القسم الأول
دقت أجراس الكنيسة في برين من أعمال فرنسا، ولبست السماء ثوبها الأزرق الجميل، كأنها تريد أن تشارك المحتفلين بزفاف الآنسة مرسلين ابنة الكونت دي مونت كور الوحيدة إلى بيير بوفور.
كان العريس غريبًا عن تلك البلاد، لقي مرسلين في سويسرا فأحبها وتبعها إلى برين؛ فخطبها إلى أبيها وأجابه إلى ما طلب.
وقد كان دهش الناس عظيمًا حين وصلت العروس بموكبها إلى الكنيسة؛ إذ كانت بملابس السواد؛ فإن أباها الكونت مات منذ أسبوع، وقد تمت تأهبات العرس، فأوصى أن يحتفلوا بالزفاف في اليوم المعيَّن بعد أن بارك العروسين. فرضيت مرسلين بعد إلحاح خطيبها أن تعمل بوصية أبيها، ولكنها أبت إلا أن تزف وهي بملابس الحداد، فكانت تنظر إلى زوجها حين كان الكاهن يباركها والدموع تجول في عينيها الجميلتين وتتقد أحيانًا ببارق يدلُّ على الامتنان.
مضى أسبوع والزوجان أسعد خلق الله؛ فقد كان حبهما صادقًا أكيدًا.
وقد خرجا بعده يومًا للنزهة وسارا في طريق ازدانت جانباه بالأشجار، فلما بلغا إلى عطفة منه التقيا برجل فصاح الاثنان صيحة دهش، وقال الأول: من أرى؟ بيير بوفور!
وقال بوفور: جان داغير؟
أما مرسلين فقد صاحت صيحة تختلف عن صيحتيهما؛ إذ كانت صيحة رعب، فغطت وجهها بيديها وقالت: رباه، إنهما صديقان!
كان جان داغير فتًى قوي العضل برَّاق العينين جميل الوجه، وكان ساعتئذٍ يمتطي جواده، فلما حاول أن يترجل رأى مرسلين فعاد إلى سرج جواده، وقال له بوفور: ما كنت أتوقع أن أراك هنا أيها الصديق.
– لقد أتيت أمس بعد غياب طويل، ولا غرابة أن تراني في برين؛ فإني من أهلها، ولكن الغرابة في أن أراك فيها وأنت ابن باريس.
– وهذا بسيط أيضًا فقد تزوجت هنا منذ أسبوع، وهذه امرأتي.
فانحنى جان فقال: إني أعرفها، وقد تشرفت بأن أكون في عداد أصدقاء أبيها.
وقد تحادثا هنيهة ثم افترقا، فنظر بوفور إلى مرسلين فوجدها مطرقة واجمة، فقال لها: ما بالك مصفرة الوجه أيتها الحبيبة؟ وماذا أصابك؟ فلم تجبه ولكنها ضحكت ضحكًا صبيًّا، فقال لها: ألعلك مريضة؟
قالت: لنعد إلى المنزل.
وقد تأبطت ذراعه وسارت وإياه، فكان ينظر إليها نظرات تشف عن الحزن وهو لا يدري ما يقوله لها؛ إذ لم يكن رآها مرة من قبل على هذا الحال.
ولم تكد تصل إلى البيت وتدخل إلى غرفتها حتى أصيبت بنوبة عصبية تشبه الجنون، ثم ركعت أمام زوجها وقالت له: هذا هو، هذا هو، وأنت تعرفه، رباه هذا هو، فأنت تعرفه، ولستُ بمجنونة! فأنهضها وجعل يبالغ في ملاطفتها، وقد جزع عليها أشد الجزع، ثم قال لها: لقد قلتِ: هذا هو. فمن هو هذا؟ وماذا تعنين؟
– ماذا أعني؟! أما علمت أنه هذا هو الذي عنيته بالكتاب الذي أرسلته إليك؟
– أي كتاب يا مرسلين؟
– الكتاب الذي أرسلته إليك حين كنَّا في سويسرا، لقد قلتُ لك هذا هو … رباه يظهر أنه لم يفهم بعد.
– لم يصلني منك كتاب يا مرسلين، وأُقسم بالله أني لا أفهم ما تقولين.
فطبع اليأس على وجهها وقالت: أتُقسم بشرفك أن كتابي لم يصلك؟
– أُقسم بشرفي وبحبك أني لم يصلني منك كتاب، وأني لا أفهم ما تقولين!
فوضعت يديها على كتفَي زوجها ونظرت إليه نظرة طويلة نافذة كأنها تريد أن تخترق أعماق قلبه، فقال لها: بربك لا تنظري إليَّ هذه النظرات، بل قولي لي ما هذا الكتاب الذي تعنينه.
ولكنها لم تجِب، بل فتحت فمها كأنها تريد أن تتكلم ثم لا ندري ما تراءى لعينيها فمنعها عن الكلام.
وقد رفعت يديها إلى السماء كأنها تستشهدها على يأسها، ثم خرجت من الغرفة بسرعة فبقي بوفور وحده وهو مكتوف اليدين مقطب الجبين يقول في نفسه: ترى ماذا تعني؟! وما هذا الجنون؟! بل ما هذا السر الذي تخفيه عني؟!
وقد أقام مدة طويلة على هذه الحالة، ثم انتبه ورأى أنها لم تعد إليه، فبحث عنها في جميع غرف المنزل فلم يجدها، فقال في نفسه: قد تكون خرجت إلى الحديقة، فبحث عنها فيها فلم يرَها، فخرج منها إلى الطريق وجعل يبحث عنها ويناديها، فلم يجب نداءه أحد، فعاد إلى القصر وسأل عنها الخدم فقالوا إنهم لم يرَوها.
وقد حار المنكود في أمره، فأرسل الخدم يبحثون عنها، وصبر وهو شبه المجانين إلى أن انتصف الليل دون أن تعود، ثم بزغت أشعة الفجر وأخذت الأدياك بالصياح، فقال: إنها ميتة لا شك، ولكن أين هي؟
وكان جميع الخدم لا يزالون ساهرين، فجعل يسألهم إذا كانت مصابة بمرض فيجيبون سلبًا، ولكنهم يقولون إنها عصبية المزاج شأن أكثر النساء، فحار في أمره وجعل يناجي نفسه فيقول: ترى ألعلها هربت مني … كلا فهذا محال؛ لأنها تحبني وتعلم أني أحبها أصدق حب، وأني لم أسِئ إليها في شيء، إذن لا بدَّ أن تعود، ولكنها قالت إنها أرسلت إليَّ كتابًا، وأنا لم يصلني منها شيء، فما عسى أن يكون في هذا الكتاب، وما هذا السر الخطير الذي يتضمنه؟
وقد ركب مركبة وجعل يطوف بها وهو لا يقصد مكانًا معينًا، وكلما لقي فلَّاحًا أو فلاحة سألهما عنها فلا يقف لها على أثر.
ولبث وهذا شأنه ثلاثة أيام إلى أن عجز عن لقائها، ورأى أنه لم يبقَ عليه سوى إبلاغ الحكومة أمرَ اختفائها، فجاء قاضي التحقيق وسأله أن يبسط له بالتدقيق التام جميع الحوادث التي جرت قبل اختفائها.
فامتثل بوفور وبسط له كل ما عرفه القراء، فسأله القاضي قائلًا: متى عرفت السيدة مرسلين دي مونتكور؟
– منذ بضعة أشهر.
– أين تعرفت بها؟
– في سويسرا؛ إذ كانت تتجول فيها مع عمتها، فأحببتها وتزوجت بها، وهذه كل حكايتي معها، على أني بالرغم عن هذه المصيبة التي قصمت ظهري وبالرغم عن اختفائها الغريب لا أزال واثقًا من أنها تحبني كما أحبها.
ولا بدَّ لي أن أقول لك إني غني وهي فقيرة، وإنها كانت ترى أن فقرها يحول دون زواجها برجل من أهل المقامات، فكانت تنظر إلى زواجنا بشيء من الامتنان.
– إذن لم يكن لها مهر؟
– بل إني خصصت لها من ثروتي ريعًا قدره عشرة آلاف فرنك في العام.
– كيف كانت خطتها بإزائك حين دنو موعد الزواج؟
– كان السرور يتألق في عينيها قبل وفاة أبيها.
– ألم ترَ عليها شيئًا من علائم الحزن دون سبب؟
– نعم؛ فقد كانت أحيانًا تنظر إليَّ فتجول في عينيها الدموع، وذلك في أوائل عهد اتصالنا، ثم لم أعد أرى منها غير علائم الفرح، ولكنها لم تكن تخلو من السويداء.
– كيف كنت تعلل ذلك؟ ألم تسألها شيئًا عن هذا الموضوع؟
– لماذا؟ وأية فائدة من هذا السؤال بعد يقيني أنها أطهر فتاة؟
– ألم تجد منها ما لم تألفه قبلًا منذ زواجك إلى عهد اختفائها؟
– كلا.
– ألا تعرف لها مبغضًا أو عدوًّا؟
– إنها محبوبة من الجميع في هذه البلاد، ومن يكره الملائكة؟!
– هو ذاك، ولكن البغض قد يتولد من الحب، ألم يخطبها قبلك أحد؟
– لم يخبرني أبوها ولا هي بشيء من هذا.
وفي اليوم نفسه أبرق القاضي إلى جرائد باريز عن اختفاء مرسلين، وذكر أوصافها فنشرت الجرائد هذه الحادثة الغريبة التي باتت حديث الناس، فلا يعلمون أهي ميتة أم مختفية؟!
وقد بث القاضي رجاله في جميع تلك المنطقة يبحثون ويسألون، إلى أن جاءه واحد منهم يومًا وهو يعتقد بفوزه، فقال إنه لقي في الطريق مزارعًا أخبره أنه رأى امرأة بملابس فلاحة تنطبق أوصافها على مرسلين، وكان يصحبها فتًى يدعى جان جوت ويلقب بكلوكلو، وهو جندي قديم نال المدالية العسكرية، وفقد ذراعه في معركة سباستبول، وهو يرتزق الآن من الغناء في الشوارع.
