القسم الثاني

الميتة الحية

لم يكد يفتح المعمل أبوابه في مدينة كليشي من أعمال فرنسا، حتى دخلت امرأة إلى مديره تلتمس عملًا.

كانت هذه المرأة في ريعان الشباب، وعليها ملامح الحزن الشديد، وهي لابسة ملابس السواد، فسألها المدير قائلًا: من أين أتيتِ، وأين كنتِ تشتغلين؟

– إني قادمة من أرنواصي، وأنا أرملة لم يبقَ لي مورد إلا من العمل، وأنا لم أشتغل قبل، ولكني كثيرة التجلد على مشاق الأعمال.

– لا يكفي التجلد وحده، بل يجب أن يكون لك قوة على العمل، فكيف تشتغلين بهاتين اليدين المترفتين؟!

– بالله لا تصدني يا سيدي، وجرب عملي فإني لا أطلب من الأجرة إلا ما يقيني من الجوع.

– ماذا تُدعين؟

فترددت قليلًا ثم قالت: مرسلين لونجون.

– إذن سأشغلك في مكتب الإدارة لا في المعمل؛ فإن الشغل فيه يغنيك، وأنت تحسنين الكتابة لا شك، فسأشغلك بتبييض المكاتيب.

– أشكرك يا سيدي؛ فإنه عمل سهل عليَّ.

– إذن ستبدئين العمل منذ الغد، فابحثي اليوم عن غرفة في الضواحي؛ لأن راتبك سيكون ستين فرنكًا فقط؛ لأن هذا آخر ما أستطيع أن أعينه الآن.

– وإني سأحفظ جميلك فلا أنساه مدى الحياة.

– بقي أن أقول لك كلمة، وهي أن أخص ما نتطلبه من العاملات عندنا الحرص على الطهارة وحسن السلوك.

فأطرقت برأسها وتورد خدها من الخجل؛ ثم سالت الدموع من عينها، فقال لها برفق: أسألك المعذرة عما قلته، فلم أقله لشيء من الريبة، ولكن قوانين المعمل تقضي عليَّ بإبداء هذا التنبيه لكل عاملة عند بدء العمل فيه.

فتمتمت بضع كلمات شكر وانصرفت، فبحثت كل يومها عن منزل تقيم فيه، حتى اهتدت إلى منزل عجوز فاستأجرت غرفة عندها، وفي اليوم التالي ذهبت مبكرة إلى المعمل وبدأت عملها فيه.

وقد اتفق أن رئيس عمال ذلك المعمل كان مقيمًا مع امرأته عند تلك العجوز، فكانت تراه كل يوم في المعمل وفي البيت.

•••

ولقد عرف القرَّاء أن هذه المنكودة كانت مرسلين نفسها، فمرَّ بها شهران وهي لا تفتكر إلا بزوجها وولدها، فكانت تشتري الجرائد كل يوم علها تقف على شيء من أخبار زوجها، فقرأت فيها أنهم لا يزالون يبحثون عنها، ثم انقطعت تلك الأخبار فانقطعت هي عن شراء الجرائد.

وكان مدير المعمل راضيًا عنها لِما رآه من اجتهادها، أما هي فقد أبت الأقدار إلا أن تبلوها بنكبة جديدة؛ إذ شعرت أنها حامل من زوجها بوفور فكبر عليها الأمر في البدء؛ إذ كيف تستطيع أن تقوم بأودها وأود طفلين وهي على ما هي فيه من الفاقة.

ثم لم يلبث هذا الهمُّ أن تبدد فكانت تشعر بسرور عظيم حين تفتكر أنها ستضم بين ذراعيها ولدَ ذلك الزوج الذي تحبه حبًّا خالدًا في قلبها، فيكون ذلك الطفل خير تذكار من خير زوج، فإن المولود الأول كان ابن الجريمة، ولكن الثاني هو ابن بوفور.

وقد كثر انشغالها بهذا الحادث الجديد، حتى لم تعد ترى ما يجري حولها؛ فإن الموسيو فلون رئيس العمال الذي يقيم معها في البيت وفي المعمل كان يحبها وهي لا تعلم؛ إذ لم تبدر منه بادرة تدلُّ على شيء من هذا الحب.

غير أنها لو كانت على غير ما هي فيه لقرأت في عينيه ذلك الحب الذي يتأجج في صدره.

غير أن امرأة فولون كانت ترى تلك النظرات فيخامرها الشكُّ بمرسلين.

وقد قالت لزوجها يومًا: ألم تلاحظ شيئًا على هذه الأرملة؟

– كلا، فماذا تلاحظين؟

– إن أمرها لا يخفى إلا على العميان، ولم يبقَ ما يحمل على الريب.

– إني لا أفهم ما تقولين فإن الظواهر تغش أحيانًا.

فقالت له ما يخالج فكرها وسمعها، وهو مطرق الرأس، والعرق يتصبب من جبينه.

وفي اليوم التالي راقبها عند ذهابها إلى المعمل؛ فقال في نفسه: لقد صدقت امرأتي فيما قالته، وبعد فما هذا الاستياء الذي يتولاني؟ وأي سلطان لي على هذه المرأة؟ أما هي حرة في أعمالها.

وفي اليوم نفسه استوقفها المدير في أحد أروقة المعمل، وقال لها بلهجة القسوة والاحتقار: لقد أنبأتك يا مدام لونجون يوم دخولك إلى المعمل أننا لا نقبل فيه غير الطاهرات من النساء، وقد أقلتك من الخدمة فلم يبقَ لك عمل عندنا من اليوم.

فشمخت بأنفها مستكبرة، ولكنها ما لبثت أن أطرقت برأسها؛ فإن حالتها كانت ظاهرة للعيان يستشهد بها كل محب للنمائم، وهي لا تستطيع الدفاع عن نفسها إلا بأمر واحد؛ وهو أن تذكر اسم زوجها، ولكن هذا محال، ففضلت الخجل والعار وخرجت من ذلك المعمل للدنيا لا تكاد تسعها لبأسها، فكان أول من لقيته فولون رئيس العمال.

وقد أوشك هذا الرجل أن يتدلَّه بحبها، وتَنازعه عاملان من الغضب واليأس؛ أما الغضب فلأنه أحب امرأة غير جديرة بالحب، وأما اليأس فلأنه سيفترق عنها. فقال لها حين رآها: نعم، لقد عرفت، فإني سمعتهم يتحدثون بشأنك في المعمل، وكنت مشككًا ولكن لم يبقَ مجال للشك.

ولم يستطع أن يتم حديثه، فقال بصوت مختنق: لقد أسأت يا مرسلين إليَّ وإلى نفسك …

وهنا سالت عبراته، فمسحها بيده وهرب كي لا يفتضح أمره.

ولكن أمره افتضح فإن مرسلين قرأت سور الحب الصادق في قلبه، فقالت في نفسها: لم يبقَ بدٌّ من مبارحة هذا المنزل؛ فإن الواجب يقضي عليَّ ألَّا أبقى ساعة فيه.

ثم أسرعت إلى غرفتها فوضعت ثيابها في ملاءة وودعت صاحبة المنزل، فقالت لها: إلى أين تذهبين يا ابنتي؟

قالت: لا أعلم، على أن ذلك سيان عندي؛ فقد بقي لي بضع دريهمات تعينني على الولادة، وبعد ذلك يفعل الله ما يشاء.

وعندما همَّت بالانصراف التقت برئيس العمال فكانت شفتاه ترتجفان من الاضطراب، فوقف في وجهها وقال لها: إذن أنت ترحلين هكذا كأننا لا يعرف أحدنا الآخر إلا من ساعة، وما الذي يدعوك إلى هذا الرحيل، وما الذي تشْكينه منَّا وأنت تعلمين أننا لم ننهج معك غير مناهج الأصحاب.

قالت: إني شاكرة لكم مروءتكم، وليس الذنب ذنبي إذا رحلت.

قال: كلا، لا تسافري وسأبذل جهدي في إقناع صاحب المعمل فتعودين إليه.

ثم مسح العرق عن جبينه، وقال بصوت يبدو فيه الاضطراب: وبعد فإن المعمل ليس بدير، وما أنت مدينة بأعمالك لأحد.

قالت: أشكرك يا سيدي، ولكني مسافرة.

– لماذا؟ فإني سأجد لك عملًا.

– كلا، فلا بدَّ لي من السفر.

وقد نظر كلٌّ إلى صاحبه نظرة، فكانت نظرة فولون نظرة استعطاف كأنه يلتمس منها أن تبقى وأن شقاءه ببُعدها، ونظرة مرسلين نظرة رحمة وإشفاق؛ كأنها تقول له: لقد علمت أنك تحبني، ولكن واجباتي كامرأة شريفة بالابتعاد، فيعود الهناء إلى قلبك وبيتك.

فتنهَّد تنهدًا عميقًا وقال: لقد خُلقت المرأة عنيدة، وما زلت متشبثة بأفكارك، فاسمحي لي أن أسديك نصيحة، وهي أنه إذا جار عليك الزمن فعودي إلينا تجدي خير ملجأ، وإذا لم تجدي لك عملًا فاذهبي من قِبلي إلى الموسيو مونتمايور المهندس في معامل سانت المعدنية؛ فهو يدخلك من فوره إلى أحد هذه المعامل.

قال هذا وتركها مسرعًا؛ لأن الدمع جال في عينيه.

وفي تلك الليلة باتت مرسلين في أحد فنادق باريس الصغرى، وكانت النقود التي احتفظت بها من ثمن عملها تكفيها للانتظار حتى تلد، وقد عزمت على أن تأتي بولدها جيرار بعد الولادة.

وبعد شهرين وضعت طفلة دعتها مودست، وجاءت بولدها فجعلت تعتني بالطفلين مدة عام إلى أن فرغت جيوبها، ورأت أنه لم يبقَ بدٌّ من العمل، فذكرت وصية فولون وذهبت إلى ذلك المهندس؛ فكان انذهالها عظيمًا إذ رأت أن فولون أصبح مديرًا لهذا المعمل.

وقد اضطربت حين رأته وقالت: لم أكن عالمة، ولولا ذلك …

فأجابها بلهجة الحزين الكئيب فقال: تريدين أنك لو علمت أني مدير هذا المعمل لما أتيت إليه؟ فلمَ تهربين مني؟! فهل قلتُ لك كلمة أو نظرتُ إليكِ نظرة تنكرينها؟

قالت: كلا، فأنت أشرف من عرفت من الرجال.

– إذن، ألا تكونين ظالمة فيما تفعلين؟

– لقد ندمت لما بدر مني، والحقُّ أني لو علمت أنك مدير هذا المعمل للجأت إليك؛ لأني مضطرة الآن إلى العمل لإعانة ولدين.

