القسم الثاني
الانتقال من الفلسفة الأخلاقية الشعبية إلى ميتافيزيقا الأخلاق
إذا كُنَّا حتى الآن قد استخلصنا تصوُّرنا عن الواجب من الاستعمال المألوف لِعقلنا
العملي،
فلا ينبغي أن نستنتج من ذلك أننا تناولناه تناوُلَ تصوُّرٍ تجريبي.
١ بلِ الأَولى من ذلك أننا نُلاقي، حين ننتبه إلى تجربةٍ ما يأتيه الناس وما يدَعون من
ألوان السلوك، شكاوى كثيرة، وباعترافنا نحن عادلة، من أن المرء لا يستطيع أن يَسُوق أمثلة
مؤكدة عن نية السلوك عن شعور بالواجب، وأنه إن تكن هناك بعض الأفعال التي تحدث بما يتفق
وما
يأمر به الواجب، فإن ذلك لا يمنع من الشك فيما إذا كانَت قد حَدثَت حقًّا عن شعور بالواجب،
وفيما إذا كانَت تحتوي تبعًا لذلك على قيمةٍ أخلاقية.
٢ ولذلك وُجد في جميع الأزمان فلاسفةٌ أنكروا حقيقة هذه النية في الأفعال
الإنسانية إنكارًا تامًّا ونسبوا كل شيء إلى الأَثَرة المتفاوتة الحِدَّة، ولكن ذلك لم
يجعلهم
يرتابون في صحة التصوُّر الأخلاقي، بل لقد تحدثوا والحزن يملؤ أفئدتهم عن ضَعف الطبيعة
البشرية
وعدم صفائها، هذه الطبيعة البشرية التي تبلُغ حقًّا من النبل مبلغًا يجعلها تضع فكرةً
كهذه
جديرةً بالاحترام قاعدةً ترتكز عليها، كما يجعلها في الوقت نفسه تبلغ من الضعف مبلغًا
يجعلها
تعجز عن اتباعها، فلا تستعمل العقل، الذي كان ينبغي أن يُشرِّع لها القوانين، إلا لكي
يهتم
بتَحقيق ميولها، سواءُ أُخِذَت هذه الميول مفردةً، أو أُخِذَت على أفضل تقديرٍ في مجموعها،
بالتقريب بين بعضها والبعض ما أَمكَن ذلك.
والواقع أنه يستحيل استحالةً مطلقة أن نجد عن طريق التجربة وبيقينٍ تام حالةً واحدة
قامت
فيها مُسلَّمة فعلٍ من الأفعال متفقٍ مع الواجب، على مبادئ أخلاقية وعلى تصوُّر للواجب
فحسب؛ فقد
يتفق لنا حقًّا في بعض الأحيان، برغم الامتحان الأَدَق لأنفسنا، ألَّا نجد شيئًا على
الإطلاق
كان يمكن أن يبلغ من القوة مبلغًا يدفعنا معه إلى إتيان هذا الفعل الخيِّر أو ذاك أو
على
الإقدام على هذه التضحية الكبيرة أو تلك دون أن يَصدُر عن المبدأ الأخلاقي للواجب. غير
أننا
لا نستطيع أن نستنتج من ذلك بما لا يدفع الشك أنه لم يكن هناك حقًّا دافعٌ خفي من دوافع
الأثرة، تستَّر تحت سراب تلك الفكرة وكان هو العلة الحقيقية التي عيَّنَت الإرادة وأننا
نشاء
إلا أن نملِّق أنفسنا بدافعٍ أكثر نبلًا ندَّعيه لأنفسنا زورًا بينما نحن في الواقع لا
نستطيع
أبدًا، لو امتَحنَّا أنفسنا في سبيل ذلك أشقَّ امتحان، أن نصل إلى الدوافع المُستتِرة.
ومَرَدُّ ذلك
إلى أننا حين نكون بصدد الكلام عن القيمة الأخلاقية، لا نهتم بالأفعال التي يراها الإنسان،
بل بالمبادئ الباطنة التي قامت عليها والتي لا يمكن الإنسان أن يراها.
إن الذين يسخرون من الأخلاق كلها كما لو كانَت مَحضَ خُرافة نسجها الخيال الإنساني
الذي
يتجاوز حدود نفسه بالغرور، لا يمكن أن يسدي إليهم الإنسان خدمةً أكثر موافقةً لهواهم
من
التسليم لهم بأن تصوُّرات الواجب (بمثل ما يحلو للإنسان، طلبًا للراحة، أن يقنع نفسه
بأن
الأمر كذلك بالنسبة لسائر التصوُّرات) يجب أن تُستنبَط من التجربة وحدها؛ فبهذا الاعتراف
يتيح
لهم الإنسان نصرًا محقَّقًا.
٣ أُريد أن أُسلِّم، بدافعٍ من المحبة للإنسان، أن معظم أفعالنا تتفق مع الواجب، غير
أن الإنسان حين ينظر عن كَثَب إلى ما تنطوي عليه وما تهدف إليه، فإنه يصطدم في كل مكان
بالنفس
العزيزة التي تُطِل دائمًا برأسها وعليها تَستنِد مقاصد هذه الأفعال، لا على الأمر الصارم
للواجب، الذي كثيرًا ما يتطلب من الإنسان إنكار الذات، ولا يحتاج المرء إلى أن يكون
بالضرورة عَدوًّا للفضيلة، بل يكتفي أن يكون مراقبًا موضوعيَّ النظرة،
٤⋆ لا يأخذ
الرغبة الجارفة إلى الخير من فَورِه مأخذ الخير الحقيقي؛ أقول لا يحتاج الإنسان إلى ذلك
لكي
يَتسنَّى له (وبالأخص حين تتقدم به السن ويكتسب مَلَكة الحُكم التي أَنضَجَتها التجربة
وزادت
الملاحظة من حِدَّتها) في لحظاتٍ مُعيَّنة أن يُراوِده الشك فيما إذا كانَت هناك بالفعل
فضيلةٌ حقة في
هذا العالم. وهنا لا يستطيع شيء أن يَقِيَنا من السَّقطة التامة عن أفكارنا عن الواجب
ويحفظ في
نفوسنا الاحترام المتين لِقانونه إن لم يكن ذلك هو الاقتناع الواضح بأنه، حتى لو لم تُوجد
أبدًا أفعال انبَثقَت من هذه المنابع الصافية، فإن الأمر هنا لا يدور بحالٍ من الأحوال
حول ما
إذا كان هذا الفعل أو ذاك قد حدث، بل يتعلق بأن العقل بذاته، مُستقِلًّا عن كل الظواهر،
يأمر
بما ينبغي أن يحدُث وأن هناك بالتالي أفعالًا لعل العالم لم يَضرِب لها أدنى مثالٍ حتى
هذه
اللحظة ولعله أن يشُك كل الشَّك في إمكان القيام بها ويبني كل شيءٍ على التجربة، ومع
ذلك فهي
أفعالٌ أمر بها العقل أمرًا لا رجعة فيه، وأن الوفاء الخالص في الصداقة على سبيل المثال
أَمرٌ
لا ينفك كل إنسانٍ مُطالَبًا به حتى لو لم يُوجد على ظهر الأرض حتى الآن صديقٌ وفي واحد؛
ذلك لأن
هذا الواجب بما هو واجبٌ على الإطلاق متضمن قبل كل تجربةٍ في فكرة العقل الذي يُحدِّد
الإرادة عن
طريق مبادئَ أولية.
فإذا أضفنا إلى هذا أننا إذا أردنا ألَّا نُجرِّد تصوُّر الأخلاق من كل صدقٍ ومن كل
علاقة بموضوعٍ
من الموضوعات الممكنة، فإننا لا نستطيع أن ننازع في أن قانونه يبلُغ في دلالته من الاتساع
ما
يُحتِّم صلاحيته لا بالنسبة للناس وحدهم، بل بالنسبة لكل كائنٍ عاقل على الإطلاق ولا
تحت شروطٍ
عرضية وباستثناءاتٍ مُعيَّنة فحسب، بل صلاحيةً ضرورية مُطلَقة، ومن هذا يتضح أنه ما من
تجربة على
الإطلاق يمكنها أن تسمح لنا حتى بمجرد استنتاج مثل هذه القوانين الضرورية؛ إذ بأي حق
يمكننا
أن نضع موضع الاحترام المُطلَق ونجعل قاعدةً عامة لكل طبيعةٍ عاقلة شيئًا ربما لا يصح
إلا تحت
الشروط العرضية للإنسانية؟ وكيف يتسنى لنا أن نعُد القوانين التي تُحدِّد «إرادتنا»،
قوانين
لتحديد إرادة الكائن العاقل على الإطلاق، وألَّا نعُدها قوانينَ صالحة لنا حتى تكون كذلك،
إن
كانَت قوانينَ تجريبية فقط ولم تكن قوانينَ قَبْلية محضة تنبع عن عقلٍ خالص ولكنه عملي؟
وليس في مقدور الإنسان فضلًا عن ذلك أن يسيء إلى الأخلاق إساءةً أبلغ من محاولة استخلاصها
من أمثلةٍ تجريبية؛ ذلك لأن كل مَثلٍ يُقدَّم لي عنها ينبغي أن يُحكَم عليه هو نفسه قبل
ذلك وفقًا
لمبادئ الأخلاق، لكي نتبين إن كان جديرًا بأن يُعَد مثلًا أصيلًا؛ أعني أنموذجًا، ولكن
من
المُحال عليه أن يعطينا بادئ ذي بَدء تَصوُّر الأخلاق. إن قديس الإنجيل نفسه ينبغي أن
يُقارَن
بالمثال الذي لدينا عن الكمال الخلقي قبل أن نصفه بأنه كذلك،
٥ وفضلًا عن ذلك فإنه يقول عن نفسه: كيف تدعونني (وأنا الذي ترونه) خيِّرًا؟ لا
أحد خيِّر (أنموذج للخير) سوى الله الواحد (الذي لا ترونه). ولكن من أين لنا بتصوُّر
الله
بوصفه الخيرَ الأسمى؟
٦ إنه لم يأتنا إلا من الفكرة التي يرسمها العقل قبليًّا عن الكمال الخلقي
ويربطها بتصوُّر إرادةٍ حرة ربطًا لا انفصام له. إن المحاكاة لا مكان لها في مجال الأخلاق،
والأمثلة تُفيد في الحَفزِ والتشجيع فحسب؛ أي إنها تُخرِج إمكان القيام بتنفيذ ما يأمر
به
القانون من دائرة الشك، إنها تُقرِّب لِلعِيان ما تُعبِّر عنه القاعدة العملية تعبيرًا
عامًّا
ولكنها لا يمكن أن تُبرِّر أبدًا أن يطرح الأصل الحقيقي، الذي يستقر في العقل، جانبًا
ويهتدي
المرء بالأمثلة.
فإذا صح القول بعدم وجود مبدأٍ أعلى أصيلٍ للأخلاق يقوم بالضرورة على العقل الخالص
وحده
مُستقلًّا عن كل تجربة؛ فإنني أعتقد أنه لن يكون هناك ما يدعو حتى للسؤال عما إذا كان
من
الخير أن نعرض هذه التصورات عرضًا عامًّا (مجرَّدًا) على نَحوِ ما هي موجودةٌ قَبْليًّا
مع جملة
المبادئ المتصلة بها، على فرض أن المعرفة (الجديرة بهذه الكلمة) ينبغي أن تفترق عن المعرفة
المُشترَكة وأن تحمل اسم المعرفة الفلسفية، ولكن يبدو أن هذا السؤال لا غِنَى عنه في
زماننا
هذا؛ ذلك لأننا إن جمعنا الأصوات لنعرف ما يقف منها في صف المعرفة العقلية الخالصة النقية
من كل تجربة، وبالتالي ميتافيزيقا الآيين.
٧⋆ وما يختار
منها الفلسفة العملية الشعبية، فإننا سرعان ما نُخمِّن أي الكِفَّتَين هي الراجحة في
الميزان.
إن الهبوط إلى التصوُّرات الشعبية أَمرٌ محمودٌ حقًّا، إذا تيسر قبل ذلك أن نرتفع
إلى مبادئ
العقل الخالص ونبلُغ من ذلك مبلغًا يرضينا إرضاءً تامًّا. ومعنى هذا أن «نُؤسِّس» مذهب
الأخلاق
أوَّلًا على الميتافيزيقا فإذا رسَخ بنيانها عمَدنا بعد ذلك إلى تيسيرها بالتناول الشعبي.
أمَّا أن نسمح بذلك منذ البحث الأوَّل، الذي تتوقف عليه صحة المبادئ، فأَمرٌ بالغُ الخلف
والاستحالة. إن الأمر لا يقتصر على أن هذه العملة لن تستطيع أن تزعم لنفسها شرف فلسفةٍ
شعبية
حقيقية فحسب، وهو شرفٌ نادر عزيز المنال؛ إذ ليس من الفن في شيء أن يكون الإنسان مفهومًا
لعامة الناس حين يُضحِّي بكل عمق في التفكير، بل إنه لن ينتج عنها غير خليطٍ يُثير الاشمئزاز،
خليطٍ من المُلاحَظات التي التقطت باليمين والشمال ومن مبادئ أنصاف العقول، يرتع فيه
أصحاب
العقول الضحلة، وينعمون؛ لأنهم يحتاجون إليه في هَذَرهم اليومي، ولا يجد فيه ذوو البصيرة
إلا
الاضطراب الذي لا يملكون في سَخطهم عليه وعجزهم مع ذلك عن حماية أنفسهم منه إلَّا أن
يُحوِّلوا
أعينهم عنه، وإذا كان هناك فلاسفةٌ ينفُذون بأبصارهم خلال هذا السراب الخادع، فإنهم لا
يجدون
مع ذلك من يُصغِى السمع إليهم إلا قليلًا، حين يَحذَرون بعض الوقت من الشعبية المزعومة
ويتبينون
ألَّا يتسنَّى للإنسان أن يكون شعبيًّا بِحقٍّ حتى يُحَصِّلَ أنظارًا معيَّنة ويصل إلى
آراءٍ
مُحدَّدة.
حَسْبُ الإنسان أن يتأمَّل المُحاولات التي وُضِعَت في الأخلاق وفقًا لذلك الذَّوق
المفضل، وسرعان ما
سيجد القدر الخاص للطبيعة الإنسانية (وكذلك بين حين وآخر فكرة طبيعةٍ عاقلة على الإجمال)
تُوصف تارة بالكمال وتارةً أخرى بالسعادة، وتُسمَّى هنا عاطفةً أخلاقية وهناك مخافةَ
الله، من هذا
شيء ومن ذلك شيءٌ آخر، والكل في خليطٍ عجيب، دون أن يخطر للإنسان أن يسأل نفسه إن كان
عليه أن
يبحث في المعرفة بالطبيعة الإنسانية (التي لا نستطيع أن نستمدها إلا من التجربة وحدها)
عن
مبادئ الأخلاق، وحين لا يجد أن الأمر كذلك، وأن هذه المبادئ قَبْليةٌ بحتة، خالصة من
كل عنصرٍ
تجريبي، وأنه لا يمكن أن نجدها أو نجد أقل جزءٍ منها إلا في تصوُّرات العقل الخالصة لا
في أي
موضعٍ آخر، عندئذٍ لا يخطر له أن يُصمِّم على أن يعزل هذا المبحث عزلًا تامًّا بِوصفه
فلسفةً
عملية بحتة أو (إذا جاز لنا أن نستعمل اسمًا ساءت سمعته) بوصفه ميتافيزيقا
٨⋆ أخلاق،
فيصل بها، مُستقلةً بذاتها، إلى أقصى درجات تمامها وأن يسأل الجمهور، الذي يطالب بالتناوُل
الشعبي، الصبر إلى نهاية هذه المهمة.
ولكن ميتافيزيقا الأخلاق هذه، المستقلة استقلالًا تامًّا، والتي لا تختلط بالأنثروبولوجيا
[بعلم الإنسان] ولا باللاهوت، لا بالفزياء ولا بما فوق الفزياء،
٩ وأقل من ذلك اختلاطها بالخواصِّ الخفية (التي يمكن أن نُسمِّيها تحت الفزيائية)؛ أقول
إن هذه الميتافيزيقا ليست فحسب مُقوِّمًا لا غِنَى عنه لكل معرفةٍ نظرية للواجبات مُحدَّدةٍ
تحديدًا
أكيدًا، بل هي كذلك في الوقت نفسه أَمرٌ مرغوب فيه على أقصى درجة من الأهمية لأجل إتمام
تعليماتها إتمامًا فعليًّا؛ ذلك لأن تصوُّر الواجب والقانون الأخلاقي بوجهٍ عام تصوُّرًا
خالصًا
غيرَ مختلطٍ بأية إضافةٍ غريبة عن عوامل الإثارة التجريبية، له على القلب الإنساني، عن
طريق
العقل وحده (الذي يدرك عندئذٍ لِأَوَّل مرة أنه بذاته يمكن أيضًا أن يكون عقلًا عمليًّا)
من
الأَثَر ما يفوق في قوته كثيرًا سائر الدوافع
١٠⋆ التي يمكن
الإنسان أن يستمدها من حقل التجربة. إنه في وعيه بكرامته لَيَحتقر هذه الدوافع ويتمكن
شيئًا
فشيئًا من السيطرة عليها، وفي مقابل ذلك نجد أن مذهبًا مختلطًا في الأخلاق، يَتألَّف
من دوافعَ
مختلفة من العواطف والميول وفي الوقت نفسه من تَصوُّراتٍ عقلية، لا بد أن يجعل الوجدان
يتذبذب
بين دوافعَ لا تندرج تحت مبدأٍ من المبادئ قد يُمكِن بالمُصادَفة البحتة أن تُؤدِّي إلى
الخَيرِ وقد
تقود في مُعظَم الأحيان إلى الشَّر.