كان هذا الجندي محبوبًا في برين لشهامته وحُسن أخلاقه وبسالته، وكان غريبًا في سكره؛ فإنه إذا شرب نصف كأس من الخمر استخفه الطرب فجعل يرقص ويغني، فإذا شرب النصف الآخر تدحرج تحت المائدة، بل إنه قد يسكر من الماء القراح إذا أَوهم نفسه أنه يشرب الخمر، فيندفع في الطرب.
وعلى الجملة فقد كان طروبًا خفيف الروح كثير الغناء، ولم يكن له مرتزق إلا من هذا الباب.
فلما سمع القاضي هذا القول من الجندي دعا إليه كلوكلو وسأله قائلًا: من هي هذه المرأة التي كانت معك وإلى أين ذهبت؟
فتنحنح ولم يجِب، واصفر وجه بوفور، فقال له: بربك قل ما تعلمه وإني أكافئك بمال يكفيك حتى الموت.
فتنحنح أيضًا، وربما كان سعاله هذا المرة من التأثر، وقال: إني لا أعلم شيئًا ولا أذكر شيئًا.
فقال له القاضي: يستحيل أن تكون نسيت، فأجهد ذاكرتك؛ فقد كان ذلك منذ خمسة أيام فقط، فهل تعرف السيدة مونتكور؟
– كيف لا أعرفها يا سيدي وقد كان أبوها كولونيل، وكنتُ تحت قيادته في سباستابول، وكنت أكثر الأحيان أتغدى مع خادمتها في المطبخ.
– إذن إنك تستطيع أن تكشف لنا شيئًا من سر هذا الاختفاء الغريب.
– أين لي ذلك وأنا لا أعلم شيئًا؟
– لقد قال لنا أحد المزارعين إنه رأى امرأة معك، وإنها كانت السيدة مرسلين.
– لقد أخطأ هذا المزارع؛ فإن هذه المرأة التي صحبتني لم أرَها قبل تلك المرة، ولم أعرفها حتى الآن.
– أتُقسم على صحة ما تقول؟
– أُقسم إذ لا بدَّ من القسم.
– لماذا تقول لا بدَّ من القسم؟
– لأني لا أستطيع أن أُقسم على عكس ذلك.
– وإذا سألتك أن تُقسم بشرف الجندية وبهذه المدالية التي يزدان بها صدرك؟
فاصفر وجهه وقال: إن الرجل الشريف لا يكذب، وليس لي ما أقوله غير ما سمعتموه.
فأطلق القاضي سراحه، وقال بوفور: أرأيت يا سيدي كيف أن جهدك قد ذهب عبثًا كجهدي؟
قال: من يعلم فقد يطول الأمر، ولكن لا بدَّ من الوصول إلى الحقيقة، فاسمح لي الآن أن أجري بعض المباحث في غرف القصر؛ فقد يمكن أن نجد رسالة أو أثرًا نهتدي به.
قال: افعل يا سيدي ما تشاء.
فأخذ القاضي يبحث في الغرف، بينما كان بوفور جالسًا في غرفة مرسلين وهو تائه في عالم التفكير مسترسلًا إلى الأحزان التي لا توصف.
أما القاضي فقد كان يبحث في الغرف يعاونه قومسير البوليس، وقد عثر على أوراق اصفر وجهه بعد تلاوتها، فطواها ووضعها في جيبه وهو يقول: إن هذا السر الذي اكتشفته لا يحق لي إذاعته، نعم إني وعدت الموسيو بوفور أن أطلعه على كل ما أجده، ولكن الواجب يقضي عليَّ بأن أكتم عنه سر هذه الرسائل، مسكين هذا الرجل فإنه الآن أشد الناس نكدًا، ولكن بقي له الأمل.
ثم عاد إلى بوفور فسأله بوفور قائلًا: ماذا وجدت؟
قال: لا شيء.
قضت مرسلين أيام شبابها بجانب أبيها؛ فقد ماتت أمها عنها وهي طفلة.
وكان أبوها ميَّالًا إلى العزلة في قَصره؛ فلا يزوره غير الجيران، وبينهم فتًى يدعى جان داغير، وهو من النبلاء، وله مزرعة يتولى إدارتها بنفسه ويعيش من ريعها، وهي كل ما يملك.
كان هذا الفتى ذكي الفؤاد كثير المطامع والدهاء، لا يبحث إلا عن ثروة تعينه على الاسترسال إلى الملاهي، ولكنه على فرط دهائه لم يوفَّق إلى نيلها.
أما والد مرسلين فقد كان إيراده السنوي من مزارعه أربعين ألف فرنك، فكان جان يقول في نفسه: إن مرسلين غنية وجميلة، وقد بلغت سن الزواج وأنا في مقتبل العمر، ونحن متكافئان في النسب، فلماذا لا أكون ذلك الزوج؟
أما والد مرسلين فإنه كان يأذن له بزيارته لمصداقته مع أبيه، ولكنه كان ينفر منه ليقينه أنه ليس على شيء من مبادئ الأشراف.
أما جان فقد جعل كل همه استرضاء مرسلين توصلًا إلى حملها على حبه، فبدأت بالميل إليه، وهكذا يبدأ الحب.
وكان جريئًا فكلما زادته ميلًا زادها استرضاءً، حتى وثق من أن الحب قد نفذ إلى قلبها كما تنفذ الأشعة من الزجاج، فبدأ يواعدها على اللقاء حتى انتهى بهما الأمر إلى أنهما كانا يجتمعان كل يوم بالخفاء.
إلى أن قال لها يومًا: أتحبينني حقيقة يا مرسلين؟
قالت: أنت تعلم أني أحبك بملء جوارحي فلماذا تسألني هذا السؤال؟
– لأسمع منك هذه الكلمة الحلوة فما أسرها في قلبي.
– أحبكَ أحبك.
فضمها إلى صدره وقال: إني ذاهب من فوري لأخطبك إلى أبيكِ.
– اذهب أيها الحبيب؛ فإن أبي يجيبك إلى طلبك، وأنا أنتظرك هنا وأملي …
فتركها وذهب إلى أبيها، وهو لا يرى ما تراه مرسلين من موافقته؛ إذ كان واثقًا من أنه يعرفه حق العرفان.
وقد لقيه في قصره فاستقبله حسب العادة، ودار الحديث بينهما على الزراعة.
ثم أطرق جان برأسه وظهرت عليه علائم الوجل، فقال له مونتكور: ألك ما تقوله لي؟
– هو ذاك.
– إذن لماذا التردد؟ قل فإني مصغٍ إليك.
– لقد أصبت، فلا يجمل التردد مع صديق مثلك، فاعلم أن الأمر يتعلق بزواج.
– أتريد أن تتزوج؟
– نعم.
– حسنًا تفعل، ولا سيما إذا وجدت فتاة ترضيك.
– لقد وجدتها وهي لا ترضيني فقط، بل قد تيمني حبها.
– لقد أدهشتني! أأنت من الذين يحبون؟
– لا أقول لك غير الحق.
– إذن إنها لعجيبة، وهل أستطيع أن أنفعك بشيء؟
– لا أستطيع أن أتزوج إلا إذا كنت تريد.
فوقف مونتكور كأنما لسعته أفعى وقال: ماذا تعني بذلك؟
– أعني أنك والد التي أحبها وإني أتشرف بخطبتها إليك.
– إما أن تكون مجنونًا أو سكران.
فامتقع وجه جان بصفرة الموت، وقبض على يد الكونت دي مونتكور فهزها بعنف، وقال: وأنت أتحسب نفسك من العاقلين حتى أخطب إليك ابنتك فتجيبني بالإهانة والتحقير؟
قال: لا أنكر أني أخطأت؛ فاجلس ولنتحدث. إنك خطبت إليَّ ابنتي، ولكن كان يجب أن تعلم أني لا أجيبك إلى طلبك فلا تطلب المحال.
– ولماذا ترفض طلبي؟ لا أنكر أني لست من الأغنياء، ولكنك لا تنكر أني مثلك من طائفة النبلاء، فما الذي تنكره عليَّ؟
– أتريد أن تعلم؟ إذن فاسمع؛ إنك لا تروق لي لأسباب كثيرة؛ منها أنك من أهل الكذب والبهتان، وأنك زير نساء؛ فإني مهما بالغت في العزلة فما خفيت عني أعمالك المنكرة، ولست موقنًا أن قلبك يعبر عن مؤثرات الحب الصحيح؛ ولذلك فقد أردت خديعتي حين قلتَ لي إنك تحب ابنتي، ولم تقل الحقيقة إلا حين قلت إنك لست من الأغنياء، فأنت لا تريد ابنتي، بل تريد مهرها، ألم أقل الحقيقة؟
– لقد تجاوزت الحدَّ في قولك حتى إنه لا يمنعني عن صفعك غير أنك أبو مرسلين.
فأجابه الكونت بملء السكينة: أرأيت أنه لا يمكن أن نتفق، إذن لا تقبل أن تعترف، فأستودعك الله راجيًا أن تنسى طريق قصري.
– لا تقل الوداع، بل قل إلى اللقاء.
وقد خرج وهو يكاد يتميز من الغضب إلى حيث كانت تنتظره مرسلين، فأسرعت إليه وهي تقول: ماذا حدث؟
– إن أباكِ لا يرضى بزواجنا.
فاشتد خفوق قلبها وقالت: لماذا؟
– لا أعلم، فإما أن يكون ما أصيب به من خرف الشيوخ، أو أنه يطمع بأن يجد لك زوجًا أغنى مني.
– أما قلتَ له إنك تحبني؟
– دون شك.
– أما قلت له إني أحبك؟
– كلا؛ فقد خشيت أن ينقم عليكِ.
– لقد أخطأت؛ فأنا سأقول له.
فضمها إلى صدره وقال لها: آه لو تعلمين يا مرسلين كم أحبك.
وفي المساء جلست مرسلين مع أبيها للعشاء، فكانت مطرقة لا تجسر على أن تنظر إليه، وهو يراقبها، إلى أن شهقت فجاءة بالبكاء وقالت: إنك ستجعلني يا أبي أتعس الفتيات.
