صراع الليل … والبحر!
خرجَت المجموعات الثلاث من الفندق كلٌّ في اتجاه. المجموعة الأولى ركبَت سيارة إلى قرية «أصيلة». أما المجموعتان الباقيتان، فقد اتجهَت كلٌّ منهما إلى مطار «طنجة». في المطار كان عميل رقم «صفر» قد حجز تذاكر الطائرة، بعد أن جرَت مكالمة تليفونية بينه وبين «أحمد»؛ ولذلك فلم تكن هناك صعوبات أمام الشياطين.
في الطائرة، أخذَت كلُّ مجموعة مكانها، وكأنها بلا علاقة بالمجموعة الأخرى. وهذه المرة، لم يجلس أفراد المجموعة معًا؛ فقد توزَّعوا في الطائرة، حتى يطبقوا قاعدة الشياطين: السفر أحسن طريقة لجمع المعلومات.
كان «أحمد» يجلس في الصف الأمامي، وخلفه «خالد»، ثم «رشيد»، وأخيرًا «عثمان». كان «أحمد» يُمسك عصا رأس الثعبان في يده، وهو يحرِّكُها في بطء، جعل الراكب الذي بجواره يلتفت إليها. نظر إلى «أحمد»، وسأل: هل تأذن لي بفحص هذه العصا؟
ابتسم «أحمد» وقدَّمها إليه، أخذ الراكب يفحص العصا بعناية، لكنه مع ذلك، لم يستطع أن يكشف إمكاناتها في النهاية قال: إنها عصا بديعة، ويبدو أنها صناعة «أفريقية»، أو «هندية»!
ابتسم «أحمد»، وقال: إنها صناعة «هندية» فعلًا، وقد ورثتُها عن أبي، وأبي وَرِثها عن جدِّي فهي عصًا لها تاريخ في أسرتنا.
هز الراجل رأسَه، وعلَّق: لا بد أنك أكبر أفراد الأسرة.
قال «أحمد»: إنني الأوسط فيها، وقد خصَّني بها أبي.
ابتسم الرجل، وقال: أنت محظوظ إذن!
ثم أضاف بسرعة: أظن أنك لست «هنديًّا».
ضحك «أحمد» وقال: إنني «أفريقي»!
لمعَت عينَا الرجل وقال: قارة الغموض والأسرار!
ثم أضاف: تمنيتُ كثيرًا أن أقضيَ وقتًا هناك. لقد كنت في «سنغافورة»، ثم نزلتُ «القاهرة». وجئتُ إلى «طنجة»، في طريقي إلى «مدريد».
سأله «أحمد»: سياحة؟
ابتسم الرجل، وقال: سياحة وعمل في نفس الوقت.
عرَف «أحمد» أنه لن يخرج منه بشيء؛ فخط سيره لا ينبئ عن علاقته بمغامرة الشياطين. فجأة، استأذن الرجل، وانصرف في طريقه إلى مؤخرة الطائرة. أخرج «أحمد» السماعة الدقيقة من أُذُن الثعبان، ووضعها في أُذُنه، ثم وجَّه رأس الثعبان، في اتجاه «باسم» الذي كان يجلس في الصف المقابل، ويبدو منهمكًا في حديث مع جاره. كان الجار يقول: نعم أعرف أن هناك دماءً عربية تجري في عروق الإسبان. ولا تزال ملامحهم موروثة من أجدادهم العرب، الذين حكموا الأندلس مئات السنين.
جاء صوت «باسم» يسأل: يبدو أنك مهتمٌّ بتاريخ «إسبانيا»!
قال الرجل: أنا دكتور في تاريخ الأجناس.