– ولدين؟!

نعم؛ فقد كان الأول عند المرضع يوم كنت عندكم، وعمر الثاني لا يتجاوز العام، فتصور ما يكون من هذين الطفلين لو قضي عليَّ بالموت.

– أليس لك مورد من غير العمل؟

– كلا.

– ولكن أين والد الطفلين؟ أهو فقير إلى حد أنه لا يستطيع إعالة طفلين، أو أنه فقد الشعور البشري فتخلى عنك وعن ولديه؟

– لا تهنه فهو من الأموات.

فأخذ يجول في الغرفة ذهابًا وإيابًا، وكان يتعذب كثيرًا؛ لأنه يحبها كثيرًا، فقال لها بصوت يرتجف: أكنت متزوجة؟

– بربك لا تسألني.

– نعم، يحق لك أن تكتمي سرَّك فاغفري لي، ولكني أخبرك أن امرأتي المنكودة كانت تدعوك المتنكرة الحسناء، وقد فارقت الحياة.

فعزته، ثم قالت له: كيف حال ولدك روبير؟

– أشكرك لأنك لم تنسيه، فهو ينمو نموًّا حسنًا، وهو ذكي كريم القلب. ولنبحث في شأنك الآن، فإنك في حاجة إلى العمل للارتزاق.

– بل في أشد حاجة.

– إنك لا تستطيعين فراق ولديك، ولكني سأذلل هذه العقبة وأخالف نظام المعمل، فأسهِّل لكِ العمل في البيت، وذلك أنك تأتين في كل صباح فتأخذين الرسائل المراد نسخها، وتعودين بها في اليوم التالي فتأخذين سواها، وقد عينت لك مائتي فرنك في الشهر، فهل أنت في حاجة إلى سلفة الآن؟

فشكرته وقالت: كلا. قال: إذن إلى اللقاء في الغد.

مضى على ذلك عامان ومرسلين تشتغل في المعمل نفسه، وقد زاد راتبها فعاد ٢٥٠ فرنكًا وهو فوق حاجاتها.

وقد استأجرت منزلًا صغيرًا على ضفاف الترعة، ولم يكن لها من أنواع التسلية غير حديقة وراء المنزل كانت تجني منها الأزهار.

على أن العمل كان أعظم سلوى لها؛ إذ كانت تشتغل إحدى عشرة ساعة في اليوم.

وقد اتفق يوم أحد أنها كانت جالسة في الحديقة وولداها يلعبان بالقرب منها، وأن رجلًا يدنو من الحديقة قادمًا إليها وهو الموسيو فولون، فدنا منها ووقف أمامها فحيَّاها باحترامٍ ولبث صامتًا يبتسم.

فنظرت إليه مرسلين نظرة تدلُّ على الامتنان وقالت له: إني لا أنسى فضلك ما حييت يا سيدي، فإني مدينة لك بحياتي وحياة أولادي.

فحُلت عقدة لسانه وقال: إني أتيتك يا مرسلين كي أحدثك بأمور جدية.

قالت: إني مصغية إليك يا سيدي.

– إنك تشتغلين في المعمل منذ عامين، وقد يكون خُيل لك بأني نسيتك مع أنك ممثلة لي الليل والنهار بكل مخيل.

فاضطربت مرسلين؛ إذ توقعت أنها ستكون السبب في نكبة جديدة، وقالت: لقد عرفت من عهد بعيد أنك تحبني، ولكني كنت أرجو ألَّا تعود إلى هذا الحديث.

– ثقي أنك لا تسمعين مني كلمة يخجلك سماعها؛ فإني أراقبك منذ عامين بنفسي وبواسطة غيري، حتى أيقنت أن ظواهر سلوكك تنطبق على بواطنه، وإني أسألك المعذرة فقد كنت مضطرًّا إلى هذه الثقة قبل أن أقترح عليك ما سأقترحه الآن.

– يحق لك أن ترتاب.

– وقد علمت بالتدقيق كيف تعيشين، وأنك مثال الطهارة وخير قدوة للأمهات، وهذا الذي دعاني إلى زيارتك اليوم لأقول لك: إني أنا أيضًا أرمل ولي طفل يتيم يحتاج إلى حنو أم، فهل تريدين أن تكوني امرأتي يا مرسلين؟

فوقفت وقد طاش صوابها لهذا الطلب الذي لم تكن تتوقعه، وجعلت تنظر إليه نظرات تشف عن الرعب، وهي لا تعلم ما تقول.

فابتسم لها فولون، وقال: إني لا أسألك أن تتسرعي بإجابتي دون إمعان، ولكني سأعود إليك بعد بضعة أيام، وكل ما أرجوه ألَّا تنسي في انتظار ذلك أني أحبك بملء جوارحي أصدق حب.

اعلمي يا مرسلين أنه ليس بيني وبينك ما يريب؛ فإن ماضيك لك وأنا واثق أنه ماضٍ شريف، وسأنتظر صابرًا إلى أن أصير زوجك فتقصي عليَّ حكايتك، ولك الخيار بكتمانها إلى الأبد؛ فإن تكتمك لا ينقص ذرة من حبي، على أني لم أقترح ما اقترحته إلا بعد التروي الشديد، وإنك تعرفينني حق العرفان، فتعلمين أني أضحي كل عزيز في سبيل إسعادك.

فلم تجبه، ولكنها جعلت تبكي، وكان بكاؤها لتأثرها من هذا الإخلاص، فودَّعها وقال: إلى اللقاء القريب يا مرسلين، وكل ما أرجوه في هذا الوجود أن تكوني أمًّا لولدي وأكون أبًا لولديكِ.

فلما انصرف هزَّت مرسلين رأسها وقالت: ويح لنفسي؛ فقد صرت السبب في شقاء رجلين، وكلاهما مخلص شريف، وكلاهما جدير بأن يكون سعيدًا في هذه الحياة.

بعد ذلك بيومين ذهبت مرسلين إلى المعمل حسب عادتها في كل صباح، ودخلت إلى غرفة السكرتير لتعطيه ما اشتغلته ولتأخذ شغلًا جديدًا.

ولكنها حين دخلت إلى باب تلك الغرفة رأت رجلين خارجين من غرفة فولون وهما يتحدثان، فجمد الدم في عروقها؛ لأن الأول كان فولون، وأما الثاني فقد كان زوجها بوفور.

فأسرعت بالدخول إلى الغرفة، وجعلت تقول: رباه ما جاء به إلى هذا المعمل، ألعله يقتفي أثري فاهتدى إليَّ؟

وقد أطلت من النافذة فرأت الاثنين يتحدثان في الرواق، وتمعنت في وجه زوجها فانقبض صدرها إشفاقًا عليه؛ فقد رأته هزيلًا غائر العينين واليأس منطبع على وجهه، فلو مثل لما مثل بغير هذا الوجه.

أما زيارة بوفور لهذا المعمل فهي أن المعمل أذاع أن لديه مقدارًا من الحديد للبيع، فجاء ليشتريه، وهو إنما يشتغل بالتجارة ليتعزى بها عن فراق مرسلين، وهيهات أن يسليه الانهماك في العمل، ولكنَّه كان يجرب.

وقد خرج مع فولون من المعمل، وسارا إلى جهة الترعة، فأقامت مرسلين مع السكرتير نحو ساعة في تسليم الشغل القديم واستلام الجديد، وانصرفت عائدة إلى المنزل.

عندما برحت مرسلين منزلها إلى المعمل أوصت ولدها بالانتباه إلى أخته الصغيرة، فأقام الطفلان هنيهة في البيت، ثم خطر لجيرار أن يتفرج على السفن الراسية في الترعة، فأخذ بيد أخته وخرجا إليها.

وقد وقفا ينظران إلى السفن وبجانبهما بوفور وفولون يتنزهان على الرصيف، فابتسم فولون حين رآهما وقال: إنهما ولدا امرأة صبية تشتغل عندي، ثم دنا من جيرار فقبله بينما كانت مودست تنظر إلى بوفور فحملها وقبلها، ثم أرجعها إلى الرصيف، فتنهد وواصل سيره مع فولون فلم يسيرا بضع خطوات حتى سمعا صياح الناس، فالتفتا، وعلما أن الطفلين المتماسكين زلت قدم أحدهما فهبط الاثنان إلى الترعة.

وكان بوفور وفولون يجيدان السباحة فألقيا بنفسهما إلى المياه، فأنقذ فولون جيرار وأنقذ بوفور ابنته مودست، وأسرع البحارة فحملوهم في القوارب إلى الشاطئ.

وكان الطفلان قد أغمي عليهما فعالجوهما حتى استفاقا، وطلب فولون إلى بوفور أن يصحبه لإرجاع الطفلين إلى أمهما، فاعتذر وقال له: اذهب وحدك أيها الصديق.

قال: ولكنك أنقذت أحد الطفلين، ولك الحق في شكر أمهما. قال: أية فائدة من ذلك فقد فعلت ما يقضي به الواجب الإنساني، وإني ذاهب لتغيير ملابسي ثم أعود إليك.

– افعل ما تشاء، على أن ذلك لا يمنعني عن أن أخبر مرسلين لنجون بعنوانك.

فارتعش بوفور وقال: كيف تدعى هذه المرأة؟

– مدام لنجون.

– أتعرفها منذ عهد بعيد؟

– منذ بضعة أعوام وأنا أحبها وسأتزوج بها.

فأطرق بوفور برأسه، وقال: ما هذا الخاطر الذي عرض لي! فلا شكَّ أني مجنون.

ثم ودَّعه وانصرف. فذهب فولون إلى منزل مرسلين.

أما مرسلين فإنها عادت من المعمل إلى المنزل فلم تجد ولديها فيه، فنادتهما فلم يجيبا، فبحثت عنهما في الحديقة فلم تجد لهما أثرًا، فركضت مهرولة إلى جهة الترعة فرأت عن بعد كثيرين من الناس محتشدين على ضفتها، فوجف قلبها من الرعب وحدَّثها بالمصيبة، فقالت: رباه إنك إذا أذنت بهذه النكبة أنكرت وجودك.

وانطلقت راكضة، وقد كاد قلبها يثب من صدرها، فكان أول من لقيته فولون وهو يحمل الطفلين بين ذراعيه والمياه تقطر من ثيابهم جميعًا، فبادرها بقوله: اطمئني فليس ما يدعو إلى الخوف؛ فقد سقطا في الترعة ولم يصابا بسوء، ألا تسمعينهما يناديانك؟

فأخذت منه ولديها وضمتهما بعنف إلى صدرها، وقالت: لا شكَّ أنك أنت الذي أنقذتهما فكيف أشكرك؟

قال: لقد أخطأت يا مرسلين؛ فإني لا أستطيع وحدي إنقاذ الاثنين، ولكني أنقذت جيرار.

