رسالة … على شاطئ الأطلسي!
عندما هبطَت الطائرة في مطار «كازابلانكا» كانت هناك ساعتان قبل أن تطير مرة أخرى إلى «طنجة».
وقالَت «هدى» بسرعة: ما رأيكم في جولة سريعة في «المدينة البيضاء»؟
لم يردَّ أحد …
فأضافَت: سوف تشاهدون مدينةً جميلة فعلًا؛ فهي بيضاء تمامًا. كلُّ مبانيها لها لونٌ أبيض، وهي مدينة تجمع بين الحداثة والقِدَم؛ فبرغم أنها مدينة جديدة، فهي تحتفظ بطابعها العربي القديم.
وبسرعة كان الشياطين يستقلُّون الأتوبيس السياحي إلى «كازابلانكا» أو «الدار البيضاء». كانت المدينة جميلة فعلًا … نظيفة تمامًا. مبانيها ليست عالية جدًّا، ولا منخفضة أيضًا. وفي الوقت الذي تعرض فيه محلاتها أحدثَ الأزياء العصرية. فإن الطابع المغربي يسيطر على كل شيء. استغرقت الجولة ساعة كاملة، شاهدوا خلالها أهم شوارع المدينة وذهبوا إلى السوق.
قال «بو عمير»: إن الأسواق تتشابه كثيرًا في معظم المدن الكبرى، بل إن هناك مناطقَ معينةً تتكرر في الدول، ولا فرق بين عربية، وأوروبية؛ فأسواق الفاكهة والخضروات حتى أسواق الملابس الوطنية تتشابه كثيرًا، ولا يختلف فيها إلا نوعية ما يباع. لقد شاهدت ذلك في «باريس» و«القاهرة»، و«سوريا»، و«السعودية» و«الأردن»، و«العراق»، و«أمريكا»، و«إنجلترا»، وغيرها. إنها مسألة لافتة للنظر وهي تعطي معنًى واحدًا أن الإنسان هو الإنسان في كل مكان.
علَّق «أحمد»: هذه حقيقة. وهذا يعني أن العالم وحدةٌ واحدة، ولا يصنع الفرقة بين الدول إلا ألاعيبُ السياسة.
انتهَت الجولة، وأخذ الأتوبيس طريقَه إلى المطار مرة أخرى، حيث وصل إليه قبل إقلاع الطائرة بربع ساعة. عندما أخذوا طريقَهم إلى الطائرة، كانت عينَا «قيس» تبحث عن صديق الرحلة «جراندل». كان «جراندل» يجلس في نهاية الطائرة، فاتجه إليه مباشرة. أما بقية الشياطين فقد أخذ كلٌّ منهم مكانه، وما إن انتهت الربع ساعة، حتى كانت الطائرة تأخذ طريقَها إلى الفضاء.
كانت «إلهام» قد غيَّرَت مقعدَها بجوار «أحمد» وذهبَت إلى حيث جلس «فهد»، الذي كان يجلس في المقعد الأمامي وخلفه «قيس». كانت تريد أن تستكمل سماعها للحوار بين «قيس» و«جراندل»، وكان المكان الذي احتلَّته هو مكان «هدى» التي أخذَت مكانها بجوار «أحمد». قالت «هدى» وهي تبتسم: هل أعجبَتك دارنا «البيضاء»؟
ابتسم «أحمد» وهو يُجيب: إنني أعشق المدن العربية، ولم أذهب مرة إلى واحدة منها إلا وشعرتُ أنني في بلدي؛ فالمدن العربية مليئة بالود والكرم، وهذه صفات تفتقدها كثيرًا المدنُ الغربية.
ثم تسأل بسرعة: متى نَصِل إلى «طنجة»؟
نظرَت «هدى» في ساعة يدها، ثم قالت: بعد ساعة بالضبط. أي أننا سوف نَصِل في حوالي الساعة الخامسة عصرًا.
قال «أحمد»: أعرف أن «طنجة» ميناء شهير.
أضافَت «هدى»: سوف تجده قريبًا من «الإسكندرية»، أو «جدة».
قال «أحمد»: الموانئ دائمًا قريبة الشبه من بعضها، سواء في الشرق أو الغرب.
قالت «هدى»: لكن «طنجة» لها شكلٌ خاص، وهي قريبة الشبه جدًّا ﺑ «الإسكندرية» بالذات، فعلى شاطئها يرتفع النخيل تمامًا مثل منطقة الرمل في «الإسكندرية».