يَتبيَّن مما سبق بوضوحٍ أن مَقَر جميع التَّصوُّرات الأخلاقية ومصدرها قائمان بطريقةٍ
قَبْلية خالصة
في العقل، سواءٌ في ذلك العقل الإنساني المشترك والعقل التأمُّلي المُجرَّد الذي بلغ
أقصى درجاتِ
التأمُّل والتجريد،
١١ وأنه لا يمكن استخلاصها [أي التصوُّرات الأخلاقية] من أية معرفةٍ تجريبية هي لهذا
السبب معرفةٌ عارضة، وأن في صفاء مَنشئِها تكمن جدارتها التي تجعلها صالحةً لأن تكون
أسمى
المبادئ العملية التي نهتدي بهديها، وأننا في كل مرة نضيف إليها عنصرًا تجريبيًّا إنما
نسلبها بالمِقدارِ نفسه أَثرَها الأصيل ونُجرِّد الأفعال من قيمتها المُطلَقة، وأن الأمر
لا يقتصر
على أن يكون ضرورةً قُصوى تتطلبها الناحية النظرية فحسب، حين نكون بصدد التأمُّل المُجرَّد،
بل إن
من أهم الأمور من الناحية العملية أن تستقي تصوُّراتها وقوانينها من منبع العقل الخالص،
وأن
نُقدِّمها نقيةً خالصة غير مختلطةٍ بشيء، بل نزيد على ذلك فنُحدِّد مدى هذه المعرفة العقلية
العملية
التي هي مع ذلك معرفةٌ خالصة، أي كل طاقة العقل العملي،
١٢ وأن نتحاشى بذلك أن نجعل المبادئ متوقفةً على الطبيعة الخاصة للعقل الإنساني،
١٣ وذلك بقَدْر ما تسمح به الفلسفة التأمُّلية، وما قد تجد في بعض الأحيان أنه أَمرٌ
ضروري لا غِنَى عنه، [وأن نجعل في اعتبارنا] أنه لما كان ينبغي للقوانين الأخلاقية أن
تكون
صالحة لكل كائنٍ عاقل على الإطلاق، فإن من الواجب أن نَستنبِط من التصوُّر «الكُلي» للكائن
العاقل
بوجهٍ عام، وأن نجعل كل أخلاق تكون في حاجة إلى علم الأنثروبولوجيا لتطبيقها على بني
الإنسان، أول ما نجعلها مستقلةً عن هذا العلم الأخير استقلالًا تامًّا، على أساس أنها
فلسفةٌ
خالصة؛ أي ميتافيزيقا (الأمر الذي يسهل صُنعُه في هذا النوع من المعرفة النقية من كل
خليط
نقاءً تامًّا) مُوقنِين ونحن نفعل ذلك أن من العبث، إذا لم تكن لدينا مثل هذه الميتافيزيقا،
لا أقول أن نُحدِّد على وجه الدقة لِلحُكم التأمُّلي العنصر الأخلاقي للواجب في كلِّ
ما يُطابق
الواجب، بل إنه سيكون من المستحيل، حتى في مجال الاستعمال العملي الشائع المشترك، وبالأخص
فيما يتصل بالتعليمات الخُلُقية، أن نُؤسِّس الأخلاق على مبادئها الحقَّة ونوجد بذلك
طبائعَ أخلاقية
خالصة ونبُثَّها في الضمائر لِتَحفِزها على السعي إلى أقصى خيرٍ ممكن في هذا العالم.
بَيْدَ أنه لكي نخطو في هذا البحث لا من الحكم الأخلاقي المشترك (الذي يستحق هنا
كل نقد)
إلى الحكم الفلسفي، كما حدث في موضع آخر من هذا الكتاب،
١٤ بل من فلسفةٍ شعبية، لا تتجاوز في سيرها النقطة التي تستطيع أن تصل إليها
بالتلمُّس مُستعينةً بالأَمْثلة، إلى الميتافيزيقا (التي لا تدَع شيئًا تجريبيًّا يوقفها
عن سيرها
والتي تستطيع في كل الأحوال؛ إذ يكون من واجبها أن تحصُر كل ما يندرج تحت المعرفة العقلية
من
هذا النوع، أن تصعد إلى المُثل،
١٥ هناك حيث تتخلى الأمثلة [التجريبية] نفسها عنَّا) أقول إن علينا لكي نخطو في هذا
البحث خُطواتٍ طبيعية أن نَتتبَّع المَلَكة العملية للعقل ابتداءً من القواعد العامة
التي تُحدِّدها،
إلى النقطة التي يَنبثِق عندها تصوُّر الواجب منها وأن نعرض للحديث عنها عرضًا واضحًا.
كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين. الكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك
بحسب تصوُّر القوانين؛ أي بحسب مبادئ، أو بعبارةٍ أخرى هو الكائن الذي يملك «الإرادة»
لذلك. ولمَّا
كان «العقل» مطلوبًا لأجل استنباط الأفعال من القوانين، فليست الإرادة سوى عقلٍ عملي،
وإذا كان
العقل بغير نزاعٍ هو الذي يُعيِّن الإرادة، فإن الأفعال التي تَصدُر عن مثل هذا الكائن،
والتي
تُعرَف من الناحية الموضوعية بأنها ضرورية، هي كذلك من الناحية الذاتية أفعالٌ ضرورية؛
أي إن
الإرادة مَلَكة اختيار ذلك «الفعل» وحده الذي يعرف العقل، مستقلًّا عن الميول والنوازع،
إنه
ضروري من الناحية العملية أي إنه خيِّر. فإذا لم يَتمكَّن العقل وحده من تعيين الإرادة
تعيينًا
كافيًا، فمعنى هذا أن الإرادة ما تزال تخضع لشروطٍ ذاتية (أو لبعض الدوافع) التي لا تتفق
دائمًا مع الشروط الموضوعية. وبالجملة فإنه إذا كانَت الإرادة «في ذاتها» لا تتفق مع
العقل
اتفاقًا تامًّا (كما هو الحال مع بني الإنسان) فإن الأفعال التي تُعرَف من الناحية الموضوعية
بأنها أفعالٌ ضرورية تكون عندئذٍ من الناحية الذاتية أفعالًا عارضة، ويُسَمَّى تعيين
مثل هذه
الإرادة بمقتضى قوانينَ موضوعيةٍ «إلزامًا»،
١٦ أي إن العلاقة التي تربط القوانين الموضوعية بإرادةٍ لم يتمكن منها الخير تمامًا
يمكن التعبير عنها بأنها تعيين إرادة كائنٍ عاقل بوساطة مبادئَ عقليةٍ حقًّا، ولكن لا
تستطيع
هذه الإرادة بطبيعتها أن تطيعها بالضرورة. إن تَمثُّل مبدأٍ موضوعي، من حيث إنه مُلزِم
للإرادة،
يُدعي أمرًا (عقليًّا)، والصورة التي يُصاغ فيها هذا الأمر يُطلَق عليها الأمر المُطلَق.
كل الأوامر الأخلاقية المُطلَقة يُعبَّر عنها بفعل «يجب» وتَدُل بذلك على علاقة قانونٍ
موضوعي
للعقل بإرادةٍ ما، هي بحسب تكوينها الذاتي لا تُعيَّن بالضرورة بوساطة هذا القانون (إلزام)،
إنها [أي الأوامر المُطلَقة] تقول إن من الخَيرِ الإقدام على فعل شيءٍ أو اجتنابه، غير
أَنَّها تُوجِّه
هذا القول لإرادةٍ لا تُقدِم دائمًا على فعل شيءٍ لأنها تصوَّرت أن من الخير الإقدام
على فعله.
ولكن الفعل يكون من الناحية العملية خيرًا إذا كان يُعيِّن الإرادة عن طريق تصوُّرات
العقل،
وبالتالي إذا كان لا يَصدُر عن أسباب ودوافع ذاتية بحتة، لها دلالتها بالنسبة لهذا الشخص
أو
ذاك، بوصفها مبدأ من مبادئ العقل يصلح لكل إنسان.
١٧⋆
إن الإرادة الخَيِّرة التي بَلغَت من ذلك أوفى درجةٍ ستظل خاضعةً لقوانين (الخَيرِ)
الموضوعية،
ولكننا لن نستطيع من أجل ذلك أن نُصوِّرها كما لو كانْت «مُلزمةً» بالإقدام على أفعالٍ
مُطابِقةٍ
للقانون؛ ذلك لأنها من تلقاء نفسها، وبمقتضى تكوينها الذاتي، لا يمكن تحديدها إلا عن
طريق
تصور الخير. وهذا هو السبب في أن الأوامر الأخلاقية المُطلَقة لا تنطبق على الإرادة «الإلهية»
ولا على الإرادة «المُقدَّسة» بوجهٍ عام. إنَّ فِعلَ «يجب» يكون هنا في غير مكانه الصحيح؛
لأن فعل
«الإرادة» يتفق من تلقاءِ ذاتِه اتفاقًا ضروريًّا مع القانون؛ لذلك كانَت الأوامر الأخلاقية
المُطلَقة مجرد صيغٍ شكلية للتعبير عن علاقة القوانين الموضوعية للإرادة بوجهٍ عام بالنقص
الذاتي في إرادة هذا الكائن العاقل أو ذاك؛ أي في إرادة الإنسان.
كل الأوامر الأخلاقية تصدر أوامرها إذن بطريقةٍ «شرطية» أو بطريقةٍ «مُطلَقة».
١٨ تلك تُمثِّل الضرورة العملية لفعلٍ ممكن بوصفه وسيلةً لبلوغ شيءٍ آخر يريده الإنسان
(أو من الممكن أن يريده). والأَمر المُطلَق هو الذي يُعبِّر عن فعلٍ مطلوب لأجل ذاته،
لا تربطه صلة
بهدفٍ آخر، وضروري ضرورةً موضوعية.
لمَّا كان كل قانونٍ عملي يُصوِّر فعلًا ممكنًا بوصفه خيِّرًا وبالتالي ضروريًّا بالنسبة
لذاتٍ
يمكن أن تُحدَّد بالعقل تحديدًا عمليًّا؛ فإن جميع الأوامر الأخلاقية المُطلَقة صيغٌ
شكلية يتم
بها تحديدُ الفعل الذي يكون فعلًا ضروريًّا بمقتضى مبدأ إرادةٍ خيِّرة على نَحوٍ من الأنحاء.
فإذا كان الفعل خيِّرًا لِمجرَّد أنه وسيلة لتحقيق «شيءٍ آخر»، فإن الأمر المُطلَق يكون
عندئذٍ
أمرًا شرطيًّا أمَّا إذا تصوَّرنا بوصفه خيِّرًا «في ذاته»، وبالتالي ضروريًّا في إرادة
تكون في
ذاتها مُطابِقةً للعقل، كمبدأٍ لتلك الإرادة، فإنه يكون عندئذٍ أمرًا مُطلَقًا.
الأَمْر المُطلَق إذن يُبيِّن لي ما هو الفعلي الخيِّر الذي يمكنني القيام به، كما
يُصوِّر لي
القاعدة العملية المتعلقة بإرادةٍ لا تبادر بالإقدام على فعلٍ لأنه خيِّر، إمَّا لأن
الذات لا
تعرف دائمًا أنه خيِّر، وإمَّا لِأَن المُسلَّمات التي تعتقد فيها، حتى لو كانَت تعرف
أنه فِعلٌ
خيِّر، قد تتعارض مع المبادئ الموضوعية لعقلٍ عملي.
وعلى ذلك فإن الأمر الشرطي إنما يُعبِّر فحسب عن أن الفعل يكون خيِّرًا بالقياس إلى
مَقصدٍ
ممكن أو واقعي. فهو في الحالة الأولى مبدأٌ «احتمالي» عملي، وهو في الحالة الثانية مبدأٌ
«تقريري»
عملي. والأمر المُطلَق الذي يعلن أن الفعل في ذاته يكون ضروريًّا ضرورةً موضوعية إذا
كان غير
مرتبط بأي مقصد؛ أي إذا كان مجرَّدًا عن كل هدفٍ آخر، يَصلُح لأن يكون مبدأً ضروريًّا
عمليًّا.
١٩
في وُسعِ الإنسان أن يَتصوَّر أن كل ما لا يمكن تحقيقه إلا بفضل تَدخُّل قوى كائنٍ
عاقل فحسب يمكن
في الوقت نفسه أن يكون مقصد إرادةٍ ما، ولهذا كانَت مبادئ الفعل، من حيث إنه يُعَد ضروريًّا
للوصول عن طريقه إلى هدفٍ من الأهداف يُمكِن تحقيقه عن هذا السبيل، لا حصر لها في واقع
الأمر.
كل العلوم تَشتمِل على جُزءٍ عملي يتكون من مسائلَ تُفترض أن هدفًا من الأهداف ممكن التحقيق،
ومن
أوامرَ أخلاقيةٍ تَدلُّنا على كيفية الوصول إلى هذا الهدف. هذه الأوامر يمكن أن تُسَمَّى
بوجهٍ
عام أوامر «البراعة». أمَّا السؤال عما إذا كان الهدف معقولًا وخيِّرًا فهو أمرٌ لا يهمُّنا
هنا في شيء … وإنما المهم عندنا الآن هو ما ينبغي علينا أن نصنعه لنصل إلى هذا الهدف؛
فالتعليمات التي ينبغي على الطبيب أن يتبعها لكي يشفي مريضه شفاءً تامًّا، والتعليمات
التي
يجب أن يلتزم بها مازج السموم لكي يُميت مِيتةً مؤكدة كلتاهما من هذه الناحية متساويتان
في
القِيمة، طالما كانَت تعاليم كُلٍّ منهما تُؤدِّي إلى تحقيق هدفه على الوجه التام. وإذا
كُنَّا
ونحن في شبابنا الباكر لا ندري أي الأهداف ستعترض طريق حياتنا، وجدنا الآباء حَريصِين
على
تلقين أبنائهم «ألوانًا مُتعدِّدة» من المعارف، حرصهم على تعليمهم «الحِذق والمهارة»
في استخدام
الوسائل المؤدية إلى تحقيق الأهداف التي قد يحلو لهم أن يَسعَوا إليها، دون أن يكون في
مقدورهم أن يُقرِّروا إن كان أولادهم سيتخذونه حقًّا هدفًا لهم في مستقبل حياتهم، في
حين أن «من
الممكن» أن يصبح الهدف الذي يَسعَون إلى تحقيقه في يومٍ من الأيام، ويبلُغ حرص الآباء
مَبلَغه بحيث
نجدهم يهملون عادةً تكوين أحكامهم عن قيمة الأشياء التي يجوز لهم أن يجعلوهم هدفًا لهم
في
مستقبل حياتهم كما نجدهم يُهمِلون تصحيح هذه الأحكام.
هنالك بالمثل «هدفٌ» نستطيع أن نفترض وجوده وجودًا واقعيًّا عند جميع الكائنات الحية
العاقلة
(بقَدْر ما تنطبق الأوامر الأخلاقية عليها؛ أعني بوصفها مخلوقاتٍ تعتمد على غيرها)، وبالتالي
بقصد لا يتوافر لديهم من ناحية الإمكان فحسب، بل نستطيع أن نُسلِّم تسليمًا مُؤكَّدًا
بأنه يتوافر
لديهم جميعًا بمقتضى ضرورةٍ طبيعية، ونعني به مقصدهم إلى تحقيق السعادة. إن الأَمر الأخلاقي
الشرطي، الذي يمثل الضرورة العملية للفعل بوصفها وسيلةً لبلوغ «السعادة»، هو أمر «توكيدي».
ولا
يجوز أن نُصوِّره كما لو كان مجرد أَمرٍ ضروري لا غِنَى لتحقيق مقصدٍ غير مُؤكَّد وممكن
فحسب، بل ينبغي
أن نُعبِّر عن ضرورته لتحقيق مَقصِد يستطيع المرء أن يفترض وجوده على نحوٍ يقيني وقَبْلي
عند كل
إنسان؛ لأنه جزءٌ من كيانه وطبيعته. وإذن ففي استطاعتنا أن نُطلِق على البراعة في اختيار
الوسائل المُؤدِّية إلى القَدْر الأعظم من رفاهية الإنسان اسم «الفطنة»
٢٠⋆ بمفهومها
الضيق. وهكذا يكون الأمر الأخلاقي المتعلق باختيار الوسائل المؤدية إلى تحقيق سعادتنا
الشخصية، ونعني به التعاليم التي تُوصِي بها الفِطنة، أمرًا شرطيًّا على الدوام، وعندئذٍ
لا
يُؤمَر بالفعل أمرًا مطلقًا، بل بوصفه وسيلةً لتحقيق مقصدٍ آخر فحسب.
وهناك أخيرًا أَمرٌ من شأنه أن يُوصِي مباشرةً باتباع مسلكٍ مُعيَّن، بغير أن يضع
شرطًا لذلك أيَّ
مقصدٍ آخر يمكن الوصول إليه عن طريق هذا المسلك. هذا الأمر المُطلَق. إنه لا يتعلق بمادة
الفعل
ولا يمكن أن يَترتَّب عليه، بل يتعلق بالصورة والمبدأ اللَّذَين يَترتَّب هو نفسه عليهما،
وما فيه من
خيرٍ حق فإنما يكمن في النية التي كانت الباعث عليه، كائنةً ما كانَت النتائج التي ترتبت
عليه. هذا الأمر يُمكِن أن نُطلِق عليه اسم الأَمْر الأخلاقي.
