الفصل العاشر
بعد بضعة أيام، التقى الأسقفُّ، في عصر أحد الأيام، برئيس الوزراء عند ناصية شارع هورس جاردز. كان الأخير يبدو بحالةٍ جيدة ووجهٍ ذي سُمرة، وكانت حالته أفضلَ بصورة واضحة بفعل إجازته القصيرة. على النقيض، كان الأسقفُّ شاحبًا وبدا منزعجًا. تصافحا وراحا يتبادلان السفاسفَ المعتادة للحظات.
سأل الأسقف في جدِّية قائلًا: «أخبرني يا سيد ستينسون، ما معنى كل ذلك الحديث الدائر في الصحف، عن السلام المزمَع عقدُه الشهرَ القادم؟ سمعتُ تلميحات عن وجود حراك في هذا الصدد.»
فكانت الإجابة الصارمة: «أنت مخطئ. لقد أرسلتُ سكرتيري الشخصي إلى بعض الجرائد هذا الصباح. كل ما في الأمر أن السلام صار حديثَ الساعة في الوقت الراهن، الذي يُغذَّى طوال الوقت من جانب الطرف الآخر.»
«إذن فالأمر ليس حقيقيًّا بحق؟»
«مطلقًا. صدقني أيها الأسقف، وما من شخص يشعر بالإجهاد والضغط أكثرَ مني، إن الوقت لم يَحِن بعد للسلام.»
فقال الأسقفُّ متنهدًا: «أنتم أيها الساسة!» وأردف: «ترى هل تنسَون في بعض الأوقات أنه حتى البيادق التي تحركونها بشرية؟»
أجابه السيد ستينسون في تجهُّم: «يمكنني أن أقول صراحةً إنني شخصيًّا لم أنسَ ذلك أبدًا بأي حال. ما من رجل في حكومتي لديه شعورٌ شخصي واحد يؤيد استمرار هذه الحرب الشنيعة أو يُحقق استفادةً واحدة من استمرارها. لكن على الجانب الآخر، ما من شخص لا يُدرك أن النهاية لم تَحِن بعد. لقد تعهدنا بكلمتنا، كلمة الأمة الإنجليزية، بسلام يستند فقط إلى احتمالات طارئة بعينها. والعدو غير مستعدٍّ بعد لتقبُّل تلك الاحتمالات. وليس ثَمة سببٌ مُلِّح يجبره على ذلك.»
فبادره الأسقفُّ في ارتياب: «لكن هل أنت واثقٌ من ذلك؟» وأردف قائلًا: «فحين تتحدث عن ألمانيا، فأنت تتحدث عن ويليام هوهنزولرن وعشيرته. أهذه هي ألمانيا؟ هل صوتهم هو صوت الشعب؟»
أجابه السيد ستينسون: «سيُسعدني أن أعتقد أنهم ليسوا كذلك، لكن إن كانت هذه هي الحال، فليُعطونا إشارةً على ذلك.»
فقال الأسقفُّ بنبرة أمل في صوته: «ستأتي تلك الإشارة ولن يطولَ انتظارها.»
كان الرجلان قد شارفا على الفراق. فالتفت السيد ستينسون وسار خطوةً أو اثنتين مع رفيقه.
وسأله قائلًا: «بالمناسبة أيها الأسقف، هل سمعت أي شائعات بخصوص الاختفاء المفاجئ لصديقنا الشاب جوليان أوردين؟»
وقف الأسقف صامتًا لحظة. ومر بجوار الرجلين أحدُ الأشخاص ورمقهما بنظرة خاطفة توحي بالشفقة. كان يُفكِّر أن من بين هذين الرجلين ذلك الرجلَ المنوط بالمسئولية الروحانية عن شعبٍ يُعاني، والذي يُظهر علاماتٍ أكثرَ على الشعور بالإجهاد والتوتر.