ابتسم «أحمد»، وقال: واضح أنكِ مفتونة بها!
ضحكَت وقالت: أنا مفتونة ببلادي كلِّها.
لا يدري «أحمد» كيف مرَّت الساعة بهذه السرعة؛ فيبدو أن حماس «هدى» وحديثها عن «المغرب»، كان جذابًا لدرجة أنه لم يشعر بالوقت؛ ولذلك فقد أبدَى دهشته عندما سَمِع صوت مضيفة الطائرة تُعلن وصولهم إلى ميناء «طنجة»، وتساءل ضاحكًا: يبدو أن الطائرة تسير بضعف سرعتها!
ضحكَت «هدى» وهي تقول: ربما بثلاثة أضعاف.
وما هي إلا دقائق، حتى كانت الطائرة تهبط في «طنجة». كان المطار نظيفًا أنيقًا وكانت رؤيته من نافذة الطائرة تملأ النفس بالراحة. قالت «هدى»: هل نبيتُ الليلةَ في «طنجة»، ونذهب إلى «أصيلة» غدًا في الصباح؟
قال «أحمد»: هذا الرأي متروك للاتفاق بين الشياطين.
قالت «هدى»: إنني أفضل أن نقضيَ الليلة هنا؛ فهنا يوجد أكثر من فندق يُطلُّ على المحيط، بالإضافة إلى أنك تستطيع أن ترى الشاطئ الآخر من البحر، وهو الشاطئ «الإسباني»، بالعين المجردة، عندما يكون الجو صحوًا. وهو منظرٌ رائع ينبغي أن يراه الشياطين.
عندما خرج الشياطين من باب المطار، كانت هناك سيارتان تقفان في انتظارهما. اقترب سائق إحدى السيارتَين من «أحمد»، وهمس: هذه هي سيارات الزعيم.
ابتسم «أحمد»، وقال: إذن هيا بنا. نحن معك.
استقل سبعة من الشياطين السيارة الأولى، واستقل الباقون السيارة الثانية. وعندما تحرَّكَت السيارتان رنَّ جرس التليفون فرفع السائق السماعة. استمع للمتحدث لحظة، ثم قدَّمها إلى «أحمد» الذي جاءه صوتُ عميل رقم «صفر» يرحِّب بهم في «طنجة»، ويُخبره أنه قد حجز لهم في فندق الهيلتون الذي يُطلُّ على الشاطئ. بينما كان بقية الشياطين في السيارة يراقبون وجهَ «أحمد» الذي ارتسمَت الدهشةُ على وجهه فجأة. ثم ارتسمَت ابتسامةٌ عريضة مكانَ الدهشة. ثم هزَّ رأسه، وودَّع العميل بكلمات سريعة، ووضع السماعة. تساءلت «إلهام» التي كانت ضمن مجموعة «أحمد» في السيارة: يبدو أن هناك جديدًا.
ابتسم «أحمد»، وقال مندهشًا: حدث ما لم يخطر على بالكم!
لم يسأل أحد بعدها؛ فقد توقَّع الجميع شيئًا واحدًا، أن تكون هناك رسالة من الزعيم، ولم يستطع «عثمان» أن ينتظر، فقال بلغة الشياطين: إنها إذنْ، مغامرةٌ جديدة في الطريق!
ابتسم «أحمد» وهو يقول بنفس اللغة: لا أستطيع أن أقطع بشيء، كل الذي أعرفه، أن رسالة وصلَت من رقم «صفر»، تطلب أن نبيتَ الليلة في «طنجة»، وأن نكون في انتظار رسالة أخرى منه.
لمعَت أعين الشياطين؛ فقد تأكد ما توقَّعوه …
قالت «زبيدة» بلغة الشياطين: إنها إجازة طيبة، ولعلنا نقضيها هنا.
قالت «إلهام» ضاحكة: لعلها مغامرة «أصيلة».
ضحك «أحمد» ولم يعلق بشيء. كان الطريق من المطار إلى المدينة يكاد يكون دائريًّا؛ فهو يتميز بمنحنيات كثيرة، وكان المنظر رائعًا؛ فالخضرة ممتدة إلى ما لا نهاية. وحتى الجبال المتوسطة الارتفاع، تكسوها الخضرة، كان المنظر يبدو وكأنه لوحة مرسومة بعناية لحديقة شديدة الاتساع، ثم ظهرَت مدينة «طنجة». استنشق الشياطين نسيمَ الهواء النقي الآتي من المحيط ثم تنفَّس «أحمد» بعمق، وقال: ما أمتع هواء البحر!
