الفصل الأول
كان الرجلان — وهما الساكنان الوحيدان لغرفة استقبال البيت الريفيِّ الرثة بعضَ الشيء — يتناولان شرابَهما في تريُّث، ليس كمحبَّين للنبيذ، وإنما ككائنَين بشريَّين وصديقين حميمَين يَهنَآن تمامًا بصحبة أحدهما الآخر وما يُحيط بهما. في الخارج، كانت الرياح تعوي فوق الأهوار ودفقاتٌ متقطعة من الأمطار تنهمر على زجاج النوافذ. كان الوجود بداخل الكوخ مريحًا أكثرَ على أي حال؛ إذ كان في ذلك ابتعادٌ عن مختلِف الظروف الجوية المحيطة. كان المفرش الذي يُغطي الطاولة الخشبية من الكتان الفاخر، وكان لدورق النبيذ والكئوس شكلٌ جميل؛ وكان هناك ثمار الجوز، وفي ركن بعيد سيجارٌ من علامة تِجارية شهيرة، وسجائرُ من أحد متاجر بيع التبغ الذائعة الصيت. لكن فيما وراء تلك الواحة الصغيرة، كانت كل الشواهد تُشير إلى مسكن مستأجَر. فقد عُولِجت خِرَقٌ في الستائر المغلقة بإحكامٍ بعضها إلى بعض باستخدام دبوس مشبك. وكانت مساند الكراسيِّ الوثيرة المبطَّنة بشعر الجياد مكسوَّةً بأغطيةٍ قبيحة المنظر، وكانت الصور الفوتوغرافية التي تزيِّن الجدران غريبةً لكنها كانت نموذجًا نمطيًّا لمُثُل القرية، وكان السجاد رثًّا باليًا، والباب مغلقًا بمِزلاج بدلًا من المقبض المعتاد. وفي أحد جوانب الغرفة كانت مَضارب جولف متناثرة هنا وهناك، وحقيبة رياضية ضخمة لحمل الطرائد المصطادة، وعِدَّة صناديق تحتوي على طَلق خرطوش. وكانت بندقيَّتا صيدٍ توجدان موضوعتين على الجزء المتبقِّي من الأريكة. ولم يكن الوضع في حاجةٍ ماسة إلى زيِّ المُضيف، مايلز فورلي، لتتضح حقيقةُ أن هذا المكان كان المسكنَ المؤقت لزائر لأهوار بلاكيني جاء بحثًا عن الرياضة والترفيه.
كان فورلي — وهو رجلٌ عريض الكتفَين متورد الوجه ذو بشَرة ضاربةٍ إلى السُّمرة وشعرٍ يتخلَّله الشيب — لا يزال يرتدي حذاءَ البحر الطويل والقميصَ الصوفي الذي يرتديه صائدو البط. أما رفيقه، على الجانب الآخَر — وهو رجل طويل القامة نحيفُ البِنية، له جبهة عالية وعينان صافيتان، وفكٌّ قوي وفمٌ مستقيم ودقيق — فكان يرتدي ثياب العَشاء العادية المدَنية العصرية. ولعل الاختلاف بين الرجلَين كان أساسًا لتخمين طبيعة العلاقة بينهما. فقد كان فورلي — وهو من عَامَّة الشعب — يبدو عليه الانتماءُ لسلالة معينة من العامة، بل التشبث بها، وكان ذلك الانتماء يَظهر أكثرَ ما يظهر في كلامه أو في إشاراته. كان الرجل عضوًا في البرلمان عن إحدى الدوائر الانتخابية التابعة لحزب العمال، وكان تجسيدًا قيمًا وحصيفًا لمبادئ العامل وأفكارِه. وما كان ينقصه فيما يتعلق بالسِّمات العليا للخَطابة يُعوَّض عنه بالمنطق السليم القوي. ولم تلقَ الاشتراكية الخادعة التي ظهرت في ذلك الوقت، بمذاهبها ونظرياتها العديدة، إلا تأييدًا ضئيلًا على يدَيه. كان يُمثِّل العنصر الرصين في سياسات حزب العمال الإنجليزي، وكان معروفًا أنه رفضَ مقعدًا في مجلس الوزراء من أجل الحفاظ على استقلالٍ مطلَق. كما كان يتمتع بموهبةٍ استثنائية في الصمت والتكتم، وهو ما يُمثِّل نقطةَ قوة بالنسبة إلى رجلٍ من طبقته، وفيه ألقى رئيسُ الوزراء قصيدتَه الشهيرة التي يقول فيها إن فورلي هو رجل حزب العمال الذي كان يخشاه كثيرًا، لكنه لا يرهبه أبدًا.