قال: ما هذا؟ وماذا تعنين؟
قالت: إن جان داغير يحبني وأنا أحبه، وقد أخبرني بكل ما جرى بينكما، وهذا سبب بكائي.
– هل خلوت به في غيابي؟ أين وكيف؟
فأطرقت برأسها ولم تجِب.
قال: أتعلمين كيف استقبلت هذا الفتى حين جاء لي خاطبًا؟
قلت له: إن رجاءك بقبولي يدلُّ على أنك سكران أو مجنون. فإن هذا الرجل غير كفء لك.
– إني أحبه يا أبي.
– آمرك ألَّا تفتكري به، واحذري أن تقابليه أو تكلميه.
فلم تلح؛ إذ وجدت ألَّا فائدة من الالتحام، ودخلت إلى غرفتها فجعلت تبكي كل الليل.
أحبك، وأنا حزين، فكيف أنت؟
أحبك وسأحبك مدى الحياة، إنك حزين أما أنا فأبكي.
وقضت عدة أسابيع لم يدنُ جان في خلالها من قصر مرسلين كي لا يثير الظنون في صدر أبيها، ولكنَّه كان يراسلها في كل يوم، ثم أخذ يراقب الكونت، فإذا علم أنه برح القصر جاء متلصصًا إلى مرسلين، وأقام معها بضع ساعات يوهمها أنه صادق في هواه، ويعبث بقلبها الطاهر، إلى أن وثق بأنها باتت له، فلم يكترث للأخطار وسقطت تلك الحمامة بين براثن ذلك البازي، فأصبح جان واثقًا أن أباها لم يبقَ بد له من الموافقة على زواجه بابنته بعد أن يقف على الحقيقة.
وقد اتفق يومًا أن الكونت وجان كانا يتنزهان على جواديهما في البراري، فالتقيا صدفة، ودنا جان منه فقال له فجاءة: هل تمعنت يا سيدي الكونت؟
فدهش الكونت لجرأته وقال له: وأنت هل بقي لك شيء من الأمل؟
– إذن إن رفضك جازم لا رجوع فيه!
– هو ذاك، فلا تحلم بمصاهرتي يا بني وارجع إلى إغواء الفلَّاحات حسب عادتك، أما مرسلين فهي أرفع من أن تصل إلى مقامها.
فعضَّ جان شفته حتى كاد أن يدميها، ثم نظر إليه محدقًا وقال له: استشر مرسلين إذن فهي تخبرك بأنه يجب أن أكون زوجها.
ثم لكز بطن جواده فانطلق به، وعاد الكونت إلى قصره وهو مضطرب مهموم، لا يعلم مراد هذا الشقي مما قاله؛ حتى وصل ولقي ابنته، فما جسر على أن يسألها؛ لأنه إما أن تكون بريئة فيكون قد أساء إليها بالظن، وإما أن تكون مذنبة فيُفضي الأمر إلى انتحارها وانتحاره في أثرها.
وقد أخذ ينظر إليها وهو يخترق بنظراته أعماق قلبها، فلم يطمئن؛ إذ رآها صفراء الوجه حمراء العينين، وأنها لم تكن تستطيع احتمال نظراته إليها، فنظرت بعينها إلى الأرض، فعلل هذا الإطراق باستحيائها منه لاعتقاده أنها خجلت من أن تحب رجلًا يعتقد أبوها أنه من الأشرار.
وقد دخل إلى غرفته وهو يقول في نفسه: الويل له، إذا كان كاذبًا في ما ادعاه فسأقضي على حياته أو يقضي على حياتي.
لقد لقيت أباكِ وجددت الطلب فعاد إلى الرفض، فلم يبقَ لي غير رجاء واحد وهو أن تسعي أنت إلى نيل موافقة أبيكِ.
فعولت على أن تعمل برأيه ودخلت إلى أبيها، فجلست بجانبه وظهر الاضطراب عليها؛ لأنها لم تكن تجسر على الكلام.
إلى أن مهَّد لها أبوها السبيل بسؤالها عما بها، فركعت أمامه وقالت بصوت يتهدج بالبكاء.
إنك تعلم يا أبي أني أحب جان داغير، وأنه يحبني، فلماذا لا تريد أن تسعدنا بالزواج؟
قال: كلا؛ فإن هذا لا يكون.
– أترضى أن أكون أتعس امرأة في الوجود، وأن تكون أنت سبب شقائي؟
– إنك ستنسينه وسأجد لك زوجًا من أكفائك.
– ولكني لن أحب ذلك الزوج؛ لأني أحب جان، وماذا تنكر عليه فتنفر منه هذا النفور؟
وقد حاولت في البدء أن تقنعه قبل أن تعترف ذلك الاعتراف الشائن.
فقالت له: إني أحبه يا أبي حبًّا لا ينزعه من قلبي غير الموت، نعم إنه فقير، ولكنَّا أغنياء، وهو يحبني بملء جوارحه، وهو شقي مثلي برفضك، فلماذا لا نكون ولدين بقربك بدلًا من واحد، فنكون خير عزاء لك في شيخوختك؟
وقد جعلت تقبله وتسترضيه بالبكاء والابتسام؛ فحنَّ قلبه وقال لها: إني أحبك يا ابنتي العزيزة، ولا يوجد من يحبك حبًّا صادقًا منزهًا غير أبيك، فثقي به واعلمي أنه لا يريد بكل ما يفعله غير سعادتك؛ فإن جان غير كفء لك.
– ولكني أحبه.
– لا تعيدي هذا القول يا ابنتي، ولا تبكي؛ فإنك لا تزالين في مقتبل عمرك، فأنت تتكلمين الآن بلسان الفتاة لا بلسان المرأة، أإلى هذا الحد تريدين الإسراع بالانفصال عن أبيك؟
– لا ننفصل عنك يا أبي، بل نقيم عندك ونعيش وإياك.
– أصغي إليَّ يا ابنتي؛ فإن الواجب يقضي عليَّ بأن أطلعك على كل شيء، إني لا يمكن أن أوافق على زواجك بهذا الرجل؛ لأني أعرف عنه ما لا تعرفينه، وقد حضرت مولده وخبرته منذ كان طفلًا إلى اليوم، فله من العيوب ما لا يجوز أن يخدش بها مسامع الفتيات، ثم إنه منافق محتال، فإذا قال لك إنه يحبك فهو إنما يقول ذلك بلسانه لا بقلبه؛ لأنه ليس له قلب، وإنما يدفعه إلى خداعك طمعه بمالك، فإذا فقد رجاءه من هذا الباب انصرف إلى سواك من فوره.
– إنكَ تسيء الحكم عليه يا أبي.
– بل إني أقول الحق؛ فهو لا يطمع إلا بثروتك.
– كلا؛ بل إنه يحبني.
– أتريدين أن أبرهن لك على عكس ما تقولين؟
– كيف ذلك؟
– ذلك أني أدعوه إلى هنا، ومتى حضر أظهر أمامك وأمامه أني خسرت في البورصة ثلاثة أرباع مالي، وأني بت مضطرًّا إلى بيع مزارعي حتى هذا القصر الذي أنا فيه، فإذا رضي بك بعد ذلك أكون مخطئًا ووافقت على زواجكما واعتذرت إليه أمامك.
– أسرع يا أبي بالكتابة إليه، وأنك تنتظر قدومه لترى أنه يحبني حقيقة دون مالي.
فهزَّ الكونت رأسه وقال: وإذا اضطرب بعد أن يعلم إفلاسي، وتردد أو اختلق حجة لتأخير موعد الزواج أو تعلل بالسفر فماذا تقولين؟
فأكبَّت على عنق أبيها تقبِّله وتقول: أسرع يا أبي بالكتابة إليه وسوف ترى.
فامتثل وكتب إليه مشترطًا عليها ألَّا تقول له كلمة، ولا تشير إشارة تدلُّ على هذه الخدعة.
قالت: دون شكٍّ؛ فإن أقصى مرادي أن تعلم بأنك مخطئ بالحكم عليه كي يطمئن قلبك.
وفي اليوم التالي أقبل جان واجتمع الثلاثة في قاعة الاستقبال، فبدأ الكونت الحديث فقال: إن ابنتي تحبك يا موسيو جان، وحاشا أن أعترض في سبيل سعادتها؛ فإني لا أطيق أن أكون السبب في بكائها، ولما كان الحب بينكما متبادلًا فقد وافقت على زواجكما.
فوقف جان وقد اصفر وجهه لوثوقه أن مرسلين اعترفت له بالحقيقة؛ إذ لم يكن يتوقع منه هذا التساهل السريع.
ومضى الكونت في حديثه فقال: نعم، إني رضيت بزواجكما ولا أجد سببًا لتأخير عقده، فتأهب له وأنا سأعد معداته، وهنا لا بدَّ لي أن أقول لك ولها كلمة تتعلق بحالتي المالية.
فأراد جان أن يعترض، ولكن الكونت أسرع إلى القول: نعم، إن من كان مثلك محبوبًا لا يكترث للمال، ولكن لا بدَّ من إطلاعك على حقيقة حالي فاسمع.
إنك لو كنت من الأغنياء يا بني لكان مستقبل بنتي مضمونًا ونظرت إليه باطمئنان، ولكنك فقير لنكد الطالع، ومرسلين لا تمتلك شيئًا، وإنك ستصير بمثابة ولدي، فلا يجمل بي أن أكتمك شيئًا من أمري.
فتبين الاضطراب في وجه جان، وعاد الكونت إلى الحديث فقال: كانت ثروتي منذ بضعة أيام مؤلفة من أربع مزارع كبرى، ومن هذا القصر الذي أقيم فيه، وبعض العقارات، وهي خير مزارع هذه البلاد كما تعلم، فاشتغلت منذ بضعة أيام في البورصة مع بعض أصحابي، ونحن نتوهم أننا رابحون، فخسرت نصف ثروتي صفقة واحدة، ثم خسرت بعد ذلك ثلاثمائة ألف فرنك لم أدفعها بعد، ولكن دين للبورصة دين شرف لا بدَّ من وفائه، فلا بدَّ لي من بيع بقية مزارعي للسداد، وبحيث لا يبقى لي غير قصري والمزرعة المحدقة به، وهو ما لا يكاد يكفي للقيام بأودي.
