن بصددِ معارفَ قَبْليةٍ سابقة على كل تجربة، ولكن لا ينبغي أن يغيب
عن
أذهاننا أن كانْت وهو يضع مذهبه في الأخلاق كان يضع الوجود العيني الواقعي بِجانبَيهِ،
الإنسان
والطبيعة، نُصْب عَينَيه دائمًا، وأن ميدان التجربة وكل تجربةٍ ممكنة على وجه الإجمال
لم يَغِب عن
باله أبدًا. غَيرَ أنَّه في عَرضِه لِمَذهبه لا يُقدِّم لنا الحالة الفردية ولا الموقف
الجزئي، بل يحرص
على أن يُقدِّم لنا الطابع النموذجي العام في شكلٍ تجريدي. إنه يسير على عكس جوته الذي
يبدأ من
العيان والمشاهدة، من الفرد والموقف الجزئي لِيَترك لقارئه أن يستخلص بنفسه العام النموذجي؛
ذلك أن المهمة التي يُلقيها كانْت على عاتق قارئه أَشَد عسرًا، فهو يُطالِبه باستخلاص
الخاص من
العام، والفردي من المُجرَّد، وإن كان الخاص والفردي هما النقطة التي انطَلقَت منها تأمُّلاته.
٢
•••
هل من العسير علينا حقًّا أن نتصور أن الأصل في الأفكار الأساسية في الأخلاق، وفي
مُقدِّمتها
الأمر الأخلاقي المُطلَق، هو العقل الخالص نفسه؟ إن الإنسان مِنَّا ليس في حاجة إلى بحثٍ
طويل
يَدلُّه على أن هناك نوعَين من المعارف، تلك التي نستمدها من التجربة؛ فهي لهذا السبب
معارفُ
عرضية جزئية تحتمل التعدُّد والاستثناء، وتلك التي تنبع من العقل؛ فهي لهذا السبب معارفُ
ضرورية مُطلَقة شاملة. من هذه الأخيرة نَذكُر معارفنا الرياضية، ومعارفنا في العلوم الطبيعية،
التي تتيح لنا قوانينها الضرورية العامة أن نتنبأ بما يحدث في الكون الأكبر والكون الأصغر،
في المَجرَّات الهائلة وفي جزئيات المادة المُتناهِية في الصِّغَر، ومَعرِفتُنا بالأَمرِ
الأَخلاقي الذي
يصلح لكل إنسانٍ في كل زمان ومكان؛ لأنه قانونٌ عقلي مُطلَق، يَصدُر في أوامره عن العقل،
مُستقِلًّا
عن كل تجربة.
إننا نعيش بأشخاصنا في عالَمَين مُختلفَين؛ فنحن بإحساساتنا ودوافعنا وميولنا ننتمي
إلى
العالم الحسي ونَخضَع للقوانين الطبيعية التي تَتحكَّم فيه، ونحن بِعُقولنا وحدها أعضاءٌ
في العالم
المعقول، مواطنون في مملكةٍ نيِّرة نبيلة يُسمِّيها كانْت بمملكة الغايات في ذاتها. إن
«جوته»
يُعطِينا المفتاح الذي نَفهَم به هذه الازدواجية المُؤكَّدة عند كانْت حيث يقول على لسان
فاوست:
نَفْسان آه! تسكنان صدري،
تَوَدُّ الواحدة لو تنفصل عن الأخرى:
إحداهما، في لذَّة الحب العارمة،
تتشبث أعضاؤها المُتصلِّبة بالعالم،
والأُخرى تَرتفِع في كبرياءٍ من التراب،
إلى نعيم الجُدود الأَعلَين.
