الانتقال من المعرفة العقلية المشتركة بالأخلاق إلى المعرفة الفلسفية
من بين الأمور التي يمكن تَصوُّرها في هذا العالم، أو خارجه، لا يوجد شيء يمكن عدُّه خيرًا على وجه الإطلاق ودون قَيد، اللهم إلا شيء واحد، هو: الإرادة الخَيِّرة.
هناك بعض الخصائص التي تسند هذه الإرادة الخَيِّرة وقد تُساعِد على تيسير عملها مساعدةً فعالة، ولكنها مع ذلك لا تحتوي في ذاتها على أية قيمةٍ مطلقة، بل تفترض دائمًا وجود إرادةٍ أخرى طيبة (سابقة عليها) مما يحد من التقدير العالي الذي نحمله لها بحقٍّ في أنفسنا ويجعل من المُتعذَّر علينا أن ننظر إليها نَظرتَنا إلى إرادةٍ خيِّرة مطلقة؛ فالاعتدال في العواطف والانفعالات، والسيطرة على النفس، والمقدرة على التدبُّر المتزن ليست خيِّرة من كثيرٍ من الوجوه فحسب، بل إنها تكون فيما يبدو جزءًا من القيمة الباطنة (أو الذاتية) للشخص، غير أنه ينقصها الكثير لكي نَعُدُّها خيِّرةً دون تَحفّظ (وإن كان الأقدمون قد أَثنَوا عليها ثناءً لا مزيد عليه)؛ ذلك لأنها إذا لم تَستنِد إلى المبادئ التي تُقدِم عليها الإرادة الطيبة فقد يستفحل شَرُّها، وإن دم الشرِّير البارد لا يجعله أشد خطورةً فحسب، بل إنه لَيَزِيدُ مباشرةً من بشاعته في أعيننا أكثر مما كُنَّا سنحكم لو أنه تَجرَّد عنها.
إن الإرادة الخَيِّرة لا تكون خيِّرةً بما تُحدِثه من أَثَرٍ أو تُحرِزه من نجاح، لا ولا بصلاحيتها للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك، بل إنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده؛ أعني أنها خيِّرة في ذاتها، وأنها إذا نُظر إليها في ذاتها فلا بد لنا — بلا وجهٍ للمقارنة — أن نُقدِّرها تقديرًا يرتفع بها درجات عن كل ما من شأنه أن يتحقق بوساطتها لمصلحة ميلٍ من الميول أيًّا كان، لا بل لمصلحة كل الميول مجتمعة. وإذا ما شاءت نقمة الأقدار أو تقتيرُ طبيعة تتسم بصفات الحموات أن تسلب هذه الإرادة كل قدرةٍ على تحقيق أهدافها، وإذا ما عَجزَت برغم أشق الجهود التي تبذلها عن إدراك أي شيء، ولم يبق إلا الإرادة الخَيِّرة وحدها (لا أريد بهذا بالطبع أن تبقى مجرد رغبةٍ فحسب، بل أقصد أن تكون حشدًا لجميع الوسائل الممكنة في طاقتنا) فسوف تلمع بذاتها لمَعَان الجوهرة، مِثل شيءٍ يَحتفِظ في نفسه بكل قيمته؛ فلا المنفعة تستطيع أن تضيف إلى هذه القيمة شيئًا، ولا العُقم يمكنه أن ينقص منها في شيء. ولن تزيد المنفعة على أن تكون التغليفة التي تُيسِّر تَداوُل الجوهرة بين الناس، أو تَلفِت إليها أنظار من لم يعرفوها بعدُ معرفةً كافية، لا لكي توصي بها العارفِين أو تُحدِّد قيمة ثمنها.