– ومن أنقذ مودست؟

– رجل أبى أن يسمع تشكراتك فلم يصحبني؛ لأنه يرى أنه لا شكر على الواجب.

– قل لي اسمه كي أحفظ جميله ما حييت.

– إنه يدعى بيير بوفور، وقد قلت له إنك لا بدَّ أن تزوريه فتشكريه، وهو يقيم في شارع رومه نمرة ٧٩.

فبذلت جهدًا عنيفًا كي تخفي اضطرابها، ثم ودعها فولون كي يغير ملابسه، فذهبت بولديها إلى المنزل، وهناك استرسلت إلى اليأس؛ إذ عاودتها الهموم القديمة، فجعلت تقول في نفسها: رباه ماذا أصنع؟ أأراه؟ كلا؛ فإن هذا محال، أم أهرب من هذا البلد؛ فإنه يتردد إلى المعمل الذي أشتغل فيه؟ ألا يمكن أن يراني فجاءة فيه أو في الطريق؟ مسكين إنه شديد النحول، فلا بدَّ أن يكون قد تعذَّب كثيرًا، ومع ذلك فإن هيئته ليس فيها ما يدلُّ على الحقد.

ولكن ما عساه يقول عني إذا لم أشكره.

وبعد الإمعان رأت أن تكتب له كلمة الشكر، فكتبت إليه كتابًا لطيفًا ملؤه الامتنان، وفي المساء ألقته في صندوق البوسطة.

وبعد ذلك بيومين جاءها فولون فاطمأن على الولدين، ثم جلس بإزائها وقال لها: أتذكرين يا مرسلين ما قلته لك منذ ثمانية أيام؛ فقد أنبأتك أني سأعود إليك لالتماس جوابك بعد أن أمهلتك المهلة الكافية للتمعن.

قالت: نعم، أذكر.

– إذن بماذا تجيبين؟

فتنهدت تنهدًا عميقًا، واغرورقت عيناها بالدموع فقالت: أسألك العفو عما سأسيء به إليك، فإن طلبك وإلحاحك فيه يشرفانني، ولكني لا أستطيع أن أكون امرأتك.

– لماذا؟

– لا تسألني، وتذكَّر أني أُلقب بالمتنكرة الحسناء؛ فإن في حياتي سرًّا لا يحق لي الإباحة به، فأتوسل إليك أن تنساني.

– أأنا أنساك يا مرسلين؟! أتحسبين هذا سهلًا عليَّ؟

– نعم، إذ يكفي أن تريد.

فوضع يديه على عينيه، وقال: رباه لماذا قضيت عليَّ أن أراها؟

ثم وقف وقال: ألا سبيل للرجوع عن عزمك؟

قالت: وا أسفاه.

– ولكن هل تمعنت مليًّا في الأمر؟

– كلا.

– لماذا؟

– لأنَّ تمعني يدلُّ على أني مترددة في أمر يمكن قبوله، وأية فائدة من التمعن وقبولي بزواجك من المستحيلات؟

– ما هذه الألغاز التي أسمعها؟ ألا ترين مقدار عذابي؟

– وأنت يا موسيو فولون أتحسب أني لا أتألم؟

– ولكن قولي لي على الأقل إنك تحبينني.

– إني أحبك بملء جوارحي، وكيف لا أحبك وأنت المحسن إليَّ؟

– لست أطلب هذا النوع من الحب.

– إني سأحبك مدى الحياة حبي لأعز إخوتي.

– لا أجد في قلبك غير عاطفة الحب الأخوي؟

– إن القلب لا يتسع لغرامين.

– إذن أنت تحبين؟

– نعم.

فأطرق مليًّا ثم قال: إنك قضيتِ عليَّ بالعذاب الدائم يا مرسلين، ومع ذلك فإني أحبك وأغفر لك.

ثم تركها وانصرف وهو من القانطين، أما هي فلم تكن أقل منه عذابًا، وقد أقامت يومها تفكر في أمرها، وعادت في اليوم التالي إلى المعمل، ولكن فِكر الابتعاد كان قد تغلب عليها، فلما عادت إلى المنزل كتبت إلى فولون أنها لن تعود إلى المعمل.

وكانت قد اقتصدت شيئًا من المال في خلال خدمتها يعينها على الانتظار إلى أن تظفر بعمل جديد، ثم إنها كانت بارعة في الموسيقى فتمكنت من تعليم العزف على البيانو في أحد البيوت، وكثر زبائنها فعاشت بفضل هذا التعليم.

مضى على هذه الحوادث عشرون عامًا لم يحدث في خلالها لأبطال روايتنا أمر جدير بالذكر.

وقد بلغت مرسلين خمسة وأربعين عامًا فكانت كأنها ابنة ستين؛ إذ تجعَّد وجهها وابيض شعرها، ولم يبقَ لها من دلائل الصبا غير صفاء عينيها ونظراتها الحلوة.

وبلغ ولدها جيرار الخامسة والعشرين، وهو جميل الوجه واللسان متين العضل، وقد جعلته أمه طبيبًا؛ فإنها كانت تشتغل ليل نهار في سبيل تعليمه.

أما أخته مودست فهي الآن صبية شقراء يفتن جمالها القلوب.

وكم كانت مرسلين تتعذب حين خرج جيرار من دور الطفولية، وجعل يسألها عن أبيه فيقول لها: لماذا لا تخبرينني عن أبي، أليس لي أب كجميع الأولاد؟ فتقول له: كان لك أب ولكنه مات.

ثم أصبح الطفل فتًى فلم يبقَ بدٌّ من التصريح، ولكنها قالت له يومًا: لا تسألني بعد الآن عن أبيك؛ فإنك تحبني أليس كذلك؟

قال: بل أحبك وأحترمك، وهل تشكين بذلك يا أماه؟

وكان جيرار وأخته يعتقدان أنهما من أب واحد؛ فإن أمهما لم تذكر لهما شيئًا عن حقيقة أمرهما، فكان الحب الصحيح يؤلف بين أعضاء هذه العائلة.

وقد اتفق أن جيرار عاد يومًا إلى المنزل وهو مقطب الجبين فسألته أمه عما به، فقال: إن مهنتنا صعبة شاقة، وهي هائلة في بعض الأحيان؛ فقد جيء اليوم إلى المستشفى بامرأة عجوز من الضواحي كان يحملها ولدها، وهي مصابة بسرطان يحتاج إلى عملية جراحية لاستئصاله، ولكن رئيس الأطباء في المستشفى يرى أن العملية يعقبها الموت لا محالة، فأبى إجراءها، والمنكودة تتألم آلامًا لا تطاق.

قالت: وأنت ماذا ترى يا بني؟

قال: إني لا أرى ما يراه الرئيس، وفي اعتقادي أن العملية قد تنجح وتنجو المسكينة من آلامها.

– إذن لماذا لا تعملها؟

– لأن الرئيس يمنعني.

– ماذا تدعى هذه العجوز؟

– لا أذكر اسمها، ولكني أذكر اسم ولدها لغرابته، فهو يدعى كلوكلو. فاصفرَّ وجه مرسلين وقالت: ماذا تقول؟ كلوكلو!

– نعم، فهل تذكرين هذا الرجل؟

– كلا، ولكن ما زلتَ واثقًا من نجاح العملية، فلماذا لا تجريها هنا؟ فإنه يوجد عندنا غرفة لا نحتاج إليها فتقيم فيها، ويقيم ولدها معها.

– لقد خطر لي ذلك يا أماه، ولكني خشيت أن تحزنك آلام تلك المسكينة ويأس ولدها، بل إني أخاف أن يؤلمك موتها إذا لم أنجح.

– بل إني واثقة بك، فجئ بها إلى هنا غدًا وسأعد الغرفة.

وفي اليوم التالي جيء بالعجوز محمولة على محمل يصحبها ابنها كلوكلو، وكانت مرسلين قد تغيرت كثيرًا كما تقدم، فلم يعرفها كلوكلو حين شكرها، فسارت به إلى قرب النافذة وقالت له: انظر إليَّ بإمعان لعلك تعرفني.

فتفرَّس في وجهها مليًّا وقال: كلا يا سيدتي فإني لم أرَكِ قبل الآن، فهل تذكرين أني تشرفت بالمثول أمامك؟

– نعم، ولكن مضى على ذلك عهدٌ بعيد لا يقل عن ربع قرن، وقد تغيرت كثيرًا كما يظهر حتى بات كلوكلو لا يعرفني، فافترض أنه ليس في وجهي تجاعيد وأن شعري لا يزال أسود و…

– اصبري اصبري يا سيدتي، فأنت … ولكني أخاف أن أذكر اسمك.

– قل يا كلوكلو فليس يسمعنا أحد.

– أما أنت يا سيدتي مدموازيل مرسلين دي مونتكور؟

– نعم أنا هي، ولكن احذر أن تذكر اسمي أمام أحد.

– لله! ما أسعدني بلقائك! فإني اليوم أسعد البشر؛ فقد كنتُ يئست من لقائك، ولو تعلمين يا سيدتي ما أصاب الموسيو بوفور بعدما توهم أنك من المائتين؛ فقد كان في حالة تدعو إلى الإشفاق، ولكني مخطئ في إعادة هذه الذكرى المؤلمة فاعذريني.

– لا بأس، ولكن اعلم أني أدعى أمام الناس وأمام ولدي وابنتي مرسلين لنجون، فاحذر أن تغلط وتنادي بغير هذا الاسم؟

فدُهش مما سمع! وقال في نفسه: ألها أولاد؟! ولكنه خشي أن يسألها وعاد إلى أمه.

وبعد يومين أجرى جيرار العملية للعجوز، فنجحت أتمَّ النجاح، ولم يمر بها أسبوعان حتى صارت قادرة على السفر، ولكن جيرار قال لولدها: إني أنصحك ألَّا تذهب بأمك إلى برين فإن مناخ هذه البلد لا يوافقها الآن وهي محتاجة إلى الراحة.

قال: سأعمل بنصيحتك، وسأبقى معها في هذه المدينة.

وقد ذهب إلى مرسلين يشكرها، فقال لها: إن أمي مدينة بحياتها لولدك.

أما أنا فإني مدين لك بأكثر من الحياة، فهل أستطيع أن أخدمك في شيء؟

– كلا.

– ولكن عديني يا سيدتي أنك إذا احتجت إلى ساعد قوي وقلب مخلص يتفانى في خدمتك؛ تدعيني لهذه الخدمة.

– إني أعدك.

– أشكرك يا سيدتي، وإن قلبي يحدثني بأني لا أموت قبل أن أخدمك خدمة تدلُّ على امتناني.