يمكن أن يُميِّز الفعل الإرادي بمقتضى هذه المبادئ الثلاثة، تمييزًا واضحًا عن طريق
التفاوُت
في الإلزام الذي تَفرِضه على الإرادة. ولكي نجعل هذا التفاوت ملحوظًا، فإنني أعتقد أنه
ليس
أَنسبَ من تسميتها بحسب ترتيبها، فنقول إمَّا أن تكون «قواعدَ» للبراعة، أو نصائحَ للفِطنة،
أو
أوامر (قوانين) للأخلاق؛ ذلك لأن «القانون» وحده هو الذي ينطوي على تصوُّر «ضرورةٍ غيرِ
مشروطة»،
موضوعية بحق، وبالتالي صالحة صلاحيةً عامة، ولأن الأوامر هي قوانين ينبغي على الإنسان
طاعتها، أي ينبغي عليه اتباعُها ولو كانَت مُخالِفةً للميل مُخالَفةً تامةً، أمَّا إسداء
النصح
فقد ينطوي حقًّا على الضرورة، ولكنها ضرورةٌ لا صحَّة لها إلا إذا كانَت مُقيدةً بشرطٍ
ذاتيٍّ عارض،
تبعًا لما يعُدُّه هذا الإنسان أو ذاك من أسباب سعادته، وعلى العكس من ذلك نجد الأَمْر
الأخلاقي
لا يَحدُّه أي شرط، وهو من حيث إنه ضروري ضرورةً مُطلَقةً، وإن هذه الضرورة عمليةٌ أيضًا،
يمكن
بحقٍّ أن يُسَمَّى أمرًا. ونستطيع كذلك أن نطلق على أوامر النوع الأوَّل اسم «الفنية»
(أي
المتعلقة بالفن)، وأن نُسَمِّي أوامر النوع الثاني الأوامر العملية
٢١⋆ (أو
المتعلقة بالرخاء والصالح العام)، وأوامر النوع الثالث بالأوامر «الأخلاقية» (أو المتعلقة
بالسلوك الحُر بوجهٍ عام؛ أي بالأخلاق).
وهنا يبرز هذا السؤال: كيف تصبح جميع هذه الأوامر ممكنة؟ هذا السؤال لا يريد أن يعرف
طريقة تصوُّر تحقيق الفعل الذي يحض عليه الأمر، بل يطالب بمعرفة طريقة تصوُّر الإلزام
الإرادي
فحسب، الذي يُعبِّر عنه الأمر في صورة المهمة المطلوب تنفيذها. إن الأمر لا يحتاج إلى
شرحٍ خاص
لبيان كيف يُصبِح أمر البراعة ممكنًا. فمن يرد الغاية، يرد كذلك (بقَدْر ما للعقل على
أفعاله من
تأثيرٍ حاسم) الوسيلة التي لا غِنَى عنها لتحقيق هذه الغاية، والتي تقع في حدود طاقته.
هذه
القضية، فيما يتعلق بفعل الإرادة، قضيةٌ تحليلية؛
٢٢ ذلك لأن إرادتي لموضوعٍ ما بوصفه أثرًا ينتج عن فعلي يفترض عِلِّيَّتي سلفًا من حيث
إنني عِلَّته الفاعلة؛ أعني أنه يفترض استخدام الوسائل، ويستنبط الأمر فكرة الأفعال الضرورية
لبلوغ هذه الغاية من فكرة الفعل الإرادي لهذه الغاية (ما من شكٍّ في أن تحديد الوسائل
الضرورية لإدراك هدفٍ وضعتُه لنفسي يتطلب قضايا تركيبية، ولكن هذه القضايا التركيبية
لا تتعلق
بمبدأ تحقيق فعل الإرادة، بل بتحقيق الموضوع). فإذا كان عليَّ، لكي أقسم بحسب مبدأٍ مُعيَّن
خطًّا مستقيمًا إلى قِسمَين مُتساويَين، أن أرسم من طرفَي هذا الخط قوسَين دائريَّتَين
مُتقاطعتَين،
فإن ذلك ما تُلقِّنني إياه الرياضة بوساطة القضايا التركيبية وحدها، أمَّا إذا كنت أعرف
أن هذا
الفعل وحده هو الذي يمكن أن يتم عن طريقه الأثر المُتصوَّر، وكُنتُ إذا أَردتُ أن يتحقق
الأَثَر
بتمامه، أَردتُ معه الفعل الذي يتطلبه؛ فإن هذه القضية تكون عندئذٍ قضيةً تحليلية؛ ذلك
لأن
تصوري لشيء بوصفه أثرًا يمكن أن أتمه على نَحوٍ مُعيَّن، وتَصوُّري لنفسي بالنظر إلى
هذا الأثر،
فاعلًا له على النحو عَينِه، كلاهما في الحقيقة أَمرٌ واحد.
لو كان من الميسور إعطاء فكرةٍ مُحدَّدةٍ عن السعادة، لأمكن أن تتفق أوامر الفطنة
اتفاقًا
تامًّا مع أوامر البراعة ولأمكن بالمثل التعبير عنها في صورةِ قضايا تحليلية؛ إذ سيكون
من
المُستطاع أن نقول هنا كما قلنا هناك إن من يُرد الغاية يُرد كذلك (بما يتفق بالضرورة
مع
العقل) الوسائل التي لا غِنى عنها لبلوغها، والتي تقع في حدود قدرته. غير أن من سوء الحظ
أن
فكرة السعادة قد بَلغَت من عدم التحدُّد مبلغًا جعل كل إنسان، على الرغم من رغبته في
أن يكون
سعيدًا، يعجز عن التعبير عما يشتهيه وما يريده على الحقيقة بكلماتٍ مُحدَّدة ومتماسكة،
والسبب
في ذلك أن جميع العناصر التي تتألَّف منها فكرة السعادة عناصر تجريبية؛ أي إنها يجب أن
تُستمَد
بأكملها من التجربة، وأن فكرة السعادة يُلازِمها بالضرورة فكرة كل مُطلَق وقَدْر أَعظَم
من الإحساس
بالهناء في حالتي الراهنة والمُستقبَلة على السواء. بَيْدَ أنه من المستحيل على كائنٍ
مُتناهٍ
وإن ظن في نفسه أنه أَحكمُ المخلوقات وأَشدُّها قوة، أن يُكوِّن فكرةً مُحدَّدةً عما
يريده على وجه
الدقَّة من وجوده على هذه الأرض. هل يريد الثروة؟ كم من الهم والحسَد والدس والوقيعة
يجلبه فوق
رأسه؟ هل يبتغي المزيد من المعرفة والبصيرة؟ لعل هذا ألَّا يزيد بصره إلا نفاذًا إلى
الشرور
التي تتوارى الآن عنه والتي لا سبيل إلى تلاشيها فتَتبدَّى في صورةٍ أبشع، أو أن يحمل
نزواته
التي ما بَرِحَت تُذيقه الأَمَرَّين في سبيل إشباعها، بأعباءٍ جديدة من المطالب والحاجات.
أيشتهي
عمرًا طويلًا؟ ولكن مَن الذي يضمن له أنه لن يكون شقاءً طويلَ الأجل؟ أم هل يريد على
الأقل
الصحة؟ ولكن كم كان اعتلال الجسد عاصمًا من إفراطٍ كان حَرِيًّا بأن يُوهِن الصحة الكاملة
… إلخ.
إنه على الجملة عاجزٌ عن أن يُحدِّد بِيقينٍ تام وبمقتضى مبدأٍ من المبادئ ما يُمكِن
أن يُوفِّر له
السعادة الحقة؛ لأنه سيحتاج حينئذٍ إلى المعرفة الكلية التي تُحيط بكل شيء. وإذن فليس
في
استطاعة الإنسان، لكي يحصل على السعادة، أن يُراعي في أفعاله مبادئَ مُحدَّدة، وإنما
عليه أن
يتبع نصائحَ تجريبية، مثل المحافظة على الغذاء الصحي، والاقتصاد، والأدب، والتَّحرُّز
… الخ،
وكلها أمورٌ دَلَّت التجربة على أنها في معظمها تُوفِّر حظًّا عظيمًا من المتعة والهناء.
يترتب على
هذا أن أوامر الفطنة، إذا شئنا الدقة في القول، لا يمكن بحال أن تأمر بشيء أو تُوصي بشي،
أو
أنها لا يمكن أن تُصوِّر الأفعال بطريقةٍ موضوعية كما لو كانَت ضروريةً من الناحية العملية،
وأنها ينبغي أن تُؤخذ مأخذ النصائح consilia لا الأوامر praecepta العقلية، وأن مشكلة تحديد الفعل الذي يكفل
السعادة للكائن الحي العاقل تحديدًا يقينيًّا وعامًّا، مشكلةٌ لا حل لها على الإطلاق،
وعلى
ذلك فلا يمكن من هذه الناحية أن يكون هناك أمرٌ يقضي، بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بالإقدام
على فعلِ ما يجلب السعادة؛ وذلك لأن السعادة مثالٌ لِمَلَكة التخيُّل لا للعقل، يقوم
على مَبادئَ
تجريبية فحسب ينتظر الإنسان منها عبثًا أن تُحدِّد فعلًا يمكن أن نصل عن طريقه إلى المجموع
الشامل لسلسلةٍ من النتائج هي في واقع الأمر غيرُ متناهية. إن أمر الفطنة هذا سيصبح،
إذا سلمنا
بأن وسائل الوصول إلى السعادة تقبل أن تُحدَّد تحديدًا يقينيًّا، قضيةً تحليليةً عملية؛
ذلك لأنه
لا يفترق عن أمر البراعة إلا في أن الهدف من هذا الأمر الأخير ممكن، بينما الهدف من ذلك
الأمر مُعطى في الواقع، ولكن لمَّا كان كِلا الأَمرَين يُوصي فحسب باتباع الوسائل لتحقيق
ما افترَض
الإنسان أنه يريده هدفًا له، فإنه يترتب على ذلك الأمر الذي يوصي من يريد الهدف بأن يريد
الوسائل المُؤدِّية إليه هو في الحالتَين أَمرٌ تحليلي. وإذن فليس ثَمَّةَ صعوبةٌ في
إمكان وجود أَمرٍ من
هذا النوع.
وعلى العكس من ذلك نرى أن مشكلة إمكان وجود الأمر الأخلاقي هي المشكلة الوحيدة التي
تحتاج
إلى حل؛ إذ إنه ليس أمرًا شَرطيًّا على الإطلاق؛ ومِن ثَمَّ لا يمكن الضرورة المُتصوَّرة
تصورًا موضوعيًّا أن تستند على أي فرض، كما هو الحال في الأوامر الشَّرطية. غير أنه لا
ينبغي
في هذا الصدد أن نُغفِل أبدًا أنه يَتعذَّر عن طريقِ مثالٍ وبالتالي عن طريق التجربة،
أن نقطع على
وجه الإجمال بوجود أَمرٍ من هذا النوع، بل إننا لَنخشى أن تكون الأوامر التي تبدو في
ظاهرها
مُطلَقة، في حقيقة أمرها أَوامرَ شرطية مُقنَّعة. فإذا قيل مثلًا: ينبغي عليك ألا تبذل
وعدًا
كاذبًا، إذا افتُرِض أن ضرورة هذا الامتناع عن بذل الوعد الكاذب ليست مُجرَّد نصيحةٍ
يُبْتغى من
ورائها تجنُّب شَرٍّ آخر، بحيث ينبغي أن يُقال: لا ينبغي عليك أن تَعِد وعدًا كاذبًا،
حتى لا يحسب
ذلك عليك إذا ما انكَشَف الأمر، بل إذا كان من الواجبِ عدُّ فعلٍ من هذا النوع شرًّا
في ذاته وكان
أمرُ النَّهي عنه أمرًا مطلقًا، فلن نستطيع من ذلك أن نُثبِت بما لا يقبل الشك عن طريقِ
أي مِثالٍ
[تجريبي] نلجأ إليه. إن الإرادة هنا قد حدَّدها القانون وَحدَه ولم تُؤثِّر عليها الدوافع
الأخرى،
حتى لو بدا الأمر كذلك؛ إذ إن من الممكن دائمًا أن يكون للخوف من الخجل، أو لِلقلَق الغامض
من
أخطارٍ أخرى تأثيرٌ خَفِي على الإرادة. ومن ذا الذي يستطيع أن يُبرهِن بالتَّجرِبة على
عدَم وجود علة،
بينما التجرِبة لا تزيد على أن تُعلِّمنا أننا لا نُدرِك تلك العلة؟ في مثل هذه الحالة
لن يكون
الأمر الأخلاقي المزعوم، الذي يبدو كأنه أَمرٌ مُطلَق غيرُ مشروطٍ بشرط، في الواقع أَكثرَ
من وصيةٍ
عملية تُنبِّهنا إلى منفعتنا وتُعلِّمنا كيف نَنظُر إليها بِعين الاعتبار.
سوف يتعيَّن علينا إذن أن نبحث بحثًا قَبْليًّا خالصًا في إمكان وجود أَمرٍ أخلاقي
«مُطلَق»، ما
دامت الفرصة لم تُتَح لنا هنا لِنجده مُتحَققًا. التجربة؛ فلو أننا وجدناه في التجربة،
لَمَا
اضطُررنا حينئذٍ إلى أن نختبر إمكان وجوده، بل أن نُفسِّره فحسب. على أنه يكفي الآن أن
نُلاحظ
بصورةٍ مُؤقَّتة أن الأمر المُطلَق هو وحده الذي يُوصف بأنه قانونٌ عملي، أمَّا سائر
الأوامر فقد
تُسَمَّى «مبادئ» الإرادة، ولكن لا يمكن تسميتها بالقوانين؛
٢٣ ذلك لأن ما تقضي الضرورة بفعله لبلوغ مَقصدٍ نهواه، يمكن عَدُّه في ذاته شيئًا
عارضًا، كما يمكننا في كل حينٍ أن نتحلَّل من الوصية التي تحضُّنا على اتباعه إن نحن
تخلينا عن
المَقصِد الذي نوَدُّ تحقيقه، ولكننا على النقيض من ذلك نجد أن الأمر المُطلَق لا يترك
للإرادة
فرصةً لتختار على هواها عكس ما يقضي به، ومِنْ ثَمَّ كان الأمر المُطلَق وحده هو الذي
ينطوي
على الضرورة التي تتطلب وجودها في كل قانون.
يُضاف إلى هذا أن علة الصعوبة في هذا الأمر المُطلَق أو القانون الأخلاقي (ونعني
بها صعوبة
إدراك وجه الإمكان في وجوده) على جانبٍ عظيم؛ فهذا الأمر المُطلَق قضيةٌ تركيبية — عملية
قَبْلية،
٢٤⋆ ولمَّا كان
فهم إمكانِ وجود قضايا من هذا النوع في المعرفة النظرية أمرًا على جانبٍ كبير من الصعوبة،
فإن
من السهل أن نستنتج أنها لن تقِل عنها صعوبةً في المعرفة العملية.
نريد لِكي نتوصل إلى حل هذه المشكلة أن نُحاول أوَّلًا أن نعرف إن كان من الممكن أن
تُقدم
لنا مجرد فكرة أَمرٍ مُطلَق الصيغة التي تُعبِّر عنه كذلك، تلك الصيغة التي تحتوي على
القضية التي
يمكنها وحدها أن تصبح أمرًا مُطلَقًا؛ ذلك لأن معرفة وجه الإمكان في مثل هذا الأمر المُطلَق،
حتى لو كُنَّا نعرف الصيغة التي تُعبِّر عنه، سوف يتطلب مِنَّا كذلك جهدًا خاصًّا وشاقًّا،
مما
يجعلنا نرجئ النظر فيه إلى القسم الأخير من هذا الكتاب.
عندما أتصور أمرًا «شرطيًّا» على وجه الإجمال، فإنني أعرف مقدمًا ما سوف ينطوي عليه،
حتى
أُعطي الشرط الذي يقوم عليه. أمَّا إذا تَصوَّرتُ أمرًا مُطلَقًا، فإنني أعرف على الفور
ما ينطوي
عليه؛ ذلك لأنه لمَّا كان الأمر لا يحتوي، بالإضافة إلى القانون، إلَّا على الضرورة التي
تقضي
بأن تكون المُسلَّمة
٢٥⋆ مطابقة
لهذا القانون، وكان القانون لا يَتضمَّن أي شرطٍ يَحدُّه، فلن يبقى شيءٌ على الإطلاق
سوى الجانب
الكليِّ العام من القانون بوجهٍ عام، الذي ينبغي على مُسلَّمة الفِعلِ أن تكون مُطابقةً
له، وهذه
المُطابَقة هي وحدها التي تُصوِّر لنا وجه الضرورة في هذا الأمر.
وإذن فليس ثَمَّةَ غيرُ أمرٍ مُطلَق واحد، يمكن التعبير عنه على النحو التالي: «لا
تفعل الفعل إلَّا
بما يتفق مع المُسلَّمة التي تمكنك في نفس الوقت من أن تريد لها أن تصبح قانونًا عامًّا.»
٢٦
فإذا أمكن إذن أن تُشتَق جميع أوامر الواجب من هذا الأمر الواحد كما تُشتق من مبدئها،
فإننا
سنستطيع عندئذٍ، وإن تركنا بغير حلٍّ مُشكلةَ مَعرفةِ ما إذا كان ما نُسمِّيه بالواجب
ليس في مجموعه
إلا تَصوُّرًا أَجوفَ؛ أقول إننا سنستطيع عندئذٍ على أقلِّ تقديرٍ أن نُبيِّن ما نفهمه
من ذلك وما
يعنيه هذا التصوُّر.