لم يكن جوليان أوردين، الذي كان يتمتع بمظهر خارجي واعد في العديد من الجوانب أكثر من صديقه، يستطيع أن يتباهى باختلافاتٍ ومميزات مماثلة. فقد كان الابنَ الأصغر لرجل أحمقَ يقطن في الجوار، وكان قد بدأ حياته محاميًا، وحقَّق في هذه المهنة نجاحًا معقولًا، وقضى مدةَ تجنيد قصيرةً لكنها لم تكن مُخزية، خرجَ منها بعَرَج خفيف دائم، وشغَل المدة الفاصلة بينهما في العمل في وظيفة ليس بها أيُّ أضرار كرقيب. بدَت صداقته بفورلي في ظاهرها أغربَ من أن تكون أيَّ شيء آخر سوى علاقةٍ عارضة. وربما لم يفهم أيُّ شخص آخر هذه العلاقة عدا الرجلَين نفسَيهما، وكان كِلاهما يتمتع بموهبة الصمت.
سأل جوليان أوردين وهو يعبثُ بساق كأسِ نبيذه بأصابعه: «ماذا تعني كل تلك الأحاديث الدائرة حول السلام؟»
غمغم فورلي قائلًا: «مَن يدري؟» وأردفَ: «لكن لا بد أن تصطنع ضجَّتها اليومية.»
«من وجهة نظري أنها مُدبَّرة.»
«شيء ينبغي أن نحذر منه، أليس كذلك؟»
تململَ جوليان أوردين في مكانه في شيءٍ من عدم الراحة. وراحت أصابعه الطويلة المتوترةُ تعبث بالعصا التي كانت تقفُ دائمًا بالقرب من كرسيِّه.
ثم سأل بنبرة هادئة: «أنت لا تعتقد في ذلك، أليس كذلك؟»
نظر فورلي أمامه مباشرة. بدَت عيناه معلَّقتَين ببريق المصباح المتلألئ على دورق النبيذ الزجاجي.
وقال: «أنت تعرف رأيي في الحرب يا جوليان. إنها إرثٌ قذر من أجيال الحكومات المستبدَّة، لا يُطاق ولا يُحتمَل. لا توجد ديمقراطية في العالم أرادَت الحربَ أبدًا. كلُّ ديمقراطيات العالم ترغب في السلام وتجنح إليه.»
قاطعَه جوليان قائلًا: «لحظة واحدة. ينبغي أن تتذكَّر أن الديمقراطية نادرًا ما تمتلك الروح الإمبريالية، ولا يمكن لإمبراطورية عظيمة أن تستمرَّ من دونها.»
فجاء ردُّه قويًّا إذ قال: «هذا محضُ هُراء! بإمكان إمبراطوريةٍ عظيمة تمتدُّ من المشرق إلى المغرب أن تظل مترابطةً على نحوٍ أفضلَ بكثير من خلال الحكم الديمقراطي. فاستخدام القوة هو الدافع الخفيُّ الدائم للحكم الفردي والمستبد.»
فقال جوليان: «هذه تعميمات. أريد أن أعرف رأيك بشأن إحراز سلام في الوقت الراهن.»
«ليس لديَّ رأيٌ بخصوص ذلك، شكرًا لك. أنت صحفيٌّ هاوٍ باعترافك، ولن أنساقَ وراءك إلى هذا النقاش.»
«هناك شيءٌ به إذن؟»
أقرَّ فورلي بلا مبالاةٍ قائلًا: «ربما، أنت ضيفٌ عزيز يا جوليان. نبيذٌ معتَّق وجَوزٌ مزروع محليًّا! تلك إضافةٌ صغيرة لطيفة إلى طعامي البسيط! أيجب أن تعود في الغد؟»
أومأ جوليان برأسه إيجابًا.