فأقر الأسقف: «لقد سمعتُ شائعات بالفعل. أخبرني ماذا تعرف؟»
أجابه السيد ستينسون: «ليس إلا القليل. لقد غادر منزل مالتينبي مع الآنسة آبواي في اليوم التالي لخِطبتهما، ووَفقًا للروايات التي سمعتها، فقد رتَّب لأن يتناولا العشاء معًا في تلك الليلة. وأتت لاصطحابه لكنها وجدَت أنه اختفى. ووفقًا لحديث خادمه، فقد خرج مرتديًا ثيابَه الصباحية بعد الساعة السادسة بقليل دون أن يترك أيَّ رسائل، ولم يعد منذ ذلك الحين. لكن فوق كل هذا، فقد تبع ذلك، وأظنك قد سمعت بذلك، تحرياتٌ ملحَّة من جانب الشرطة بشأن ما كان يقوم به أوردين في الليلة التي قضاها مع صديقه مايلز فورلي. ليس ثمة شكٌّ في أن غواصةً ألمانية تواجدت بالقرب من ميناء بلاكيني في تلك الليلة، وأن اتصالًا من نوعٍ ما قد جرى معها.»
قال الأسقفُّ بأناة: «يبدو من العبَث أن نربط جوليان بأي اعتقاد بوجود تواصلٍ ينطوي على خيانةٍ مع ألمانيا. إنه نموذج للشابِّ الإنجليزي الذي ينتمي لطبقته لم أقابل مثلَه يومًا.»
أقرَّ السيد ستينسون قائلًا: «أتفق معك إلى حدٍّ معين، لكنَّ ثمة شائعاتٍ أخرى تتعلق بجوليان أوردين لا يُمكنني أن أُشير إليها، وأقل ما يُمكنني أن أقول عنها إنها مثيرة للدهشة.»
توقَّف الرجلان مرة أخرى.
ووضع ستينسون يدَه على كتف رفيقه. ثم تابع يقول: «أعرف ما خطبُك يا صديقي. إنك تتمتع بقلب كبير جدًّا. وما زالت صرخات الأرملة والأطفال تتردد في أذنيك. تذكَّر بعضًا من أولى عظاتك التي ألقيتها في بداية الحرب. تذكَّر حديثك الرائع ذات صباح في كاتدرائية القديس بول حول الروحانيات التي يمكننا أن نكتسبها من خلال المعاناة والتضحية. «اليد التي تُعاقَب تُطهَّر أيضًا.» أليس ذلك هو ما قلته؟ على الأرجح أنك لم تكن تعلم أنني كنت أحدَ مستمعيك، حتى … حتى أنا نفسي في تلك الأيام لم أكن أنظر إلى الحرب مثلما أنظر إليها الآن. أتذكر تسلُّلي إلى الكاتدرائية من أحد أبوابها الجانبية وجلوسي على كرسيٍّ قاسٍ صُلب من دون أن يعرفني أحد. كان محفلًا رائعًا، وكنت أنا جالسًا بعيدًا في الخلف، لكنني سمعتك. أتذكَّر أيضًا أصوات خشخشة الحضور، وأنينهم الخفيض، وأنفاسهم التي تنمُّ عن الانفعال والتأثر حين نهضوا. تشجَّع أيها الأسقف. سأُذكِّرك بكلماتك مرةً أخرى: «هذه الأيام هي أيام التطهُّر».»
افترق الرجلان. وراح الأسقفُّ يسير نحو شارع ستراند منهمكًا في التفكير عاقدًا يدَيه خلف ظهره، وصدى تلك الكلمات المقتبسة عنه لا يزال يتردَّد في أذنيه. وحينما وصل إلى المعبر المزدحم، رفع رأسه ونظر حوله.
وتمتمَ في نفسه قائلًا: «ربما كانت عيناي مغلقتَين. ربما توجد أشياء عليَّ أن أراها.»