وهذه هي حالتي، نعم، إنها لا تؤثر على حبك ولكن لا بدَّ من إظهارها لتكون واقفًا على الحقيقة؛ فإني منذ عشرة أيام كنت أستطيع أن أمهر بنتي بمائتي ألف فرنك، أما اليوم فإنك ستتزوجها من غير مهر وا أسفاه.
وقد نهض الكونت وجعل يمشي ذهابًا وإيابًا في الغرفة، وأطرق جان، فمضت دقيقة حسبتها مرسلين دهرًا وهي تقول في نفسها: رباه، ألعله يتردد؟
إلى أن أجاب جان فقال: لقد أصبت فيما قلته؛ فإن خسارتك لثروتك لا تؤثر في شيء على مقاصدي، فإني لا أحب مرسلين لثروتها.
فصافحه الكونت وقال: أحسنت يا جان فهذه مناهج الأشراف.
فقال جان: على أن إفلاسك نكبة لا يمكن أن تؤثر عليَّ؛ لأني فقير لا أستطيع أن أقوم بكل ما تحتاج إليه مرسلين، ولا سيما أنها ربيت في أكناف النعمة وتعودت من النفقات ما لا طاقة لي عليه؛ ولذلك أخاف أن يؤثر عليها هذا التغيير، فإذا رضيت بحالتي الحاضرة فلست أنا الذي يأبى.
– اطمئن يا بني فإن ابنتي لم تتعود عيش البذخ ولا تحب الإسراف، فلا يروعها الفقر.
– قد يكون ذلك ولكني … ألا ترى أن الحكمة تقضي بأن تبقى معك إلى أن تألف هذا العيش الجديد قبل الزواج، وإني لا أقترح هذا الاقتراح إلا لهنائها.
فأجابه الكونت بلهجة المتهكم: قد تكون مصيبًا، ولكني أرى التعجيل بالزواج أولى؛ فإن الحب يهوِّن كل عسير.
– هذا لا ريب فيه، ولكن بقي سبب آخر يقضي بعدم التعجيل بالزواج؛ فإني أحب مرسلين حب عبادة ولا أريد التأخير، ولكني لا أستطيع أن أنسى أيها الكونت العزيز كيف عاملتني حين خطبتها إليك، وكيف أظهرتَ عيوبي وقلت إن زواجنا محال؟
لا أقول هذا لأني حاقد عليك، ومعاذ الله أن أكون من الحاقدين، ولكنك إذا كنت نسيت تلك الأقوال فإني لا أنساها؛ لأنها محفورة في قلبي، وقد كنت مخطئًا في حكمك عليَّ، فأنا أريد أن أصبر إلى أن تنجلي لك حقيقة أمري وتثق أن النمامين قد وشوا بي إليك بما هو كذب وافتراء، فاسمح لي أن أتريث إلى أن تختبرني فأكسب احترامك ومودتك، وعند ذلك لا أكون صهرك فقط بل أكون ولدك.
– إذا كان هذا ما تريده يا بني فليكن ما تريد، وإن ابنتي تنتظر؛ أليس كذلك يا مرسلين؟
فالتفت الاثنان إلى مرسلين، وقد تبين في وجهها القنوط، فابتسمت ابتسامًا مغتصبًا، وقال الكونت: إن ابتسامها علامة القبول، فهي تنتظر ما دمت تريد، فتعالَ لزيارتنا جهد إمكانك فأنت هنا كأنك في بيتك.
فنهض جان ومشى إلى مرسلين فقال لها: إني أسعد الناس بما سمعته من أبيك؛ فإن هذا الإفلاس زادني تقربًا منك؛ فإن ثروتك كانت شبه حاجز بيننا، أما الآن فقد صرنا متساويين، فإلى اللقاء القريب.
وقد ودعهما وانصرف، ففتح الكونت نوافذ القاعة التماسًا للهواء، ثم قال لابنته: أرأيت يا مرسلين؟ هل انجلت لك الحقيقة بالبرهان؟
فشهقت وهي تقول: يا له من خائن، ثم سقطت مغميًّا عليها بين ذراعي أبيها.
وقد طال إغماؤها ساعة دون أن تستفيق حتى خشي أبوها أن تكون فارقت الحياة، فجعل يبكي ويقول: ويلاه أنا الذي قتلتها.
ثم فتحت عينيها فضمها إلى صدره، وقال: ابكي يا ابنتي قدر ما تستطيعين فإن البكاء يفرِّج الأحزان.
سيدي الكونت
أسألك المعذرة؛ لأني اضطررت إلى السفر إلى باريس دون أن أخبرك؛ لشغل هام، فأرجو أن تبلغ أشواقي لمرسلين وأن تقبل تحياتي.
وبعد أسبوعين عاد من باريس فمضى شهر دون أن يزور خطيبته، وكان الكونت عالمًا بعودته ولكنه لم يخبر مرسلين التي كانت معتزلة في غرفتها تبكي وتصلي؛ لأنها باتت الآن صاحبة سر إذا انكشف لبسها عاره مدى الحياة، ولم يعد في وسعها كتمان هذا السر إلى أمد طويل؛ لأنها ستصبح أمًّا.
ففي ليلة دخلت إلى أبيها وقد انتصف الليل فعجب لقدومها في مثل هذه الساعة، وقال لها: لماذا لا تنامين يا ابنتي؟
قالت: أية فائدة من النوم؟ فإني لم أنم من عهد طويل.
– إذن أنتِ لا تزالين تحبينه بالرغم عما ظهر لك منه؛ فقد كنت أتوهم أن هذا الحب استحال إلى احتقار.
– بل إلى احتقار وكره.
– لماذا تنحلين هذا النحول؟
فغطت وجهها بيديها، وقالت له بصوت خافت خنقته الدموع: يجب يا أبي أن يكون جان زوجي.
وقد وقع قولها على قلب الشيخ وقع الصاعقة، فوقف ونظر إليها نظرة تشبه نظرات المجانين، وقال: ماذا قلتِ؟ إني لا أفهم ما تقولين.
– اقتلني يا أبي فقد حاولت أن أنتحر فلم أستطع.
فسقط المنكود على كرسيه خائر القوى، وسكت سكوتًا رهيبًا رُعبت منه مرسلين أكثر مما كانت تتوقع أن تُرعب من غضبه، فجعلت تشهق بالبكاء.
أما أبوها فإنه سألها بعد هنيهة قائلًا: إذن لقد كنت خليلته؟ وأخاف ألَّا يكون هذا كل شيء!
فاعترفت له بكل أمرها، وأنها باتت على وشك الافتضاح.
•••
كان الكونت يريد امتحان جان حين أخبره أن البورصة ذهبت بثروته كما تقدم.
وكأنما هذه الأكذوبة كانت شؤمًا عليه؛ فإنه حين اعترفت له ابنته بنكبتها وردت إليه أنباء من باريس تفيد أن الخسارة حدثت حقيقة، بحيث لم يبقَ له من حطام الدنيا غير القصر الذي يقيم فيه.
وفي اليوم التالي لقي جان فقال له: لقد قلت لك بالأمس إني فقدت ثروتي وكنت كاذبًا؛ لأني أردت امتحانك، أما الآن فأخبرك أني أصبحت حقيقةً من الفقراء؛ ولذلك لا أسألك الزواج ببنتي صيانة لمصلحتك المالية، بل لصيانة شرفها وشرفك؛ فإنك صيرتها أمًّا.
فأجابه الشقي بملء البرود قائلًا: سأجيبك غدًا.
– ويح لك أيها الغاشم مما تجيب! ألا تخشى غضبي؟ ألا تخاف قنوطي؟
فهز كتفه وقال: الحق أني لا أخاف.
– إذن فاسمع، إني أمهلك إلى الغد، إلى الغد، أسمعت فاحذر.
وقد أنفق معظم ليلته على المراسلات وترتيب أوراقه.
وفي اليوم التالي ذهب إلى منزل جان، فقيل له إنه سافر إلى باريس، فتبعه إليها وذهب إلى البيت الذي يقيم فيه، فوجده عند الباب يحاول الانصراف، فلم يقل له كلمة عن هربه، ولكنه صفعه صفعتين، وقال: أبقيَ سبيلٌ إلى اجتناب المبارزة؟
قال: كلا، ولكني سأقتلك.
قال: هذا أمر آخر، وأنا ذاهب الآن إلى فندق الشمال في شارع الشليو لأنتظر شهودك.
وفي اليوم نفسه جاء الشهود، واتفقوا على أن تكون المبارزة بالرصاص.
وفي الساعة السادسة من صباح اليوم التالي تبارز الخصمان، فأصيب جان بجرح هائل، ونظر إليه الكونت والدم يتدفق من فمه، فقال: إنه سيموت وقد انتقمت لابنتي، ولكن هل أرجعت شرفها المفقود؟
أما جان فقد حملوه إلى المستشفى فبقي ستة أسابيع بين الموت والحياة، وأما الكونت فقد عاد إلى ابنته فقالت له: ماذا فعلت يا أبي؟ قال: انتقمت منه بالقتل، وهو الآن في عِداد الأموات.
ولكنه أخطأ؛ فإن شباب جان تغلب على جرحه القاتل، فعادت إليه الحياة بعد قنوط الأطباء من شفائه.
أما مرسلين فقد أصبح بقاؤها في قصر أبيها مستحيلًا؛ لأن زلتها لا بدَّ أن تظهر، فسافرت مع عمتها إلى سويسرا وبقيت هناك بضعة أشهر إلى أن وضعت غلامًا دعته جيرار، فأودعته مرضعًا بين جنيف ومدزان، وعادت مع عمتها إلى أبيها، وهي تقول لها: لقد انتزعت حياتي مني ولا أعلم ما تخبئه لي الأيام، ولكني لا أتخلى عن ولدي ولو فُضحت به.