في هذه الفكرة وحدها عن القيمة المُطلَقة للإرادة، ودون أن تحسب حساب المنفعة في تقديرنا لها؛ أقول إن في هذه الفكرة نوعًا من الغرابة يُثير بالضرورة وبالرغم عن التقابُل التامِّ بينها وبين الحِس المشترك، لونًا من الشبهة التي قد تدعو إلى الظن بأنها لا ترتكز إلا على وهمٍ متعال، وأن الطبيعة ربما أُسيء فَهمُ قصدها من جعل العقل حاكمًا على الإرادة. من أجل هذا نريد أن نفحص هذه الفكرة من وجهة النظر هذه.
نحن نُسلِّم، عند النظر إلى التكوين الطبيعي لكائنٍ عضوي، أعني لكائنٍ أُعد للحياة، بمبدأ أساسيٍّ مُؤدَّاه أنه ما من عضوٍ فيه جُعِل لِلْوَفاءِ بِغايةٍ من الْغَاياتِ إلَّا وكان أَنسبَ الأعضاءِ لتحقيق هذه الغاية وأكثرها ملاءمةً لها؛ فلو كان الهدف الأساسي الذي تَقصِد إليه الطبيعة من كائنٍ ذي عقل وذي إرادة أن تُوفِّر له «البقاء والهناء» وبالجملة «السعادة»، لكانت قد أساءت الاختيار إذ جَعلَت عقل هذا المخلوق أداةً لتنفيذ غرضها؛ ذلك لأن جميع الأعمال التي ينبغي على هذا الكائن الحي أن يُؤدِّيها لتحقيق هذا الغرض وكذلك قاعدة سلوكه بتمامها كانَت ترسمها له غريزته على وجهٍ أَدَق، وذلك الغرض كان سيتحقق بطريقةٍ أَضمنَ مما كان يعجز عنه العقلُ لو أنه حاول ذلك، ولو أن هذا المخلوق وُهِب العقل لما نفعه في شيءٍ إلا في نَسجِ تأمُّلات تدور حول الاستعدادات الطبيعية التي وَفَّقَه الحظ إليها، والإعجاب بها وتهنئة نفسه بما رُزق منها والتعبير عن شكره لِلعِلة التي أَنعمَت عليه بها، لا في إخضاع مَلَكة الاشتهاء والرغبة لديه لِتلك القيادة الضعيفة المُضللة والانحراف بالطبيعة عن قصدها وغايتها، وبالجملة فإنها تكون قد اتخَذَت الحَيطة لتمنع العقل من أن يسير في طريق الاستخدام العملي أو يتجاسر فيحاول، ببصيرته الكلية، أن يضع خطة السعادة والوسائل المؤدِّية إليها ولَعَهِدت بهما جميعًا إلى الغريزة وحدها.
ولما كان العقل لا يَصلُح صلاحيةً كافية لقيادة الإرادة قيادةً رشيدة إلى ما تسعى إليه من موضوعات وإلى إرضاء جميع حاجاتنا (التي يعمل هو نفسه على الإكثار منها) وكانت الغريزة الطبيعية المفطورة أَقدَر منه على تحقيق هذا الغرض، ولما كُنَّا قد أُوتينا العقل مَلَكةً عملية، أعني مَلَكَة عليها أن تُؤثِّر أَثَرها على «الإرادة»؛ فإن مصيره الحق ينبغي أن يتجه إلى بعث إرادةٍ خيِّرة فينا لا تكون وسيلةً لتحقيق غاية من الغايات، بل تكون إرادةً خيِّرة في ذاتها. من أجل هذا كان وجود العقل أمرًا تقتضيه الضرورة المُطلَقة، بينما سارت الطبيعة في كل مجال وُزِّعت فيه استعداداتها الفطرية وَفقَ الغايات التي تسعى إلى تحقيقها. قد لا تكون هذه الإرادة هي الخير الأوحد ولا الخير كله، ولكن ينبغي أن تكون بالضرورة الخَيرَ الأسمى والشرط الذي يتوقف عليه كلُّ خَيرٍ آخر، بما في ذلك النزوع إلى السعادة. في هذه الحالة يكون مما يتفق مع الحكمة التي تتجلى في الطبيعة ما نستطيع أن نُلاحِظه من أن ثقافة العقل، التي لا غِنى عنها لتحقيق الغاية الأولى المُطلَقة، تَحدُّ من وجوهٍ كثيرة من تحقيق الغاية الثانية، المشروطة دائمًا، ألَا وهي السعادة، في هذه الحياة على الأقل، بل لقد ينتهي بها الأمر إلى أن تُحيلَها إلى لا شيء. والطبيعة في هذا لا تسير سَيرَها دون غاية؛ ذلك لأن العقل الذي يعرف أن هدفه العملي الأسمى هو إقامة إرادةٍ خيِّرة، إنما يُحِس عند بلوغ هذا الهدف بنوعٍ من الرضا الذي يُناسِب طبيعته، وهو الرضا الذي يَنبُع عن تحقيق غرضٍ لا يعيِّنه إلا العقل نفسه، وإن ارتبط ذلك بشيءٍ من الضرر الذي يَلحَق أغراض النوازع النفسية.