استوقف الأسقف سيارة أجرة وتمتم للسائق بوجهته، وشرعت السيارة تسير ببطء عبر شارع ستراند، وكان الأسقف ينظر في حماسة ولهفة إلى أحد جانبَي الطريق ثم يُحول نظره إلى الجانب الآخر. كانت الساعة تقترب من ساعة الغداء وكانت الشوارع مزدحمة. هنا بدا أن المكان ساحة لالتقاء القوات الاستعمارية؛ كانوا مجموعة كبيرة من الرجال طوال القامة أقوياء البِنية، بوجوه برونزية اللون ومشية خرقاء. كانوا يشقون طريقهم بدفع الآخرين بمرفقهم، ويسيرون جنبًا إلى جنب في أغرب شكل لمجموعة رجال في العالم. توقفوا وراحوا يتحدثون في جماعات صغيرة، دخلوا المنازل العامةَ وخرجوا منها، ووقفوا خارج المطاعم. كانوا يسيرون هنا وهناك وهم يتأبَّطون أذرع النساء. وكانت سيارات الأجرة والسيارات الخاصة على حدٍّ سواء تنعطف متجهة إلى فندق سافوي. وكانت الفتيات اليافعات العاملات بالمسارح — اللائي أحيانًا ما يَكُنَّ بمفردهن، وفي أغلب الأحيان يكون هناك من يصحبهنَّ — في كل مكان. كانت الحياة في لندن تتدفق في المسارات نفسها إلى حد كبير. وكان هناك القليل من العلامات، إن وجدت، على ذلك الشيء الذي كان يبحث عنه. اتجه سائق السيارة الأجرة غربًا، وعبَر سيرك بيكاديللي واستمرَّ في سيره عبر شارع بيكاديللي، بينما ما زال الراكب الوحيد في السيارة يُحدق في وجوه الناس بنفس الاهتمام الشديد. كان كل شيء يتكرَّر مرةً أخرى على الشاكلةِ نفسِها؛ حشود الأشخاص المبتسمين يدخلون المطاعمَ ويُغادرونها، والمتنزهون المتأنقون، وسيل النساء والفتيات اللائي يرتدينَ ملابس مبهِجة. وكان شارع بوند أكثرَ ازدحامًا بالمتسوقين والمتسكعين. كانت نوافذ المتاجر مزدحمةً كعادتها دائمًا، وكانت ثياب النساء رائعة. كان ثَمة الكثير من الناس رغم أنهم كانوا يرتدون الملابسَ العسكرية ذات اللون الكاكي. وكان الطريق العام الضيق مزدحمًا للغاية، حتى إن السيارة الأجرة كانت تتقدم بسرعة حلزون زاحف، وكان الأسقفُّ بين الحين والآخر يسمع مقتطفاتٍ من الأحاديث الدائرة بين الناس. فكانت فتاتان جميلتان تتحدثان إلى شابَّين يرتديان زيًّا رسميًّا موحَّدًا.
«يا له من قصفٍ ذاك الذي وقع ليلة أمس! لم أذهب إلى المنزل إلا في الثالثة!»
«لم يعُد ديك إلى المنزل. ما زال مفقودًا!»
«لقد أنهكَنا التسوقُ أنا وإيفي. كل شيء ارتفع ثمنه بمقدار الضعف، لكن لا يمكن للمرء أن يستغنيَ عن أي شيء.»
«لا يمكنني الاستغناءُ عن أي شيء في هذه الأيام. فلا أحد يعرف أبدًا كم سيدوم.»
تابعَت سيارة الأجرة مسيرها وكانت عينا الأسقفِّ شبه مغلقتين لبرهة. غير أن الأصوات ظلَّت تتعقبه. كان هناك امرأتان تقودان كلبَين مدلَّلَين صغيرين للغاية لهما شعر مموج وتتحدثان عند ناصية الشارع.
كانت إحداهما تقول: «ماذا عن السكر يا عزيزتي؟ لقد حصلتُ على نحو مائة كيلوجرام، ويمكنني دائمًا الحصول على ما أريد الآن. أصحاب المتاجر يعلمون أن من الضروري أن تُصبحي زبونة لديهم بعد الحرب. الناس فقط لا يستطيعون شراءَ الكثير في المرة الواحدة، وهذا ما يزعجهم حقًّا.»
«بالطبع، إنه لأمرٌ محزن للغاية شأن الحرب هذا وما إلى ذلك، لكن على المرء أن يُفكِّر في نفسه. أخبرني هاري ليلةَ أمس أنه بعد دفع كل ضرائب الدخل التي لم يستطع الإفلاتَ من دفعها والأرباح الإضافية؛ لا يزال …»
ثم تحوَّلَت الأصوات إلى همس. وأخرج الأسقف رأسه من النافذة.