وفي الربيع التالي عادت مع عمتها إلى سويسرا وأقامتا في أحد فنادق برن، وقد كان جاء إليه في اليوم نفسه فتًى يُدعى بيير بوفور، وهو في العشرين من عمره توفي أبوه وترك له ثروة كبيرة.
وكان قد أجهد نفسه في درس الحقوق، فاعتلَّت صحته، وهو في كل عام يأتي إلى سويسرا فيقيم فيها كل الفصل عملًا بإشارة طبيبه.
وقد التقى لأول مرة مع مرسلين في قاعة الفندق؛ فراقه جمالها وسمع حديثها مع عمتها فعلم أنها فرنساوية.
ولم يطل الزمن بمرسلين حتى أيقنت من تعلق هذا الفتى بها؛ فإنها كانت تلتقي به كل يوم في الفندق والطرق والمتنزهات، وتقول في نفسها: لقد جاء بعد فوات الأوان؛ فإني لا أستطيع أن أحب ولا أن أكون محبوبة؛ ولذلك لم يكن يلقى بوفور في نظراتها شيئًا من التشجيع، ثم رأى أنها تجتنبه؛ فبرح الفندق فارتاحت مرسلين لبُعده، ولكنها لم تكن تملك نفسها عن التنهد كلما خطر في بالها، دون أن تعلم السبب في تنهدها.
وبعد أسبوع برحت برن مع عمتها إلى مدينة بال، وكأنما الأقدار كانت تهزأ من جفائها وابتعادها؛ فإنها لقيته في بال ولم يكونا في فندق واحد، ولكنهما كانا يلتقيان في الحديقة العمومية وفي المعرض والكنائس، فأخذت مرسلين تألفه تباعًا، فإذا أتت إلى منتزهٍ عامٍّ تجيل نظرها باحثة على رجاء أن تراه، فإذا رأته أطرقت بعينيها وشعرت كل ذلك اليوم بسرورٍ خفي، كل ذلك وهي لم تعرف اسمه بعد.
وكأنما زلتها وحرمتها جعلتاها بعيدة النظر، فكانت تكبح جماح هواها حين تفتكر به، وتقول في نفسها: إلى أين أنا صائرة، ألعلي جننت! أيحق لي أن أحب هذا الفتى؟ وإلى أية نتيجة يقودني هذا الحب؟
ولذلك رأت أن خير طريقة لاتقاء هذا الخطر الجديد هي أن تبرح هذه المدينة إلى مدينة سواها.
وقد اتفقت مع عمتها على ذلك، وفي اليوم التالي بينما كانت تنتظر في قاعة المحطة إلى أن تجيئها عمتها بتذاكر السفر، دخل بوفور في تلك القاعة فحياها بملء الاحترام، وقال لها بلهجة الوجل الخائف: أسألك المعذرة يا سيدتي لجرأتي، ولكني أشعر بدافع أشد من إرادتي يدفعني إلى مباحثتك.
إنك مسافرة يا سيدتي وقد لا أراك مدى الحياة، فلو تعلمين … كلا، لا أستطيع … إني بحثت كثيرًا عمن يقدمني إليك فلم أجد من يعرفك، وكل ما أرجوه يا سيدتي أن أعرف اسمك فأتمكن في فرنسا من زيارة عائلتك، أما أنا فإني أدعى بيير بوفور، فإذا أردت ألَّا تجعليني أشقى رجل في الوجود، فلا تستائي مما قلته لك ولا تسيئي بي الظن. فلم تجبه بشيء ونهضت تحاول الابتعاد، فقال لها بسرعة وقد أصبح شبه المجانين: سيدتي إنك إذا سافرتِ فقدت أثرك؛ فقد قدِّر لي أن ألقاك اتفاقًا مرتين، وأنا لا أعلم إلى أين تذهبين، ولكني واثق من أني سألقاك مرة ثالثة، فإذا أراد الله هذا اللقاء أتأذنين لي يومئذٍ أن أتعرف بك لتعرفيني حق العرفان؟
فأطرقت بعينيها إلى الأرض وقالت: إذا أراد الله.
فلما ابتعد عنها ندمت على ما قالته، وقالت في نفسها: لا شكَّ أني جننت، ولكنه لن يراني بعدُ؛ فإني أعلم كيف أجتنبه.
وعند ذلك جاءت عمتها فقالت لها: هل أخذت التذاكر لزيريخ؟
قالت: نعم، أما هكذا اتفقنا؟
– لقد غيرت خطتي، فلا أريد السفر إلى زيريخ.
– أفقدتِ صوابك؟
– ربما.
– إلى أين تريدين أن نسافر؟
– إلى بلد تتلبد الثلوج فوق جبالها؛ فلا يمكن اجتيازها.
– وهذه البلدة؟
– هي غرند لولد فأسرعي إلى تغيير التذاكر.
فذهبت عمتها وهي تهز رأسها، وقالت مرسلين في نفسها: إنه إذا تلاقينا هناك يكون قد صدق في ما قاله، وهو أن الله يريد هذا اللقاء، على أني لا أتمنى إلا أن أعيش وحدي مع ولدي مدى الحياة.
وذهبت إلى تلك القرية فأقامت فيها مع عمتها، وجعلت كل يوم تذهب وحدها إلى الجبال المحدقة بها وتتنزه بين غاباتها.
فبينما هي جالسة يومًا في ظل شجرة رأت رجلًا ينزل من قمة عالية، فلم تتبين وجهه لشدة بعده عنها.
وما زال يقترب حتى صار على بعد مائة متر منها، فكاد قلبها أن يثب من صدرها إذ عرفته، وقال بلهجة تشفُّ عن الرعب: هذا هو!
أما هو فلم يرها؛ لأنه لم يكن ينظر إلى جهتها، إلى أن دنا منها فصاح صيحة دهش ورفع قبعته بملء الاحترام، وقال: أرأيت يا سيدتي أنها إرادة الله؟
فلم تجبه، ومضى في حديثه فقال: أُقسم لك بشرفي أني لم أكن أعلم بوجودك في هذه القرية، وأن الصدفة وحدها قادتني إليها.
– إنه اتفاق غريب يا سيدي، إذا كان حقًّا كما أريد أن أعتقد أنك ما قفوت أثرنا.
– لقد أقسمت لك بشرفي يا سيدتي.
– لا حاجة إلى القسم؛ فقد وثقت ورجائي ألَّا يسوءك قولي؛ فإنك لا تعرفني ولا أجد لك فائدة من معرفتي.
– ألم تعديني بذلك يا سيدتي، فلماذا تجفينني دون أن تعرفيني؟
– أية فائدة من ذلك؟
– إني أحبك وأقصى ما أتمناه تبادل هذه العاطفة.
– كيف تحبني وأنت لم ترَني أكثر من أربع مرات؟
– قد يتولد الحب من نظرة، وإن حبي طاهر شريف يا سيدتي لا أريد به غير إسعادك.
– إنك واهم يا سيدي، أما وقد لقيتني الآن وكشفت القناع عن ضميرك فاعلم أن إلحاحك يزعجني.
– أهكذا تريدين أن أسافر دون رجاء؟
– نعم.
– إذن إن قلبك مقيد؟
– كلا؛ فإني لا أحب أحدًا.
وقد ندمت على ما قالته؛ فإن قولها هذا قد يكون بمثابة تشجيع؛ بدليل أنه نظر إليها نظرة تشف عن الاطمئنان وانصرف.
فأدركت معنى نظرته، وجعلت تقول في نفسها: ويح لي مما قلت وفعلت، ألم تنضب الدموع من عيوني، فلماذا أدفع نفسي الآن في سبيل الدموع؟ وبعد فهل أستطيع أن أحبه دون أن أعترف له بزلتي وأخبره بأمر ولدي؟ وكيف أبسط عاري لرجل يهبني قلبه!
وبعد، فهل الذنب ذنبي؟ إني لا أحبه ولا أستطيع ولا أريد أن أحبه.
وقد مضى أربعة أيام دون أن تراه؛ فشعرت بعاملين يتجاذبانها؛ عامل ارتياح وعامل استياء في حين واحد، وهذا من غرائب أسرار القلوب.
وفي اليوم الخامس سمعت باب المنزل يطرق فلم تكترث؛ لأن عامل البريد كان يأتي أحيانًا، ولكنها ما لبثت حتى صاحت صيحة دهش؛ إذ كان القادم بوفور نفسه، وقد طلب مقابلة عمتها فلقيها وقال لها بملء البساطة: أرجوك معذرتي يا سيدتي لتشرُّفي بمقابلتك على هذا الشكل؛ فإني أحب مدموازيل دي مونت كور، وقد رأيتها لأول مرة في برن منذ شهر، وكانت الأقدار تدفعني إلى الشوارع التي تمر فيها فأراها، ولم أعرف اسمها إلا منذ أربعة أيام، فكتبت إلى صديقي البارون دي لافار في فرنسا فأرسل إليَّ اليوم هذا الكتاب، هو لك يا سيدتي فتفضلي بتلاوته.
فقرأت الكتاب وقالت له: إن صديقنا البارون يوصيني بك يا سيدي، فأهلًا بك ولكن على شرط.
قال: إني أقبل بشرطك قبل أن أعرفه.
– شرطي ألَّا تحدِّث ابنة أخي بحديث حب.
– ولكني أحبها.
– إنك تحبها ولكني لا أعلم أنها تحبك، ثم إني أعرف أمانيها، فلا أظن أنك أنت الذي تحقق هذه الأماني؛ ولذلك رجوتك ألَّا تكاشفها بحبك، فهل تُقسم لي؟
– أُقسم لك على أني أحتفظ بهذه اليمين إلى أن تحلني ابنة أخيك منها.
فأدارت وجهها كي تخفي دمعة جالت في عينها، وقالت: إني واثقة من أنها لا تحلُّك من هذه اليمين.
وفي اليوم التالي عاد إليها فاجتمع بها وبمرسلين، فلما انصرف قالت مرسلين لعمتها: لماذا أذنتِ له بزيارتنا؟ فإني قبل أن أعرفه لم أكن سعيدة، ولكني كنت ساكنة مطمئنة، فقُضي الآن على راحتي.