ولمَّا كان شمول القانون الذي تَحدُث بمقتضاه الآثار والنتائج المُترتِّبة عليه هو
الذي يُؤلِّف
ما نُسميِّه بوجه خاص «بالطبيعة» بالمفهوم الأعم لهذه الكلمة (من الناحية الصورية)، أو
بتعبير
آخر وجود الأشياء من حيث تحده قوانينُ عامةٌ شاملة،
٢٧ فإن الأمر الكلي الواجب يمكن أيضًا أن يُعبِّر عنه في هذه الصيغة: «افعل كما لو
كان على مُسلَّمة فِعلِك أن ترتفع عن طريق إرادتك إلى قانونٍ طبيعي عام.»
وهنا نُريد أن نُحصِي بعض الواجبات بحسب تقسيمها المعتاد إلى واجباتٍ نحو أنفسنا
وواجباتٍ نحو
غيرنا من الناس، إلى واجباتٍ كاملة وأخرى غيرِ كاملة.
٢٨⋆
-
(١)
لنضرب مثلًا حالة امرئٍ يُحس بالضجر من الحياة، نتيجةً لِسلسلةٍ من الشرور وَصلَت به
إلى حد اليأس، ويظل مالكًا لِزمامِ عقله؛ بحيث يمكنه أن يسأل نفسه، إن لم يكن مما
يتعارض مع الواجب تجاه نفسه، أن يَضَع حدًّا لحياته. إنه عندئذٍ يحاول أن يعرف إن
كان من الممكن أن تصبح مُسلَّمة فعله قانونًا طبيعيًّا عامًّا. ولكنَّ مُسلَّمتَه تبدو
على النحو التالي: إنني أجعل مبدئي الذي أستمده من حبي لذاتي أن أختصر حياتي
إذا وجدتُ أن امتدادَ أَجَلها يُهدِّدني من شرورها بما يزيد على ما يعدني به من
مباهجها. والمشكلة عندئذٍ هي أن تعرف إن كان مبدأ حب الذات هذا يمكن أن يصبح
قانونًا طبيعيًّا عامًّا. ولكن الإنسان سرعان ما يُدرك أن طبيعة يهدف قانونها
إلى تحطيم الحياة، عن طريق الإحساس الذي تقوم وظيفته على دفع عجلة التطوُّر في
الحياة، إنما تُناقِض نفسها بنفسها ولا يمكن أن تحتفظ تبعًا لذلك بما يجعلها
طبيعة، وأن من المستحيل على تلك المُسلَّمة أن تُصبح قانونًا طبيعيًّا، وأنها نتيجةً
لذلك كله تُناقض المبدأ الأعلى للواجب مناقضةً تامة.
-
(٢)
وهناك حالة امرئٍ آخر تدفعُه الحاجة إلى اقتراض مبلغٍ من المال. إنه يعلم تمام
العلم أنه لن يستطيع سَدادَه، ولكنه يرى كذلك أنه لن يحصل على شيءٍ حتى يعِد وعدًا
ثابتًا أن يرُدَّه في موعدٍ مُحدَّد. إن لديه من الرغبة ما يَحفِزه على أن يبذل مثل هذا
الوعد، ولكنَّ لديه أيضًا من وازع الضمير ما يجعله يسأل نفسه: أليس مُحرَّمًا على
الإنسان ومنافيًا للواجب أن يتخلص المرء من الضائقة التي يُعانيها بهذه الطريقة؟
لنفترض أنه قرر بالفعل أن يلجأ إلى ذلك فإن مُسلَّمة فعله ستكون على هذا النحو:
حين أعتقد أنني أُعاني ضائقةً مالية، فسوف أَعمِد إلى اقتراض المال وبذل الوعد
بتسديده، وإن كنت أعلم أن ذلك لن يحدث أبدًا. وقد يكون من المحتمل التوفيق بين
مبدأ حب الذات هذا أو مبدأ المنفعة الشخصية وبين كل ما أنتظره لنفسي في
المستقبل من حياةٍ هنيئة، بَيْدَ أن السؤال الآن هو إن كان هذا المبدأ عادلًا؟
عندئذٍ سأجد على الفور أنها لا يمكن أن تصبح قانونًا طبيعيًّا عامًّا ولا أن
تتفق مع نفسها، بل إنها لا بد أن تُناقض نفسها بالضرورة؛ وذلك لأن التسليم
بقانونٍ عامٍّ مُؤدَّاه أن كل إنسانٍ يعتقد أنه في ضائقةٍ يستطيع أن يعِد بما يخطر على
باله، مع النية المعقودة على عدم الوفاء بهذا الوعد، سيجعل الوعد نفسه والغاية
التي يطمع في تحقيقها عن طريقه أمرًا مستحيلًا؛ إذ لن يصدق أحد ما يُبذَل له من
وعود، بل إنه سيَهزأ بمثل هذا القول كما لو كان ادِّعاءً باطلًا سخيفًا.
-
(٣)
وثالث يلمس في نفسه موهبةً يُمكِن أن تجعل منه، مع شيءٍ من التثقيف والتهذيب،
أمرًا نافعًا من نواحٍ كثيرة. غير أنه يرى نفسه يعيش في ظروفٍ مُيسَّرة ويُؤثِر أن
يجري وراء اللذات بدلًا من أن يبذل جهده في تنمية استعداداته الفطرية السعيدة
وتحسينها. ولكنه يسأل نفسه إن كانَت مُسلَّمته التي تحثُّه على إهمال مواهبه
الطبيعية، التي تتفق في ذاتها مع نزعته الطبيعية إلى التمتُّع باللذَّات، تتفق كذلك
ما مع يُسَمَّى بالواجب. عندئذٍ يرى أن الطبيعة بحسب قانونٍ عامٍّ كهذا يمكنها
حقًّا أن تظل باقية، حتى لو ترك الإنسان (كما يفعل سكان بحر الجنوب) موهبته
تصدأ ولم يُفكِّر إلا في توجيه حياته إلى الفراغ، واللذَّة، والتناسُل، والاستمتاع
على وجه الإجمال، غير أنه لا يمكنه على الإطلاق أن «يريد» لهذا أن يصبح قانونًا
طبيعيًّا عامًّا، أو أن يُغرَس بحالته التي هو عليها في نفوسنا عن طريق غريزةٍ
فطرية؛ ذلك لأنه، بما هو كائنٌ عاقل، يريد بالضرورة أن تُنمَّى جميع مَلَكاته لكونها
نافعةً له، ولأنها أُعطِيَت له لِيبلُغ ألوانًا عديدة من الغايات والأهداف.
-
(٤)
وهناك رابعٌ توافَرت له أسباب الحياة الرغيدة، ينظر حوله فيرى غيره من الناس
يكافحون في حياتهم كفاحًا شاقًّا (وإن كان في استطاعته أن يمدَّ إليهم يد
المساعدة) ونجده يُفكِّر على هذا النحو: وما شأني أنا بهذا؟ فليفُز كلٌّ من السعادة
بما تشاء له السماء أو بما يشاء هو لنفسه، فلن أَسلبَه شيئًا أو أَحسُده على شيء،
لكنني لا أشتهي أن أُسهِم بشيءٍ في إسعاد حياته أو الوقوف إلى جانبه في أوقات
الشدة! أجل، إن مثل هذا اللونِ من التفكير لو أصبح قانونًا طبيعيًّا فإن الجنس
البشري سيُواصل بقاءه بغير شك، بل لا نِزاعَ في أنه سيظل أَفضلَ مما لو تَشدَّق كل واحدٍ
بكلمات التعاطُف والإحساس، أو دفعه التحمُّس إلى أن يضع بعضها من حين إلى حينِ موضع
التنفيذ، بينما يَعمِد إلى الخِداع كلما واتَته الفرصة، وبيع حقوق الناس والافتئات
عليها بوسيلةٍ أو بأخرى. ومع أن من الممكن تمامًا أن يُكتب البقاء لقانونٍ طبيعي
عام يطابق هذه المُسلَّمة، فإن من المستحيل أن «يُراد» لمثل هذا المبدأ أن يكون
صالحًا صلاحيةَ قانونٍ طبيعي عام؛ ذلك أن الإرادة التي تُقرِّر ذلك إرادةٌ تناقض
نفسها بنفسها؛ فقد يحدث في كثيرٍ من الحالات أن يحتاج مِثلُ هذا الإنسان إلى حب
الآخرِين وعَطفِهم وأن يجِد نفسه محرومًا من كل أملٍ في الحصول على المساعدة التي
يتمناها؛ إذ يحول بينه وبينها ذلك القانون الطبيعي المُنبثِق من إرادته
ذاتها.
هذه إذن هي بعض الواجبات الحقيقية العديدة، أو بعض الواجبات التي نعُدُّها على الأقل
كذلك،
يتضح استنباطها
٢٩ من المبدأ الوحيد الذي ذكرناه من قبلُ وضوحًا جليًّا. إن علينا أن يكون في
استطاعتنا أن نريد لِمُسلَّمة أفعالنا أن تصبح قانونًا عامًّا؛ فهذا هو معيار الحكم الأخلاقي
على أفعالنا بوجهٍ عام. إن من طبيعة بعض الأفعال أن مُسلَّمتها لا يمكنها، بغير أن تقع
في
التناقُض، أن تُتصوَّر كما لو كانَت قانونًا عامًّا، ومن الخطأ البالغ أن نظن أن الإرادة
تستطيع
أن تفرض عليها أن تصبح كذلك. حقًّا إن تلك الاستحالة الداخلية لا وجود لها في بعض الأفعال
الأخرى، ولكن من المستحيل مع ذلك أن «يُراد» لِمُسلَّمتها أن ترتفع إلى مستوى العموم
الذي للقانون
الطبيعي؛ لأن مثل هذه الإرادة سوف تتناقض مع نفسها.
من السهل أن نرى أن [مُسلَّمة] الأفعال الأولى تُعارض الواجب الصارم، أو الضيِّق،
بينما لا
تتعارض مُسلَّمة الأفعال الثانية إلا مع الواجب الأعم (أو واجب الاستحقاق). وهكذا نجد
أن جميع
الواجبات، من حيث نوع الإلزام الذي تفرضه (لا من حيث موضوع الأفعال الذي تُحدِّده) تبدو
من
خلال هذه الأمثلة مُعتمدةً اعتمادًا واضحًا على المبدأ الواحد.
إذا راقبنا أنفسنا في كل مرة نخرق فيها واجبًا، لوجدنا أننا لا نريد في حقيقة الأمر
أن
تُصبح مُسلَّمتنا قانونًا عامًّا؛ لأن هذا شيءٌ يتعذر علينا [أن نريده]، بل الأَوْلى
أن يبقى عكس
تلك المُسلَّمة قانونًا يحمل طابع العموم، غير أننا قد نعطي لأنفسنا الحرية فنجعل منه
«استثناءً»
لنا أو لصالح ميولنا (ولو كان ذلك مقصورًا على هذه المرة وحدها).
٣٠ يترتب على هذا أننا لو وزنَّا كل شيء من وجهةِ نظرٍ واحدة وبالذات؛ أعني من وجهة
نظر العقل، لوقعنا على تناقُض في إرادتنا نفسها؛ بمعنى أننا نريد لمبدأٍ معين، بوصفه
قانونًا
كليًّا عامًّا، أن يكون ضروريًّا ضرورةً موضوعيةً، ونريد مع ذلك ألَّا تكون له من الناحية
الذاتية قيمةٌ كلية عامة، بل أن يدع مجالًا للاستثناءات. غير أننا لما كُنَّا نعُد فِعلنا
مرة
من وجهة نظر إرادةٍ مُطابقةٍ للعقل مطابقةً تامة، وكُنَّا نعتبره مرةً أخرى من وجهة نظرِ
إرادةٍ
واقعة تحت تأثير الميل، فليس ها هنا في واقع الأمر تناقُض، بل مقاومة من جانب الميل
للتعليمات التي يقضي بها العقل (تعارُض
Antagonismus)، مما
يجعل كُلِّية المبدأ
Universalitas تتحول إلى مُجرَّد
تعميمٍ
Generalitas بحيث يكون على المبدأ العملي للعقل
أن يتلاقى مع المُسلَّمة في منتصف الطريق. وعلى الرغم من أن هذا الحل الوسط لا يمكن أن
يُبرِّره
حكمٌ نُصدِره بغير تَحيُّز، فإنه يدل مع ذلك على أننا نعترف اعترافًا صحيحًا بصلاحية
الأمر
الأخلاقي المُطلَق وأننا (مع ما نحمله له في أنفسنا من احترامٍ تام) إنما نسمح لأنفسنا
ببعض
الاستثناءات التي تبدو لنا غيرَ ذاتِ بال والتي نُكره عليها إكراهًا.
بهذا نكون قد بَيَّنَّا على أقل تقدير أنه إن كان لِتَصوُّر الواجب أن يكون ذا معنًى
وأن يشتمل
على تشريعٍ واقعي لأفعالنا، فلا يمكن أن يُعبَّر عن هذا التشريع إلا في صورة أوامرَ أخلاقيةٍ
مُطلَقة لا في شكل أوامرَ شرطيةٍ أبدًا، كذلك استطعنا، وهذا بالفعل كثير، أن نعرض محتوى
الأمر
الأخلاقي المُطلَق، الذي لا بد له أن يشتمل على المبدأ الذي تقوم عليه جميع الواجبات
(إن كان
لمثل هذه الواجبات وجودٌ على وجه الإجمال) عرضًا واضحًا مُحدَّدًا بالقياس إلى كل تطبيقاته
الممكنة. غير أننا لم نصل بعدُ إلى أن نُقرِّر بطريقةٍ قَبْلية أن مثل هذا الأمر المُطلَق
موجود في
الواقع حقًّا، وأن هناك قانونًا عمليًّا يُصدِر أوامره من ذاته على نحوٍ مُطلَق وبغير
أن يدفعه
إلى ذلك دافع، وأن اتِّباع مثل هذا القانون واجب.
٣١
إنه من أهم ما ينبغي علينا أن نضعه في اعتبارنا، حين نعقد النية على بلوغ هذا الهدف،
أن
نجعل الحذر رائدنا، فلا نسمح لِخاطرٍ أن يُصوِّر لنا أن من المستطاع استنباط هذا المبدأ
من
الخاصية «المميزة للطبيعة الإنسانية»؛ ذلك أن الواجب ينبغي أن يكون مصيره ضرورةً عملية
غيرَ
مشروطةٍ للفعل؛ أي إنه ينبغي أن يكون صالحًا لكل الكائنات العاقلة (وهي الكائنات الوحيدة
التي يمكن للأَمرِ المُطلَق أن يُطبَّق عليها دائمًا) وأن يكون، لهذا السبب وحده، قانونًا
صالحًا لكل إرادةٍ إنسانية.
أمَّا ما يُشتَق على العكس من ذلك من الاستعداد الطبيعي الخاص بالإنسانية، من عواطفَ
وميولٍ
مُعيَّنة، بل إن ما يشتق — على فرض أن هذا ممكن — من اتجاهٍ خاص يتميز به مبدأ العقل
الإنساني
وحده ولا يَلزم ضرورةً أن يكون صالحًا لإرادة كل كائنٍ عاقل، كل هذا قد يُقدِّم لنا مُسلَّمةً
[نسترشد
بها] ولكنه لن يُقدِّم لنا قانونًا، وقد يعطينا مبدأً ذاتيًّا يدفعنا الميل والنزوع إلى
أن
نُلائم بينه وبين أفعالنا، ولكنه لن يعطينا مبدأً موضوعيًّا «نُؤمر» بأن نفعل بمقتضاه
حتى لو
كانَت كل ميولنا ونوازعنا وكل الاستعدادات التي أَودعَتها الطبيعة فينا مضادةً له، بل
إن السمو
والعزة الكامنة في الأمر الذي يُعبِّر عنه الواجب لَتزداد بمقدار ما تقل مساندة العوامل
الذاتية
له، لا بل بِقَدْر ما تشتد هذه العوامل مُقاومَةً له، بِغير أن يُضعِف ذلك البتةَ من
الإلزام الذي
يفرضه القانون أو يسلبه شيئًا من صلاحيته.
الواقع أننا نجد الفلسفة هنا في موقفٍ عصيب، ولقد كان ينبغي لهذا الموقف أن يكون
ثابتًا،
ولو أنها لا تجد في الأرض ولا في السماء ما تتعلَّق به أو تستند إليه.
٣٢ إن عليها هنا أن تقيم البرهان على نقائها، فتجعل من نفسها حارسةً على قوانينها،
بدلًا من أن تكون الرسول المُبشِّر بقوانينَ يوصي بها حسٌّ فطري أو ما لا أدريه من طبيعةٍ
وصية
عليها، وقد تكون هذه القوانين في مجموعها خيرًا من لا شيء، غير أنها لن تستطيع أبدًا
أن
تَحدَّنا بمبادئَ وأصولٍ كتلك التي يمليها العقل ويتحتم فيها أن تَنبُع من مَصدرٍ قَبْلي
خالص وتستمد
منه سلطانها الآمر؛ بحيث لا تنتظر شيئًا من ميل الإنسان، بل تتوقع كل شيءٍ من السلطة
العليا
لِلقانون ومن الاحترام الواجب في حقه، ولو كان الأمر بخلاف ذلك لكان عليها أن تَحكُم
على
الإنسان بأن يحتقر نفسه ويستبشعها في سريرته.