«لدينا مجموعةٌ أخرى من الزوَّار قادمة، وستينسون من بينهم بالمناسبة.»
فأومأ فورلي. ثم ضاقت عيناه وظهرَت خطوطٌ صغيرة عند زاويتَيهما.
وأقرَّ قائلًا: «لا يُمكنني أن أتخيَّل. لا أعرف ماذا يأتي بستينسون إلى مالتينبي. أعتقد أنه بالكاد يستطيع أن يقضيَ عشر دقائق مع حاكمِ بلدتك من دون شجار!»
ردَّ جوليان بنبرةٍ جافة: «إنهما لا يقضيان عشرَ دقائق وحدهما أبدًا. فأنا أحرصُ على ذلك. وكما تعلم، تتمتع أمي بموهبة الجمع بين الأشخاص المثيرين للاهتمام. فالأسقف قادم من بين آخَرين. بالمناسبة يا فورلي، كنت أريد أن أسألك، هل تعرف أيَّ شيء عن امرأةٍ شابة — أعتقد أنها نصف روسية — تقول إن اسمها الآنسة كاثرين آبواي؟»
ردَّ فورلي في الحال وفي اقتضاب: «أجل، أعرفُها.»
استطردَ جوليان: «يبدو أنها عاشت في روسيا بضعَ سنوات. كانت أمها روسية، وكانت كاتِبة كبيرة في مجال الموضوعات الاجتماعية.»
أومأ فورلي.
ثم قال: «الآنسة آبواي على الشاكلة نفسِها أيضًا. لقد سمعتُ محاضرتها في إيست إند. لقد حصلت على تأييد المرأة لقضية العمَّال كما حصلت على تأييد كلِّ مَن قابلتهم.»
قال جوليان متأملًا: «إنها شابة شديدة الجاذبية إلى حدٍّ لافت.»
«أجل، إنها بَهية الطلَّة. قيل لي إنها تحمل لقبَ كونتيسة، لكنها تُبقي لقبَها هذا سرًّا؛ خشيةَ أن تفقد تأثيرها في الطبقات العاملة. لقد فعلَت خيرًا كثيرًا على طريق بوبلر. لم أكن أعتقد أنها من النوع المفضَّل لديك يا جوليان.»
«لماذا؟»
«إنها جادةٌ إلى أقصى الحدود.»
ابتسم جوليان ابتسامةً غريبة تأمُّلية.
ثم قال: «أنا أيضًا يُمكنني أن أكون جادًّا في بعض الأحيان.»
دسَّ صديقُه يدَه في جيب بنطاله واتَّكأ في كرسيِّه، وأخذ يُحدِّق بثبات في ضيفه.
ثم أقرَّ قائلًا: «أعتقد أن بإمكانك ذلك يا جوليان. في بعض الأحيان لا أكون واثقًا من قدرتي على فَهمك. وهذا أسوأ ما يتمتع به رجلٌ يحظى بموهبة الصمت.»
فقال الرجل الأصغر سنًّا مذكِّرًا مضيفه: «أنت أيضًا لست بالمتحدث الرائع.»
قال فورلي: «حين تجعلُني أتحدث في موضوعي المفضَّل، أجد صعوبة في عدم الاسترسال في الكلام، وأنت مستمعٌ رائع. هل لديك أي آراء شخصية؟ إنني لا أسمع منك ذلك أبدًا.»
سحبَ جوليان علبة السجائر نحوه.
واعترفَ قائلًا: «أوه، أجل، لديَّ آراء شخصية. ربما ستعرف ماهيَّتها يومًا ما.»
سخرَ منه صديقُه بمرح وبشاشة قائلًا: «إنك لرجلٌ غامض!»
أشعلَ جوليان سيجارتَه وراحَ يَرْقب الدخان وهو يتصاعد متمعِّجًا.
ثم قال: «لنتحدَّثْ عن البط.»