فذُعرت عمتها مما سمعت وقالت: ماذا تعنين؟
فلم تجبها بشيء ودخلت إلى غرفتها.
وقد أخذت بعد ذلك تتدرج إلى سؤالها، فقالت لها يومًا: إنك متأثرة مني كما أرى.
قالت: كلا، بل إني مستاءة فدعيني وحدي.
وقد قالت لها هذا القول بجفاء، فلم تجبها؛ لأنها كانت تحبها؛ إذ هي التي ربتها وخصتها بكل حنوِّ قلبها.
ولكنها باغتتها بعد ساعة في الحديقة وهي تبكي، فقالت لها بلهجة المتوسل: بالله قولي لي ما لكِ أو يقتلني الحزن.
فقالت لها بلهجة المغضب وبصوت يخنقه البكاء: كيف تسألينني عما أصابني، ألا ترين؟
قالت: إني عجوز لا أرى شيئًا ولا أفهم شيئًا.
فغطت وجهها بيديها وقالت: أحبه أحبه.
وهنا استرسلت إلى البكاء، فضمتها عمتها إلى صدرها وامتزج الدمعان.
وجعل بوفور يزورهم في كل يوم، وبقي وفيًّا بوعده فلم يقل لمرسلين كلمة حب، ولكن أية فائدة من الكلام فقد كانت العيون تترجم عن القلب ما يوحيه الغرام.
وقد زاد ذلك في اضطراب مرسلين، وتنبهت عمتها لاضطرابها، وعرفت أسبابه فقالت لها: أتريدين أن أمنعه عن زيارتنا؛ فإن الوقت لا يزال فسيحًا؟
– كلا؛ فقد فات الأوان.
– ولكن تمعَّني يا ابنتي فإلى أين يصل بنا هذا السلوك؟
– إلى المستحيل.
– إذا كان ذلك ألا يجدر بنا قطع العلائق معه منذ اليوم؟
– بأية حجة؟
– لا بدَّ لي من إيجادها وسأبحث.
– حسنًا، فابحثي عن سبب يمنعه دون أن يسحق قلبه؛ فقد عرفت عذاب الهجران فلا أريد أن أعذبه ولا سيما …
– ولا سيما أنك تحبينه، وما زلت قد قيدتني بإيجاد الحجة فخير ما أراه أن تقولي له إنك لا تحبينه.
– لا أجسر على ذلك.
– تمعَّني يا ابنتي فإن الموقف خطير، وقد يأتي يوم لا تستطيعين فيه كتمان حبك، فما يكون عندئذٍ وزواجكما محال؟ افتكري بابنك الذي تكتمين أمره.
– إذن أنا التي سأقول له لا أنت.
– أتجسرين؟
– نعم؛ فإن الشرف يقضي عليَّ بأن أكون جريئة وإذا ضعفت فإن ذكرى ولدي تشجعني.
فهزت عمتها رأسها إشارة إلى الشك. فقالت لها: غدًا سأرجوه أن ينقطع عن زيارتنا، أوثقتِ الآن؟
– أواه يا ابنتي كم تستحقين أن تكوني سعيدة!
– إن السعادة ممحوة من كتاب حياتي؛ فقد قُضي عليَّ أن أشقى إلى الأبد.
وفي اليوم التالي جاء بوفور حسب عادته واقترح عليهما نزهة في الجبل، فرضيت مرسلين وهمست في أذن عمتها قائلة: تلهي عنَّا هناك من حين إلى حين بجني الأزهار كي تفسحي لي المجال لمحادثته.
وذهب الثلاثة إلى الجبل، وقبل أن يصلوا إليه سمعت مرسلين صوت رجل يغني؛ أبرقت أسرَّة وجهها فرحًا؛ إذ عرفت صاحب هذا الصوت؛ فقد كان ذلك الجندي المقطوع اليد الذي كان في خدمة أبيها، ثم انصرف إلى الارتزاق من التجول والغناء.
ولم تستطع إخفاء فرحها حين رأته فقالت له: أأنت هنا يا كلوكلو؟
قال: إني مقيم في فندق بونكور، وإني خادمك أين كنت.
وبعد أن حدثته هنيهة تركته فأخذ الثلاثة يتسلقون الجبل.
وكانت عمتها وبوفور يتقدمانها وهي ماشية من ورائهما تفكر في أمرها وتسير الهويناء، وكلما التفتت إليها عمتها تستحثها على السير نظرت إليها نظرة مفادها أني أوثر أن أسير وحدي.
وما زال هذا شأنهم حتى انتهت عمتها إلى قمة عالية ووقفت تشير إليها فأدركتها مرسلين، ونظرت إلى قمة ذلك الجبل إلى وادٍ عميق، ورأت في أسفله زهر البنفسج متكدسًا بين الثلوج والصخور في ذلك الوادي، فلم تتمالك عن إظهار إعجابها بهذه الأزهار، وقالت: يا الله، ما أحلاها! وكم كنت أود لو أستطيع أن أجنيها!
وقد قالت هذا القول لعمتها ثم انصرفت إلى الحديث معها، وبعد هنيهة التفتت إلى جهة الوادي فرأت بيير بوفور يهبط إلى ذلك الوادي وهي لا تعلم أنه سمعها تشتهي الأزهار، وقد اضطربت لما رأته، فصاحت بملء صوتها تقول: بيير، بيير، بربك عُد ولا تتقدم. فلم يسمعها بوفور بدليل أنه لم ينظر إليها واستمر في هبوطه.
وكانت الحجارة تهوي تحت قدميه، وقد اتفق له مرارًا أنه كان يستند في يديه إلى صخر فيهبط الصخر، وصوت هبوطه إلى مسامعها فيتجسم في عينيها الخطر.
وما زال هذا موقفه وموقفها إلى أن وصل إلى موضع تلك الأزهار، فجنى منها ضمة وعاد أدراجه، فاطمأنت مرسلين؛ لأن الصعود ليس فيه شيء من الخطر.
حتى إذا وصل إليها أعطاها الضمة وهو يحسب أنه قد ملك الدنيا، وكان يعد نفسه أسعد خلق الله بإعطائها هذه الأزهار، فأخذتها مرسلين بيد ترتجف ولم تتمالك عن وضعها فوق فمها كأنها تقبِّل بها من تحب، ثم أغمي عليها من فرط التأثر، فلما استفاقت من إغمائها جعلت تبكي، وقد ذهبت شجاعتها وكل ما كانت عوَّلت عليه من الصبر، فكانت تلك الدموع تنم عما كانت تحاول أن تخفيه، ونسيت في تلك الساعة كل شيء من خيانة داغير إلى تدنيس شرفها إلى ولدها الصغير، وأخذت يد بوفور في يديها وشدت عليها وقالت: ما هذا الجنون! ألا تعلم أنك لو أصبت بمكروه لقتلت نفسي في أثرك … رباه أتخاطر بنفسك من أجل زهرة؟ قال: بل في سبيل حبك.
وكانت هذه أول مرة صرح لها فيها بحبه بعد أن وعد عمتها بالكتمان، فحنث بوعده مكرهًا.
وقد أقام الثلاثة هنيهة يتحدثون ويمعنون النظر في ذلك الوادي الجميل ثم عادوا، فاغتنمت مرسلين فرصة بُعد عمتها عنها، وهمست في أذن بوفور قائلة: … أرجوك ألَّا تعود إلينا وأن تنساني.
فنظر إليها نظرة المأخوذ، وهو لا يفهم شيئًا مما تقول، وقبل أن يحاول سؤالها اقتربت عمتها منهما، فعادوا جميعًا إلى المنزل، وهناك افترقوا عند بابه، فسار بوفور مفكرًا وهو مطرق حزين، فدخلت مرسلين إلى مخدعها فاسترسلت إلى البكاء.
وفي اليوم الثاني جاء بوفور على عادته إلى المنزل، فقالت له الخادمة: إن السيدتين ليستا في البيت. وجعل يجيء في كل يوم فتقول له الخادمة القول نفسه.
إلى أن جاء يومًا ونقد الخادمة بضعة من الدنانير وقال لها: إنك تكذبين فدعيني أدخل.
وليس أفصح من الدينار، فقالت له الخادمة: إني كذبت في نصف قولي، وصدقت في النصف الآخر، فإن العجوز غير موجودة في المنزل، وأما الصبية الحسناء فهي فيه.
ودخل بوفور واستقبلته مرسلين وهي مطرقة برأسها، فقال لها: إذا كنت لا تحبين ولا تريدين أن أعود كما تقولين فلماذا قبلت أزهار البنفسج؟
قالت: إنها ثورة عصبية غلبتني، وبعد أفلا يجب أن أشكرك؟
قال: ولماذا أغمي عليكِ إذا كنتِ لا تحبيني؟
قالت: ذلك لأني خفت عليك.
– وماذا حدث بالأزهار؟
– لا أعلم؛ فقد تكون الخادمة رمتها بعد ذبولها.
فابتسم ابتسامة تشف عن الحزن الشديد.
وقال: إذا كان ذلك؛ فهو لا يدلُّ على أنك صادقة فيما تقولين.
فأغمضت عينها كأنها لا تجسر أن تنظر إليه؛ حذرًا من أن تكذبها عيناها وقالت: نعم، لا أحبك، وإن كنت تستحق أن تُحبَّ كثيرًا.
– لماذا ألححتِ عليَّ بالسفر؟
– لأني شعرت بأني لن أحبك، وأية فائدة من اجتماعنا؟
– هذه هي إرادتك الجازمة.
– نعم؛ فإني يسرني كثيرًا ألَّا تكون خير صديق لي إذ يستحيل …
– إذن أستودعك الله، وأنا مسافر كما تشائين.
– سِر بأمن الله وثق أنك ستنساني قريبًا.
فانحنى أمامها مسلِّمًا، ومضى حتى إذا دخل إلى الباب التفت فرآها مغميًّا عليها، ورأى رأسها منقلبًا على عضادة المقعد، فأسرع إلى مناداة الخادمة وقال لها: إن سيدتك مغمًى عليها، فأسرعي إلى فك أزرار صدرها. فدنت الخادمة منها وفكت الأزرار فسقط من صدرها ضمة من الزهر الذابل، وهي تلك الضمة نفسها التي جناها بوفور من الوادي.