كل العناصر التجريبية إذن لا تصلُح أبدًا أن تكون عاملًا مكمِّلًا لمبدأ الأخلاق
فحسب، بل
إنها لَضارَّة أَشَد الضرر بنقاء الأخلاق ذاتها؛ حيث نجد أن القيمة الحقة للإرادة الطيبة
طيبةٌ
مُطبَّقة، تلك القيمة التي لا يعدلها في سموها شيء، إنما تكمن على وجه التحديد في استقلال
مبدأ
الفعل عن كل التأثيرات التي تأتي من جانب المبادئ العَرَضية، وهي المبادئ الوحيدة التي
تستطيع التجربة تقديمها. ولا يستطيع الإنسان أن يمَل من التحذير من هذا التهاوُن، لا
بل من
هذا الأسلوب الدنيء في النظَر والتفكير، الذي يجعل صاحبه يُفتِّش عن المبدأ الأخلاقي
بين
الدوافع والقوانين التجريبية؛ فالعقل الإنساني الذي أنهكه التعب يلَذ له أن يستريح على
هذه
المخدَّة، وهناك يراوده حِلمٌ من التخيُّلات والأوهام الغلَّابة (التي تجعله مع ذلك يعانق
سَحابةً
بدلًا من أن يعانق جونو
Juno)
٣٣ فيدُسَّ على الأخلاق لقيطًا غيرَ شرعيٍّ لَملَم أعضاءه المُتفرِّقة الأصل وصنع منها
مخلوقًا تستطيع العين أن ترى فيه شبهًا من كل شيءٍ تشتهي أن تراه، اللهم إلَّا من الفضيلة،
إن
قُدِّر له أن يراها ولو مرةً واحدة في صورتها الحقَّة.
٣٤⋆
هكذا يوضع السؤال على النحو التالي: هل يُعد قانونًا ضروريًّا ينطبق على جميع الكائنات
العقلة، ذلك الذي يجعلهم يحكمون دائمًا على أفعالهم بمقتضى مُسلَّمات من شأنها أن يكون
في
استطاعتهم أن يُريدوا لها أن تقوم مقام القوانين العامَّة؟ إن كان القانون كذلك، فلا
بد له أن
يكون مرتبطًا (على نَحوٍ قَبْلي خالص) بتصور إرادة كائنٍ عاقل على وجه الإجمال. ولكن
لا بد
للإنسان، من أجل أن يكتشف هذا الارتباط، مهما عَزفَت نفسه عنه، أن يَتقدَّم خطوة إلى
الأمام؛
أعني في اتجاه الميتافيزيقا، ولو أدَّت به هذه الخطوة إلى مجالٍ من مجالاتها، يختلف عن
الفلسفة
التأملية؛ أعني إلى ميتافيزيقا الأخلاق، في فلسفةٍ عملية، لا يهمنا فيها أن نُسلِّم بمبادئ
«ما
يحدث»، بل أن نضع قوانينَ «لِمَا ينبغي أن يحدُث»، حتى ولَو لم يُقدَّر له أن يحدث أبدًا؛
أي قوانينَ
موضوعيةً عملية، في مثل هذه الفلسفة العملية لا نحتاج إلى البحث عن الأسباب التي تجعل
الشيء
يُعجِب أو يُنفِّر أو عن الخصائص التي تُميِّز اللذَّة الناجمة عن الإحساس البسيط من
الذوق، ولا عن
البحث عما إذا كان الذوق يفترق عن الشعور العام بالرضا من جانب العقل، كما أننا لا نحتاج
أن
نسأل عما يقوم عليه الشعور باللذة والشعور بالألم، وكيف تتولد عنهما الشهوات والميول،
وكيف
تنبثق عن الشهوات والميول، وبالتعاوُن مع العقل، المُسلَّمات؛ ذلك أن هذه المباحث جميعًا
إنما
تتعلق بمذهبٍ تجريبي في النفس،
٣٥ يصح أن يكون بدوره القسم الثاني من مذهب في الطبيعة، هذا إذا اعتبرنا هذا
المذهب في الطبيعة «فلسفةً طبيعية»، من حيث إنها مُؤسَّسة على قوانينَ تجريبية. ولكننا
نتحدث هنا
عن القانون الموضوعي العملي، وبالتالي عن علاقة الإرادة بذاتها، من حيث إنها تعين ذاتها
بالعقل وحده؛ حيث يسقط عندئذٍ كل ما له علاقةٌ بالتجربة من تِلقاء نفسه، ومَرجِع ذلك
إلى أن
العقل بذاته وحده إذا حدَّد السلوك (الأمر الذي يريد أن نبحث في إمكانِ قيامه) فلا بد
له
بالضرورة أن يفعل ذلك بطريقةٍ قَبْلية. تعدُّ الإرادة مَلَكة تحديد الذات للفعل، بما
يتفق مع
تمثُّل قوانينَ مُعيَّنة. مثل هذه الملكة لا يمكن أن نجدها إلا عند الكائنات العاقلة.
كذلك فإن ما
يصلح للإرادة مبدأً موضوعيًّا لتحديد نفسها بنفسها، هو الغاية، فإذا كانَت هذه مُعطاةً
من
العقل وحده، فيجب كذلك أن تكون صالحةً لكل الكائنات العاقلة. أمَّا ما يحتوي على العكس
من
ذلك على مبدأ إمكان الفعل فحسب، الذي تكون الغاية نتيجةً له، فيُسَمَّى «الوسيلة». المبدأ
الثاني للرغبة هو «الدافع»، والسبب الموضوعي لِفعل الإرادة هو الباعث المُحرِّك، ومن
هنا كان
الفارق بين الغايات الذاتية التي تقوم على الدوافع، وبين الغايات الموضوعية التي تستند
إلى
بواعثَ صالحةٍ لكل كائنٍ عاقل. المبادئ العملية تكون «صورية»، عندما تُجرَّد من كل الغايات
الذاتية،
ولكنها تكون ماديةً، عندما تقوم على مثل هذه الغايات الذاتية، ولكنها تكون مادية، عندما
تقوم
على مثل هذه الغايات الذاتية، وبالتالي على دوافعَ مُعيَّنة. الغايات التي يضعها كائنٌ
عقل لنفسه
على هواه «كنتائجَ» مُترتبةٍ على فِعله (أي الغايات الماديَّة) هي في مجموعها غاياتٌ
نِسبية فحسب؛ ذلك
لأن كل ما يعطيها القيمة التي لها هو مجرد العلاقة التي تربطها بالطبيعة الخاصة التي
لِمَلَكة
الاشتهاء عند الذات، هذه القيمة التي لا يمكن تبعًا لذلك أن تُقدِّم مبادئَ كُلِّية صالحة
وضرورية
لجميع الكائنات العاقلة ولا لكلِّ فعلٍ إرادي؛ أي إنها لا تستطيع أن تُقدِّم قوانينَ
عملية. وهذا
هو السبب في أن كل هذه الغايات النسبية لا تُؤسِّس غير الأوامر الأخلاقية الشرطية.
ولكن إذا فُرض أن هناك شيئًا، يكون «لِوجوده في ذاته» قيمةٌ مطلقة، شيئًا يمكن له،
بوصفه «غايةً
في ذاته»، أن يكون مبدأً لقوانينَ مُحدَّدة، عندئذٍ سنجد في هذا الشيء، وفيه وحده، مبدأ
الأمر
الأخلاقي المُطلَق الممكن؛ أي سنجد فيه مبدأ القانون العملي.
وهنا أقول: الإنسان وكل كائنٍ عاقل بوجهٍ عام يُوجد كهدفٍ في ذاته «لا كمجرد وسيلة»
يمكن هذه
الإرادة أو تلك أن تستخدمه على هواها؛ فهو في كل أفعاله سواءٌ كانَت هذه الأفعال مُتعلقةً
به
هو نفسه أم بِغيره من الكائنات العاقلة الأخرى، ينبغي أن يُنظر إليه «في الوقت نفسه على
أنه
غاية». كل موضوعات الميول ليس لها إلا قيمةٌ مشروطة، فلو لم تُوجد الميول والحاجات المبنية
عليها، لكان موضوعها بلا قيمة. أمَّا الميول نفسها، باعتبارها مصادر للحاجة، فنصيبها
من
القيمة المُطلَقة الذي يجعلها تُرغَب لِذاتها، من الضآلة بحيث إن التحرُّر الكامل منها
ينبغي أن
يكون هو الأمنية العامة التي يشترك فيها كل كائنٍ عاقل.
٣٦ يترتب على هذا أن قيمة جميع الموضوعات التي يمكن لها أن «تُكتسَب» عن طريق أفعالنا
قيمةٌ مشروطة دائمًا. والحق أن الموجودات التي لا يقوم وجودها على إرادتنا بل على الطبيعة،
ليست لها مع ذلك، إذا كانَت موجوداتٍ غيرَ عاقلة، غيرُ قيمةٍ نسبية، على أساس أنها وسائل،
وهذا
هو الذي يجعلنا نُسمِّيها «أشياءَ»، أمَّا الموجودات العاقلة فتُسَمَّى على العكس من
ذلك «أشخاصًا»؛
وذلك لأن طبيعتها قد ميَّزتها بكونها غاياتٍ في ذاتها؛ أي بما لا يجوز له أن يسُتخدَم
كمُجرَّد
وسيلة، وبالتالي بما يَحدُّ من كل فعلٍ يتسم بطابع التعسُّف والافتعال (وما يكون موضوعًا
للاحترام). ليست هذه إذن مجرد غاياتٍ ذاتية، يكون لوجودها قيمةٌ «بالنسبة لنا»، بوصفه
نتيجةً
مترتبة على أفعالنا، بل هي غاياتٌ «موضوعية»؛ أي أشياءُ وجودُها غايةٌ في ذاته، بل غاية
لا يمكن
أن تحل محلها غايةٌ سواها، حتى يمكن أن تُوضَع تلك الغايات الموضوعية في خدمتها كما لو
كانَت
مجرَّد «وَسائلَ» لها؛ إذ لو لم يكن الأَمرُ كذلك لما عَثَرنا أبدًا على شيءٍ له «قيمةٌ
مطلقة»، ولكن لو
كانَت كل القيم مشروطة، وكانت بالتالي قيمًا عَرَضية، لكان من المستحيل استحالةً تامة
أن نجد
للعقل مبدأً عمليًّا أعلى، وإذن فإذا كان من الواجب أن يُوجد مبدأٌ عمليٌّ أعلى، وأَمرٌ
أخلاقي
مُطلَق بالنظر إلى الإرادة الإنسانية، فلا بد أن يكون ذلك المبدأ وهذا الأمر، عن طريق
تَمثُّل ما
هو بالضرورة غاية لكل إنسان لأنه هو نفسه غاية في ذاته؛ بحيث يكونان المبدأ الموضوعي
للإرادة، وبالتالي ما يصلح أن يكون قانونًا عمليًّا شاملًا … وهذا هو الأساس الذي يقوم
عليه
هذا المبدأ: «تُوجد الطبيعة العاقلة كغايةٍ في ذاتها». هكذا يتمثل الإنسان بالضرورة وجوده
الخاص
به، والمبدأ بهذا المعنى يُعَد مبدأً ذاتيًّا للأفعال الإنسانية، ولكن كل كائنٍ عاقلٍ
آخر يتمثل
وجوده كذلك على هذا النحو، تبعًا لنفس المبدأ العقلي الذي يصلح لي أنا أيضًا،
٣٧⋆ وإذن فهو
في نفس الوقت مبدأٌ «موضوعي» ينبغي أن يكون من الممكن أن تُستنبَط منه كل قوانين الإرادة،
على
أساس أنه مبدأٌ عمليٌّ أعلى. وهكذا يمكن أن نضع الأمر العملي على الصورة التالية: «افعل
الفعل
بحيث تُعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائمًا وفي نفس الوقت غايةً
في
ذاتها، ولا تعاملها أبدًا كما لو كانَت مجرد وسيلة.»
نريد الآن أن نرى إن كان ثَمَّةَ سبيلٌ لتحقيق هذا الكلام. فلنَبقَ عند الأمثلة التي
قدمناها فيما سبق:
- أوَّلًا: سنجد بحسب تصوُّر الواجب الضروري تجاه الذات أن الشخص الذي يُفكِّر في
الانتحار سيسأل نفسه إن كان من الممكن أن يتفق مسلكه مع فكرة الإنسانية
بوصفها هدفًا في ذاته. فإذا لجأ إلى تحطيم نفسه لِيهرب من حالةٍ مؤلمة فإنه
يستخدم بذلك شخصًا كَمجرَّد وسيلةٍ تهدف إلى المحافظة على حالةٍ محتملة إلى
نهاية الحياة، ولكن الإنسان ليس شيئًا؛ وبالتالي ليس موضوعًا يمكن ببساطةٍ
أن يُعامَل معاملة الوسيلة، بل ينبغي النظر إليه في كل أفعاله بوصفه دائمًا
هدفًا في ذاته؛ ومِنْ ثَمَّ فلستُ أملك حق التصرف في الإنسان الكامن في
شخصي، سواءٌ كان ذلك بتشويهه، أو إفساده، أو قتله (لا بد لي أن أطرح هنا
جانبًا مسألة تحديد هذا المبدأ عن كثَب، وهو ما كان مفروضًا أن أقوم به
لِتجنُّب كل إساءة في الفهم، وهو ما يحدث في حالة اضطراري مثلًا إلى بَتْر
أعضائي لإنقاذ نفسي، أو المخاطرة بحياتي في سبيل المحافظة عليها … إلخ؛ إذ
إن مثل هذا التحديد يتعلق بالأخلاق بمعناها الخاص).
- ثانيًا: أمَّا فيما يتعلق بالواجب الضروري أو بالواجب في حق الآخرِين، فإن الذي
ينوي أو يبذل وعدًا كاذبًا لِلغير سيُدرِك على الفور أنه يريد أن يستخدم
إنسانًا آخرَ كوسيلةٍ فحسب، بغير أن يحتوي هذا الإنسان الأخير في نفس الوقت
على الغاية في ذاته؛ ذلك أنه من المستحيل على من أُريدُ أن أستخدمه بمثل هذا
الوعد الكاذب وسيلةً لتحقيق أهدافي أن يُوافقني على الطريقة التي أُعامِله بها
ولا يمكنه تبعًا لذلك أن يحتوي في ذاته على الغاية من هذا الفعل. وتزداد
هذه المجافاة لمبدأ الإنسانية وضوحًا أمام العين إذا أضفنا إلى ذلك أمثلةً
من الاعتداء على حرية الآخرِين وممتلكاتهم؛ إذ يتجلى عندئذٍ أن الذي يدوس
على حقوق الناس إنما يَقصِد إلى استخدام أشخاصهم كما لو كانَت مجرد وسيلة
فحسب، دون أن يضع في حسابه أنهم، بصفتهم كائناتٍ عاقلةً، ينبغي أن يُعَدُّوا
دائمًا في نفس الوقت غاياتٍ؛ أي كائناتٍ لا بد أن يكون في مقدورها أن تحتوي في
ذاتها على الهدف من هذا الفعل نفسه.٣٨⋆
- ثالثًا: بالنظر إلى الواجب العرضي (الاستحقاق) تجاه الذات، لا يكفي ألَّا يتناقض
الفعل مع الإنسانية في أشخاصنا بوصفها هدفًا في ذاته، بل ينبغي كذلك أن
يكون الفعل على «اتفاقٍ» معها. ولكن الإنسانية تنطوي على استعداداتٍ تُهيِّئ لبلوغ
درجةٍ أعظم من الكمال، وتكون جزءًا من الغاية التي تقصِد إليها الطبيعة
بالنسبة للإنسانية ممثلةً في ذواتنا، وإهمال هذه المواهب الاستعدادات قد لا
يتعارض مع المحافظة على الإنسانية بوصفها غايةً في ذاتها، ولكنه يتعارض مع
العمل على «تحقيق» هذه الغاية.
- رابعًا: أمَّا فيما يتعلق بواجب الاستحقاق نحو الآخرِين، فإن الغاية الطبيعية التي
يقصِد جميع الناس إلى تحقيقها هي بلوغ سعادتها. حقًّا إن الإنسانية يمكن أن
تظل باقية، إذا لم يُسهِم أحدٌ في إسعاد غيره، ولم يتعمَّد في نفس الوقت أن يسلب
منه شيئًا، غير أن هذا لن يزيد على أن يكون اتفاقًا سلبيًّا لا إيجابيًّا
مع الإنسانية بوصفها «غايةً في ذاتها»، إذا لم يحاول أحد، بقَدْر ما في طاقته،
أن يعمل على إسعاد غيره؛ ذلك لأنه لمَّا كانَت الذات غايةً في نفسها، فلا بد
أن تكون غاياتها، إن كان لذلك التصوُّر أن يُحدث عندي أثره كله، هي في نفس
الوقت بقدر المستطاع «غاياتي».
هذا المبدأ الذي تُعَد بمقتضاه الإنسانية وكل طبيعةٍ عاقلة أخرى بوجهٍ عام غايةً في
ذاتها (وهو
الشرط الأعلى الذي يحد من حرية أفعال كل إنسان) لا يُستفاد من التجربة: أوَّلًا بسبب
عمومه؛
فهو ينطبق على جميع الكائنات العاقلة؛ حيث لا تكفي أية تجربةٍ لتحديد شيء في هذا الصدد،
وثانيًا لأن الإنسانية في هذا المبدأ لا تُتصوَّر على أنها غايةٌ للناس (ذاتية)، أي كموضوعٍ
يجعل
منه الإنسان من تلقاء نفسه هدفًا في الواقع، بل تُتصوَّر كغايةٍ موضوعية ينبغي لها، مهما
تكن
الغايات التي نوَدُّ تحقيقها، من حيث إن لها صبغة القانون، أن تكون الشرط الذي يَحدُّ
من جميع
الغايات الذاتية، وثالثًا لأن هذا المبدأ إنما يَصدُر تبعًا لذلك صدورًا ضروريًّا عن
العقل
الخالص.