وقال موجِّهًا السائقَ: «اذهب بي إلى شارع توثيل في ويستمنستر، بأسرعِ ما يُمكنك من فضلك.»
انعطف السائق نحو شارعٍ جانبي وانطلق بالسيارة. كان الأسقف لا يزال يُراقب الناس، لكن أمارات الأمل على وجهه في تلك اللحظة كانت قد تلاشت. لقد كان يبحث عن شيء لم يكن هناك أيُّ دليل على وجوده.
صرف الأسقفُّ سيارة الأجرة أمام مجموعة من المباني المنتهية حديثًا في حي مجاور لويستمنستر. أوصله عامل المصعد إلى الطابق السابع، وأرشده بوابٌ إلى حجرة انتظار كانت مزدحمة بالفعل. لكن كان هناك شابٌّ لاحظ دخول الأسقف، فأخذه وعبر به غرفتين مزدحمتين أُخريَين وطرق بوقار بابَ أحد شقة في الطرف الأقصى من الجناح. فتحَ البابَ، بعد تأخير قصير، شابٌّ ذو مظهر بغيض، وراح ذلك الشاب يُحدِّق بارتياب في الضيف البارز من خلف نظارة سميكة.
قال مرشدُ الأسقف: «يرغب الأسقف في مقابلة السيد فين.»
جاء صوتٌ من منتصف الغرفة آمرًا: «أدخِلْه في الحال. يمكنك الذهاب لتناول غدائك يا جونسون.»
وجد الأسقف نفسه وحيدًا مع الرجل الذي جاء لزيارته، وكان متوسط الطول نحيلَ البِنْية، ولا يرتدي ملابسَ حسنة، وله شارب متدلٍّ وعينان براقتان وجبهة لا بأس بها، لكن وجهه كان يشير إلى أنه حادُّ الطباع. وقف الرجل بينما كان يُسلِّم على الأسقف وعرض عليه الجلوس على أحد الكراسي.
قال بنبرة رجل يُجاهد سعيًا وراء مساواة كان بعيدًا كل البعد عن الشعور بها: «هذه المرة الأولى التي تشرفنا بزيارتك فيها أيها الأسقف.»
اعترفَ الأسقفُّ قائلًا: «شعرت بدافع شديد للتحدث معك. أخبرني، ما أخبارك؟»
صرَّح نيكولاس فين بثقة: «كل شيء في تقدُّم. شهدَت الأحدَ عشر يومًا الأخيرة حراكًا اجتماعيًّا في البلاد، أُجري في سرية تامة، يُعادل في قضاياه الجوهرية كبرى ثورات العصور الحديثة. فللمرة الأولى في التاريخ أيها الأسقف، تسنح فرصةٌ لصوت الشعب الموحد لكي يُسمَع.»
قال الأسقف: «لقد أنجزت عملًا مذهلًا يا سيد فين. والآن حانت اللحظة التي ينبغي علينا فيها أن نتوقفَ ونُفكر. لا بد أن نكون على ثقةٍ تامة ومطلقة من أن ذلك الصوت، حين يُسمع لأول مرة، يُسمع في سياق قضية نبيلة.»
سأله فين بحدَّة: «وهل هناك قضية في العالم أنبلُ من قضية السلام؟»
أجابه الأسقف: «ليس إن لم يكن ذلك السلامُ عادلًا ومنطقيًّا، ليس إن لم يتمكَّن السلام من وضع نهاية لهذا الصراع المريع الدامي.»
صرَّح فين قائلًا بنبرة غرور: «سنحرص على ذلك.»
«أعتقد أن لديك الآن الشروطَ التي قدَّمتها لك زمرتك الشقيقة في ألمانيا؟»
داعب نيكولاس فين شاربه. وارتسمت على جبهته تقطيبةٌ عابسة.
وقال: «أتوقع الحصول عليها في أي لحظة، لكن ولكي أكون صريحًا معك، فإن تلك الشروط غير متاحة في الوقت الراهن.»