جلسَ الرجلان في صمتٍ بضعَ دقائق. بدَت العاصفة في الخارج وقد صارت أعنفَ وأشد. فنهض فورلي، وألقى بقطعة من الحطب في نار المدفأة ثم عادَ إلى مكانه.
ثم قال: «كان الإوزُّ يُحلِّق عاليًا.»
قال جوليان معترفًا: «كان أعلى من قدرتي على اصطياده.»
«لقد اصطدتَ أكثرَ مني بواحدة.»
«مجرد حظ. لقد هبطَ الطائر الخارجي نحوي.»
ثم ملأَ فورلي كأسَ صديقه وبعدها ملأ كأسه.
وسأل الأخير في فضولٍ متكاسل: «لماذا ترتدي عُدَّة الصيد حتى الآن؟»
نظرَ فورلي نظرةً خاطفة إلى ملابسه غيرِ اللائقة، وبدا عليه القلقُ والاضطراب لوهلة.
ثم قال: «ينبغي أن أخرجَ الآن.»
رفعَ جوليان حاجبَيه في دهشة.
وكرَّر جملة الأخير: «ينبغي أن تخرج؟» ثم استطرد: «في ليلة كهذه؟ يا صديقي العزيز …»
ثم توقَّف عن الكلام فجأة. كان رجلًا سريعَ الإدراك، فقد أدرك أن مضيفه يشعر بالإحراج. لكن تخلَّل الحديثَ سكتةٌ تنمُّ عن حرَج. فنهض فورلي على قدمَيه وقطَّب جبينه. ثم أحضر برطمانًا من التبغ من فوق أحد الأرفف وراح يملأ كيسَه على مهلٍ:
وقال: «آسف إن كنتُ أبدو غامضًا أيها الرفيق القديم. لديَّ شيء صغير عليَّ القيام به. ليس بأمرٍ جلل، لكن … حسنٌ، إنه شيء من النوع الذي لا نتحدث عنه كثيرًا.»
«حسنٌ، أنت مرحَّب بك لتحصل على كل متعةٍ يمكنك الحصولُ عليها من ذلك، في ليلة كهذه.»
وضع فورلي غليونه، بعد أن فرغ من مَلْئه، ثم شرب كأسَ نبيذه.
ثم قال بجدِّية وتجهُّم: «لم يتبقَّ الكثير من المتعة والتسلية في العالم الآن، أليس كذلك؟»
«لم يتبقَّ سوى القليلِ بالفعل. لقد مرَّت ثلاث سنوات منذ آخرِ مرة أمسكتُ فيها ببندقية صيد قبل الليلة.»
«هل استقلت حقًّا من مهنة الرقابة؟»
«في الأسبوع الماضي. لقد مررت بعامٍ قاسٍ فيها.»
«هل مللت؟»
«ليس كذلك بالتحديد. لكن عملي كان متراكمًا.»
«كانت تأتيك ملخَّصات أخبار، أليس كذلك؟»
فشرحَ له جوليان في شيء من المراوغة: «أنا صحفيٌّ هاوٍ من نوعٍ ما أيضًا، كما ذكَّرتَني الآن.»
«مندهش من أنك ظللتَ في مهنة الرقابة هذه المدةَ الطويلة. أليست مهنةً مملة إلى حدٍّ رهيب؟»
«في بعض الأحيان. لكننا نُصادف بعض الأشياء المثيرة بين الحين والآخر. على سبيل المثال، اكتشفتُ قبل بضعة أيام شفرةً مبتكرة للغاية.»
فسألَ فورلي في فضول: «وهل أدَّت بك إلى أي شيء؟»
«ليس في الوقت الراهن. لقد اكتشفتُها وأنا أفحصُ برقيةً مُرسَلة من النرويج. كانت موجَّهةً إلى شركةٍ حسَنة السمعة مملوكةٍ لتجَّار خشب إنجليز لديهم مكتبٌ في المدينة. وكانت تلك هي الكلمات الأصلية: «ألواحُ التنوب رفيعةٌ جدًّا بمقدار النصف.» لا يبدو بها ما يضر، أليس كذلك؟»
«بكل تأكيد. ما المعنى الخفيُّ إذن؟»
اعترفَ جوليان قائلًا: «ما زلتُ في حيرةٍ من أمري في هذا، لكن حين تُعالجها بالشيفرة تكون النتيجة «ثمانية وثلاثون برجًا على الحظيرة».»