ذلك أن مبدأ كل تشريعٍ عملي إنما يقوم «بطريقةٍ موضوعية» على «قاعدة» الشمول أو العموم
وشكلها،
التي تجعله بحسب المبدأ الأوَّل قادرًا على أن يصبح قانونًا (يمكن أن نُسمِّيه كذلك قانونًا
طبيعيًّا)، بينما يقوم من الناحية الذاتية على «الغاية»، ولكن الذات التي تحمل جميع الغايات
هي كل كائنٍ عاقل، بوصفه غايةً في ذاتها (وذلك بحسب المبدأ الثاني)، ينتج عن هذا المبدأ
العملي الثالث للإرادة بوصفه الشرط الأعلى لموافقته للعقل العملي العام؛ أعني فكرة الإرادة
عند كل كائنٍ عاقل كإرادةٍ تضع تشريعًا عامًّا.
٣٩
سوف تُنبذ طِبقًا لهذا المبدأ كل المُسلَّمات التي لا يمكنها أن تتفق مع التشريع العام
المتعلق
بالإرادة. وهكذا نجد أن الإرادة لا تخضع للقانون وحده، بل إن خضوعها له ينبغي أن يُنظر
إليه
في نفس الوقت من حيث إنها «هي نفسها مُشرِّعة للقانون»، وإنها لا تُعَد خاضعةَ له (وفي
استطاعتها أن
تَعُد نفسها صاحبة هذا القانون) إلَّا لهذا السبب وحده.
إن الأوامر الأخلاقية، بحسب نوع التصوُّر الذي قدمناه فيما سلف، سواءٌ في ذلك الأوامر
التي
تقتضي أن تكون الأفعال مطابقة لتشريعٍ عامٍّ شبيه بالنظام الطبيعي، أو الأوامر التي تريد
أن
يكون للكائنات العاقلة المزيَّة العامة التي لِلغايات في ذاتها، قد استَبعدَت حقًّا عن
سلطانها
الآمر كل خليطٍ من منفعة أيًّا كان نوعها، استبعادَها لدافعٍ من الدوافع، وقد تم ذلك
عن طريق
تصوُّرنا لها كأوامرَ مُطلَقة، ولكننا «لم نُسلِّم» بها كأوامرَ مُطلَقة إلا لأن هذا
التسليم كان لا غِنى
عنه لتفسير تصور الواجب. أمَّا عن وجود قضايا عمليةٍ تصدر أوامرها بطريقةٍ مُطلَقة، فذلك
ما لم
يكن من المستطاع البرهنة عليه في ذاته، ولا من المستطاع كذلك إقامة هذا البرهان هنا أيضًا
في هذا القسم من الكتاب، ولكنَّ شيئًا واحدًا كان من الممكن أن يتم، ونعني به أن التحرُّر
من كل
منفعة عند فعل الإرادة الصادر عن الواجب، من حيث هو العلامة المميزة التي تفرق بين الأوامر
المُطلَقة والأوامر الشرطية قد نص عليه في الأمر نفسه، وذلك من خلال تحديدٍ معين سيكون
مُتضمَّنًا
فيه، وهذا ما يحدث الآن في هذه الصيغة الثالثة لِلمبدأ؛ أي في فكرة إرادة كل كائنٍ عاقل
من
حيث هي إرادة تضع تشريعًا كليًّا عامًّا.
ذلك أننا إذا تصوَّرنا مثل هذه الإرادة، مهما قلنا إن من الممكن لإرادة تخضع لقوانين
أن
تكون مرتبطة بهذه القوانين عن طريق المنفعة، فإن من المستحيل أن تعتمد الإرادة، التي
هي
نفسها المُشرِّع الأعلى، على أية منفعةٍ من أي نوع؛
٤٠ لأن مثل هذه الإرادة التي تعتمد على المنفعة ستحتاج بدورها إلى قانونٍ آخر،
يمكنه أن يَحدَّ من المنفعة المتعلقة بحبها لِلذات ويجعلها مشروطةً بصلاحيتها لأن تصبح
قانونًا
كليًّا عامًّا.
وهكذا نجد أن مبدأ كل إرادة إنسانية، «من حيث هي إرادة تضع تشريعًا عامًّا عن طريق
مسلماتها جميعًا»
٤١⋆ هذا إذا
تيسر له أن يكون مبدأً صائبًا، إنما يصلُح صلاحيةً تامَّةً لأن يكون أمرًا أخلاقيًّا
مطلقًا؛
وذلك لأنه — ومرجع هذا على وجه التحديد إلى فكرة التشريع العام — لا يقوم على أية منفعة
وإنه تبعًا لذلك يستطيع وحده، بين كل الأوامر الممكنة، أن يكون هو الأمر «غير المشروط»،
أو
إذا شئنا أن نُعبِّر تعبيرًا أفضل فعكَسنا الأَمر قائلِين: إذا كان هناك أمرٌ أخلاقيٌّ
مُطلَق (أي
قانونٌ يسري على إرادة كل كائنٍ عاقل) فإنه لن يملك إلا أن يُلقي أوامره بأن يَصدُر الإنسان
دائمًا في كل أفعاله عن مُسلَّمةِ إرادةٍ يمكنها في نفس الوقت أن تجعل نفسها موضوعًا
لها من حيث
هي مُشرِّعة تشريعًا عامًّا، عندئذٍ فقط يكون المبدأ العملي والأمر الذي يطيعه الإنسان
غير
مشروطَين، فلن يكون ثَمَّةَ منفعةٌ على وجه الإطلاق يمكنه [أي الأمر الأخلاقي] أن يقوم
عليها.
ليس عجيبًا بعد الآن، إذا رجعنا بالبصر إلى كل المحاولات التي بُذلَت حتى الآن لاكتشاف
مبدأ الأخلاق، أن نجد أنها جميعًا كان مَقضيًّا عليها بالإخفاق. لقد رأَوا أن الإنسان
يرتبط
من خلال واجبه بقوانين، ولكن لم يخطر لهم على بالٍ أنه لا يخضع إلا لتشريعه النابع منه،
وأن
هذا التشريع كليٌّ عام، وأنه لا يلتزم في فعله إلا بما يتفق مع إرادته الخاصة، وهي الإرادة
التي تضع تشريعًا عامًّا بمقتضى الغاية التي رسمتها الطبيعة؛ ذلك لأنهم حين تصوَّروه
في خضوعه
للقانون فحسب (أيًّا كان نوع هذا القانون) وجدوا أن هذا القانون لا بد بالضرورة أن يكون
مصحوبًا بنوعٍ من المنفعة في صورةٍ جذَّابة أو قاهرة؛ لأنه بما هو قانون لم ينبثق عن
«إرادته» هو،
بل إن هذه الإرادة قد أُلزِمَت، بما يتفق مع القانون، من جانب شيءٍ خارجيٍّ عليها على
أن تسلك على
نَحوٍ مُعيَّن. بهذا الاستنتاج الذي لم يكن منه مَفَر ضاع كل جهدٍ بُذل لإيجاد مبدأٍ
أعلى للواجب
ضَيعةً لا رجعة فيها؛ ذلك لأنهم لم يتوصلوا إلى الواجب أبدًا، بل إلى الضرورة التي تحض
على
الفعل بدافعٍ من مصلحةٍ معينة. وسواءٌ كانَت هذه المنفعة شخصيةً أم أجنبية، فقد كان لا
بُد للأمر
دائمًا أن يتخذ طابع الأمر الشرطي ولم يكن من المُستطاع أن يصلح لأن يكون أمرًا أخلاقيًّا.
سوف أطلق إذن على هذا المبدأ اسم مبدأِ استقلال الإرادة في مقابل كل مبدأٍ آخر سأَسلُكه
في عداد
ما أُطلق عليه اسم التنافُر.
إن التصور الذي يقتضي من كل كائنٍ عاقل أن يتأمل نفسه من خلال جميع مُسلَّمات إرادته
على
اعتبار أنه يضع تشريعًا كليًّا عامًّا لكي يتمكن من وجهة النظر هذه من الحكم على نفسه
وعلى
أفعاله، يؤدي إلى تصوُّرٍ أَشدَّ خصوبةً يرتبط به، ونعني به تصوُّر «مملكة الغايات».
وأنا أفهم من كلمة «مملكة» ذلك الترابُط المُنظم الذي يجمع بين كائناتٍ عاقلةٍ متعددة
عن طريق
قوانينَ مشتركةٍ. ولمَّا كانَت القوانين تُحدِّد الغايات من جهة صلاحيتها لأن تكون غاياتٍ
كُليةً
عامة، فإن من المستطاع، إذا جَرَّدنا الفروق الشخصية بين الكائنات العاقلة وكذلك كل محتوى
غاياتهم الجزئية، أن نتصور كُلًّا عامًّا يشمل جميع الغايات (سواءٌ في ذلك غايات جميع
الكائنات العاقلة، بوصفها غاياتٍ في ذاتها، والغايات الشخصية التي يمكن أن يضعها كُلٌّ
لنفسه)
في وَحدةٍ منتظمةٍ مترابطة. أي مملكة للغايات ممكنة الوجود بحسب المبادئ السابق ذكرها.
٤٢
ذلك أن الكائنات العاقلة تخضع جميعًا للقانون الذي يقتضي ألَّا يُعامِل كلٌّ منهم
نفسه وغيره من
البشر «كوسيلة أبدًا»، بل أن تكون معاملته لهم دائمًا وفي نفس الوقت «كغاياتٍ في ذاتها».
ينشأ عن
هذا ترابُطٌ منتظمٌ بين الكائنات العاقلة عن طريق قوانينَ موضوعيةٍ مشتركة؛ أي مملكة
يمكن، طالما
كان الهدف من هذه القوانين إقامة العلاقة بين هذه الكائنات وبين بعضها البعض بوصفها غاياتٍ
ووسائلَ، أن تُسَمَّى مملكة الغايات (وهي لا تعبر في حقيقة الأمر إلا عن مثلٍ أعلى).
ولكن الكائن العاقل يُعَد «عضوًا» منتميًّا إلى مملكة الغايات إذا كان هو نفسه، إلى
جانب أنه
يُشرِّع لها قوانينَ كليةً عامة، يخضع لهذه القوانين. وهو ينتمي إلى هذه المملكة كرئيسٍ
لها إذا
كان، كمُشرِّع لقوانينها، لا يخضع لأية إرادةٍ أخرى غير إرادته.
يجب على الكائن العاقل أن يَعُد نفسه دائمًا مُشرِّعًا في مملكةٍ الغايات مُمكنةٍ
عن طريق حرية
الإرادة، سواءٌ كان عُضوًا في هذه المملكة أم رئيسًا لها، ولكنه لا يستطيع أن يدَّعي
لنفسه
مكان الرئاسة بمُسلَّماتِ إرادته فحسب، بل إذا كان كائنًا مُستقلًّا تمام الاستقلال،
بلا حاجات،
ذا قدرةٍ مكافئة لإرادته ولا يَحدُّ منها شيء.
٤٣
الأخلاقية تكمن إذن في علاقة كل فعلٍ بالتشريع القانوني الذي يستطيع وحده أن يجعل
مملكة
الغايات ممكنة. ولكن هذا التشريع ينبغي أن يُوجد في الكائن العاقل نفسه وأن ينبثق من
إرادته
التي يكون مبدؤها حينئذٍ هو المبدأ التالي: ألَّا يُقدِم الإنسان على فعلٍ إلا بما يتفق
مع مُسلَّمةٍ
من شأنها أن تكون قادرةً على أن تُصبِح قانونًا كليًّا عامًّا، وألَّا يفعل الإنسان الفعل
كذلك
حتى «تَعُد الإرادة نفسها في عين الوقت واضعةَ تشريعٍ كليٍّ عام عن طريق مُسلمَّتها.»
فإذا لم تتفق
المُسلَّمات بطبيعتها مع هذا المبدأ الموضوعي للكائنات العاقلة بوصفها مصادرَ تشريعٍ
كليٍّ عام،
اتفاقًا ضروريًّا، فإن الضرورة التي تقضي بالفعل طبقًا لذلك المبدأ يُطلَق عليها الإلزام
العملي؛ أي «الواجب». والواجب لا يُكلَّف به الرئيس في مملكة الغايات، بل يلتزم كل عضوٍ
من
الأعضاء بمقدارٍ متكافئ.
إن الضرورة العملية التي تقضي بالسلوك طبقًا لهذا المبدأ، أي طبقًا للواجب، لا تقوم
ألبتَّةَ
على العواطف والدوافع والميول، بل تقوم فحسبُ على علاقة الكائنات العاقلة بعضها ببعض؛
حيث
ينبغي دائمًا أن تُعَد إرادة الكائن العاقل في نفس الوقت «إرادةً مُشرِّعة»؛ إذ لو كان
الأمر على
خلافِ ذلك لَتعذَّر على الكائن العاقل أن يَتصوَّر أنه «غايةٌ في» ذاته. هكذا يربط العقل
كل مُسلَّمة من
مُسلَّمات الإرادة، بوصفها مَصدرَ تشريعٍ كليٍّ عام، بكل إرادةٍ أخرى، بل إنه يربطها
كذلك بكل فعلٍ
مُوجَّه إلى الذات، ولا يدفع العقل على ذلك أي باعثٍ عمليٍّ آخر أو أية منفعةٍ مستقبلة،
بل إنه
يَصدُر في ذلك عن فكرة «الكرامة» التي للكائن العاقل الذي لا يخضع لغير القانون الذي
يضعه
لنفسه.
لكل شيءٍ في مملكة الغايات «ثمنٌ أو كرامة»؛ فما له ثَمنٌ فمن الممكن أن يُستبدل بشيءٍ
آخرَ «مكافئٍ
له»، أمَّا ما يعلو على كل ثَمن، وما لا يُسمَح تبعًا لذلك بأن يكافئه شيء، فإن له
كرامة.
كل ما يتعلق بميول الإنسان وحاجاته العامة فله «ثَمنٌ سوقيٌّ»، وأمَّا ما يتفق مع
ذَوقٍ مُعيَّن، حتى
لو لم يفرض حاجةً سابقةً إليه؛ أي ما يتفق مع حال السرور الذي نستشعره في مجرد اللعب
البريء
عن كل غرض الذي يجري به طاقاتنا الوجدانية، «فله ثَمنٌ عاطفي»،
٤٤ أمَّا ما يؤلف الشرط الذي لا غِنى عنه لكي يصبح شيءٌ من الأشياء غايةً في ذاته،
فليست له قيمةٌ نسبية فحسب؛ أي ليس له ثمن، بل إن له قيمةً باطنية؛ أي «كرامة».
الأخلاقية هي الشرط الوحيد الذي يجعل الكائن العاقل غايةً في ذاته؛ إذ يستحيل عليه
أن يصبح
عُضوًا مُشرِّعًا في مملكة الغايات إلا عن طريقها. وهكذا نجد أن الأخلاق والإنسانية،
من حيث
قدرة هذه عليها، هما الشيء الوحيد الذي يملك الكرامة. إن البراعة والاجتهاد في العمل
لهما
ثَمنٌ سوقي، والذكاء ومملكة التخيُّل الحية والمزاج لها ثمنٌ عاطفي،
٤٥ أمَّا الوفاء بالوعد، والإحسان عن مبدأٍ (لا عن غريزة) فلهما على العكس من ذلك
قيمةٌ ذاتية. لا الطبيعة ولا الفن يحتويان على شيءٍ يمكن أن يحل محل هذه الصفات إذا ما
افتُقِدَت؛ ذلك لأن قيمتها لا تَكمُن في النتائج المُترتِّبة عليها، ولا في المنفعة أو
المكسب
اللذَين تُحدِّثهما، بل تكمُن في النوايا؛ أي في مُسلَّمات الإرادة، التي تكون على استعدادٍ
للتعبير
عن نفسها على هذا النحو في صورة أفعال، حتى لو لم يُحالِفها النجاح في النهاية. هذه الأفعال
ليست كذلك في حاجةٍ إلى أن يُوصى عليها من أي استعدادٍ ذاتيٍّ أو ذوق يجعلنا ننظر إليها
بِرضًا
وارتياحٍ مُباشِرَين، كما أنها ليست في حاجةٍ إلى أي ميلٍ أو عاطفةٍ مباشرة تجذبنا نحوها،
إنها
تمثل لنا الإرادة التي تمارسها [أي الأفعال] كموضوعٍ للاحترام المباشر، حيث لا يُطلب
شيءٌ سوى
العقل لكي «يفرضها» على الإرادة، لا لكي يحاول أن يلتمسها منها بالتملُّق والمداهنة،
مما لا شك
في أنه تناقُضٌ في مجال الواجبات. هذا التقويم هو الذي يُعرف بقيمة مثل هذا المنحى الفكري
بوصفه كرامة وهو الذي يسمو به فوق كل ثَمنٍ سموًّا لا نهايةَ له؛ فلا يمكن أن نضعها معها
في
كِفَّة الميزان أو أن نقارنها بها بغير أن نَجُور في نفس الوقت على قداستها.
