الفصل الحادي عشر
على الرغم من أن مظاهر التحضُّر قد طغت بقوةٍ على نيكولاس فين خلال السنوات القليلة المنصرمة، فإنه بالتأكيد لم يكن رجلًا يدل مظهره الخارجي على أيِّ تقدم سواءٌ في ثقافته أو ذوقه. فرغم أنه تخلَّى عن عادة التعامل مع متاجر بيع الملابس الجاهزة، فلم يكن يُجيد اختيار ملابسه الصباحية ولا يُجيد ارتداءَها أيضًا. وكانت ثيابه المسائية أكثرَ سوءًا إنْ جاز التعبير. فقد التقى نيكولاس فين بكاثرين في مساءِ ذلك اليوم في رَدهة ما كان يعتقد أنه مطعم شواء عصري، وكان يرتدي معطفًا ذا ذيلٍ كذيل العصفور، وقميصًا لا يُناسب مقاسه به فتحة واحدة لوضع زرٍّ للزينة، وربطة عنق سوداء، وياقة تطوِّق رقبته كالياقة الإكليركية التي يرتديها الكهَنة حول رقابهم، وحذاء سير طويلًا عاديًّا. كبَحَت كاثرين رجفةً طفيفة سرَت في جسدها وهي تُصافحه وتحاول أن تتذكَّر أن ذلك الرجل ليس فقط الرجل الذي اختاره عدة ملايين من الكادحين ليكون ممثلًا لهم، لكنه أيضًا السكرتير المعيَّن رسميًّا لأهم التجمعات البشرية في تاريخ العالم.
قالت كاثرين: «آمُل ألا أكون قد تأخرت. أنا لا أهتم حقًّا لفكرة تناول الطعام في الخارج هذه الأيام، لكن رسالتك كانت تحمل إصرارًا شديدًا على الحضور.»
صرَّح قائلًا: «لا بد أن يحظى المرءُ ببعض الاستجمام. فعبء التعامل مع الأمور طوال اليوم يُسبب توترًا رهيبًا. هَلا ندخل؟»
دخلا المطعم ووقفا ينظران بلا هدف حولهما، بعد أن فشل فين، بتلقائية شديدة، في إدراك ضرورة الحصول على طاولة لهما. غير أن كبير النُّدُل تعرَّف على كاثرين وأسرع لنجدتهما. تحدَّثَت كاثرين مع الرجل بضعَ دقائق بالفرنسية، فيما وقف رفيقها يستمع بإعجاب، وفي الأخير وبعد مناشدةٍ منه، طلبت كاثرين طعام العشاء بنفسها.
سألته كاثرين بمجرد أن انسحب النادل: «هلا تُطلعني على الأخبار من فضلك يا سيد فين؟»
فقال مُكرِّرًا الكلمةَ: «الأخبار؟» ثم أردف: «أوه، لِنُنحِّ الأمر جانبًا بعضَ الوقت! فالمرء يمل من الحديث عن العمل.»
رفعَت كاثرين حاجبيها في شيء من الإحباط. كانت ثيابها تنضَحُ ببساطةٍ لافتة، لكن الاختلاف الطبقي بينهما مثَّل مشكلة للكثير من المشاهدين الفضوليين.
سألته: «لِمَ علينا أن نتحدث عن توافه الأمور، بينما كلانا لديه اهتمام كبير بأروع موضوع في العالم؟»
تساءل في إعجاب: «وما أروع موضوع في العالم؟»
أجابته بحزم: «قضيتُنا بالطبع، قضية جميع الشعوب؛ السلام.»