وقد ودعها وانصرف، وبعد شهر عاد إليها فقال: لقد جئتكِ باقتراح يا سيدتي لا أعلم إذا كنت توافقين عليه.

– ما هو؟

– إني بعت منزلي في بلدي، وأقمت مع أمي في مدينة كريل المجاورة لكم، وصرت فيها كأني في موطني.

– والاقتراح؟

– لقد سمعت أهل تلك المدينة الصغيرة وفلاحي القرى المحدقة بها يشكون قلة الأطباء فيها؛ إذ لا يوجد هناك غير طبيب واحد، فلو أقام جيرار فيها، على ما خصه الله من الذكاء والمهارة، لأصبح جميع أولئك السكان من زبائنه.

– لا شكَّ عندي أنك من كرام الرجال، وسأفاوض جيرار باقتراحك فيدرسه، ورجائي أن يعمل به.

– إذن أسرعي يا سيدتي كي لا تفوت الفرصة؛ فإن الأطباء كثيرون في هذه البلاد.

وقد شكرته، فتركها وانصرف. وأخبرت ولدها باقتراح كلوكلو فاستصوب ذلك الرأي، وقال لها: إنك اشتغلت يا أماه مدى الحياة لإعالتنا وقد آن لك أن تستريحي، فسترين ذلك وستكونين سعيدة.

وقالت لها بنتها: نعم، يجب أن تستريحي يا أماه فإننا لا يشغلنا اليوم غير راحتك، فأخذت مرسلين تعتقد أن الليالي السوداء قد انتهت، إلا إذا كانت الأقدار خبأت لها نكبة جديدة.

وقد دخل جيرار إلى غرفته وذهبت مرسلين إلى السوق، فبينما كانت مودست جالسة وحدها تتلهى بالتطريز، طُرق باب المنزل، ثم دخل فتًى جميل الوجه لا يتجاوز الثامنة والعشرين من العمر، وعليه علائم الاضطراب الشديد.

فقال: أسألك المعذرة يا سيدتي لما ترينه من دلائل اضطرابي؛ فإني ابن لويس فولون صاحب المعمل المعروف في هذه المدينة، وقد أصيب أبي الآن فجاءة بفالج، وطبيبه غائب فأرشدوني إلى الدكتور جيرار، فهل هو هنا؟

– نعم، وسأخبره من فوري.

– بالله لا تتأخري لحظة يا سيدتي فإن حياة أبي بخطر.

وبعد هنيهة عادت مع أخيها، فسأله روبير فولون قائلًا: هل تستطيع الذهاب معي يا سيدي؟

قال: هلم بنا.

فخرج الاثنان إلى المركبة التي كانت تنتظر عند الباب، وسارت بهما تنهب الأرض إلى قصر فولون؛ فإنه أصبح من أهل القصور.

وقد اضطر جيرار إلى الإقامة طول الليل مع المريض حتى سكن روعه وزال الخطر عنه.

وعند الصباح أراد فولون أن يستبقيه، فقال له: إني لست طبيبك الخاص يا سيدي، ولا أحب أن يتهموني بالاعتداء على حقوق زميلي، وسيأتي الدكتور كورديه طبيبك، فأرجو أن تخبره كيف أتيت.

فقال له روبير: بل ابقَ يا سيدي، فهذه أول مرة احتاج فيها أبي إلى طبيب، وفوق ذلك فإن الدكتور كورديه صديق العائلة، وأرجو أن تكون مثله.

وقال له فولون: هل أنت من عهد بعيد في هذه المدينة؟

قال: منذ شهر.

– هذا هو السبب في أني لا أعرف شيئًا عنك، حتى إني لا أعرف اسمك.

– إني ادعى الدكتور جيرار.

– أهو اسمك الأول أم اسم عائلتك؟

– بل هو اسمي الأول الذي تعودوا أن ينادوني به، أما اسم عائلتي فهو لنجون.

فأطرق فولون مفكرًا حين سمع هذا الاسم، ثم قال: لقد عرفت من عهد بعيد امرأة تدعى بهذا الاسم وكان لها ابن وابنة.

– لي أخت يا سيدي.

– اصبر فقد عادت إليَّ الذكرى، إن الولد يدعى جيرار والابنة تدعى مودست.

– هذا اسم أختي.

– إذن أنت ابن مرسلين لنجون؟

– نعم.

– وأمك ألا تزال في قيد الحياة؟

– إنها تقيم معي في كريل.

– إذن قل لأمك أيها الدكتور إني أدعى لويس فولون؛ فإنها لم تنسَ هذا الاسم، وقل لها إنك أنقذت حياتي؛ فإن ذلك يسرها.

– سأفعل يا سيدي.

وقد ودعه وانصرف، فلما لقي أمه قال لها: لقد عالجت هذه الليلة رجلًا تعرفينه، وأنقذته من الموت، وهو يدعى لويس فولون.

فذُهلت وقالت: نعم؛ فقد عرفته منذ عشرين عامًا حين كان مديرًا لأحد المعامل، أما إنك أنقذته من الموت بالفالج فهو قد أنقذك في حداثتك من الموت غرقًا، فواحدة بواحدة.

– ولكنه لم يقُل لي شيئًا من هذا.

– ذلك لأنه بقي شريفًا كريمًا كما أعهده، وقد سُررت كثيرًا لسلامته.

بعد ذلك بأسبوعين جاءها فولون زائرًا فلم يعرفها، ولم تعرفه في البدء، ثم تعارفا، فحكى لها وحكت له كل ما مرَّ بهما في ذلك العهد البعيد، وحدثها مليًّا بشأن ولدها ومستقبله، وضمن لها أنه سيجعله سعيدًا، ثم قال لها: إني أحتفل كل عام بعيد مولد ولدي روبير، فأحيي ليلة راقصة، وإني أتيت لأدعوك إليها فإن موعدها الأسبوع القادم.

قالت: أأنا أحضر حفلات راقصة، وقد مضى عهد الرقص؟

قال: بل تحضرين إكرامًا لي ولولديك، ولا سيما جيرار؛ فإنه سيتعرف عندي بكبار أهل المدينة، وهذه فرصة يجب اغتنامها.

فوافقته على ما أراد مشترطة عليه ألَّا يعرِّفها بأحد هناك.

وفي اليوم المعين ذهبت مع ولديها إلى الحفلة، فكانت مودست زينة الفتيات، كما كان جيرار زين الفتيان.

وكان لفولون كثير من الأصدقاء في المدينة وضواحيها، وكان كثير العناية بِعيد ولده الوحيد، فلما دنت الساعة المعينة غصت قاعات القصر بالمدعوين على اختلاف مقاماتهم.

وقد بهرت مرسلين بما رأته من ظواهر ثروة فولون وسرَّها أن يكون قد بلغ هذا المبلغ منها؛ لأنها كانت تحترمه وتعتقد أنه كريم القلب طاهر النفس جدير بأن يكون سعيدًا في الدارين.

فلما وصلت إلى القصر جلست في إحدى قاعاته واختلط ولداها مع الناس، وكان ثلاثة رجال جالسين على مسافة غير بعيدة منها بينهم فولون، وهم يتحدثون ويضحكون، فعرفها فولون بالرغم عن كثافة برقعها، وقام إليها فحيَّاها وشكرها لقدومها، ووراءه ولده روبير.

غير أنه ما لبث أن صافحت يده يدها حتى شعر أن يدها ترتجف، ثم رأى أن رجليها تصطكان وأنها على وشك السقوط، فأسرع إلى إجلاسها على الكرسي، وأمر ولده أن يأتيها بشراب منعش وقال لها، لا شكَّ أنك أصبت بضيق في التنفس لكثرة الزحام.

– هو ذاك.

ولكن الحقيقة أنها عرفت الرجلين اللذين كانا مع فولون وهما؛ جان داغير أصل نكبتها، وبير بوفور زوجها.

وقد رأى بوفور اضطراب مرسلين دون أن يعرفها فجاء إلى صديقه فولون، وقال له: أأدعو الطبيب؟

فقالت مرسلين: كلا لا حاجة إلى طبيب؛ فقد زال ما أصابني.

فقال لها فولون: الحق أنك أخفتِني كثيرًا.

– أسألك المعذرة، وقد كان خيرًا لي لو لم أحضر.

– ابقي هنا نتحدث، بينما ولدي روبير يراقص مودست، وسأخبر هذين السيدين كيف أني كنت مدلَّهًا بك وكيف تلقيت غرامي.

فقالت له بصوت منخفض يشبه الهمس: بربك لا تفعل.

– ليكن ما تريدين. ثم قال لرفيقيه: أتشرف بأن أكون صديق مدام لنجون والدة الدكتور جيرار، وقدَّم لمرسلين صاحبيه وهما داغير وبوفور، فشعرت المنكودة أن الأرض تميد بها لاتفاق اجتماعها بهذين الاثنين، وهما الغاوي والزوج.

وكان زوجها قريبًا منها ولكنه لم يعرفها لكثافة برقعها، فقال: لقد أذكرتني هذه الأسماء وهي مرسلين وجيرار ومودست ذكرى بعيدة منذ عشرين عامًا على الأقل، فهل نسيت يا فولون؟

– لقد أصبت أيها الصديق، فهذه هي التي أنقذتَ بنتها من الترعة.

فقالت مرسلين: وأنا لم أنسَ مروءتك يا سيدي، فهي محفورة في قلبي، وفي كل يوم أدعو لك في صلاتي.

– أشكرك، ولكن الله لم يصغِ بعدُ إلى صلواتك.

وقد أسفرت هذه الحفلة الراقصة عن أمور كثيرة منها أن […]١ المخاوف بعد اجتماعها مع غاويها وزوجها في مرقص واحد، وبعد علمها أنهما يقيمان معًا في بلد واحد، ومنها أن زوجها بوفور طلب إلى ولدها جيرار أن يعوده كلما وجد فرصة سانحة؛ لأنه في حاجة إلى المعالجة، وفي ذلك ما يسهل على بوفور اكتشاف الحقيقة، ومنها أن روبير ابن فولون أحب مودست ابنة مرسلين، وكانت نظرات حُبه ظاهرة؛ حتى إنها لم تخفَ عن أبيه فقال لمرسلين: إني سأعمل على تزويج ولدي ببنتك فأكون قد انتقمت لنفسي، وأنلت ولدي من بنتك ما لم أستطع نيله منك.

أما بوفور وداغير فقد كانا صديقين من عهد التلمذة كما تقدم لنا في الفصل الأول.