ابتسم «أحمد»، وقال لنفسه: مَن يدري. قد يكون أحدَ أفراد العصابة ومتخفِّيًا في هذه الصفة عندما لمح جارَه عائدًا، أسرع بإخفاء السماعة في أُذُن الثعبان كما كانت. جلس الرجل، واستغرق في قراءة كتاب، ألقى «أحمد» نظرة سريعة على صفحة الكتاب، فعرف أنها رواية أدبية. فأغمض عينَيه، واستغرق في التفكير، كان يتردد في ذهنه: سوف نَصِل بعد ساعة وننزل في «مدريد» العاصمة «الإسبانية»، ويبدو أننا سوف نبيت الليلة هناك. وفي الصباح، نرحل إلى ميناء «كاستيلون» الذي يقع أمام جزر «مايوركا» ومن «كاستيلون». نأخذ طريقنا إلى «بالما»، حيث قصر «فورميو» العجوز. إننا نستطيع أن نَصِل في النهار؛ فالجزيرة مزار سياحي.
انتظر لحظة، ثم تردَّد في ذهنه من جديد: إن هذه هي الصعوبة؛ فآلاف السياح سوف يكونون هناك، ووسط الزحام، يمكن أن تحدث أشياء كثيرة. ورد على نفسه: مَن يدري قد يكون الزحام في صالحنا! ثم استغرق في النوم، وهو يضع الثعبان بين ساقَيه، ولم يستيقظ إلا على صوت المذيعة تقول: اربطوا الأحزمة؛ فقد اقتربنا من مطار «مدريد». تمطَّى، ثم ربط الحزام، ونظر إلى جاره مبتسمًا وقال: رحلة طيبة.
قال الرجل: شكرًا، وأتمنى لك إقامة طيبة في «مدريد».
أخذَت الطائرة طريقَها للهبوط في مطار «مدريد» … وعندما استقرت تمامًا، أخذت كلُّ مجموعة طريقَها إلى باب الخروج. وعندما تجمَّعَت المجموعة الأولى في صالة المطار، أشار «أحمد» من طرف خفي لأفراد المجموعة الثانية مودِّعًا، فردَّ عليه «بو عمير» الوداع. وعندما غادروا المطار قال «رشيد»: أقترح أن نتحرك الليلة من «مدريد» إلى «كاستيلون».
قال «أحمد»: إنها رحلة طويلة، ونحن في حاجة إلى الراحة، ولا ندري متى يمكن أن نرتاح مرة أخرى.
وافقَت بقيةُ المجموعة على اقتراح «أحمد». وعندما ركبوا سيارة عميل رقم «صفر» التي كانت في انتظارهم. جاء صوت العميل يقول: هناك طائرة خاصة في انتظاركم … لتنقلكم إلى «كاستيلون».
نظر الشياطين إلى بعضهم، وقال «رشيد»: إنها رحلة مستمرة. وخير لنا أن نبيت في «كاستيلون».
وعن طريق البوصلة الموجَّهة أخذَت السيارة طريقَها إلى مكان منعزل، وبعد نصف ساعة، كانت إشارات حمراء تتردَّد أمامهم. عرف الشياطين أنها الطائرة، فاتجهوا إليها. وما إن ركبوا، حتى حلَّقت الطائرة في الفضاء متجهة إلى «كاستيلون». لحظات ولم يدرِ «أحمد» شيئًا؛ فما إن ألقى بنفسه على مقعد الطائرة الصغيرة، حتى استغرق في النوم. كان يشعر برغبة في أن ينام لفترة طويلة حتى إن «عثمان» علَّق: إن «أحمد» يدخر نومًا كافيًا للمغامرة!
وابتسم «خالد» وقال: إنه ينام لنا جميعًا.
ما إن انتهَت الساعة، حتى كانت الطائرة تهبط في مطار «كاستيلون»، لكن الطريف أن «أحمد» لم يستيقظ إلا عندما أيقظه «عثمان» وهو يقول ضاحكًا: هل ستقضي الليل في الطائرة؟
فتح «أحمد» عينَيه في إجهاد ثم قال: هل وصلنا؟
ضحك الشياطين، وعلَّق «خالد»: لم تَعُد أمامنا سوى «بالما».
تمطَّى «أحمد» في قوة، ثم قال: الآن، أستطيع الذهاب إلى «بالما» مباشرة.
ضحك الشياطين، لكن «أحمد» قال: إنني لا أقول ذلك من باب الدعابة؛ فسوف نرحل الليلة إلي «بالما»، وأظن أننا سوف نجد كلَّ شيء جاهزًا.