«لكنني ظننت أن …»
قاطعه الآخر قائلًا: «بالضبط. غير أن الوثيقة لم تكن حيث توقعنا أن نجدها.»
«لا شك أن ذلك يُعد تأزمًا خطيرًا للغاية في الأمور، أليس كذلك؟»
أقرَّ فين قائلًا: «سيَعْني ذلك تأخيرًا لبعض الوقت إذا لم ننجح في الحصول عليها. لكننا ننتوي أن نتحرَّى الصرامة في هذا الشأن.»
بدا الاضطراب على قسمات الأسقف.
وقال: «جوليان أوردين هو ابني بالمعمودية.»
قال فين بنبرة توجيهيَّة: «الضرورة لا تعترف بالصداقة أو القرابة. من الأفضل ألَّا تطرحَ أي أسئلة يا سيدي. فلا شأن لك بهذه التفاصيل.»
ردَّ الأسقف بجديةٍ وتجهم: «إنها من شأن ضميري. إننا نبذل جهدًا روحانيًّا حقيقيًّا من أجل السلام، من أجل انتزاع مسألة إنسانية عظيمة من أيدي الساسة الذين أثبتوا أنهم عاجزون عن إدارتها والتعامل معها. لذا ينبغي علينا أن ننظر في الوسائل التي نعتمدها بعناية خاصة.»
أومأ نيكولاس فين برأسه موافقًا. وأشعل سيجارة ذات رائحة نفَّاذة للغاية من علبة ورقية بجانبه.
ثم قال: «أنا وأنت أيها الأسقف من دُعاة السلام بالمعنى الأشمل للكلمة، لكن هذا لا يعني أننا قد لا نلجأ إلى استخدام القوة في بعض الأحيان من أجل تحقيق غايتنا. فلدينا قسمٌ خاص معنيٌّ بمفرده بالتعامل مع مثلِ هذه الأمور. وهذا القسم هو الذي اضطلع بمهامِّ استلام وتسليم جميع الرسائل بيننا وبين أصدقائنا عبر بحر الشمال. وعمليات هذا القسم سريةٌ تمامًا، حتى عن بقية المجلس. وسيتولى هذا القسم مهمة التعامل مع جوليان أوردين. من الأفضل لك ألَّا تتدخل أو أن تعرف حتى ما يحدث.»
فقال الأسقفُّ محتجًّا: «لا يمكنني أن أوافق على ذلك. إنَّ عملًا عنيفًا يتعارض مع تعاليم المسيحية من شأنه أن يُمثِّل خللًا في البنية الفوقية التي نسعى إلى بنائها برمتها.»
فاقترح فين قائلًا: «لنناقش موضوعًا آخر.»
فردَّ بحزم: «عذرًا. إنما أتيت هنا لمناقشة هذا الموضوع.»
أخفض نيكولاس فين نظرَه إلى الطاولة. كانت تعبيرات وجهه غيرَ سارة على الإطلاق.
وقال: «على الرغم من تقديرنا الشديد لموقفك معنا يا سيدي، فهذا لا يكفل لك التدخل في التفاصيل التنفيذية.»
قال الأسقف في إصرار: «ولكن لا بد أن تُعاملني بأسلوب عقلاني في هذا الأمر يا سيد فين، فضلًا. تذكَّر أنني لست معدمًا في ميزان القُوى بين أتباعك. هناك ثلاثة لقاءات جماهيرية سأخطب فيها هذا الأسبوع، وهناك عظةُ يوم الأحد في كاتدرائية ويستمنستر، التي تم الاتفاقُ على أن أُدلي فيها بأُولى رسائل التحذير. أعتقد أنني مصدر عون جدير بالاعتبار، وليس بينكم مَن يغامر بما أغامر به.»
سأله فين بعد بُرهة من التفكر والتريث: «ما الذي تطالبني به بالتحديد؟»
«أريد أن أعرف مكان جوليان أوردين وحاله.»