وعلى العكس من ذلك، فإن محافظة الإنسان على حياته واجب، وهي بالإضافة إلى هذا أَمرٌ يشعر كل واحدٍ مِنَّا نحوه بميلٍ مباشر. بَيْدَ أن الحرص القَلِق الذي يخالج معظم الناس على حياتهم لا ينطوي على قيمةٍ ذاتية، والمُسلَّمة التي يقوم عليها لا تحتوي على أي مضمونٍ أخلاقي. إنهم يحافظون حقًّا على حياتهم «بما يتفق مع الواجب»، ولكنهم لا يفعلون ذلك عن شعور «بالواجب». وعلى العكس من ذلك حين تسلب المُنغِّصات والسخط اليائس كل طعمٍ للحياة، وحين يُحِس التعيس ذو النفس القوية بالغَضَب على القَدَر الذي قُسِم له أكثر من إحساسه بالهزيمة أو الهوان، فيتمنى لنفسه الموت ويحافظ مع ذلك على الحياة دون أن يُحبها، لا عن ميلٍ أو جزع، عندئذٍ تكون مُسلَّمته ذات مضمونٍ أخلاقي.
الإحسان، حيثما استطاع الإنسان، واجب، وهنالك بعض النفوس التي بلغ بها العطف مبلغًا يجعلها تجد المتعة الباطنة في إشاعة السرور حولها واللذة في رضا الغير، طالما كان فعلًا من أفعالها، دون أن يدفعها إلى ذلك دافعٌ من غرورٍ أو أَثَرة. غير أنني أزعم أن مثل هذا الفعل، مع مطابقته للواجب واستحقاقه للثناء، لا ينطوي على قيمةٍ أخلاقية حقيقية، بل يُرافق ميولًا أخرى ويُلازمها، مثال ذلك الميل إلى الشرف الذي إذا أسعده الحظ فصادف ما يتفق في الواقع مع المصلحة العامة ومع الواجب ومع ما يكون بالتالي مَجلبةً للشرف، فقد استحق الثناء والتشجيع وإن لم يَستحقَّ الاحترام والتقدير؛ ذلك أن المُسلَّمة ينقصها المضمون الأخلاقي؛ أعني أن تُؤدَّى هذه الأفعال لا عن ميلٍ بل عن شعورٍ «بالواجب». فإذا فرضنا أن وجدان صديق بني الإنسان هذا لَفَعَته سُحب الهموم الذاتية التي تقضي على كل مشاركةٍ وجدانية في أقدار الآخرِين، وأنه لا يزال قادرًا على تقديم الخَيرِ لِغيره من المُعذَّبينَ، وأنه قد شُغل بشقائه الشخصي فلم يعُد شقاء الآخرِين يُحرِّك فيه جارحة، وأنه على هذه الحال التي لا يُؤثِّر عليه فيها مَيلٌ يستطيع أن ينزع نفسه من هذا الجمود المُميت وأن يُؤدِّي الفعل عن شعورٍ بالواجب فحسب، مُجرَّدًا عن كل ميل، عندئذٍ فقط تكون لهذا الفعل قيمته الأخلاقية الأصيلة، بل إنني أزيد على هذا فأقول لو أن الطبيعة وَضعَت في قلب هذا الإنسان أو ذاك قليلًا من المشاركة الوجدانية، ولو كان (وهو الإنسان الأمين) بارد المزاج عديم الاكتراث لآلام غيره من الناس، ربما لأنه