ضحك «عثمان»، وأضاف: خصوصًا إذا كان مع مغامرة جديدة!
وضحك الشياطين ووصلَت السيارتان إلى الفندق، فقفزوا منها في نشاط. كان الوقت يقترب من الغروب، والنخيل المرتفع يتمايل سعفُه.
هتف «أحمد»: إنها فعلًا تذكِّرني بالإسكندرية.
عندما دخل الشياطين الفندق، وتسلَّموا المفاتيح، اتجهوا مباشرة إلى غُرَفهم، لكن قبل أن ينصرفوا، قال «أحمد»: هناك اجتماع بعد نصف ساعة.
اتجه كلٌّ منهم إلى غرفته، وما إن دخل «أحمد» حتى فتح النافذة الموجودة في الغرفة على مصراعَيها؛ فقد كان المحيط الأطلسي أمامه ممتدًّا بلا نهاية. كان يبدو كوحش أسطوري غامض بأمواجه العالية، ولونه الرمادي.
قال لنفسه: كم من أسرار تُخفيها في أعماقك أيها المحيط العظيم! ثم نظر يستطلع غرفته الأنيقة البيضاء اللون. فكر، ماذا يعني الزعيم بانتظار رسالة منه، هل هي مغامرة جديدة، أو أنه فقط يريد الاطمئنان على وصولنا؟ لكنه لم يفكر طويلًا؛ فقد همس لنفسه قائلًا: ما دامت هناك رسالة في الطريق، إذن علينا الانتظار دون التخمين بشيء.
أسرع إلى الحمام فأخذ دشًّا باردًا، جعله يشعر بالنشاط بعد الرحلة الطويلة. وعندما ارتدى ثيابه، أعطى جهاز الاستقبال إشارة، فعرف أن الرسالة قادمة … أسرع إلى الجهاز وانتظر، بعد لحظات، كانت الرسالة الشفرية تتردد أرقامُها أمامه. في نفس الوقت كانت عيناه تتابع الأرقام، وتُحولها إلى أحرف حتى يعرف مضمونها. وعندما انتهَت، كان قد عرَف معنى الرسالة. كان الزعيم يقول: هناك مغامرة تحتاج إلى السرعة، ومن حسن الحظ أنكم قطعتم معظمَ الطريق إليها، سوف تصلكم التفاصيل سريعًا.
شعر «أحمد» بالنشاط من جديد. هي إذن مغامرة، وما دام الزعيم يقول إن الشياطين قطعوا معظم الطريق إليها فإن مكانها سوف يكون «أوروبا»، فهي تحت أعين الشياطين الآن. وقف في النافذة، وألقى نظرة عبر المحيط، لم يكن هناك شيءٌ محددٌ. كانت هناك فقط صورةٌ باهتة عند نهاية الرؤية. قال في نفسه: لعلها «إسبانيا» التي لا تظهر جيدًا الآن؛ فالمحيط ثائر وهذا يعطل الرؤية. مرَّت لحظة قبل أن يقول لنفسه: مَن يدري، لعل المغامرة تكون في «إسبانيا» ذاتها.
فجأة دق جرس التليفون، أسرع «أحمد» إليه ورفع السماعة. كان «خالد» على الطرف الآخر. سأل «خالد»: هل وصلَت رسالة الزعيم؟
ابتسم «أحمد»، وقال: إذن لقد عرفت مع أنك كنت في السيارة الأخرى.
ثم أضاف بسرعة: لقد وصلَت رسالة، وعرفت أنها مغامرة، وأنا في انتظار التفاصيل.
قال «خالد»: إذن، نحن في الطريق إليك.
وخلال دقائق، كان الشياطين قد تجمَّعوا في غرفة «أحمد» الذي ابتسم في سعادة وهو ينظر إلى «قيس» قائلًا: كيف حال الصديق «جراندل»؟
ظهرَت الدهشة على وجه «قيس»، وقال: كيف عرفت، إنني لم أحدثك عنه بعدُ.
ضحك «أحمد»، لكن ضحكته توقَّفَت فجأة. وظهر الاهتمام على وجوه الشياطين؛ فقد أعطى جهاز الاستقبال إشارة تعني أن هناك رسالة. ولم تمرَّ لحظة، حتى كان الجهاز قد بدأ يستقبل رسالة الزعيم. وكانت عيون الشياطين تتابع أرقامها في اهتمام. لكن الرسالة استغرقَت وقتًا، فعرفوا أنهم أمام مغامرة خطيرة فعلًا.