فاوست، الجزء الأوَّل
يقول الأمر الأخلاقي المُطلَق: «افعل الفعل بحيث يمكن لِمُسلَّمة سلوكك أن تُصبح
مبدأ تشريعٍ
عام.» أو بعبارةٍ أَدقَّ بحيث تريد لها أن تُصبِح قانونًا عامًّا لجميع الناس. كما يقول
في صيغةٍ
أخرى: «افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسانٍ سواك باعتبارها دائمًا،
وفي الوقت نفسه غايةً في ذاتها، ولا تُعامِلها أبدًا كما لو كانَت مُجرَّد وسيلة.» هنا
تصبح
المشكلة العسيرة، ألا وهي كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكنًا؛ فالتجربة لا تستطيع أن تُقدِّم
لنا
مثالًا واحدًا يؤكد أن الأمر الأخلاقي يمكن أن يَرِدَ فيها في صورته الخالصة. وليس هناك
مثالٌ
تجريبي ينهض دليلًا على صحة الأمر الأخلاقي كما تنهض التجربة السليمة دليلًا على صحة
القانون الطبيعي وضرورته في كل الأحوال. ومع ذلك فنحن نستطيع أن نُفسِّر كيف يصبح الأمر
الأخلاقي ممكنًا إذا تَعمَّقنا النظر في هذه الازدواجية التي يتميز بها وجودنا والتي
تُحدِّثنا
عنها الآن؛ أعني إذا انتقلنا خطوةً من التجربة إلى الميتافيزيقا — لا الميتافيزيقا
التقليدية، بل الميتافيزيقا التي شَيَّدها كانْت مذهبًا عقليًّا على أساسٍ نقدي سليم
— فلم نبدأ
من التجربة، بل من تَصوُّر الإنسان لطبيعته من حيث هو كائنٌ عاقل؛ فالعالم بالنسبة لهذا
الكائن
العاقل وحدة تجمع في شخصه بين عالم الطبيعة وعالم العقل (هذا الموقف نابعٌ من تمييز المثالية
الترنسندنتالية عند كانْت بين الظاهرة والشيء في ذاته، ومن النزعة الغالبة عليه في التوفيق
بين المذهب التجريبي والمذهب العقلي)؛ فهناك العالم الحسي الذي ننتمي إليه باعتبارنا
كائناتٍ
حسية تُحدِّدها القوانين الطبيعية كما تُحدِّد الأشياء والظواهر من حولنا. وهناك من ناحيةٍ
أخرى
العالم المعقول الذي ننتمي إليه كذلك، ولكننا نقوم بتحديد أنفسنا ونُشرِّع قوانين أفعالنا
ونعتبر أحرارًا بِمقدارِ خضوعنا لهذه القوانين؛ فليست الحرية إلا هذا الخضوع الإرادي
للقوانين،
أو التحديد الذاتي Selbstbestimmung على حدِّ تعبير كانْت.
والإنسان حرٌّ بقَدْر ما يخضع للقانون الذي يضعه هو نفسه لنفسه. ومِنْ ثَمَّ كانَت فكرة
الحرية التي أستمدَّها من العقل والتي تجعَلني عُضوًا في العالم المعقول هي الشرط الوحيد
الذي
يجعل الأمر الأخلاقي المُطلَق ممكنًا.
ولكن كيف لي أن أُطِيع هذا الأمر الصارم المُطلَق، وكيف أَخضَع «لِينبغي» و«يجب» القاسيتَين،
وأطرح كل ميولي ودوافعي، وأَغُض النظر عن كل منفعةٍ قد تترتب على فعلي بينما أنا في نفس
الوقت
كائنٌ حسي كما أنا كائنٌ عاقل؟ إن الجواب الوحيد على ذلك هو في الحقيقة التي تقول إنني
أنا
الذي أُشرِّع لنفسي هذا القانون، وإنني أنا الذي أُحدِّد نفسي في كل فعلٍ أُقدِم عليه،
وإن الاحترام
الذي أَحمِله للقانون الذي أُشرِّعه لنفسي هو وحده الذي يجعلني أُنفِّذ بالفعل ما يَأمُر
به الأمر
الأخلاقي المُطلَق بالعقل. إنني أَعصِب عيني عن كل جزاءٍ يمكن أن يترتب عليه، وأَزهَد
في كل منفعةٍ
قد تأتيني منه، وأُلغي كل رغبةٍ أو أملٍ قد يتحقق من ورائه، ولا أُقدِم على الفعل إلا
لأنني أجد
أنه فعلٌ صحيح وحق في ذاته، وأنه يتفق مع قاعدة سلوكي التي استقيتُها من العقل الخالص
ورفعتُها
بذلك إلى مستوى القانون الضروري المُطلَق. هناك أَصِل إلى الحدِّ الذي ليس للإنسان أن
يَتعدَّاه؛
فليس لي أن أسأل عن ماهية هذا الأمر الأخلاقي؛ لأنني لن أعرف عنه شيئًا. إنَّ كانْت سيقول
لي
عندئذٍ — في نغمةٍ لا تخلو من الحزن والمرارة وإن نَبعَت من معرفةٍ عميقة بحدود الإنسان
وإدراكٍ
أليم لِتناهيه — إنك لن تفهم من الأمر الأخلاقي في نهاية المطاف إلَّا أنه لا سبيل إلى
فهمه …
بَقِيَت كلمةٌ أخيرة عن تصوُّر الواجب؛ فمن المعروف أن الشاعر العظيم فريدريش شيللر
كان في
مُقدِّمة من تأثَّروا تأثرًا شديدًا بمذهب كانْت الأخلاقي، وأنه استطاع في كتاباته الفلسفية
بعد
ذلك أن يضع نظريةً في الأخلاق تَختلِف في بعض ملامحها عن نظرية كانْت.