هو نفسه قد رُزق من الصبر والعزم والثبات ما يُواجِه به آلامه وما يجعله يفترض وجودها عند غيره من الناس أو على مطالبته بأن يكون لديه مثلها؛ أقول إذا شاءت الطبيعة ألا تجعل مثل هذا الإنسان (الذي لن يكون أسوأ إنتاجها) صديقًا محبًّا للبشر، فهل يعدم مثل هذا الإنسان أن يجد في نفسه المصدر الذي يجعله يعطي نفسه قيمةً أعلى بكثيرٍ من القيمة التي يمكن أن تكون لمزاجٍ خيِّر بطبيعته؟ بلى! إن القيمة التي نخلعها على الشخصية (الطبع)، وهي القيمة الأخلاقية التي لا يُضارِعها في سموها قيمةٌ أخرى، تظهر على وجه الخصوص في هذا المجال؛ أعني أن يُحسِن الإنسان لا عن ميلٍ بل عن شعور بالواجب.
إن تأمين الإنسان لسعادته الذاتية واجب (على الأقل بطريقٍ غير مباشر)؛ ذلك لأن عدم رضا المرء عن حاله، وتزاحُم الهموم العديدة عليه، ومعيشته وسط حاجاتٍ لم يتم إشباعها قد تكون إغراءً قويًّا له على أن يدوس على واجباته، ولكننا حتى لو صرفنا النظر في هذا المقام عن فكرة الواجب، فسنجد أن الناس جميعًا يتملَّكُهم نزوعٌ باطن بالغ القوة نحو السعادة؛ ذلك لأن جميع النزعات تتحد في هذه الفكرة بالذات [أي فكرة السعادة] وحدةً كلية. غير أن القاعدة التي توصي بالسعادة تكون في أغلب الأحيان بحيث تُلحِق ضررًا كبيرًا ببعض الميول، وبحيث لا يستطيع الإنسان أن يُكوِّن لنفسه تصوُّرًا مُحدَّدًا ومُؤكَّدًا عن المجموع الذي يَتألَّف من إشباع هذه الميول، وهو ما يُطلَق عليه اسم السعادة؛ ولهذا فليس من العجيب في شيءٍ أن نجد ميلًا فريدًا مُحدَّدًا بالإضافة إل ما يعد به والوقت الذي يُنتَظَر أن يتم إشباعه فيه، يقع تحت سيطرة فكرةٍ مُذبذَبة، وأن نجد امرءًا ذواقة على سبيل المثال، يقبل بمحض اختياره على الاستمتاع بطعامٍ يستطعمه كما يختار الألم الذي سيترتب عليه من ورائه؛ لأنه في حسابه هنا على الأقل لم يشأ أن يُضيِّع على نفسه متعة اللحظة الراهنة انتظارًا لأمل ربما يكون خاطئًا عن السعادة التي تكمن في الصحة، ولكن إذا كان الميل العام للسعادة في هذه الحالة أيضًا لم يُحدِّد إرادته إذا كانْت الصحة لم تبلغ من الأهمية في اعتباره مبلغًا يجعله بداخلها بالضرورة في حسابه، فسيبقى في هذه الحالة، كما في كل حالةٍ سواها، قانون يأمره بالعمل على تحصيل سعادته، لا عن ميل، بل عن إحساس بالواجب، وها هنا فحسب تكون لمسلكه قِيمةٌ أخلاقية حقَّة.