ولم يكن داغير قد تزوج فأقام بضعة أعوام في بلده بعد سفر مرسلين، ثم باع أراضيه بمائة وخمسين ألف فرنك وجاء إلى باريس، فلم يكن يشغله غير السعي لنيل ثروة كبيرة كيفما اتفق، حتى لو أمكنه أن يسرق أو يقتل في هذا السبيل لما تردد.

وكان يعلم أن بوفور غني فكان يبالغ في إظهار التودد له ويغتنم فرصة يأس صديقه، فيعبث به كما يشاء، فكان خير عزاء له؛ لأنه كان يكلمه عن مرسلين.

وقد اتفق أن بوفور خطر له أن يشتغل بصب الحديد ليس للربح، بل للتلهي بالعمل عما هو فيه من الحزن المبرح، فاقترح عليه داغير أن يشاركه وهو لم ينفق ثمن أراضيه بعد، فنجحت أعمال الشركة في البدء، ثم جاء دور الخسارة على أثر الحرب، فكان بوفور يساعد الشركة بماله الخاص، فأنقذها مرتين من الإفلاس، وقد قال لشريكه في المدة الأخيرة: إني لا أجد أقل دليل على إمكان نجاح الشركة، فخير لك أيها الصديق أن تسترجع رأسمالك اليوم؛ فقد لا تستطيعه غدًا؛ لأني لا أخاطر بكل ثروتي في عمل خاسر، وقد أنذرتك فتدبر.

قال: سوف نرى، ولكني لا أرى مشروعنا بالعين التي تراه فيها.

– بل أنت المخطئ؛ فإن الإفلاس على الباب وفي ذلك خرابك.

فابتسم داغير ابتسام الحاسد الناقم، وقال: لقد أصبت فإني أخسر ثروتي بجملتها، أما أنت …؟

– أما أنا فأكون قد خسرت خمسمائة ألف فرنك، ولولا مساعدتي لحدث من […]٢ حدوثه اليوم، فلا تكن ظالمًا أيها الصديق وكن من المنصفين.

فلم يجبه بشيء، ولكن مراجل الحسد كانت تغلي في قلبه الحقود.

وجاء دور التصفية على أثر الخسارة التي كان يتوقعها بوفور، فقال لصديقه: هو ذا الخراب قد حدث، أما أنذرتك من قبل؟

– لماذا لا تمد الشركة بنجدة من مالك؟

– هذا مُحال الآن، وقد كان يجمل بك العمل بنصيحتي يوم كنت أتوقع هذا الموقف، فلو أخذت يومئذٍ رأس مالك الذي أرجعته إليك مرتين فما كنت في هذا الموقف الآن.

– إذن أنت ترفض مساعدة الشركة؟

– كل الرفض.

فضم داغير قبضتيه، ولكنه لم يقُل شيئًا إذ لم يبقَ له ما يقوله.

هذه كانت حالة الاثنين حين وجدناهما في قصر فولون، أما مرسلين فقد لزمت البيت حذرًا من أن يراها داغير أو بوفور فيعرفانها بالرغم عن تغيير وجهها.

بعد ذلك بيومين وردت رسالة من بوفور إلى جيرار يدعوه فيها إلى عيادته، فذهب إليه وأقام عنده ست ساعات أصبحا بعدها صديقين حميمين، ولكن جيرار خرج من عنده وهو منقبض الصدر، وعلائم الحزن بادية على وجهه.

وكانت أمه قد اطلعت على رسالة بوفور إليه، فلما رأته حزينًا ثارت الهواجس في قلبها، وأخذت تستدرجه في الأسئلة فقالت له: هل ذهبت لعيادة الموسيو بوفور؟

– نعم، لقد أحزنني كثيرًا.

– لماذا ألعل مرضه شديد؟

– نعم، وهو يدعو إلى الإشفاق.

– ألا ترجو أن ينفعه طبك؟

– لا حيلة في الطب على هذا المرض.

– ما هو هذا المرض الذي يعجز عنه الطب؟

– هو مرض اليأس المستعصي من ذكرى أليمة توقعه كل يوم إلى هوة القبر.

– ألعله أخبرك شيئًا عما يشكوه؟

– كلا، ولكني علمت من خلال الحديث أنه نُكب في شبابه بحب امرأة عبثت بقلبه، والغريب أنه لا يزال يهواها.

ثم ضرب المائدة بيده، وقال: ويح لهذه الشقية فقد قتلته.

فقالت له أمه بصوت المحتضر: اسكت يا بني ولا تقضِ عليها بحكم قبل أن تعرفها، فهل عرفتها أو عرفت شيئًا عنها؟

– كلا، ولكن كل ما عرفته أنها سحقت قلب رجل لم أرَ أكرم منه خلقًا ولا ألين طباعًا؛ ولهذا قلتُ إنها شقية.

– لا تتسرع يا بني بأحكامك وارحمها فقد تكون جديرة بالرحمة.

– لماذا تدافعين عنها وأنت لا تعرفينها؟

– وأنت لا تعرفها أيضًا، فلماذا تحمل عليها هذه الحملات؟!

– لقد أصبتِ يا أماه، ولكن دموع هذا المنكود أثرت بي أبلغ تأثير.

– ألعله يبكي؟

– إنه بكى بكاء الأطفال، وهذا يدلُّ على أن جرحه لا يزال داميًا.

– ماذا وصفت له؟

– النسيان؛ أي المستحيل، وما عساي أصف له وعلته روحية، وأنا طبيب أجسام لا طبيب أرواح؟

– إذن فهو يكره هذه المرأة ويحتقرها؟

– كلا، بل إنه يحبها ويفتكر بها في كل حين؛ فقد احتجبت عنه فجاءة، وهو إلى الآن لا يعلم سبب احتجابها مع بحثه عنها خمسة وعشرين عامًا، ولو سمعتِ هذا المسكين كيف كان يصف لي نكبته لشبهتِه بمصباح يفرغ منه الزيت تباعًا، ولا يريدون تجديد زيته، وإني أعجب كيف أنه لا يزال باقيًا في قيد الحياة، إلا إذا كان باقيًا له شيء من الأمل، ولكن الزيت لا بدَّ أن ينتهي فينطفئ المصباح.

– أتحسب أنه في خطر سريع؟

– بل إني أخاف أن يفضي به الأمر إلى الانتحار للنجاة من عذاب ذلك التذكار؛ فإنه لم يندفع في الأشغال إلا بغية النسيان، فخسر قسمًا كبيرًا من ثروته ولم ينسَ؛ ولذلك لم يعد يخيفه الموت، بل صار يعده الراحة الكبرى.

– مسكين!

– ألا ترين يا أماه أن حالته تستوجب الإشفاق؟

– دون شك.

– وإذا أمكنك تخفيف آلامه أتفعلين؟

– بملء الارتياح.

– إذن فاعلمي أنه لا يوجد علاج في الطب يخفف عذاب هذا المسكين؛ لأنه مصاب بروحه لا بجسمه، فلا يغير فيه غير العلاج الأدبي، وهذا الذي دعاني إلى الاستعانة بك في معالجته.

فقالت، وهي تحاول أن تضحك: ألعلي عديت منك يا بني فصرت من الأطباء؟

– كلا، ولكنك ذكية الفؤاد طيبة القلب، وإن العزلة هي التي ستقتله وتوحي إليه هذه الأفكار السوداء.

– لماذا؟ ألم يتزوج؟

وقد قالت هذا القول بصوت مختنق، فقال لها: لا أعلم، ولكنه قد يكون متزوجًا وقد تكون علته من هذا الزواج. وعلى أية حال فإنه يجب أن تعالج فيه تلك العزلة، فإذا أقام بيننا ورأى ذلك الحب المؤلف بين قلوبنا تعزى بعشرتنا ورُدت إليه الحياة؛ لأنه في أشد الاحتياج إلى صداقة صادقة يشتغل بها قلبه، وسنعرف كيف نجد الطريق إلى ذلك القلب، فهو لا يعيش بيننا عيش غريب مريض مع طبيبه، بل عيش صديق مع أصدقاء.

– لا شكَّ أنك هازل يا جيرار.

– كيف أهزل في هذا المقام يا أماه؟

– ولكن تمعن في الأمر يا بُني فإن ما تقوله لي محال.

– ولماذا ترينه محالًا وأنا لا أطلب إليك غير أن تشاركيني في شفاء رجل كريم منكوب؟

– أقول محالًا لأننا لا نعرف هذا المريض؛ فقد تندم إذا أقمناه في منزلنا.

– أراكِ تريدين التدرج في سوء النية بهذا الرجل، فلماذا لا تسرعين إلى القول بأنه من السفاكين؟

– إن المرء متى بلغ إلى عمري لا يبحث عن علائق جديدة، وستدرك حقيقة قولي متى دخلت إلى عمري، ثم أنت تعلم أني أحب العزلة؛ فإني لم أعش إلا لأجلك ولأجل مودست فلم يكن يشغلني سواكما في الوجود، وقد رضيت أن أحضر حفلة فولون إكرامًا لك ولأختك، ولكني لا أستطيع المزيد، فإن هذا الرجل لا يشفى بطريقتك إلا إذا كنت وأختك توده، ولسنا على شيء من هذا.

فقالت لها مودست: أسألك المعذرة يا أماه؛ فإني شعرت بميل عجيب إلى هذا الرجل منذ نظرته.

فقال جيرار بلهجة المنتصر: أسمعتِ؟

– لا أنكر من أن مودست قد تميل إليه … وقد ترددت عن إتمام جملتها وما عساها تقول؟ أتقول إنه أبوها؟ ولكنها قالت بعد ترددها: غير أني أعجب لعطفها عليه وهي لم تكد تراه.

– بل اسمحي لي يا أمي العزيزة أن أعجب أنا أيضًا لإنكارك عليها هذا العطف، وهو الذي أنقذها من الموت؛ أليس من العدل أن تنقذه وهي قادرة على إنقاذه؟ ولذلك أسألك قبول طلبي الذي يوحيه عرفان الجميل.

– كلا، كلا.

فرأى جيرار أنه لم يبقَ فائدة من الإلحاح، فسكت، ودخلت مرسلين إلى غرفتها وهي تقول: كلا، هذا مُحال.

ومضى أسبوع كان روبير بن فولون يختلق كل يوم فيه سببًا لزيارة مرسلين، بحيث اتضح أن الذي يجذبه إلى هذا البيت غرامُه بمودست؛ فقد علق بها منذ الحفلة الراقصة.

ولم يكتم حبه عن أبيه، فقال له: إني أعرف هذا البيت وأوافق على زواجك بالفتاة، ولكني أحب أن تعلم إذا كان هذا الحب متبادلًا بينكما؛ فإن الزواج من غير حب يعقبه التنغيص.

– لست واثقًا كل الثقة، ولكن تبين لي من أدلة كثيرة أنها تحبني.