ففي مقالة شيللر الشهيرة «عن الرقَّة
والكرامة
über Anmut und Würde» نَجِده يأخذ على «الحكيم العالمي»، مع كل ما يحمله له من إعجابٍ
وتقدير، ما في فكرة الواجب عنده من صلابةٍ وقسوة. يقول شيللر:
إن فكرة الواجب في فلسفة كانْت الأخلاقية تتميز بصلابةٍ تفزع منها جميع العواطف
الرقيقة، وقد تُغرِي ضعاف الفَهمِ في سهولةٍ على أن يبحثوا عن الكمال الأخلاقي في زهد
الرهبان.
والحق أن كلمة «الصلابة» تنطبق على مذهب كانْت في الواجب تمام الانطباق؛ فنحن نُحس
بغير
قليلٍ من الصلابة في هذا الصوت الصارم الرهيب الذي يدعونا إلى أن نتخلَّى عن عواطفنا
وميولنا
وإحساساتنا ولا نُطيع إلا أمره البارد المُطلَق القاسي. ونحن نُحس بغير قليلٍ من الصلابة
في فعل
«يجب» الذي يأمرنا بأن نُؤدِّي الفعل دون أن ننتظر جزاءً نجنيه من ورائه، لا بل دون أن
نُمنِّي
النفس بأدنى نصيبٍ من السعادة. ومع ذلك فينبغي علينا إنصافًا للحكيم العالمي كما يسميه
شيللر
بِحقٍّ ألَّا نُغفِل هذا النُّبل النادر الرفيع الذي يُجلِّل هامة الإنسان حين يخضع للقانون
الأخلاقي
لِمجرَّد أنه قانونٌ نبَع من عقله الخالص، ولا أن نُنكِر ما يشعر به بلا شكٍّ من الرضا
والارتياح في
الوفاء بمثل هذا الواجب. ولا بد هنا من أن نُفرِّق بين الواجب كما نفهمه اليوم ونقصد
به في
الغالب نوعًا من الجَبر يُفرَض علينا من الخارج، ويرزح على كواهلنا كأنه عبءٌ ثقيل بغيض،
وبين
الواجب كما يفهمه كانْت؛ فأنا حين أُؤدِّي واجبي لا أخضع في رأي كانْت لقوةٍ خارجية أيًّا
كان
سلطانها، وإنما أفعل الفعل بما يتفق مع قانونٍ وضعته لنفسي بنفسي، ولا أخضع له إلا لأنني
أنا
الذي شَرَّعتُه لنفسي. وليس في ذلك شيءٌ من التعسُّف أو الفوضى؛ لأن هذا القانون لن يستحق
اسم
القانون حتى يكون «حُكمًا تركيبيًّا قَبْليًّا» على حد تعبير كانْت، يصدر عن العقل الخالص
وعن
العقل الخالص وحده. وقد كان شيللر من أوائل الذين عرفوا بإحساسهم المثالي النبيل ما في
فكرة
الواجب الكانْتية من صدق وعمق. ولعل أجمل تعبيرٍ عن ذلك ما يقوله لصديقه كورنر Körner في رسالة له بتاريخ ١٨ فبراير ١٧٩٣م: «لا شك أنه ما من
إنسانٍ فانٍ نطَق بكلمةٍ أعظم من هذه الكلمة التي يقولها كانْت، والتي تُعبِّر عن مضمون
فلسفته
كلها: «حَدِّد نفسَكَ بنَفسِك».»
•••
عندما مات كانْت في اليوم الثاني عشر من فبراير ١٨٠٤م، بعد أن هَمسَت شفتاه بالكلمة
التي لا
يجد الحكيم خيرًا منها ليختم بها حياته: «حسن Es ist gut»،
أَعلَنَت مدينة كونجسبرج التي لم يكَد يغادرها طوال حياته الخصبة المنتظمة الحِدادَ العامَّ
وحَملَه
أهلُها إلى مَقَره الأخير في كاتدرائية المدينة. هناك نقَشوا على قبره بحروفٍ من ذهب
هذه العبارة
الشهيرة التي وردت في ختامِ نقدِ العقل العملي: «شيئان يملآن الوجدان بإعجابٍ وإجلالٍ
يَتجدَّدان
ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمُّل فيهما: السماء ذات النجوم من فوق والقانون
الأخلاقي في صدري.»
فإذا أفلح هذا الكتاب — في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى الأخلاق — في أن يُعيد للأمر
الأخلاقي شيئًا من جلاله ورهبته، فحسب مُؤلِّفه العظيم أن يكون جزاؤه من قُراء العربية
هذه
الجزء.
عبد الغفار مكاوي
القاهرة، يوليو ١٩٦٣م