أجابه فين: «هذا الأمر يتولاه قسم الخدمة السرية لدينا، لكنني لا أرى أي سببٍ يمنعني من إطلاعك على كل المعلومات المناسبة. لقد بحث ذلك الشابُّ محلُّ حديثنا عن المتاعب، وقد وجدها إلى حدٍّ ما.»
قال الأسقف مذكِّرًا رفيقه: «أعرف أنه كاد يعرض نفسه للخطر، إن لم يكن قد تعرض لذلك كلية، في أثناء سعيه لحماية الآنسة آبواي.»
أقرَّ فين قائلًا: «ربما يكون الأمر كذلك، لكن هذا لا يغيِّر حقيقة أنه يرفضُ أن يُعيد لها الرسائل التي عهدت بها إليه.»
«أوَلا يزال سادرًا في عناده؟»
«إنه يُعاند تمامًا حتى هذه اللحظة.» ثم أضاف فين بابتسامة خبيثة بعض الشيء: «لعلك ترغب في أن تُحاول وترى ماذا يمكنك أن تفعل معه بنفسك؟»
أبدى الأسقف ترددًا.
وقال: «إن جوليان أوردين شابٌّ من نوع عنيد بصورة غريبة، لكن لو كنت أرى أن تحذيراتي ونصائحي ستُجدي أي نفع، لما أحجمتُ عن تجربتها، أيًّا ما قد يكلفني ذلك.»
قال فين: «من الأفضل أن تُجرِّب. إن لم ننجح في الوصول إلى شيء في الأربع والعشرين ساعةً القادمة، فسأُصدر لك أمرًا لكي تلتقيَ به.» وأسرَّ إليه قائلًا: «لا بأس من أن أعترف لك أننا بحاجة ماسة إلى ظهور تلك الوثيقة، فضلًا عن الخطر الذي يتهدَّدنا بإحباط خططنا إن وقعَت تلك الوثيقة في أيدي الحكومة.»
«أعتقد أن الآنسة آبواي قد قامت بالفعل بكل ما في وُسعها؟»
«لقد أعيَتْها محاولات إقناعه.»
«وهل أُخبِر بالحقيقة؟»
هزَّ فين رأسه.
«من واقع معرفتك بالشاب، هل تعتقد أن ذلك قد يُجدي أي نفع؟ حتى الآنسة آبواي مجبرةٌ على الاعتراف بأن من المستحيل إيجادَ أي شخص من المرجح أن يُبدي تعاطفًا مع أهدافنا ولو قليلًا. في الوقت نفسه، لو رتبنا لك لقاءً معه، يمكنك أن تستخدم أي حجج تخطر ببالك. وأَصدُقك القول، لقد أربكت كل حساباتنا جراءَ عدم العثور على الرسائل بحوزته. كان جوليان في طريقه إلى دوانينج ستريت حين تدخَّل عملاؤنا، ولم نشكَّ أبدًا في أنه يحملها معه. ما الوقت المناسب لك لزيارته؟»
أجابه الأسقفُّ: «أرسل لي في أي وقت. وفي تلك الأثناء، وقبل أن أغادر يا سيد فين، أريد أن أذكِّرك مرة أخرى بالهدف الرئيس لزيارتي لك.»
عبَس وجه فين قليلًا في تبرُّم وهو ينهض من مكانه ليرشد زائره إلى الخروج.
وقال: «لقد انتزعَت الآنسة آبواي وعدًا أحمقَ منا. وسلامة الشاب في الوقت الراهن ليست محلَّ شك.»
وبدافعٍ من العادة أكثرَ مما هو بدافع من الرغبة، سار الأسقفُّ عبر الحديقة العامة متجهًا إلى نادي أثينيوم. فتقدَّم السيد هاناواي ويلز نحوه في الردهة وبادره بالحديث.
قال مبتسمًا: «هذا العالم يعجُّ بالشائعات. لقد سمعتُ للتو أنَّ جوليان أوردين، من بين كل الرجال في العالم، قد أُطلِق عليه النار كونه جاسوسًا لألمانيا.»
ابتسم الأسقفُّ في وقار.
وقال بجدية: «يمكنك أن تُصدِّقني حين أقول لك إنَّ تلك الشائعة غير حقيقية.»