– إذن أتريد أن أخطبها إلى أمها؟

– ما أكرم قلبك يا أبي!

– إن ما أقوله طبيعي معقول، وبعد فإني مخبرك بالحقيقة؛ وهي أني أحببت مرسلين بعد وفاة أمك وأردت أن أتزوجها فتكون لك أمًّا ثانية، ولكنها أبت أن ترضى بي زوجًا، فأنا اليوم سعيد بهذا الاتفاق؛ لأني سأذهب إليها فأقول لها أنكِ أبيتِ أن تكوني امرأتي فسينتقم لي ولدي فيتزوج بنتك.

– إنك يا أبي خير الآباء.

– وأنا أرجو أن تكون قريبًا خير الأبناء، فاذهب والبس خير ملابسك، إني أردت أن تصحبني إليها.

– نعم؛ فإن الأفضل أن أكون هناك.

وبعد ساعة كان الاثنان في منزل مرسلين فأحسنت استقبالهما.

وسألها فولون عن مودست فقالت: إنها تتنزه مع أخيها، فهل تريد محادثتها؟

– بل أريد مباحثتك في شأنها.

فتظاهرت بالاندهاش، ومضى فولون في حديثه، فقال: إن كلمة تكفي بالتعبير عن مرادي وهي أن ولدي يحب ابنتك، وله من الثروة ما يكفي اثنين، فهل تريدين أن يكونا زوجين؟

فأطبقت عينيها إخفاء لاضطرابها ونسيت أن تجيب، فقال لها: ما بالك لا تجيبين، ألا تجدينه كفئًا لها؟

– بل هو خير كفء وفي ذلك تشريف لنا، ولكني لا أعلم إذا كان ذلك من الممكنات.

فقال لها روبير: لماذا لا ترينه ممكنًا؟

– لأنه يشترط رضى مودست.

– هو ذاك، ولكني كنت أتوهَّم أنها راضية؟

– قد تكون مخطئًا يا موسيو روبير.

– أتحسبين أنها لا تحبني؟

فوجمت ساكنة، ولكنها عوَّلت على الكذب، ليس لأنها أرادت أن تبقي بنتها عندها من قبيل المبالغة في حب الذات؛ بل لأنها إذا زوجتها تضطر إلى الاعتراف بأنها ابنة الكونت دي مونتكور، وأن مودست بنت بوفور ففضلت الكذب على الاعتراف بهذه الحقيقة، وأجابت روبير قائلة: أظن أن مودست لا تحبك كما تتوهم.

– هل سألتها؟

– نعم، فعلمت منها أنها تعدُّك بمثابة صديق.

فنظر فولون إليها نظرة المرتاب، وقال لها وهو يحدق بها: أواثقة فيما تقولين؟ فإني أحب روبير قدر ما تحبين مودست فانظري إلى ما فعلت به.

وهنا وقفت مركبة عند الباب فاضطربت مرسلين، وقام روبير فأطل من النافذة وعاد فقال: هو ذا الآنسة مودست مع أخيها. ثم قال لمرسلين: اسمحي لي يا سيدتي أن أتولى سؤالها بنفسي أمامك، أو سليها أنت أمامي يتضح لك أنك واهمة.

– أية فائدة من سؤال يزيد جوابه حزنك؟

– أتوسل إليك أن تفعلي.

ودخلت مودست وهي لا تعلم أنها ستجد روبير وأباه فلم تتمكن من إخفاء سرورها، ولكنها أجفلت حين رأت ملامح الحزن بادية في وجه روبير، فقالت له: رباه، ماذا حدث ولماذا هذا الانقباض؟

– لم يحدث ما يؤثر عليكم مباشرة يا سيدتي، ولكني أعده أعظم نكبة عليَّ.

– إن ما يؤثر عليك يؤثر علينا يا سيدي، فهل تأذن لي أن أسألك؟

– لا أجسر أن أفوه بكلمة لأني أخاف أن أسمع ما يجعل علتي غير قابلة للشفاء فسلي أمكِ.

فالتفتت إلى أمها وكلتاهما شبه الريشة في الهواء من فرط الاضطراب.

وقالت لها: ما هي هذه النكبة التي يشير إليها يا أماه؟

قالت: لا أعلم، ولكن الموسيو فولون جاء يخطبك لولده.

فخفق قلبها سرورًا، وقالت: ماذا أجبت؟

– قلت الحقيقة: أي إن هذا الطلب يشرفنا، ولكنه سابق لأوانه لأنك لا تحبين الموسيو روبير.

– أماه … أماه …!

وقد أرادت أن تقول لها: إنك مخطئة وإني أحبه بملء جوارحي. ولكنها رأت أنها مقطبة الجبين فأطرقت ساكنة وقد سُحق قلبها؛ لأن احترامها لأمها كان أشد من حبها.

وكان روبير جالسًا بالقرب منها فقال لها: بربك أجيبي فهل كنت مخطئًا؟ أجيبي بالله.

– أما سمعت يا سيدي ما قالته أمي؟

– أحق ما قالته؟

– هي وحدها التي يحق لها أن تجيب، فإذا رأت أن تجيب بما أجابته كانت واثقة بأنها … تقول … الحقيقة.

وقد رأت أمها أنها تكاد يغمى عليها، فأسرعت إلى نجدتها، ونهض فولون، وقد ظهرت عليه علائم الاستياء فقال لولده: هلم بنا فلم يبقَ لنا ما نعمله هنا.

فنهض روبير وخرج مع أبيه وهو قانط، ولكنه نظر إلى مودست فرآها تبكي.

أما مودست فإنها قالت لأمها بعد انصرافهما: لماذا قلت إني لا أحبه؟ ولماذا رفضت طلب أبيه؟

– أتريدين أن تفارقيني … أتريدين أن تنسيني؟

– ألا يمكن للفتاة أن تحب أمها وزوجها معًا، فلماذا أسأتِ إليَّ هذه الإساءة؟

وقد حاولت أمها أن تعزيها ولكنها صدتها عنها، وقالت لها: دعيني أبكي.

وفي اليوم التالي زار روبير صديق أبيه بيير بوفور وروى له ما جرى بالأمس، وما كان من رفض مرسلين، ثم قال له: إنك صديق مودست فإنها مدينة لك بالحياة كما أعلم، ألا يمكن أن تغتنم فرصة لتسألها إذا كانت تحبني؟ فإني أعتقد أنها تحبني بالرغم عما سمعت من أمها.

– سأفعل، ولكني أستغرب أخلاق مدام لنجون وأرى منها تجانبًا ظاهرًا، فلماذا لا تباحث جيرار في هذا الشأن؟

– لقد خطر لي ذلك وسأفعل.

وحسنًا تفعل؛ فإن جيرار لا يكتمك الحقيقة.

وقد فعل، وبعد بضعة أيام خلا جيرار بأخته، وقال لها: أريد أن أباحثك في أمر يا مودست.

– ما هو؟

– هو أني عارف بسبب حزنك.

– لست بحزينة كما تتوهم.

– لقد لقيت روبير وأخبرني.

فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت: ماذا أخبرك؟

– أخبرني أنه يحبك أصدق حب وأنك جعلته يقنط من الحياة، فقولي لي؛ أحق أنك لا تحبينه؟

– الحقيقة أني أحبه.

– لماذا قلت له ما يوهم بالعكس؟

– لأن هذه هي إرادة أمك.

– إن أمك لا تريد لك اليأس.

وعند ذلك دخلت مرسلين فقال لها جيرار: إن أختي تحب ابن فولون، وأنا واثق بأنه يحبها، وهو خير كفء لها فلماذا تعارضين في سبيل زواجها؟

– قد يوجد أسباب يا بني.

– لماذا تكتمين عنَّا هذه الأسباب؟

– لا تسألني.

– بل أسألك وأريد أن تجيبي.

– متى كان يوجد هنا إرادة غير إرادتي، أهكذا تحترم أمك يا جيرار؟

– أسألك العفو يا أمي، فإني أحترمك وأحبك، ولكن انظري ما صارت إليه مودست.

– لا أستطيع أن أفيدها في شيء.

– إذن أنت تصرين على الرفض؟

فأحنت رأسها مرتين إشارة إلى الإيجاب، وانقطع الحديث، فانصرف جيرار وهو معجب بهذا السر لوثوقه أنه لا بدَّ من وجود سر غريب تكتمه أمه حتى عن أولادها الراشدين وهذا أغرب.

ولنعد إلى بوفور فإنه ذكر ما وعد به روبير، وخرج من المنزل ليقابل مودست وأمها، ولكنه لم يصل إلى الحديقة حتى شعر بدوار شديد فجلس على كرسي فيها ونادى الخادم، فأعانه على الرجوع إلى المنزل، وأرسله ليدعي الدكتور جيرار، وهو يقول في نفسه: هذا بدء النهاية فقد قدر لي أن أموت دون أن أقف على سر احتجاب مرسلين.

وجاء جيرار فكان أسفه شديدًا إذ رآه على أسوأ حال فوصف له علاجًا مقويًا، وأقام عنده ساعة ثم عاد إلى منزله وظواهر الكآبة بادية بين عينيه، فسألته أمه عن بوفور، فقال لها: لم يبقَ رجاء.

فدقت يدًا بيد وقالت: لا سبيل لإنقاذه؟

– لا ينجو إلا بأعجوبة؛ فإن ذلك فوق قدرة الطب، ولكني أراك تهتمين به كثيرًا فما هذا الاهتمام؟

– أما هو صديقك يا جيرار؟

– لقد قلت لك من قبل إنه إذا عاش بيننا نجا وتكونين قد وفيت ما عليك من الدين.

فاختلجت اختلاجًا عنيفًا، وقالت: إذا كان في ذلك شفاؤه فليقم بيننا؛ فإن مودست ستحبه وسيكون معنا كأنه مع عائلته.

– لقد فات الأوان.

– فات الأوان؟ ألم يبقَ شيء من الرجاء؟

– كلا وا أسفاه.

وأقامت طول ليلها وهي تقول: رباه، ماذا أصنع؟

وفي صباح اليوم التالي عادت إلى سؤال ولدها عنه، فقال لها: إنه ينطفئ تباعًا كالمصباح حين يفرغ منه الزيت، ولماذا تسألينني وماذا تريدين أن تصنعي؟

– لا شيء، وما عساي أصنع؟

وعادت إلى غرفتها وهي تناجي نفسها فتقول: من يعلم، ألا يمكن أن يفتكر بي دائمًا كما أفتكر فيه، ألا يمكن أن أضع شيئًا من الرجاء في حياته الآخذة بالزوال، وإذا عادت إليه الحياة ألا أكون قد كفَّرت عن ذنبي؟

وقد فتحت درجًا بمفتاح كان معلقًا بسلسلة في عنقها وأخرجت منه غلافًا أصفر لتقادم العهد به ففضته، وأخرجت ضمة من الزهر جافة كانت تحتفظ بها كأنها من الكنوز، وهي الضمة التي جناها لها بوفور قبل الزواج مخاطرًا بحياته في وادي سويسرا، وهي كل ما بقي عندها من التذكارات.