القضية الثانية تقول: الفعل الذي يتم عن إحساس بالواجب لا يستمد قيمته الأخلاقية من «الهدف» الذي يُرجَى بلوغه من ورائه، بل من المُسلَّمة التي تَقرَّر القيام به وفقًا لها، فهي إذن لا تتوقف على واقعية موضوع الفعل، بل تعتمد فحَسْبُ على مبدأ الإرادة الذي حدث الفعل بمقتضاه، بِصرف النظر عن كل موضوعات الاشتهاء. ويتضح مما تقدم أن الأهداف التي يمكن أن تكون لدينا عند القيام بأفعالنا والآثار التي تنجم عنها، بوصفها غاياتٍ ودوافعَ مُحرِّكةً للإرادة، لا تستطيع أن تعطي هذه الأفعال أية قيمةٍ مطلقة أو قيمةٍ أخلاقية. أين يمكن إذن أن تُوجد هذه القيمة، إن لم تُوجد في الإرادة من حيث علاقتها بالأَثَر المَرجُو من وراء تلك الأفعال؟ إن هذه القيمة لا يمكن أن تُوجد إلا في مبدأ الإرادة بِغَض النظر عن الغايات التي قد تتحقق عن طَريقِ مثل ذلك الفعل؛ ذلك لأن الإرادة تقع موقعًا وسطًا بين مبدئها القَبْلي، وهو شكلي، وبين البواعث البَعدية الدافعة إليه، وهي مادية، وكأنها تقع على مَفرِق الطرق، ولما كان من اللازم أن تتحدد عن طريق شيءٍ ما، فلا بُد لها أن تُحدَّد عن طريق المبدأ الشكلي للإرادة بوجهٍ عام، حينما يحدث فعلٌ عن واجب؛ إذ يكون قد نُزع عنه كل مبدأٍ مادي.
فلنُلقِ على سبيل المثال هذا السؤال: ألا يجوز لي، حين يشتد الضيق، أن أعِد وعدًا بينما أُبيِّت النية على عدم الوفاء به؟ إنني أُفرِّق ها هنا في يُسرٍ بين المعنيَين اللَّذَين يمكن أن يحتملهما السؤال: أعني إن كان من الفطنة أو مما يتفق مع الواجب أن أعِد وعدًا كاذبًا؟ قد يكون من الفطنة بغير نزاع أن ألجأ إلى ذلك في أكثر من مرة. بَيْدَ أنني سأجد أنه لا يكفي أن أخرج بنفسي من مأزق راهن بالالتجاء إلى هذه الوسيلة، بل إن عليَّ أن أَتدبَّر الرأي جَيِّدًا؛ فقد تسبَّب لي هذه الكذبة بعد ذلك مضايقاتٍ أَشدَّ وأعظم من تلك التي أحاول الخلاص منها الآن، ولما كانَت النتائج، على الرغم من كل ما أزعمه لنفسي من «دهاء» لا يمكن التكهُّن بها بسهولة، وكان فقدي لثقة إنسانٍ آخر قد يتجاوز في ضرره كل شَر أحاول الآن أن أتحاشاه؛ أقول إن عليَّ أن أسأل نفسي: أليس أَبعَد من ذلك فطنةً أن أجعل مسلكي هنا وفقًا لمُسلَّمةٍ عامة وأن أُعوِّد نفسي على ألَّا أبذُل وعدًا لا أنوي الوفاء به؟ غير أنه سرعان ما يتجلَّى لي ها هنا أن مثل هذه المُسلَّمة إنما تقوم دائمًا على النتائج التي أخشى الوقوع فيها. على أن الصدق الذي يصدر عن شعور بالواجب يختلف اختلافًا تامًّا عن الصدق الذي يصدر عن خوف من النتائج الضارة؛ فبينما يحتوي تصوُّر الفعل في ذاته في الحالة الأولى على قانونٍ لي، يكون عليَّ في الحالة الثانية أن أتطلع في جهةٍ أخرى لأتبين أي النتائج يمكن أن ترتبط بالفعل بالنسبة لي؛ ذلك لأنني إن حِدتُ عن مبدأ الواجب، فإنني أكون بذلك قد أَقدَمتُ على شَرٍّ لا مراء فيه أبدًا، ولكنني إن خرجتُ على مُسلَّمتي التي أَصدُر فيها عن فطنة فقد يعود عليَّ ذلك في بعض الأحوال بفائدةٍ كبيرة، وإن كان التزامي لها بالطبع أدعى إلى مزيدٍ من الأمن والاطمئنان. إن أمضى الوسائل وأبعدها عن الخطأ لتعليم نفسي فيما يتعلق بالإجابة على هذا السؤال: هل الوعد الكاذب يتفق مع الواجب؟ هي أن أسأل نفسي: هل يرضيني أن تصبح مُسلَّمتي (التي تجعلني أخرج من مأزقٍ حَرِج باللجوء إلى وعدٍ كاذب) قانونًا عامًّا (ينطبق عليَّ كما ينطبق على الآخرين)؟ وهل يمكنني أن أقول لنفسي: يستطيع كل امرئٍ أن يعِد وعدًا كاذبًا حين يجد نفسه في مأزقٍ لا يعرف وسيلةً أخرى للخروج منه؟ إنني إن فعلت ذلك فسرعان ما أدرك أنني قد أريد الكذبة ولكنني لن أستطيع بحال أن أريد قانونًا عامًّا يأمر بالكذب؛ ذلك لأن وجود مثل هذا القانون سيمتنع معه في الحقيقة وجود أي وعد من الوعود؛ إذ سيكون من العبث حينئذٍ أن أُعلن عن إرادتي المتعلقة بأفعالي المقبلة لغيري مع الناس الذين لن يعتقدوا في صدق هذا الإعلان، أو الذين إن آمنوا به مُتسرعِين فسوف يحاسبونني بنفس العملة في المستقبل، مما يترتب عليه أن تهدم مُسلَّمتي نفسها بالضرورة، بمجرد أن يُجعَل منها قانونٌ عام.
وإذن فالسؤال عما ينبغي عليَّ أن أعمله، كيما يكون فعلي الإرادي خيرًا من الوجهة الأخلاقية، لا يحتاج مني للإجابة عليه إلى إرهافٍ حِسيٍّ بعيد المدى. يكفيني، وأنا العديم الخبرة عن مجرى الكون، العاجز عن مواجهة كل ما يقع فيه من أحداث، أن أسأل نفسي: هل تستطيع أن تريد لِمُسلَّمتك أن تُصبِح قانونًا عامًّا؟ فإذا كان الجواب بالنفي فإن المُسلَّمة تكون جديرة بأن تُطرَح جانبًا، ولن يكون مرد ذلك في الحقيقة إلى ضررٍ قد ينجم عنها ويلحق بك أو بغيرك من الناس، بل لأنها لا تصلح أن تكون مبدأً يجد مكانه في تشريعٍ عامٍّ ممكن، لكن العقل يُجبرني على الاحترام المباشر لمثل هذا التشريع، وهو احترام قد «لا أدرك حقًّا» في هذه اللحظة علام يستند (وذلك موضوع يمكن الفيلسوف أن يبحثه)، ولكنني أفهم منه على الأقل أنه تقديرٌ للقيمة التي تعلو علوًّا كبيرًا عن قيمة كل ما يمتدحه الميل، وأن ضرورة أفعالي التي أقوم بها عن احترام «خالص» للقانون العملي هي ما يُؤلِّف الواجب، وهو الذي لا بد لكل دافعٍ من أن يُفسِح له المكان؛ لأنه شرط الإرادة الخَيِّرة «في ذاتها»، التي ترتفع قيمتها فوق كل شيء.