ولما فتحت عينيها خرجت الخادمة، فركع بوفور وأخذ يقبِّل يديها بلهف عظيم، فقالت له بصوت يقطعه اليأس: ماذا تفعل يا سيدي أنسيت ما قلته لك؟
فأراها ضمة الزهر، وقال لها بلهجة المنتصر: كلا، لم أنسَ، ولكنك كاذبة وإنك تحبينني.
فأطرقت برأسها عند ذلك وأخذت تشهق بالبكاء، فتركها تبكي؛ لأن البكاء يخفف ما بها، ولكنه لبث راكعًا أمامها، وقال لها: إنك تحبينني يا مرسلين، فلماذا تنكرين؟
فمسحت عينيها، ولبثت هنيهة ساكتة إلى أن خطر لها أن سكوتها اعتراف بهذا الحب، فقالت له: لماذا تفتكر بي يا موسيو بوفور؟
– بل؛ لأني لا أفتكر بسواك في هذا الوجود؛ فإنك ممثلة لي بكل مخيل.
– ولكن زواجنا على افتراض أني أحبك محال.
– لماذا؟ ما الذي يمنعنا عن الزواج؟
– يوجد كثير من العقبات.
– اذكريها لي يا مرسلين فأزيلها، إني أحبك ولا عقبة تدوم في سبيل المحبين.
– إني حقيرة وليس لي ثروة ولا رجاء بثروة على الإطلاق.
– هل خطر لي أن أسألك إذا كنت غنية؟ وماذا يهمني فقرك وأنا قادر على أن أحقق كل أمانيكِ؟
– إني نشأت على الوحدة ولا أستطيع الاختلاط بالناس، ألم ترني كيف أني اجتنبت كل مجتمع إلى الزواج؛ فإنه يقضي عليَّ بمعاشرة الناس وهذا فوق طاقتي.
– وأنا مثلك أوثر العُزلة والانفراد، وسترين معي كيف يكون هناء المحبين؛ فإني لا أسألك غير اليسير من الحب.
– ولكني أخاف من الزواج؛ لأنه يقيدني بسيد وأنا كثيرة الكبرياء.
– إن الزواج لا يجعلني سيدًا عليك بل عبدًا لك.
– وفوق ذلك فلا بدَّ من موافقة أبي، ومَن يعلم ما يكون منه؟
– إنه سيرضى بي زوجًا لك إلا إذا كان مقيدًا مع سواي.
فاغتنمت مرسلين هذه الفرصة، واتخذت من قوله الحجة التي كانت تبحث عنها ولا تجدها، وقالت: لقد أصبت فقد وقع اختياره على سواك، ولا بدَّ لي من طاعته؛ فهو أبي.
– هذا ممكن، ولكن أباك إذا كان يحبك لا يُكرهك على الزواج مرغمة، وإني أسألك سؤالًا واحدًا قبل انصرافي يا مرسلين، وهو هل تحبين الذي اختاره أبوك زوجًا لك؟ وأنك إذا كنت تحبينه أذهب فلا ترينني إلى الأبد، وإذا كان الأمر على العكس أبقى.
وقد قال هذا القول ونظر إليها نظرة نارية، فلبثت مطرقة واجمة لا تعلم ما تجيب؛ لأنها إذا أجابت بما يرضيه تكون كأنها قد اعترفت بأنها تحب بوفور، ولا فرق بين هذا الاعتراف وبين الجناية؛ لأنها بنت في عرفه وهي أم في عرف الحقيقة.
ثم وقفت فجاءة فأخذت يده بين يديها فضغطت عليها حتى أوشكت أن تلثمها وقالت: إني سأسألك أمرًا أرجو قضاءه.
قال: هو مقضي مقدمًا.
قالت: لا تعد إليَّ قبل ثلاثة أو أربعة أيام، فسأكتب إلى أبي ومتى تلقيت جوابه أكتب إليك.
فتردد في البدء، ثم رأى أن طلبها عدل، فقال: ليكن ما تريدين فسأعود إليك يوم السبت؛ أي بعد ثلاثة أيام.
وقد تركها وانصرف، فكسبت مرسلين بذلك فرصة ثلاثة أيام، ولكن ما عساها تصنع في خلالها، فإنها إذا كتبت إلى أبيها أجابها بقوله: «إن الواجب والشرف يقضيان عليك بأن تبوحي بكل شيء.»
وكيف تبوح له بسرها الذي كانت ترجو أن ينزل معها إلى القبر؟ وكيف تخونه وتكتم عنه وهي ستكون زوجته مثل هذا لسر؟
وما زالت تتردد في أمرها حتى خطر لها أن تكتب إليه، فأقامت كل ليلها وهي تكتب حكايتها، حتى إذا فرغت منها ورأت ما كتبته قالت: كلا، إن هذا لا يكون. فمزقت الرسالة وألقت بها إلى المستوقد.
وفي يوم السبت قالت لعمتها: أريد أن نسافر اليوم، فأعدي معدات الرحيل.
ولكنها قبل أن تخرج إلى المركبة الواقفة عند الباب للسفر دخل بوفور فوجف قلبها، ووقف بوفور أمامها، وقد كاد أن يتلعثم لسانه وقال لها: ماذا تفعلين، أتهربين مني؟
فلم تعلم كيف تفعل، وحاولت الرجوع إلى الحديقة، ولكنه استوقفها وقال لها بلهجة جافية: إنك حنثت بوعدك، وصار يحق لي أن أسألك لماذا تهربين مني؟
فتدخلت عمتها عند ذلك وقد أشفقت عليها، فقالت له: كلا، إننا لا نسافر اليوم، وثق بما أقول.
فجال الدمع في عيني بوفور، وقال: لماذا لا تفتحين لي قلبك يا مرسلين؟
قالت: لقد أصبت فعد إليَّ في الغد يا بيير؛ فإنك إذا عدت علمت أنك تحبني بالرغم عن كل الموانع.
وكتبت إليه تاريخ حياتها وكيف كانت زلتها، بكتاب طويل، فلم تكتم عنه شيئًا من أمرها، ثم وضعت الكتاب في غلاف وعنونته، ونهضت به كي تدفعه إلى الخادمة فتوصله إليه.
وعند ذلك ارتعشت؛ ليس لأنها ترددت في إرسال الكتاب؛ فإن عزيمتها قد صحت هذه المرة على إرساله، ولكنها سمعت صوت رجل يغني في الشارع وعلمت أنه صوت كلوكلو، ذلك الجندي القديم الذي كان في خدمة أبيها، فأسرعت إلى مناداته، وقالت له: إنك تحب أبي وأنت مخلصٌ لي أليس كذلك؟
– إني أقطع ذراعي الثانية في سبيل خدمتك.
– إذن إني أعهد إليك بإيصال هذا الكتاب إلى الموسيو بيير بوفور المقيم في فندق جنيف، على أن تسلمه إليه يدًا بيد.
فأخذ الكتاب وانحنى مسلِّمًا وانصرف.
وقد أقامت يومها تتجاذبها الهواجس والهموم، وسألتها عمتها عما فعلت، فأخبرتها بكل ما كتبته، وقالت لها: ماذا ترين يا عمتي، أتحسبين أنه يعود؟
فهزت رأسها وقالت: كلا يا ابنتي، لا أظن أنه يعود.
وقد ضمتها إلى صدرها والدموع تهطل من عينيها وهي تقول: يجب أن نهرب منه يا ابنتي، وسنذهب إلى إيطاليا، فماذا تقولين؟
فلم تجبها بشيء.
وفي اليوم التالي عادت إليها عمتها وقد تعالى النهار، فوجدتها لا تزال في موضعها فقالت لها: إنه لم يعُد يا ابنتي فلا تفتكري به، واجعلي كل اهتمامك بولدك جيرار.
فجعلت تنظر إليها نظرات المجانين، وقد ضحكت ضحكًا عصبيًّا وجفَ له قلب عمتها فقالت لها: تشجعي يا ابنتي وكفى.
فعادت إليها حالتها الطبيعية وقالت لها: أنت تعلمين أني أحبك، فاطمئني ودعيني وحدي؛ فإني في حاجة إلى الانفراد.
فخرجت عمتها وهي تبكي، وحانت الساعة الحادية عشرة دون أن يأتي بوفور، فاسترسلت إلى اليأس، غير أن يأسها لم يطُل؛ فقد رأته من النافذة قادمًا فقالت: رباه! أهو حلم ما أراه؟ أم لعله قرأ حكايتي وغلبه الحب فصفح؟ نعم، إنه يحبني بالرغم عن زلتي فهو لا شكَّ أشرف الرجال.
وقد كادت تسقط مغميًّا عليها حين دخل بوفور لو لم يسرع إلى إعانتها.
وقد أجلسها على كرسي وركع أمامها فقال لها: لقد رأيت يا مرسلين أني عدتُ إليكِ فهل تريدين أيضًا برهانًا على حبي؟
قال هذا القول جوابًا على ما اقترحته عليه من قبل، وهو قولها له: «إنك إذا عدت بعد ثلاثة أيام كنت حقيقة تحبني بالرغم عن الموانع.» أما مرسلين فقد اعتقدت أنه يجيبها على كتابها الذي أباحت له فيه بسرِّها، وقد اشترطت فيه ألَّا يقول لها كلمة عما مضى إذا صفح ورضي بعد ذلك أن يكون زوجها، فذهب انقباض نفسها واستحال إلى زهوٍّ وانتعاش، فكانت كالزهرة التي تصيبها أشعة الشمس فتحييها.
ومرت بهما عدة أيام وهما على أهنأ حال حتى لقد كانت مرسلين توجس خوفًا من هذه السعادة وتتوقع أن تفاجأ بعدها بنكبة.
وقد كتبت إلى أبيها تنبئه بما حدث لها، وأنها لم تكتم خطيبها شيئًا من ماضي حياتها، فأجابها مهنئًا وسألها أن تعود إليه مع خطيبها.