فقال متذمِّرًا: «يكدح المرءُ من أجل ذلك طوال اليوم. وحين يأتي وقت الراحة، أمَا يمكن للمرء أن يُزيح عنه عبءَ ذلك لبعض الوقت؟»
قالت في لا مبالاة: «أهذا ما تراه حقًّا؟ عن نفسي، ليس هناك سوى شيءٍ واحد يَشغل ذهني هذه الأيام. لا يوجد أي شيء آخر قطُّ في حياتي. وأنت، في وجود الآلاف والملايين من إخوتك في الإنسانية، الذي يكدحون ويترقَّبون وينتظرون إشارةً منك … أوه، لا يمكنني أن أتخيَّل كيف يُمكن لذهنك أن ينشغل عنهم ولو لحظةً واحدة، كيف لك حتى أن تتذكر وجودك! أريد أن أكون موثوقًا فيَّ مثلك يا سيد فين.»
فقال في نبرةِ رضًا عن النفس: «إن أعمالي، كما أتمنى، كانت مبررًا لتلك الثقة.»
وافقَته كاثرين قائلة: «بالطبع، ولكن الجزء الأكبر من عملك سيأتي. خبِّرْني عن السيد أوردين؟»
«لم يطرأ أيُّ تغيير على موقفه. ولا أتصوَّر حدوث أي تغيير حتى اللحظة الأخيرة. إنه رجل إنجليزي عنيد ومغرور بصورة لا تُطاق، غارقٌ في التحيزات الطبقية حتى أنامله.»
قالت في تأمل: «لكنه رجل رغم كل ذلك. سمعتُ أمسِ فقط أنه حقَّق تميزًا كبيرًا حتى في أثناء مدةِ تجنيده القصيرة.»
علَّق فين بلا أيِّ حماس: «لا شك أنه يتمتع بشجاعة الحيوانات. بالمناسبة، لقد جاءَ الأسقفُّ لزيارتي صباح اليوم.»
فسألته: «حقًّا؟» وأضافت: «ماذا كان يريد؟»
فجاء ردُّه لا مباليًا بإتقان: «كانت مجرد زيارة شخصية. إنه يحبُّ زيارتي للتحدث معي بين الحين والآخر. وتحدَّث عن أوردين أيضًا. أقنعتُه أننا إن لم نُحقق مع أوردين نجاحًا في غضون الأربع والعشرين ساعة القادمة، فستكون مهمته أن يلتقيَ به ليرى ما يمكنه القيام به.»
فقالت: «أوه، لكن هذا سيئ للغاية!» وأردفت: «أنت تعرف شعور ذلك المسكين إزاء موقفه. سيكره ببساطة الاضطرارَ إلى إخبار جوليان — أقصد السيد أوردين — بأنه على صلة ﺑ…»
«بماذا يا آنسة آبواي؟»
«بأي شيء له طبيعة المؤامرة. السيد أوردين لن يفهمَ بالطبع. كيف له أن يفهم؟ أعتقد أنه كان من القسوة إقحامُ الأسقف في الأمر من الأساس.»
قال فين: «لا شيء من شأنه أن يُساعد القضية يكون قاسيًا. ماذا ستحتسين يا آنسة آبواي؟ ستحصلين على بعض الشمبانيا، أليس كذلك؟»
صاحت به ولكنها كانت مبتسمةً: «يا لها من فكرة مريعة!» وأردفت: «تخيلوا قائدًا عُماليًّا كبيرًا يقترح شيئًا كهذا! لا، سآخُذ بعض النبيذ الفرنسي الخفيف، شكرًا لك.»
مرَّر فين الطلبَ إلى النادل وهو محبط بعضَ الشيء.
وقال: «لا أشربُ أيَّ شيءٍ في العادة، لكن بدت لي تلك مناسبة من نوعٍ ما.»
«ألدَيك بعض الأخبار إذن؟»
«على الإطلاق. أقصدُ تناول العشاء معك.»
رفعَت كاثرين حاجبَيها.
وتمتمَت قائلةً: «أوه، أهذا ما قصدتَه؟» وأردفت: «إنها مجرد مسألة روتينية ليس إلا. ظننتُ أن لديك بعضَ الأخبار أو الأعمال.»
فقال في نبرة توسُّل: «أليس من الممكن يا آنسة آبواي أن يكون لنا بعضُ الاهتمامات خارج نطاق عملنا؟»
فأجابت في غطرسةٍ فاقت قدرته على استيعابها: «لا أظن ذلك.»