عندما غادروا المطار، وركبوا السيارة، جاء صوت العميل رقم «صفر» في «كاستيلون» يرحب بهم ويسأل: هل ترحلون الليل أو أن لديكم خطة أخرى؟
نظر الشياطين إلى بعضهم ثم انفجروا في الضحك، وردَّ «أحمد»: بل سوف نرحل الليلة.
قال العميل: إذن، في النقطة «س» سوف تجدون كلَّ شيء جاهزًا.
اتجهَت السيارة إلى النقطة التي حدَّدَها عميلُ رقم «صفر». وعندما ظهرَت ملامح الشاطئ، قال «عثمان»: نحن دائمًا على موعد مع البحر والليل.
كان لنشٌ متوسط الحجم يقف عند الشاطئ، وقد لمعَت أضواؤه الخافتة. تأمله «رشيد» لحظة ثم قال: إنه طراز حديث جدًّا، وأظن أننا سوف نستمتع به كثيرًا.
جاء صوت العميل يقول قبل أن تغادروا السيارة: في خزانة اللنش، سوف تجدون كلَّ التفاصيل. وكلمة السر لفتح الخزنة «ميم». غادر الشياطين السيارة، واتجهوا إلى اللنش، ثم قفزوا فيه الواحد بعد الآخر. وعندما أغلق «أحمد» نافذة اللنش التي دخلوا منها اشتغل محرك اللنش مباشرة؛ فابتسم «رشيد» وقال: ألم أقل لكم إنه طراز حديث!
في تابلوه اللنش عند مقدمته، كانت هناك بوصلة موجَّهة إلى «بالما»، في نفس الوقت كانت هناك كل التعليمات الخاصة بجغرافية المكان. ظل «أحمد» يقرأ التعليمات حتى وصل إلى نقطة تقول: الخزانة هناك! ثم سهم يشير إلى اتجاه. اتجه «أحمد» مع السهم فلم يرَ سوى جدار اللنش. ابتسم وقال: نحن أمام لغز، لسنا داخل لنش!
ثم ردَّد: ميم!
فانفتح جدارُ اللنش. ظهرَت الدهشة على وجوههم. في الخزانة، وجد التعليمات. النزول في فندق «بالما»، الغرف «٦ و١٢ و١٨ و٢٠»، عامل الكافتيريا «جورج». مدير الفندق «كانزي». ولا أحدَ يعرف الآخر. علَّق «أحمد»: رقم «صفر» أزال كلَّ العقبات أمامنا.
كان اللنش منطلقًا بسرعة عالية. وكانت المياه ساكنة تمامًا لا يقطعها سوى صوت موتور اللنش.
وكانت تبدو كمرآة سوداء لامعة، في ظلام الليل الداكن، ولم يكن يتردد من صوت إلا صوت المياه ومقدمة اللنش تشقُّه في سهولة.
نظر «أحمد» في تابلوه اللنش، وقال: إن المسافة تتجاوز الخمسمائة كيلو!
فقال «عثمان»: هذا يعني أننا سوف نَصِل قبل ظهور النهار، وقد تكون هذه مشكلة.
ردَّ «أحمد»: ليست مشكلة كما تظن؛ نستطيع أن نبقى بقية الليل في اللنش. إنها سوف تكون ليلة بحرية رائعة.
قال «رشيد»: أرجو ألَّا يعطلَنا شيء وأن نقطعَ رحلتنا في بساطة.
ولم يكَد ينتهي من جملته، حتى ارتجَّ اللنش بشدة، مما جعل الشياطين يتشبَّثون بجدران اللنش المجهزة لذلك؛ فأمسك كلٌّ منهم بأقرب حلقة إليه. وقال «خالد»: هل هي سمكة بحرية ضالة؟
وقال «أحمد»: لعلها شيء آخر؛ فنحن الآن في سباق مع عصابات المافيا.
سأل «باسم»: ماذا تقصد؟
ردَّ «رشيد»: لعل هناك مَن يتبعنا! ومرة أخرى، ارتج اللنش بشدة، حتى تصوروا أنه من الممكن أن يتحطم.