وقد وضعتها في غلاف جديد وأرسلت من جاءها بكلوكلو فأعطته الغلاف، وقالت له: خذه للموسيو بيير بوفور، واحذر أن تفوه بكلمة عني أو تدعه يعلم أني أنا مرسلة الكتاب. ثم يجب أن تذكر أن هذه هي المرة الثانية التي أئتمنك فيها على هذا الكتاب.

فأطرق برأسه مستحييًا، وقال: ثقي يا سيدتي أني لا أضيعه هذه المرة.

وقد أخذ الكتاب وذهب به من فوره إلى منزل بوفور، فسلمه إلى خادمه وانصرف، ففض بوفور الغلاف فلم يرَ فيه غير ورقة بيضاء مكتوب عليها تاريخ ٢٥ أيار سنة ١٨٥٥ وضمة ذابلة جافة من زهر البنفسج، فلم يحفل في البدء؛ حتى لقد توهم أن الرسالة أرسلت إليه خطأً.

وفيما هو ينظر تارة إلى الضمة وتارة إلى التاريخ ارتعش فجاءة ووثب من فراشه، وقال: كلا، فما أنا بمجنون ولا حالم ولكنها الحمى.

ولكن ما هذا البنفسج الذابل؟ إنها تذكرني بتلك الضمة التي جنيتها من الوادي ولقيتها يومًا مخبوءة في صدرها حين أغمي عليها، وفككت الخادمة أزرارها، ما هذا بالتاريخ؟ إنما هو تاريخ زواجي بها، فمَن عساه يحتفظ بهذه الضمة خمسة وعشرين عامًا ويرسلها لي غير مرسلين.

إذن فهي لا تزال في قيد الحياة، وهي تعلم أين أنا، والكتابة تدل على أنها حديثة بنت ساعتها، وكل هذا يدل أنها موجودة معي في بلد واحد.

وكأنما هذا الرجاء قد رد إليه الحياة؛ فإنه وقف وقد شعر أن قوته عادت إليه.

وعند ذلك جاءه الطبيب جيرار، ورأى تغيره الفجائي فبرقت عيناه، وقال له: ماذا حدث؟

قال له: لقد أظفرت بدوائي وهذا هو.

وقد أراه الضمة وقال: ألم تقل لي إن مرضي روحي، وهذا دوائي بهذه الضمة فإنها كل روحي.

وبعد انصراف الطبيب نادى بوفور خادمه، وقال له: من الذي جاء بهذا الكتاب؟

قال: فقير من الذي يغنون في الشوارع وهو مقطوع اليد.

– أما هو المدعو كلوكلو؟

– هو بعينه يا سيدي.

– أريد أن تأتيني به كيفما اتفق ومهما كلفك ذلك من المال والعناء، وإن من عادته أن يتجول في الضواحي، فخذ مركبتي وابحث عنه في كل مكان فلا تعد إلا به.

فامتثل الخادم وما زال يبحث عنه حتى لقيه وجاء به بعد ثلاث ساعات.

وقد خلا به بوفور، وقال له: ليست هذه المرة الأولى التي أتيح لنا أن نجتمع يا كلوكلو؛ فقد رأيتك مرة منذ خمسة وعشرين عامًا في قصر بتافان يوم زواجي بمرسلين دي مونتكور، فهل تذكر ذلك؟

– نعم، أذكره.

– أتذكر أيضًا بعد ذلك التاريخ بيومين حين جاءوا بك إلى بتافان وما كانوا يريدونه منك يومئذٍ؟

– اسمح لي بأن أراجع ذاكرتي.

– إني أعينك على التذكر فإن قاضي التحقيق كان يريد أن يسألك بعض أسئلة في أمر يتعلق بمادة اختفاء.

– لقد ذكرت، فإن المدموازيل مرسلين كانت قد اختفت، ولكني برحت تلك البلاد من عهد بعيد فلم أعد إليها.

فقال بوفور في نفسه: إن هذا الرجل يكذب أو أنه يحاول الكذب. ثم سأله قائلًا: مَن أعطاك الرسالة التي جئتني بها؟

فحك أذنه وقال: يعزُّ عليَّ يا سيدي أني لا أستطيع إفادتك بشيء.

– لماذا؟

– لأني لا أعرف الذي أعطاني إياها.

– هذا محال.

– بل هو الحقيقة يا سيدي؛ فإني بينما كنت أجول في الشوارع حسب عادتي دنا مني رجل لا أعرفه فأعطاني الرسالة التي تسألني عنها.

– أهو رجل؟

– نعم، وهو يكاد يكون من عمري؛ أي بين الخمسين والستين.

– ماذا كان يلبس؟

– كما يلبس كالناس، فلم يكن في لباسه شيء من المميزات.

– أليس من الغريب أن يبحث عنك هذا الرجل حتى يجدك، ثم يأتمنك على هذه الرسالة وأنت لا تعرفه؟

– كلا يا سيدي؛ فإني لا أشتغل بالغناء وحده، بل إن أكثر مرتزقي من إرسالي في مثل هذه المهمات، وفي كل يوم يرسلونني بمثل هذه الرسالة وأنا لا أعرفهم.

– وماذا قال لك هذا الرجل حين أعطاك الرسالة؟

– قال لي: هل تعرف الموسيو بوفور؟ قلت: نعم. قال: خذ هذين الفرنكين واذهب إليه بهذه الرسالة. وهذا كل ما كان بيننا.

فأخذ بوفور يسير ذهابًا وإيابًا في الغرفة، ويقول في نفسه: إنه لا يريد أن يتكلم، ومع ذلك يجب أن يتكلم. ثم قال له: ألست تكذب يا كلوكلو؟

قال: كلا يا سيدي، فما قلت غير الحقيقة.

– أما هي المرأة التي أعطتك الرسالة وأوصتك بالكتمان، أم تحسب أنه يجب عليك كتمان السر، إن جميع الناس يعرفونك بالإخلاص ويثنون عليك وإني لاجئ إلى إخلاصك.

– أي معنًى للإخلاص في هذا الموقف؟ فإن كل ما في الأمر أنك تسألني عما أجهله.

– أما أنا فإني واثق بأنك لا تقول الحقيقة، فأصغِ إليَّ.

– كلي أذان للسمع.

– إنك منذ خمسة وعشرين عامًا حين سألك قاضي التحقيق عن المرأة التي كانت تصحبك لم تقل الحقيقة.

وإني واثق أن الذي أعطاك الرسالة اليوم لتوصلها إليَّ إنما هو امرأة لا رجل، وأنك تعرفها حق العرفان.

فجعل يضحك ضحكًا مغتصبًا دون أن يجيب، وحاول بوفور أن يتوعده؛ فرأى أنه ليس من الذين يخافون الوعيد، فأراد أن يستجلبه بالوعود الخلابة فقال له: إني لا أعيد عليك حكايتي؛ فإنك تعلم كيف كان اختفاؤها، وإني أفرغ مجهودي منذ ربع قرن فلم يتيسر لي كشف الحجاب عن هذا السر، ولم أعلم كيف لم أجن، بل كيف أني باقٍ في قيد الحياة، على أني إذا لم أمُت فإني شبه الأموات، وهيهات أن أشفى من هذا الجرح الذي أصابني في قلبي.

وكنت أحسب بالأمس أن ساعتي قد دنت، فكنت أستقبل الموت بملء الارتياح، إلى أن جاءني هذا الكتاب، فكان بارق رجاء أنار حياتي حتى لقد يقال إن التي أرسلته كانت عارفة بعلتي وعلاجها، فأرسلت لي الدواء لتنقذني بالرغم عني؛ ولهذا قلت لك يا كلوكلو إنك تعرف فوق ما تقول، قل الحقيقة، بل أتوسل إليك أن تقولها.

– يسوءني جدًّا يا سيدي أن تكون واهمًا، وألَّا أكون قادرًا على خدمتك في شيء.

– تمعن يا كلوكلو فإن حياتي بين يديك، وإنك قادر على قتلي أو إحيائي بكلمة تخرج من شفتيك.

– إنك تبالغ كثيرًا يا سيدي.

– إني عظيم الثروة، فما عليك إلا أن تريد فتصبح من الأغنياء فماذا تريد؟

– لا أريد شيئًا؛ فإن أشتغل وأعيش مع أمي.

– إن أمك عجوز فإذا كنت ميسورًا زدت في راحتها، فإذا رفضت مساعدتي تكون قد أسأت إليها وإني أعطيك عشرين ألف فرنك الآن مقابل هذه الكلمة.

– ولكن كيف أستطيع أن أقول هذه الكلمة وأنا لا أعرفها؟

– أعطيك خمسين ألف فرنك.

– إنك لو أعطيتني يا سيدي مليونًا لما استطعت أن أفيدك بشيء.

– بل إنك رجل شرير.

– أأكون شريرًا لأني أرفض ثروة وأنا لا أملك درهمًا.

– اعلم يا كلوكلو أني لا أعيش الآن إلا على رجاء أن أرى مرسلين، فإذا فقدت هذا الرجاء فقدت الحياة فانظر ما أنت فاعل.

– أواه لو كنت أستطيع.

– مَن الذي يمنعك عن إنقاذ حياتي؟

فأطرق برأسه دون أن يجيب، وأيقن بوفور أنه لا يبوح بما يعلمه مهما بالغ بالعطاء والدعوى، فخطر له أن يعمد إلى الحيلة، وقال له: افعل ما تشاء ولكنك ستندم الندم الشديد، وسيقتلك تقريع الضمير؛ لأنك رأيت رجلًا يتعذب وأنت قادر على إنقاذه، فما فعلت. اذهب فلم يبقَ لك عندي غير الكره والاحتقار.

فخرج وهو على أسوأ حالات الاضطراب، ونادى بوفور خادمه وقال له: اصحبه وسِر به إلى إحدى الحانات ومل عليه بالشراب، حتى إذا سكر عُد إليَّ وأخبرني.

فامتثل الخادم مسرعًا وأدركه قبل أن يخرج من المنزل وسار وإياه، وبعد ساعة بلغ الخادم الغاية منه فتركه يغني من سكره، وعاد إلى مولاه فأخبره بما فعل.

كان روبير فولون قد تولَّه بحب مودست فلم يخفف رفض أمها غرامه، بل زاده هيامًا.