حدَّق به فورلي لحظة، ثم أشعل غليونه.
ثم قال: «حسنٌ، من بين هاتين الجملتَين، أختار الجملة الأولى لوضوحها.»
ابتسم جوليان وقال مؤيدًا إياه: «وهذا ما سيفعله معظمُ الناس، لكنني واثقٌ من أن بها شيئًا ذا أهمية؛ معنًى ما يحتاج، بالطبع، إلى سياقٍ ليُفهَم فيه.»
«هل أجريتَ مقابلةً مع تجار الخشب في تلك الشركة؟»
«ليس بصورة شخصية. فهذا ليس من اختصاص إدارتي. لكن اسم الرجل الذي يُدير مكتبهم في لندن هو فين … نيكولاس فين.»
سحبَ فورلي الغليون من فمه. وقطَّبَ حاجبَيه قليلًا.
«نيكولاس فين، عضو البرلمان عن حزب العمال؟»
«هو بعينه. تعرفه بالطبع، أليس كذلك؟»
أجابه فورلي وهو يُفكِّر: «أجل، أعرفه. إنه سكرتير اتحاد تجارة الأخشاب ونجحَ في الحصول على حصةٍ من شركة «هال» العامَ الماضي.»
واصل جوليان كلامه قائلًا: «أفهم أنه لا يوجد شيءٌ من أي نوع ضده شخصيًّا، رغم أنه بالطبع لا يستحق حتى الاحتقار كسياسي. لقد بدأ الرجل حياته مدرسًا ريفيًّا، وظلَّ يعمل ويرتقي بنفسه بمنتهى الشرف والنزاهة. وقد زعمَ أنه يفهم البرقية كما بدَت في صيغتها الأصلية. ولكن رغم ذلك، يبدو أمرًا شديدَ الغرابة أن تلك الرسالة نفسَها قد أعطت ذلك المعنى الذي أخبرتُك به، عند معالجتها بالشيفرة التي اكتشفتُها قبل بضعة أيام.»
قال فورلي: «بالطبع يمكن للشيفرات أن تقودك إلى …»
ثم توقَّف فجأة. فرمَق جوليان صديقه الذي كان يميل إلى الأمام نحو علبة السجائر، بنظرة خاطفة. كانت ثمة تقطيبةٌ تعلو جبين فورلي. ثم سحبَ الغليون من بين أسنانه.
وتساءل: «ما الذي قلتَ إنك فهمتَه منها؟»
«ثمانية وثلاثون برجًا على الحظيرة.»
«ثمانية وثلاثون! هذا غريب!»
«وما وجه الغرابة؟»
سادَ الصمت لحظةً. ثم رمقَ فورلي الساعة الصغيرة على رف المدفأة. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بخمس وعشرين دقيقة.
وقال: «لا أعلم يا جوليان إن كنت قد سمعت من قبل بأن أعداءنا على الجانب الآخر من بحر الشمال من المفترض أنهم قسَّموا الساحل الشرقي لبريطانيا العظمى بأكمله إلى مقاطعاتٍ صغيرة مستطيلة الشكل، تتألف كلُّ مقاطعة منها من بضعة أميال مربعة. وقد حصل أحد أصدقائنا في الخدمة السرِّية على خريطة لها منذ مدة.»
اعترفَ جوليان قائلًا: «لا، لم أسمع بهذا قط. وماذا بعد؟»
استطرد فورلي: «إنها مجرد مصادفة بالطبع، لكن تصادف أن المقاطعة رقم ثمانية وثلاثون هي تلك القطعة من ساحل البحر التي يقع هذا الكوخ في منتصفها تقريبًا، وتبلغ مساحتها ميلَين. إنها تمتدُّ إلى كلاي من جهة، وإلى سولتهاوس من الجهة الأخرى، وتمتدُّ نحو الداخل حتى حديقة داتشمان العامة. لا أقصد وجود أي علاقة فعلية بين البرقية التي لديك وهذه الحقيقة، لكن ذِكرك لها في هذه اللحظة بالذات … حسنًا، مجرد مصادفة كما قلتُ.»