وعاد الاثنان إلى الكونت الشيخ، واتفقوا على أن يُعقد الزواج في شهر تيموز، ولكن قدر على مرسلين أن تحضر حفلة إكليلها وهي بملابس الحداد فقد توفي أبوها الكونت قبل زواجها بأسبوع.
ولنعد الآن إلى سياق الحديث الأول؛ أي إلى ما جرى بعد اختفاء مرسلين؛ فإن قاضي التحقيق ومعاونه وقومسيير البوليس وجدوا بوفور مغميًّا عليه في غرفة امرأته، فعالجوه حتى استفاق.
وكانوا قد بحثوا بحثًا دقيقًا في المنزل، ونظروا في جميع ما وجدوه من الأوراق فسألهم بوفور قائلًا: ماذا اكتشفتم؟
فقال له القاضي: لا شيء.
والحقيقة أنه كان كاذبًا؛ فقد عثر بين الأوراق التي وجدها على نسخة من الكتاب الذي أرسلته إلى بوفور، ولم تكن قد أشارت فيه إلى أسماء، فعلم أنها تزوجت وهي أم، وأن بوفور لم يكن عالمًا بشيء من حقيقة أمرها، فرأى أن واجباته تقضي عليه بكتمان هذا السر عن الزوج المنكود، ولكنه قال له: إن قلبي يحدثني، بالرغم عن جميع الظواهر، أن امرأتك لا تزال في قيد الحياة، فلا تقنط من لقائها، فرفع بوفور عينيه إلى السماء قانطًا؛ إذ لم يكن يرى ما يراه قاضي التحقيق.
ولنبسط الآن ما جرى لمرسلين؛ فإنها في اليوم التالي لزواجها؛ أي حين اجتمعت هي وزوجها بداغير الذي أغواها قبل الزواج، رأت من مقابلتهما أن زوجها لم يكن عالمًا بشيء من حكايتها مع صديقه داغير، وأيقنت أن الكتاب الذي أرسلته مع كلوكلو إلى بوفور لم يصل، فأصيبت بما يشبه الجنون، ورأت أن بوفور سيلح عليها بالسؤال حتى تعترف، فيعلم عند ذلك أن هذه المرأة التي كان يحسبها فتاة نقية طاهرة قد عبثت به، وأنه لا يستطيع طردها بعد فوات الأوان؛ لأنها أصبحت الآن تدعى باسمه، فكيف تعيش معه وقد أورثته هذا العار؟
على أنها لم تكن مخطئة؛ فقد نهجت خير مناهج الشرف، وكتبت إليه كل حكايتها بالتفصيل قبل أن تتقيد معه بقيد الزواج، وأين له أن يصدقها لو قالت له: إني كتبت إليك وأي ذنب لي إذا لم يصلك الكتاب؟
هذا ما كانت تناجي به نفسها، وهذا ما دعاها إلى إيثار الفرار على الوقوف مع زوجها في هذا الموقف الرهيب، فنظرت إلى ما حواليها نظرات المجانين، فلم تجد غير ضمة ذابلة من الزهر كان قدمها لها بوفور، فوضعتها في صدرها وخرجت هائمة على وجهها.
وكان كل ما تفكر به أن تسرع بالابتعاد عن المنزل كي لا يدركها حين التفتيش عنها.
وما زالت ممعنة في الفرار حتى انتصف الليل، فوجدت نفسها في غابة كثيفة الأشجار، وقد أنهك التعب قواها، فلم تعد تستطيع المسير، وسقطت واهية القوى. بينما كان زوجها يبحث عنها في ظلام الليل وهو ينادي من حين إلى حين: مرسلين، مرسلين.
وفيما هي تلتمس الراحة في الغابة كي تستطيع استئناف السير سمعت صوت رجل يغني، وكل ما اقترب منها زاد وضوحًا؛ حتى تبيَّنت أنه صوت كلوكلو.
وبعد هنيهة دنا منها ورأى وجهها على ضوء القمر، فعرفها ولم يصدق عينيه فقال: ماذا أرى؟ سيدتي مرسلين دي مونتكور هنا؟ في هذه الساعة؟!
قالت: نعم، أيها الشقي الناكر الجميل؛ فإني لم أصل إلى هنا إلا بسببك.
فدهش وقال: أنا أنكر جميلكم عليَّ يا سيدتي؟! لا شكَّ أنك محمومة، فتوكئي عليَّ، وإذا كنت غير قادرة على المسير فأمهليني إلى أن آتيكِ بمركبة.
قالت: بل، أريد أن تجيبني على ما أسألك عنه.
قال: سلي ما تشائين يا سيدتي، فأنت تعلمين أني لا أكذب.
قالت: أتتذكر يوم أعطيتك رسالة في سويسرا كي توصلها إلى الموسيو بوفور؟ فأطرق برأسه دون أن يجيب.
فهزت كتفيه بيديها وقالت: يجب أن تجيب، فماذا فعلت بالرسالة؟ أما أوصلتها لصاحبها؟
فلبث مصرًّا على السكوت. فقالت: ويحك! أتريد أن أنتزع الكلام من فمك أيها الشقي؟
قال: ما هذه الحالة التي أنتِ فيها يا سيدتي؟ ولماذا؟ نعم، إني مخبركِ بكل ما حدث، فلقد أصبتِ بقولك إني ناكر للجميل لأني جحدت نعمتكم عليَّ، نعم، إني شقي كما وصفتني، ولكن ليس الذنب ذنبي، بل ذنب تلك العادة الذميمة التي تملكتني وهي عادة السكْر، والله يعلم كم أكابد منها؛ فقد صرت إذا شربت مقدار أصبع من الخمر أشعر أن المنازل تدور بي، وأصبر إلى أن يمر بي منزلي فأدخل إليه.
نعم، إني أذكر الكتاب الذي أعطيتني إياه، وقد سرت به إلى الفندق، ولكن لا بدَّ للوصول إليه من المرور في الطريق، وقد سرت فيها امتثالًا لأمرك، فلقيت زمرة من الأصحاب يشربون الخمر فشربت معهم، وكان مبيتي تلك الليلة تحت مائدة الشراب.
ولما صحوت من سكرتي ذكرت الرسالة فقمت مهرولًا إلى الفندق، ولكني حين بلغته وجدت — وا أسفاه — أني فقدتها، ولم أجسر أن أخبرك بما اتفق لي؛ لأني خفت من تأنيبك، وقد برحت سويسرا في ذلك اليوم؛ لأني شعرت أني أسأت إليكِ إساءة قد تغفرينها لي، ولكني لا أغتفرها لنفسي.
هذه هي حكايتي يا سيدتي، فقولي لي بالله أني لستُ أنا الذي أوصلتك إلى ما أنت فيه، أو أُلقي نفسي في أول وادٍ أمر به وأستريح.
وقد تنهد تنهدًا طويلًا، فلم تؤنبه بعد اعترافه؛ إذ أية فائدة من التأنيب؟ ولكنها كانت واثقة من وفائه، فأرادت أن تستفيد فرصة التقائها به، فقالت له: أريد أن تُقسم لي بأمك التي تحبها كثيرًا أنك لا تخبر أحدًا بأنك لقيتني هنا.
قال: أُقسم يا سيدتي.
– إني تركت القصر الآن على ألَّا أعود إليه، وفارقت زوجي وهو يبحث عني بحث القانطين، فلن أراه ولن أرى موطني بعد الآن، وكل ما أريده هو أن يتوهموا أني ميتة، أفهمت؟
– ماذا تقولين يا سيدتي؟
– أقول أني أريد أن يحسبوني في عداد الأموات، وكل ذلك بخطئك، ولكني غير حاقدة عليك، فهذا ما أراده لي الله.
– لا يمكن أن أكون السبب في شقائك، وأنا أضحي في سبيلك …
– هذه هي الحقيقة يا كلوكلو فلا تنسها.
– الويل لي فإني سأجنُّ إذا لم أنتحر.
– لا تجن ولا تنتحر، بل اذهب بي إلى أمك فإني واثقة من أنها تكتم سري كما تكتمه أنت، وسأختبئ عندها بضعة أيام ثم أبرح البلاد.
– ولكن ما عسى يكون يا سيدتي من زوجك الذي يحبك؛ فإن بُعدك عنه قد يقتله أو يصيبه بالجنون؟
فقالت في نفسها: بل إن وقوفه على الحقيقة يقتله أو يصيبه بالجنون، ثم قالت له: أترضى أن أختبئ عند أمك؟
– كيف تسألينني يا سيدتي؟ أعندكِ شك في ذلك؟
– إذن لنسِر منذ الآن؛ فإن ليالي الصيف قصيرة والفجر على وشك البزوغ.
– ولكنك تعبة والطريق طويلة إلى البيت، تبلغ للآن مراحل أقطعها أنا بساعتين، أما أنت فلا تستطيعين اجتيازها في أقل من أربع ساعات، فمتى وصلنا تكون الشمس قد أشرقت فيراك جميع الفلَّاحين.
– هذا أكيد، ولا سبيل إلى البقاء هنا، فماذا أصنع؟
– يوجد على مسافة ربع ساعة من هنا غابة لا يمرُّ فيها أحد، وفيها كوخ تعودت أن آوي إليه فسأعد لك فيه فراشًا من العُشب الأخضر تنامين عليه، ولا خوف عليك؛ لأني سأتولى حراستك، وفي أول الليلة القادمة أسير بك إلى أمي.
فوافقته على ذلك، وبعد هنيهة كانت مرسلين مقيمة في ذلك الكوخ، وكان كلوكلو يجمع العشب ليعد لها منه فراشًا، فلما عاد به إليها وجدها نائمة، فلم يجسر على إيقاظها.
وعند الصباح جاءها بشيء من الطعام، فأقامت كل يومها في الكوخ لم تخرج منه؛ حذرًا من أن يراها أحد.
وفي الليل سارت وإياه إلى منزل أمه، فأعدت لها غرفة وباتت فيها وهي تناجي زوجها فتقول: أتغفر لي يا بيير؟ ثم تناجي ولدها فتقول: جيرار، إنك عزائي الوحيد في هذا الوجود.