إن البراءة شيءٌ رائع حقًّا، غير أنه مما يدعو للأسف أنها لا تُحسن المحافظة على نفسها وأنها تتعرض بسهولةٍ للمغريات؛ ولذلك كانَت الحكمة نفسها — وهي التي تكمن فيما يأتي الإنسان وما يَدَع من أفعالٍ أكثر مما تكمن في المعرفة — في حاجة إلى العلم، لا لكي تتزود منه، بل لكي تضمن لأوامرها الذيوع والاستمرار. إن الإنسان عندما يواجه كل أوامر الواجب التي يُصوِّرها له العقل جديرةً بكل إكبارٍ يُحس في نفسه مقاومةً شديدة تتمثل في حاجاته وميوله التي يتلخص إشباعها جميعًا لديه في كلمة السعادة. ثُم يصدر العقل أوامره في إصرارٍ غير متنازل للنزعات عن شيء، وفي نفس الوقت بنوعٍ من الإغضاء من شأن تلك المطامح المُتهوِّرة التي تبدو في ظاهرها مشروعة والتحقير منها (والتي لا يكاد يُفلح أمرٌ ما في إبطالها).
من ذلك «يتولد ديالكتيك طبيعي»، أو نزعة إلى مغالطة قوانين الواجب المحكمة بالباطل، والتشكيك في صلاحيتها أو على الأقل في نقائها وإحكامها، وجعلها مُلائمةً ما أمكن لرغباتنا وميولنا؛ أي إفسادها من أساسها والقضاء على كل ما لها من جدارة؛ الأمر الذي لا يستطيع العقل العملي في نهاية المطاف أن يُحبِّذه.
⋆ المسلمة هي المبدأ الذاتي للفعل، الذي تجعل منه الذات نفسها قاعدة لسلوكها (أي الذي يبين كيف تريد أن تفعل) أمَّا مبدأ الواجب فهو على العكس من ذلك ما يأمرها به العقل على نحوٍ مُطلَق، وبالتالي على نحوٍ موضوعي (ويبين كيف ينبغي عليها أن تفعل). وإذن فالمبدأ الأعلى للمذهب الأخلاقي هو كما يلي: راعِ في فعلك أن يكون مطابقًا لمُسلَّمةٍ تصلح في نفس الوقت لأن تكون قانونًا عامًّا، وكل مُسلَّمة ليست كفئًا لذلك فهي منافية للأخلاق. (راجع: ميتافيزيقا الأخلاق، نظرية الحق، المقدمة، ٤). (المترجم)
⋆ لا يمكن أن يُعد الاحترام دافعًا أو باعثًا، وإلا لما صلح أن يكون أساسًا تقوم عليه الأخلاق. والاحترام لا يكون للأشياء، وإذا وُجِّه للأشخاص فإنما يوُجَّه إليهم على اعتبار أنهم رموز أو أمثلة على الوفاء بالواجب. أمَّا ما يقوله كانْت هنا عن المشابهة بين الاحترام وبين الخوف من ناحية وبينه وبين الميل من ناحيةٍ أخرى فليس ذلك إلا من قبيل التشبيه؛ ذلك أن أقرب الأشياء شبهًا بالاحترام هو الإعجاب، كما يقول هو نفسه في «نقد العقل العملي» (الكتاب الأوَّل، الفصل الثالث)، كما يبين في «نقد ملكة الحكم» (٢٣، ٢٧، ٢٩) كيف أن العاطفة التي نحملها للسامي Das Erhabene ترمز للاحترام الذي نحمله للقانون الأخلاقي. (المترجم)
⋆⋆ سيستعين كانْت فيما بعد بفكرة الاستقلال الذاتي للإرادة Autonomie ليبين كيف أننا نحن أنفسنا مصدر التشريع الأخلاقي الذي نخضع له بمحض اختيارنا. (المترجم)
⋆⋆⋆ سيُوضِّح كانْت فيما بعدُ ما يقصده بالمنفعة؛ فالمنفعة عنده دافع يتمثله العقل، ويستطيع أن يستمده إمَّا من نفسه أو من الميول. وهناك منفعةٌ خالصة، أو إن شئت منفعة مجرد عن المنفعة، وذلك حين يستمد الدافع من القانون الأخلاقي وحده، لا من موضوع الفعل. (المترجم)