وما الذي يبرر إذن للنية الطيبة من الناحية الأخلاقية أو للفضيلة أن تذهب في طموحها
إلى
هذا المدى البعيد؟ إنه لا يقل في شيء عن الدَّور الذي تعهد به إلى الكائن العاقل للمشاركة
في
وضع القوانين الكلية العامة والذي يجعله صالحًا لأن يُصبح عُضوًا في مملكةٍ ممكنة للغايات،
٤٦ وهو الدور الذي حدَّدَته له طبيعته من قبلُ من حيث هو غايةٌ في ذاته ومِنْ ثَمَّ
مُشرِّع للقوانين في مملكة الغايات، ثم من حيث هو حُرٌّ بالنظر إلى جميع القوانين الطبيعية،
لا
طاعة عليه إلا للقوانين التي يضعها هو لنفسه والتي يمكن مُسلَّماته طبقًا لها أن تكون
جزءًا من
تشريعٍ كليٍّ عام (يخضع له في الوقت نفسه)؛ فليس لشيء في الواقع من قيمة إلا القيمة التي
يُحددها له القانون. ولكن التشريع نفسه، الذي يحدد القيم جميعًا، ينبغي لهذا السبب نفسه
أن
تكون له كرامة، أي قيمةٌ غيرُ مشروطة، ولا سبيل إلى مقارنتها بسواها، لا يُعبر عنها خيرٌ
من
كلمة الاحترام التي تُترجِم عن التقدير الذي ينبغي على الكائن العاقل أن يحمله لها؛
فالاستقلال الذاتي إذن هو مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعةٍ عاقلة.
إن الطرق الثلاث التي ذكرناها آنفًا للتعبير عن المبدأ الأخلاقي ليست في حقيقة الأمر
إلا
صيغًا متعددةً لقانونٍ واحد بالذات، تُوجِد إحداها من تلقاء نفسها الصيغتَين الأخريَين
في ذاتها.
٤٧ ومع ذلك فبينها خلافٌ واحد، هو في الحقيقة خلافٌ ذاتي قبل أن يكون خلافًا
موضوعيًّا — عمليًّا، الهدف منه تقريب فكرةٍ من أفكار العقل إلى العيان (وذلك بحسب مشابهةٍ
مُعيَّنة) وجعلها بذلك قريبةً من العاطفة.
كل المُسلَّمات لها:
- (١)
«صورة» تتصف بالكلية والشمول، ويمكن التعبير عن صيغة الأمر الأخلاقي على هذا
النحو: ينبغي أن تختار المُسلَّمات كما لو كان من الواجب أن تكون لها قيمةُ قَوانينِ
الطبيعة الكلية.
- (٢)
مادة؛ أي غاية، وهنا يُعبِّر عن الصيغة كما يلي: إن الكائن العاقل، من حيث إنه
بحسب طبيعته غاية، وبالتالي من حيث هو غايةٌ في ذاتها، ينبغي أن يكون بالنسبة
لكل مُسلَّمة شرطًا يَحدُّ من جميع الغايات التي تكون مُجرَّد غاياتٍ نسبية أو
تَعسُّفية.
- (٣)
تحديدٌ تام لجميع المُسلَّمات من طريق تلك المُسلَّمة، ونعني بها: أن جميع المُسلَّمات
التي تُستمد من تشريعنا الخاص ينبغي أن تسهم في إقامة مملكةٍ ممكنةٍ للغايات كما
تسهم في إقامة مملكةٍ للطبيعة.
٤٨⋆
ويسير التطور هنا كما يسير هناك في مقولات،
٤٩ مُبتدئًا بوَحدةِ صورة الإرادة (أو بشمولها)، مارًّا «بتعدُّد» المادة
(وهو تعدُّد الموضوعات أي الأهداف) ومن هناك إلى شمول المذهب أو تكامله. على أن
من الخير دائمًا أن يسير الإنسان في حكمه الأخلاقي على حسب منهجٍ مُحكَم وأن يجعل
مبدأه هذه الصيغة العامَّة للأمر الأخلاقي المُطلَق: «افعل بحسب المُسلَّمة التي يمكنها
في نفس الوقت أن تجعل من نفسها قانونًا عامًّا.» فإن أردنا أن «نُحبِّب» القانون
الأخلاقي للنفوس فإن مما يفيد في ذلك كل الفائدة أن نُمَرِّر الفعل الواحد نفسه من
خلال التصوُّرات المذكورة وأن نُقرِّبه بذلك ما أمكن من العِيان.
نستطيع الآن أن ننتهي من حيث بدأنا؛ أعني من تصوُّر إرادةٍ خيِّرة مُطلَقة. تكون «الإرادة»
خيِّرة
«بإطلاق» إذا لم يكن في وُسعها أن تكون شرِّيرة، وإذا كانَت مُسلَّمتها، حين تتحول إلى
قانونٍ كليٍّ
عام، لا تتناقض مع نفسها بأي حالٍ من الأحوال. هذا المبدأ هو إذن قانونها الأعلى أيضًا.
اجعل
فعلك دائمًا يتفق مع المسلمة التي تستطيع أن تريد لها في الوقت نفسها أن تكون في شمول
القانون، هذا هو الشرط الوحيد الذي لا يمكن الإرادة بمقتضاه أن تتعارض مع نفسها أبدًا،
ومثل
هذا الأمر أَمرٌ مُطلَق. ولمَّا كانَت الخاصية التي تجعل للإرادة قيمة القانون العام
بالنسبة
للأفعال الممكنة تُشابه الترابُط العام الذي يتصف به وجود الأشياء بحسب قوانينَ كليةٍ
عامة، وهو
الترابُط الذي يُكوِّن العنصر الشكلي للطبيعة بوجهٍ عام، فإن من الممكن أن نُعبِّر عن
الأمر
الأخلاقي المُطلَق على النحو التالي:
«اجعل أفعالك مطابقةً لِمُسلَّمات يمكنها في عين الوقت أن تجعل من نفسها موضوعًا هو
بمثابة
القوانين العامة للطبيعة؛ هكذا تتألف صيغة إرادةٍ خيِّرةٍ بإطلاق.»
تتميز الطبيعة العاقلة من سواها بأنها تضع لنفسها غاية. هذه الغاية ستكون هي مادة
كل
إرادةٍ طيبة. بَيْدَ أنه لمَّا كان من اللازم، في فكرة إرادةٍ خيِّرة بإطلاق وبغير شرطٍ
تحفُّظي
(كأن يكون هذا الشرط هو بلوغ هذه الغاية أو تلك) أن نُجرِّد [تلك الفكرة] من كل غاية
يُراد
تحقيقها (الأمر الذي قد يجعل الإرادة خيِّرة من الناحية النسبية فحسب) فإن من اللازم
كذلك
ألا تُتصور الغاية هنا كما لو كانَت غايةً «يُراد تحقيقها»، بل كغايةٍ «مستقلةٍ بذاتها»؛
أي تُتصور
تبعًا لذلك من جهة السلب فحسبُ؛ أعني بوصفها غايةً لا ينبغي على الإنسان أن يُقدِم على
فعلٍ
يتعارض معها، كما لا ينبغي عليه أبدًا نتيجةً لذلك أن يُنظَر إليها كما لو كانَت مُجرَّد
وسيلة،
بل أن يقدرها دائمًا وفي الوقت نفسه في كل فعلٍ من أفعال الإرادة من حيث هي غاية. هذه
الغاية
لا يمكن أن تكون شيئًا آخر غير الذات عينها [الحاملة] لجميع الغايات الممكنة؛ إذ إنها
هي في
الوقت نفسه الذات صاحبة إرادةٍ ممكنةٍ خيِّرة بإطلاق،
٥٠ والواقع أن هذه الإرادة الخَيِّرة على الوجه المُطلَق لا يمكن أن يُقدَّم عليها
موضوعٌ آخر إلا إذا وَقعَت في التناقُض؛ وعلى ذلك فالمبدأ الذي يقول: راعِ أن يكون فِعلك
بالنسبة
لكل كائنٍ عاقل (بالنسبة لك ولغيرك) بحيث تكون له في نفس الوقت في مُسلَّمتِك قيمة الغاية
في
ذاتها، ليس في حقيقة الأمر إلا عين المبدأ الذي يقول: اجعل فعلك مطابقًا للمُسلَّمة التي
تتضمن
في الوقت نفسه صلاحيتها الشاملة لكل كائنٍ عاقل؛ ذلك أن القول بأن عليَّ في استخدامي
للوسائل
المؤدية إلى غاية من الغايات أن أُقيِّد مُسلَّمتي بالشرط الذي يجعلها صالحةً صلاحيةً
شاملة لأن
تكون قانونًا لكل ذات، يستوي تمامًا مع القول بأن علينا أن نجعل المبدأ الأساسي لجميع
مُسلَّمات الأفعال هو ألَّا تُعامَل الذات الحاملة للغايات؛ أي الكائن العاقل نفسه، كما
لو كانَت
مجرد وسيلةٍ بحال من الأحوال، بل أن تُعامَل معاملة الشرط الأعلى الذي يُبيِّن لنا حدود
استخدام
الوسائل؛ أعني أن تُعامَل دائمًا في الوقت نفسه معاملة الغاية.
٥١
يستتبع هذا بغير نزاعٍ أن كل كائنٍ عاقل، بوصفه غاية في ذاته، ينبغي أن تكون لديه
القدرة
على أن يَعُد نفسه، بالقياس إلى جميع القوانين التي قد يخضع لها في الوقت نفسه، مَصدرَ
تشريعٍ
كليٍّ عام؛ وذلك لأن صلاحية مُسلَّماته لأن تصبح تشريعًا عامًّا هي على التحديد ما يميزه
كغاية
في ذاته، كما يستتبع أيضًا أن هذه الكرامة (التي يتميز بها) من سائر الكائنات الطبيعية
هي
التي تفرض عليه أن يَعُد مُسلَّماته على الدوام من وجهة نظره هو، التي هي في الوقت نفسه
وجهة نظر
كل كائنٍ عاقل، بوصفه كائنًا مُشرِّعًا (وهذا هو السبب أيضًا في تسمية مثل هذه الكائنات
أشخاصًا). بهذا يمكن قيام عالم
معقول
mundus intelligibilis، بوصفه مملكةً للغايات، وذلك عن طريق التشريع النابع عن جميع الأشخاص
بوصفهم أعضاءً فيه. يترتب على ذلك أن على كل كائنٍ عاقل أن يَصدُر في فعله كما لو كان
دائمًا عن
طريق مُسلَّماته عُضوًا مشرعًا في المملكة العامة للغايات. والمبدأ الصوري لهذه المُسلَّمات
هو
المبدأ الذي يقول: افعل الفعل كما لو كان على مسلمتك أن تصلح في الوقت نفسه قانونًا عامًّا
(لجميع الكائنات العاقلة). مملكة الغايات إذن لا يمكن قيامها إلا عن طريق المشابهة التي
بينها وبين مملكة الطبيعة، تلك عن طريق المُسلَّمات وحدها؛ أي القواعد التي يُلزم بها
المرء
نفسه، وهذه عن طريق قوانين عللٍ فاعلةٍ خاضعة لإلزامٍ خارجي. وعلى الرغم من هذا، فإن
الإنسان
لا يتردد في أن يخلع على الطبيعة ككل، وإن نظرنا إلى هذا الكل نظرتنا إلى الآلة وبمقدار
العلاقة التي تربطه بالكائنات العاقلة بوصفها غاياتٍ له؛ أقول لا يتردد الإنسان لهذا
السبب
أن يخلع عليه اسم مملكة الطبيعة.
٥٢ مملكة للغايات كهذه ستنتقل حقًّا إلى حيِّز الوجود عن طريق مُسلَّماتٍ يرسم الأمر
الأخلاقي المُطلَق قاعدتها لجميع الكائنات العاقلة، إذا «ما اتُّبِعَت اتباعًا شاملًا».
إلا أن
الكائن العاقل وإن لم يستطع أن يضمن، حتى لو اتبع هذه المُسلَّمة بانتظام، أن يجاريه
كل كائنٍ
عاقلٍ آخر في الوفاء بها، ولم يضمن كذلك أن تتفق معه مملكة الطبيعة وترتيبها الغائي اتفاقها
مع كائنٍ جدير بأن يكون عُضوًا فيها بحيث تُصبِح بالنسبة إليه مملكة للغايات؛ أعني بحيث
تُحقِّق
رجاءه في السعادة؛ أقول مع أنه لا يضمن هذا كله فإن هذا القانون الذي يقول: «راعِ أن
تسير
أفعالك بحسب مُسلَّمات عُضوٍ يضع تشريعًا كليًّا عامًّا لمملكةٍ ممكنة للغايات.» يظل
محتفظًا
بكامل قوته؛ وذلك لأنه يُصدِر أوامره على نَحوٍ مُطلَق. وفي هذا الأمر على وجه التحديد
تكمن هذه
المفارقة: وهي أن كرامة الإنسانية وحدها، من حيث كونها طبيعةً عاقلة، بصرف النظر عن كل
غايةٍ
أخرى أو منفعةٍ يُراد الوصول إليها، وتبعًا لذلك احترام الفكرة الخالصة ينبغي أن يكونا
القاعدةَ التي لا يَصِح للإرادة أن تحيد عنها، وأن استقلال المُسلَّمة عن أمثال هذه الدوافع
كلها
هو الذي يُحقِّق لها السمو وهو الذي يجعل كل ذاتٍ عاقلةٍ جديرةً بأن تكون عُضوًا مُشرِّعًا
في مملكة
الغايات؛ إذ لو كان الأمر على خلاف ذلك لَتحَتم علينا أن نتصوره كائنًا لا يخضع لغير
القانون
الطبيعي الذي يتحكم في حاجاته. ومع أنه سيكون من الممكن تصوُّر مملكة الطبيعة، مثلها
في ذلك
مثل مملكة الغايات، متحدة تحت رئيسٍ واحد، ومع أن المملكة الأخيرة لن تبقى بذلك مجرد
فكرةٍ
بسيطةٍ فحسب، بل ستكتسب واقعيةً حقيقية، فإن هذه الفكرة ستستفيد من وراء ذلك زيادةً تأتيها
من
إضافة دافعٍ قويٍّ إليها، ولكن قيمتها الباطنة لن تزداد في شيءٍ على ما هي عليه؛ إذ إن
من
الواجب علينا على الرغم من ذلك أن نتصور دائمًا ذلك المُشرِّع الأوحد غير المحدود نفسه
من حيث
هو مُشرِّعٌ يحكم على قيمة الكائنات العاقلة طِبقًا لأفعالهم المجردة من المنفعة فحسب،
المفروضة
عليهم من تلك الفكرة وحدها. إن ماهية الأشياء لا تتغير تبعًا لعلاقاتها الخارجية، والشيء
الوحيد، إذا غضَضنا النظر عن هذه العلاقات الأخيرة، الذي يكون القيمة المُطلَقة للإنسان
هو
الذي ينبغي أن يكون المقياس الذي يُحكَم به عليه من جانب أي كائن، حتى لو كان هو الكائن
الأسمى نفسه؛ فالأخلاقية إذن هي علاقة الأفعال باستقلال الإرادة؛ أي بالتشريع الكلي الممكن
عن طريق مُسلَّمات هذه الإرادة. الفعل الذي يمكن أن يتفق مع استقلال الإرادة هو فعلٌ
«مسموحٌ به»،
والفعل الذي لا يتفق معه فعلٌ محرم. الإرادة التي تتفق مُسلَّماتها اتفاقًا ضروريًّا
مع قوانين
الاستقلال هي إرادةٌ مُقدَّسة؛ أي إرادةٌ خيِّرة بإطلاق. توقُّف إرادةٍ غيرِ خيِّرة بإطلاق
على مبدأ
الاستقلال (الجبر الأخلاقي) «هو الالتزام». هذا الالتزام لا يمكن إذن أن ينطبق على كائنٍ
مُقدَّس.
الضرورة الموضوعية التي يتصف بها فعلٌ من الأفعال يَصدُر عن التزامٍ تُسَمَّى واجبًا.
نستطيع مما تَقدَّم ذكره بإيجازٍ أن نُفسِّر الآن في سهولةٍ كيف أننا، وإن كان أول
ما يتبادر إلى
ذهننا عند التفكير في تصوُّر الواجب هو الانصياع للقانون، نتصوَّر مع ذلك في الوقت نفسه
نوعًا
من السُّمو «والكرامة» لدى ذلك الشخص الذي يُؤدِّي جميع واجباته؛ ذلك لأن سُموَّه لا
يرجع إلى «خضوعه»
للقانون بقَدْر ما يرجع إلى أنه، بالنظر إلى هذا القانون نفسه، يُعَد مُشرعًا في الوقت
ذاته؛ أي
إنه لا يخضع له إلا لهذا السبب بِعَينه. كذلك بَيَّنَّا فيما تقدَّم كيف أنه لا الخوف،
ولا
الميل، بل الاحترام الواجب في حق القانون هو وحده الدافع القادر على إعطاء الفعل قيمةً
أخلاقية. إن إرادتنا الخاصة، على فَرضِ أنها لا تُقدِم على فعل من الأفعال إلا إذا كان
مُقيَّدًا بتشريعٍ عام، تجعل مُسلَّماتها أمرًا ممكنًا، هذه الإرادة [المثالية] التي
يمكن
بالفكرة أن تكون إرادتنا هي الموضوع الحقيق بالاحترام، وكرامة الإنسانية تكمن على وجه
التحديد في قدرتها على أن تكون مَصدرَ تشريعٍ كليٍّ عام، على شريطة أن تكون هي نفسها
في الوقت
عينه خاضعةً لهذا التشريع.