«لماذا؟»
كان فورلي قد نهضَ على قدمَيه. ثم فتحَ الباب وراحَ يُرهِف السمع في الرواق. وحين عاد كان يحمل بضعة معاطف من المشمَّع.
وقال: «أعرفُ يا جوليان أنك تحمل قدرًا من السخرية بشأن أمور الجاسوسية وما إلى ذلك. بالطبع كان هناك الكثيرُ من المبالغة، والكثير من الرجال يُثرثرون بشأن مهام الخدمة السرية على طول الساحل من هنا وحتى اسكتلندا، وهم لا يفقهون شيئًا عمَّا يعنيه هذا الأمر. لكن بعض تلك المهام أُنجزت بالفعل، وبأسلوبي المتواضع أقول إنهم قد أوكلوا إليَّ مهمةً أو اثنتَين هنا. لن أقول إن جهودنا قد أثمرَت شيئًا — فنحن أشبهُ بضباط الخدمة السرية الخصوصيين — لكننا بين الحينِ والآخَر نُصادف شيئًا مثيرًا للريبة.»
«إذن هذا هو سبب خروجك مرةً أخرى الليلة، أليس كذلك؟»
أومأ فورلي إيجابًا.
«هذه هي ليلتي الأخيرة. فسأغادر إلى المدينة يوم الإثنين ولن أتمكَّن من العودة مرةً أخرى هذا الموسم.»
«هل خُضت أيَّ مغامرات؟»
«ولا حتى من بعيد. لا أُمانع الاعتراف بأنني قد واجهت الكثيرَ من المواقف العصيبة وبعض المخاوف على تلك الأرض المستنقعية، لكنني لم أسمع أو أرَ أيَّ شيء بعدُ يستحق أن أُرسل تقريرًا عنه. لكن المصادفة أنني الليلة بصدد مهمة استطلاع خاصةً وسريعة.»
سأله جوليان في فضول: «ما معنى هذا؟»
جاءَه الردُّ المبهَم: «من المفترض أن يحدث شيء. فلدينا قائدٌ ذو خيال واسع.»
فألحَّ جوليان قائلًا: «لكن ما ذلك الشيء الذي يمكن أن يحدث؟ ما الذي ستخرج كي تمنعَ وقوعه على أي حال؟»
أعاد فورلي إشعال غليونه، ودسَّ قنينة خمرٍ في جيبه، والتقطَ عصًا سميكةً من أحد أركان الغرفة.
ثم أجابَ باقتضاب: «لا يُمكنني أن أخبرك. لكن ثمة تصورًا بالطبع بوجود اتصالات مع العدو تتم في مكانٍ ما على هذا الساحل.» ثم أضافَ: «آسف لتركك يا صديقي القديم. لا تسهر كثيرًا. أنا لا أوصد الباب أبدًا هنا. تذكَّر أن تعتنيَ بنار المدفأة في الطابق العلوي، والويسكي موضوعٌ على نضد المائدة هنا.»
طمأنَ جوليان مضيفه قائلًا: «سأكون على ما يُرام، أشكرك. أظن أنْ لا جدوى من أن أعرضَ عليك القدومَ معك، أليس كذلك؟»
جاء الرد مقتضبًا إذ قال: «غير مسموح بذلك.»
صاحَ جوليان بنبرة خشوعٍ وتديُّن؛ إذ هبَّت زوبعةٌ من المطر عبر الباب الموارب قائلًا: «شكرًا للرب!» وأضاف: «ليلةً سعيدة وحظًّا موفقًا أيها الرفيق القديم!»
غرقَ ردُّ فورلي وسط زئير الريح. وأوصدَّ جوليان الباب الذي كان يتسلَّل من تحته سيلٌ ضئيل من ماء المطر. ثم عادَ إلى حجرة الجلوس، وألقى بقِطعة من الحطب في النار، وسحبَ أحد الكراسي الوثيرة العتيقة بجوار النار.