وكان قد أخبر جيرار بأمره، وقال له: إذا قلت لي إنها لا تحبني يكون حزني عظيمًا، ولكن لا يبقى لي حُجة بخطبتها. فلقيه جيرار بعد بضعة أيام، وقال له: لقد سألت أختي فقالت إنها تحبك.

فعانقه مرارًا وقال له: لقد صيرتني أسعد الناس بما قلته لي، ولكن ما الذي يحمل أمك على رفض طلبي؟

قال: لا أعلم، فإنها لا تزال مصرة على الرفض، وقد أبت أن تجيب على أسئلتي.

– ومودست؟

– تبكي وتأبى الخروج من المنزل؛ حتى إنها برحت وقد نهيتها مرارًا عن التمادي في الحزن، ونصحتها نصيحة أخ وطبيب، فكنت كالنافخ في رماد.

– ألم تشفق أمك لأحزانها؟

– يظهر أنها لا تريد أن تسمع أو ترى شيئًا.

وفي اليوم نفسه أخبر أباه بما كان بينه وبين أخيها، وسأله أن يعود إلى الطلب فقال له: لا أجد فائدة من ذلك؛ فإن أمها شديدة العناد وأنا أعرفها من عهدٍ بعيد.

غير أن روبير ألحَّ على أبيه وفاز بإقناعه، فخلا فولون بمرسلين وقال لها: إني أتيت بالرغم عني؛ لأن ولدي ألحَّ عليَّ بمراجعة الطلب.

قالت: أية فائدة من العَود إلى هذا الحديث؟

– هذا ما قلته له ولكني علمت أنهما متحابان، وهذا ما يحملني على الاعتقاد بأنك لا تحبين بنتك.

فلم تجبه بشيء. فقال: ولكن بنتك وولدي يتحابان؟

– كلا، فسَل مودست.

– لقد سُئلت وأجابت.

– مَن الذي تجاسر على سؤالها؟

– رفقًا يا مرسلين ولا تغضبي.

– لقد سألتك يا سيدي من الذي تجاسر على سؤال ابنتي بغياب أمها؟

– واحدٌ من الذين لهم الحق بسؤالها.

– من الذي يحق له هذا السؤال غيري؟

– ولدك؛ أي أخوها، وهو الذي قال لولدي: لا تقنط فإنها تحبك، ولا بدَّ لأمي أن توافق في النهاية.

– محال.

– مرسلين، اسمحي لي أن أكلمك كما لو كنت أقرب أقربائك؛ فإني أراقبك منذ عرفتك فوجدت فيه أخلاقًا غريبة، ولا سيما حين أردت الاقتران بك، فمِن أين أتيت ومن هو أبو ولديك؟

– وأنت لماذا تسألني هذه الأسئلة، ألعلي تدخلت في شئونك؟ إني أحب الظلماء وأريد أن أبقى على ما كنت عليه من التنكر، ألم تلقبوني بالمتنكرة الحسناء؟

– هو ذاك، ولكن أي ذنبٍ لي في الأمس إذا كنت أحببتك؟ وأي ذنب لولدي اليوم إذا أحب بنتك؟

وبعد، أيوجد أعجب من رفضك مصاهرتنا؟ إن معظم الأمهات يتمنين مصاهرة ولدي، ليس لأنه من كبار الأغنياء، بل لأن له من الأخلاق الكريمة ما لا ينكره عليه أحد، وعلى الجملة فإنك إذا أصررت على الرفض أسأت إلى ولدينا إساءة لا تغتفر، فهل تتحملين تبعة هذه الإساءة؟

إن مرسلين لو خُيرت بين الموت وبين الإباحة بسرها لآثرت الموت، وتلقته بملء الارتياح، ولكنها إذا وافقت على هذا الزواج تحتم عليها أن تبوح بسرها، وأن تذكر اسم بوفور زوجها ووالد بنتها، وأن تذكر اسم داغير غاويها ووالد ابنها، وقضي عليها أن تكشف كل ماضيها لزوجها، وقد أصبح كالخيال، فتكون كأنها قتلته بيدها؛ ولذلك لم تجِب بشيء.

أما فولون فإنه مضى في حديثه فقال: لقد قلت لك حين أحببتك من قبل إني لا أسألك شيئًا عن ماضيك إذا رضيت بي زوجًا؛ ذلك لأن الأمر كان منوطًا بي وحدي في ذلك العهد، أما اليوم فإنه منوط بولدي؛ ولذلك يحق لي حين أخطب له ابنتك أن أسألك إماطة الحجاب عن سر تنكرك، فإذا أبيتِ الجلاء حُقَّ لنا ولولديك أن نشكك في ماضيك بالرغم عما لك في صدورنا من الاحترام، فإذا تعاظم الشك ألا ينقص الاحترام.

أما إذا بُحتِ بسرك فإنك لا تجدين بيننا غير المشفق المعزي مهما كان سرك رهيبًا.

قالت: لقد أصبت يا موسيو فولون فإن في حياتي سرًّا، ولكني لا أريد الإباحة به.

– لماذا لا تأتمنينني عليه وأنا صديقك كما تعلمين؟

– لا أريد أن أئتمن عليه أحدًا.

– ألعله يتعلق بشرفك؟

– إنه لا يمس شرفي، ويحق لي أن أسير شامخة الرأس.

– ولكنك بكتمانك تفسحين المجال للظنون.

– لا أبالي.

– وقد يتهمونك أشنع التهم؛ من المرأة الساقطة التي تعاقَب بالاحتقار إلى المرأة السارقة التي تعاقَب بالسجن.

– يحق لهم أن يتوهموا ما يشاءون.

– وولداك ألا تخافين ظنونهما؟

فوقفت وقد اصفر وجهها كالأموات، وقالت: إنك تقطع قلبي ولا فائدة من أقوالك؛ فإني لا أبوح.

فخرج من عندها مطرق الرأس مضطرب القلب، وهو لا يعلم أكان اضطراب قلبه من الغضب أم الإشفاق، وذهب للقاء ولده.

ولما علم جيرار نتيجة هذه المقابلة قال لأمه: ألا تخشين على مودست من عاقبة هذه الخطة؟

– أية عاقبة تخشاها؟

– إن الفتاة في هذا العمر تكون حادة المزاج، تكره الظلم كما يكرهه الأطفال، وأخاف أن يدفعها تصرفك إلى اليأس، وكل ما أسألك إياه هو أن تراقبيها بملء العناية؛ لأني أرى حزنها يشتد في كل يوم لتأثرها من ظلمك.

– لا تجُر عليَّ بحكمك يا بني.

– لست بجائر ولكنك علمتني الحرية والجلاء بالقول والعمل، ولا أعرف اسمًا غير هذا الاسم لتصرفك.

– إنك شديد القسوة عليَّ يا جيرار.

– ذلك لإشفاقي على أختي؛ فإنك غير عادلة معها.

– لا تتسرع بالحكم على أمك.

– إني أصبحت رجلًا، بل إني الآن رئيس العائلة، وبهذه الصفة أكلمك؛ ولذلك أعيد ما قلته وهو أنه يجب أن تراقبي مودست فإني أخاف حدوث نكبة تكونين أنت المسئولة عنها.

– ما الذي تخشاه؟

– إني أخاف كل شيء.

وقد تركها دون أن يزيد كلمة على ما قال، فحاولت مرسلين أن تلازم بنتها، ولكن مودست كانت تهرب منها وتحبس نفسها في غرفتها؛ حتى إنها حاولت مرة أن تدخل إليها، فأبت أن تفتح لها الباب، فعادت وهي في أشد الانقباض، وقد أخذت تخاف غوائل هذه الوحدة، وتقول في نفسها: رباه إني أخاف أن يُفضي بها اليأس إلى الانتحار.

وقد اتفق بعد ذلك بيومين أنها بحثت عنها في المنزل فلم تجدها، فعاودها ذلك الفكر الهائل، وأسرعت راكضة إلى جهة النهر وهي تخشى أن تكون قد ألقت نفسها فيه، فوجدتها جالسة عند الضفة وهي تائهة في مهامه التفكير.

وكانت الشمس قد أخذت تتوارى في حجابها، وأقفرت الطريق، ولا يزال بين مرسلين وبنتها بضعة أمتار فرأتها قد وقفت، ورسمت علامة الصليب وسمعتها تقول: روبير … حبيبي روبير … وألقت نفسها إلى المياه، ولكنها لم تسقط فيها، بل بين ذراعي أمها؛ فإنها أدركتها عند الوثوب، وقبضت عليها بملء قوتها حذرًا من أن تفلت منها.

غير أن مودست كانت أشد منها فجعلت تحاول الإفلات بملء قوتها وهي تقول: دعيني أموت. إلى أن تمكنت من الإفلات، وألقت بنفسها إلى النهر. فصاحت أمها صيحة منكرة وسقطت مغميًّا عليها، فلما استفاقت نظرت نظرة هائمة إلى ما حولها فوجدت بنتها بين ذراعي أخيها.

ذلك أن جيرار أدرك أخته حين وثوبها إلى النهر فسقط في أثرها وتمكَّن من إنقاذها.

وقد سار الجميع عائدين إلى المنزل، ومودست لا تزال مضطربة الحواس لا تذكر ما فعلت، وجيرار يحملها بين يديه وهو ينظر إلى أمه ويقول: أرأيت يا أمي كيف صح تكهني؟

ألم أنبئك بتوقع مثل هذا المصاب، فلماذا لم تسهري عليها؟

أما مرسلين فكانت تطرق برأسها فلا تجيب، وقد غُلبت الآن على أمرها وامتناع اعترافها؛ لأن خوفها من كتمان سرها كاد يقتل بنتها، فعوَّلت على الإباحة به، ولكن ما أشد ما كانت تعانيه.

ودخلوا إلى البيت فأخذ جيرار يعالج أخته، فلما عاد إليها صوابها رأت أخاها بجانبها يبتسم ورأت أمها واقفة تبكي وتكلمها بأعذب أقوال الأمهات، فقالت لها مودست: أسألك العفو يا أماه.

قالت: بل أنا التي أسألك أن تعفي، فأنا المخطئة وأنا التي أسأت إليك. أما الآن فكفاك تبكين فإنك تحبين روبير وستكونين امرأته.

ثم عانقتها عناقًا مؤثرًا، وتنهدت تنهدًا طويلًا كأن قلبها كان يحدثها بأن أيام عذابها لم تنتهِ بعد.

ولكنها لم تكن تخاف على نفسها هذه المرة، بل على ولديها، وقد انقبض صدرها كما تنقبض الصدور حين توقُّع المصيبة.

١  السياق غير متصل، هكذا بالأصل.
٢  السياق غير متصل، هكذا بالأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