الاستقلال الذاتي للإرادة بوصفه المبدأ الأعلى للأخلاق
استقلال الإرادة هو الخاصية التي تجعل منها قانونًا لنفسها (بصرف النظر عن جميع
موضوعات الفعل الإرادي). مبدأ استقلال الإرادة إذن هو أن نختار دائمًا بحيث تكون مُسلَّمات
اختيارنا مُتضمَّنة في الوقت نفسه كقوانينَ كُليةٍ في فعل الإرادة نفسه. كون هذه القاعدة
العملية أمرًا أخلاقيًّا، أعني أن إرادة كل كائنٍ عاقل مرتبطةٌ بها ارتباطًا ضروريًّا
كشرطٍ لها، أمرٌ لا يمكن إثباته عن طريق التحليل البسيط للتصوُّرات التي تشتمل على الإرادة،
والسبب في ذلك أنها قضيةٌ تركيبية،
٥٣ وقد ينبغي علينا أن نتجاوز معرفة الموضوعات إلى نقد الذات؛ أي إلى نقد
العقل العملي الخالص،
٥٤ إذ إن هذه القضية التركيبية، التي تأمر أمرًا ضروريًّا، يَنبغي أن يكون من
المُستطاع معرفتها بطريقةٍ قَبْليةٍ خالصة، ولكن هذه المسألة لا تدخل في القسم الحالي
من
الكتاب. بَيْدَ أن كون مبدأ الاستقلال الذاتي المذكور هو المبدأ الأوحد للأخلاق، فأَمرٌ
يمكن توضيحه بسهولةٍ بالتحليل البسيط لتصوُّرات الأخلاق. إذ سيتبيَّن من خلال ذلك كيف
أن
مبدأ الأخلاق لا بُد أن يكون أمرًا أخلاقيًّا، وأن هذا الأمر الأخلاقي لا يأمر بشيءٍ
يقل
أو يزيد عن هذا الاستقلال نفسه.
تنافر الإرادة بوصفه مَصدرَ جميع المبادئ غير الأصيلة للأخلاق
عندما تُفتِّش الإرادة عن القانون الذي من شأنه أن يُعيِّنها «في شيءٍ آخر» غيرِ
صلاحية
مُسلَّماتها لِوضع تشريعٍ كليٍّ عام يَصدُر عنها، وعندما تُفتِّش تبعًا لذلك، متجاوزةً
ذاتها، عن هذا
القانون في خاصية أحد موضوعاتها، فإن التنافُر هو الذي يَنتُج عن ذلك دائمًا. عندئذٍ
لا
تعطي الإرادة لنفسها القانون، بل إن الموضوع هو الذي يعطيها إياه عن طريق العلاقة التي
تربطه بها. هذه العلاقة، سواءٌ أقامت على الميل أو على تصوُّرات العقل، لا تسمح إلا بقيام
الأوامر الشرطية:
٥٥ عليَّ أن أفعل هذا الشيء؛ «لأنني أريد شيئًا آخر». أمَّا الأمر الأخلاقي،
وبالتالي الأمر المُطلَق، فإنه على العكس من ذلك يقول: إن عليَّ أن أفعل على هذا النحو
أو
ذاك، حتى لو لم أُرِدْ شيئًا آخر؛ فمثلًا يقول من يتَّبع الأمر الأوَّل: ينبغي عليَّ
ألَّا
أكذب إذا أَرَدتُ أن أُحافِظ على شرفي، أمَّا من يتَّبع الأمر الثاني فيقول: ينبغي عليَّ
ألَّا
أكذب حتى لو لم يجلب الكذب عليَّ أدنى عارٍ. يجب إذن أن يُجرَّد هذا الأَمر الأَخير من
كل
موضوع، بحيث لا يكون لهذا الموضوع أيُّ «تأثيرٍ» على الإرادة، وبحيث لا يقتصر العقل العملي
(الإرادة) على أن يُدير منفعةً أجنبية، بل يثبت سلطانه الآمر فحسب بوصفه أعلى تشريع.
هكذا
يكون من واجبي مثلًا أن أعمل على سعادة الآخرِين، لا كما لو كان يهمُّني أن يتحقق وجودها
(سواء كان ذلك عن طريق مَيلٍ مباشر، وكان بطريقٍ غيرِ مباشرٍ عن إحساسٍ بالرضا مصدره
العقل)
بل لمجرد أن المُسلَّمة التي تستبعدها [أي السعادة] لا يمكن أن تكون مُتضمَّنة في فعلٍ
إراديٍّ
واحدٍ وبالذات.
تصنيف جميع المبادئ الأخلاقية التي يمكن أن تنتج عن التصوُّر الأساسي الذي سلَّمنا به
عن
التنافُر
لقد جَرَّب العقلُ الإنساني هنا، كما جَرَّب في كل موضعٍ باشر فيه استعماله الخاص،
طَوال
الفترة التي أَعوزَه فيها النقد، جميع الطرق الخاطئة قبل أن يعثُر على طريقه الحقيقي
الوحيد.
٥٦
جميع المبادئ التي يمكن الإنسان أن يُسلِّم بها من وجهة النظر هذه إمَّا أن تكون
مبادئَ
«تجريبيةً» أو مبادئَ «عقليةً»؛ فالمبادئ «الأُولى»، المُستمَدة من مبدأ «السعادة»، تنبني
على العاطفة
الفزيائية أو العاطفة الأخلاقية، والمبادئ «الثانية»، المستمدة من مبدأ «الكمال»، إمَّا
أن
تنبني على التصوُّر العقلي للكمال بوصفه نتيجة يمكن أن تترتب عليها،
٥٧ أو على تصوُّر كمالٍ مستقلٍّ بذاته (إرادة الله)، بوصفه علةً تتولى تعيين إرادتنا.
٥٨
لا تصلح المبادئ التجريبية مطلقًا لأن تُؤسَّس عليها القوانين الأخلاقية؛ ذلك لأن
طابع
الشمول الذي يجعلها صالحةً لجميع الكائنات العاقلة بغير تمييز، والضرورة العملية غير
المشروطة المفروضة عليها عن هذا الطريق ينتفيان إذا كان مبدؤهما مستمدًّا من التكوين
الخاص بالطبيعة الإنسانية أو من الظروف العارضة التي تُوجد فيها. ومع ذلك فإن مبدأ
«السعادة الخاصة» هو أَوْلى المبادئ بالاستنكار، لا لأنه فاسدٌ فحسب، ولا لأن التجربة
تُناقِض
الادِّعاء الذي يذهب إلى أن الهناء يتناسب دائمًا مع حسن السلوك، ولا لأنه لا يُسهِم
بشيء
في تأسيس الأخلاق؛ إذ إن جعل الإنسان سعيدًا أمرٌ يختلف كل الاختلاف عن جعله خيِّرًا،
كما أن جعله ذكيًّا فطِنًا لمنفعته يختلف تمام الاختلاف عن جعله فاضلًا، بل لأنه يقيم
الأخلاقية على دوافعَ تعمل على هدمها والقضاء على ما فيها من سُمو وعظمة؛ إذ تضع الدوافع
التي تحث على الفضيلة مع الدوافع التي تحرض على الرذيلة في صِنفٍ واحد، ولا تزيد على
أن
تُعلِّم الإنسان كيف يُحسِن الحساب بينما تقضي للأسف قضاءً مبرمًا على الفارق النوعي
بينها.
أمَّا الشعور الأخلاقي، هذا الحس الخاص المزعوم
٥٩⋆ (مهما
بلغ الاحتجاج به) من السطحية والضحالة، ومهما وجدنا أن أولئك الذين يعجزون عن التفكير
يحسبون أنهم يستطيعون أن يلتمسوا العون من العاطفة حتى فيما لا صلة له إلا بالقوانين
العامَّة، وأن العواطف التي تتفاوت بطبيعتها عن بعضها البعض بدرجاتٍ لا متناهيةٍ لا تمدنا
بمعيارٍ واحد نقيس عليه الخير والشر، وأن الذي يحكم شعوره لا يمكنه على الإطلاق أن يُصدِر
حكمًا يصلُح لتطبيقه على الآخرِين.
٦٠ نقول إن الشعور الأخلاقي برغم هذا كله أقرب إلى الأخلاقية وإلى ما لهذه
الأخلاقية من كرامة لأنه يُشرِّف الفضيلة إذ يضيف إليها الرضا الذي تُعطيه والاحترام
الذي
تَحمِله لها مباشرة، ولأنه لا يُصارِحها في وجهها بأن جمالها ليس هو الذي يربطنا بها،
بل
المنفعة التي نَنتظِرها من ورائها.
٦١
بين المبادئ العقلية للأخلاق نجد التصوُّر الأنطولوجي [الوجودي] «لِلكمال» (مهما
يكن
تصوُّرًا فارغًا، غير مُحدَّد، ومهما تبلُغ تبعًا لذلك عدم صلاحيته لاكتشاف أقصى قَدْرٍ
مناسب
لنا في المجال الهائل للواقع الممكن، ومهما يبلُغ به النزوع الذي لا يُقهر إلى أن يدور
في
حَلْقةٍ مُفرَغة حين يتعلق الأمر بتمييز الواقع الذي نتحدث عنه تمييزًا نوعيًّا من كل
واقعٍ
سواه فلا يستطيع أن يتلافى افتراض الأخلاقية التي عليه أن يقوم بتفسيرها افتراضًا خَفيًّا)
٦٢ أفضل من التصوُّر اللاهوتي الذي يستنبط الأخلاقية من إرادةٍ إلهيةٍ مُطلَقة
الكمال، وليس مرجع ذلك فحسب إلى أننا لا نملك برغم كل شيءٍ أن نُعايِن كمال هذه الإرادة،
وأننا لا نستطيع أن نستنبطها إلا من تصوُّراتنا ومن أهمها شأنًا تصوُّر الأخلاقية، بل
مرجع
ذلك إلى أننا إذا لما نفعل ذلك (وهو ما لو حدث لوقعنا في حلقةٍ مفرغةٍ غليظة منشؤها التفسير)
٦٣ فإن التصوُّر الوحيد الذي يبقى لنا عن الإرادة الإلهية، وهو التصوُّر المستمد
من الصفات التي تُنسَب إليها من شهوة الشرف والسلطان، مقرونةً بالتصوُّرات المخيفة عن
اليأس
والانتقام، سيضع بالضرورة الأساس الذي ينبني عليه نظامٌ من العادات الأخلاقية يتعارض
تعارُضًا صريحًا مع الأخلاقية.
وإذن فلو كان عليَّ أن أختار بين تصوُّر الحس الأخلاقي وبين تصوُّر الكمال بوجهٍ عام
(وكِلا
التصوُّرَين لا ينتقص من الأخلاقية في شيء، وإن كانا مع ذلك لا يصلُحان على الإطلاق لتكوين
القاعدة التي ترتكز عليها) فسوف يقع اختياري على التصوُّر الأخير؛ لأنه على الأقل
باستبعاده للحساسية يَكِل أمر الفصل في المشكلة إلى محكمة العقل الخالص، وإن كان مع ذلك
لا يحسم برأيٍ في المشكلة، بل يحتفظ بالفكرة غير المُحدَّدة (لإرادة خيِّرة في ذاتها)
دون
أن يُفسِدها في شيء إلى أن يتم تحديدها تحديدًا دقيقًا.
بقيَ أن أقول إنني أعتقد أن في استطاعتي أن أُعفِي نفسي من محاولة دحض هذه التصوُّرات
التعليمية دحضًا مُفصَّلًا. إن هذه المحاولة من السهولة بمكان. بل الأرجح أن أولئك الذين
تفرض عليهم مهنتهم أن يُعلِنوا إيمانهم بإحدى هذه النظريات (إذ إن المُستمعِين لا يحتملون
تأجيل الحكم) يدركونها إدراكًا جيِّدًا، حتى لَيكون من العبث أن نُضيع الوقت فيها، ولكن
الأمر الذي يهمنا هنا أَكثرَ من سواه هو أن نعرف أن هذه المبادئ لا تُقدِّم أبدًا غير
تنافُر
الإرادة ليكون أساسًا أَوَّل تقوم عليه الأخلاق، وهذا هو الذي يجعلها بالضرورة تُخطئ
الهدف
منها.
كلما اضطر الإنسان إلى أن يجعل من موضوع الإرادة أساسًا لتعيين القاعدة التي تُحدِّدها
[أي الإرادة] لم تكن القاعدة إلا تنافُرًا، عندئذٍ يكون الأمر مشروطًا وتكون صيغته على
النحو التالي: ينبغي على الإنسان أن يسلك على هذا النحو أو ذاك «إذا» كان يريد هذا
الموضوع أو «لأنه» يريده، والنتيجة أن هذا الأمر لا يمكنه أبدًا أن يأمر أمرًا أخلاقيًّا،
أعني أن يأمر أمرًا مُطلقًا. قد يجوز للموضوع أن يُعيِّن الإرادة بوساطة الميل، كما هو
الشأن في مبدأ السعادة الشخصية، أو بوساطة العقل المُوجِّه إلى موضوعات فعلنا الإرادي
الممكن بوجهٍ عام، كما هو الشأن في مبدأ الكمال، بَيْدَ أن الإرادة لا تُعيِّن نفسها
أبدًا
مباشرةً عن طريق تمثُّل الفعل، بل عن طريق الدافع وحده الذي يُحدِثه الأثر المُرتقَب
من الفعل
على الإرادة، «ينبغي عليَّ أن أفعل شيئًا ما لأنني أُريد شيئًا آخر.» وهنا يَتحتَّم افتراض
قانونٍ آخرَ في ذاتي، أستطيع وفقًا له أن أُريد بالضرورة هذا الشيء الآخر، وهذا القانون
يحتاج بدوره إلى أَمْرٍ [أخلاقي] يُحدِّد مفهوم هذه المُسلَّمة؛ إذ إنه لمَّا كان الدافع
الذي يفرض
على تمثُّل موضوعٍ ممكن التحقق عن طريق طاقاتنا أن يترك أثره على إرادة الذات وفقًا
لاستعداداتها الطبيعية، [لمَّا كان هذا الدافع] يكون جزءًا من طبيعة الذات، سواءٌ أكان
جزءًا من الحساسية (من الميل والذوق) أم من الفهم والعقل اللذَين ينطبقان راضيَين على
أحد
الموضوعات وفقًا للتكوين الخاص بطبيعتهما فإن الطبيعة عندئذٍ هي التي تعطي القانون على
الحقيقة، وهذا القانون الذي يتحتم عندئذٍ، بما هو قانون، أن يُعرف ويُبرهن عليه بالتجربة
وحدها، لا يكون قانونًا عرضيًّا فحسب، عاجزًا عن أن يضع قاعدةً عمليةً ضرورية كما ينبغي
لكل قاعدةٍ أخلاقية أن تكون، «بل إنه لن يكون أبدًا إلا تنافُرًا» للإرادة، هناك لا تَسنُّ
الإرادة قانونها لنفسها، «بل إن دافعًا أجنبيًّا عنها» هو الذي يَسنُّه لها عن طريق طبيعةٍ
خاصة للذات تُؤهِّلها لقبول هذا القانون.
إن الإرادة الخَيِّرة بإطلاق، التي يجب أن يكون مبدؤها أمرًا أخلاقيًّا مُطلقًا، ستكون
عندئذٍ إرادةً غيرَ مُتعيَّنة بالنسبة لجميع الموضوعات، ولن تشتمل إلا على «صورة فعل
الإرادة»
بوجهٍ عام، بوصفه استقلالًا ذاتيًّا؛ أي إن صلاحية المُسلَّمة عند كل إرادةٍ خيِّرة لأن
تجعل
من نفسها قانونًا كليًّا عامًّا، هذه الصلاحية هي نفسها القانون الوحيد الذي تلتزم به
إرادة كل كائنٍ عاقل، دون أن تلجأ إلى أي دافعٍ أو منفعة لتجعل منه مبدأً ترتكز
عليه.
أمَّا كيفية إمكان وجود مثل هذه القضية التركيبية على نَحوٍ قَبْليٍّ والسبب الذي
يجعل منها
قضيةً ضرورية، فمشكلةٌ لم يعُد من الممكن إيجاد حلٍّ لها في حدود ميتافيزيقا الأخلاق.
كذلك
لم نُؤكِّد حقيقة هذه القضية، ولا زعمنا أننا نَملِك الدليل عليها. كُلُّ ما بيَّنَّاه
من خلال تطوُّر
التصوُّر الشامل للأخلاق لا يخرج عن أن الاستقلال الذاتي للإرادة مُرتبِطٌ بهذه القضية
ارتباطًا لا محيد عنه أو هو بالأَوْلى الأساس الذي تقوم عليه. وإذن فكلُّ من يعُد الأخلاق
شيئًا حقيقيًّا ولا يَسلُكها في عداد الأفكار الخرافية المُجرَّدة من الحقيقة لا بد له
في
الوقت نفسه من أن يُسلِّم بمبدأ الأخلاق الذي ذكرناه. وإذن فقد كان هذا القسم تحليليًّا
خالصًا، مثله في ذلك مثل القسم الأوَّل. وأمَّا أن الأخلاق ليست خرافية، وهو القول الذي
يترتب على التسليم بصحة الأمر الأخلاقي المُطلَق والاستقلال الذاتي للإرادة كما يترتب
على
التسليم بأن الأمر الأخلاقي ضروريٌّ ضرورةً مطلقةً بوصفه مَبدأً قَبْليًّا، فأَمرٌ يتطلب
«إمكان
الاستعمال التركيبي للعقل العملي الخالص»، وهو ما لا يجوز لنا أن نُقدِم عليه قبل أن
نسبقه
بنقد هذه المَلَكة العقلية نفسها، وهو النقد الذي علينا الآن أن نُبيِّن ملامحه الرئيسية
الوافية بغرضنا في الفصل الأخير من الكتاب.