فألحَّ قائلًا: «ما من سبب يمنعنا من ذلك.»
فاقترحت قائلة: «ينبغي أن تُخبرني بميولك. هل أنت عاشق للأوبرا الكبرى على سبيل المثال؟ أنا أعشقها. أوبرا «بارسيفال» … أوبرا «الخاتم»؟»
فأقرَّ قائلًا: «لا أعرفُ الكثيرَ عن الموسيقى. أختي التي كانت تعيش معي تعزف البيانو.»
أدركَته كاثرين بقولها: «لنبتعد عن الموسيقى إذن. ماذا عن الكتب؟ لكنني أتذكَّر أنك أخبرتَني ذات مرة أنك لم تقرأ أيَّ شيءٍ باستثناء الروايات البوليسية، وأنك لا تهتم بالشعر. الرياضة؟ أحب لعبة التنس كثيرًا وأجيد لعب الجولف إلى حدٍّ ما.»
قال فين في فخر: «لم أُضيِّع لحظة واحدة من حياتي في اللَّعب.»
هزَّت كاثرين كتفيها في عدم اكتراث.
«حسنًا، كما ترى، هذا يجعل كلًّا منا على مسافة كبيرة من الآخَر خارج إطار عملنا، أليس كذلك؟»
أجابها فين: «حتى لو كنتُ مستعدًّا للاعتراف بذلك، وأنا لستُ مستعدًّا، فمن المؤكَّد أن عملنا نفسه كفيلٌ بأن يُعوِّض كل الأشياء الأخرى.»
اعترفت كاثرين قائلة: «أنت محقٌّ تمامًا. ما من شيءٍ آخر يستحق أن نُفكِّر فيه، أو نتحدَّث بشأنه. أخبرني، كان لديك اجتماع داخلي للمجلس عصرَ اليوم، فهل تقرَّر أيُّ شيءٍ بخصوص مسألة القيادة؟»
تنهَّد فين تنهيدة خفيفة.
وقال: «إنْ كان ثمة قضية كبيرة في العالم تحظى باحتمال مواجهة الفشل التام بفِعل الغيرة الخسيسة الحمقاء، فهي قضيتُنا.»
صاحت كاثرين: «سيد فين!»
قال فين مؤكِّدًا: «أعني ذلك حقًّا. كما تعرفين، لا بد من انتخاب رئيسٍ هذا الأسبوع، وبالطبع سيتمتع ذلك الرئيس بقوة أكبر مما تمتع بها أيٌّ من أباطرة الماضي أو ملوك الحاضر. سيقوم ذلك القائدُ بإنهاء الحرب. سيجلب السلامَ إلى العالم. إنه منصبٌ استثنائي يا آنسة آبواي.»
قالت كاثرين مؤيِّدة إياه: «إنه كذلك بالفعل.»
استطرد فين قائلًا وهو يميل عبر الطاولة متجاهلًا عشاءه لبرهة: «لكن هل تُصدِّقين، هل تصدقين يا آنسة آبواي أنَّ من بين العشرين ممثلًا الذين اختِيروا من النقابات المهنية المهيمنة على الصناعات الرئيسة لبريطانيا العظمى، لا يوجد ولو شخصًا واحدًا فقط لا يعتبر نفسه مؤهَّلًا لهذا المنصب.»
وجدَت كاثرين نفسها تضحك فجأة، فيما نظر لها فين في ذهول.
قالت معتذرةً: «لا يمكنني أن أمنع نفسي من الضحك. أرجو أن تغفر لي ذلك. لا تظنَّ ذلك استخفافًا مني بحديثك. ليس الأمر هكذا إطلاقًا. لكنَّ عبثيةَ الأمر غلبتني للحظة. لقد قابلتُ بعضهم كما تعلم؛ السيد كروس من نورث آمبرلاند، والسيد إيفانز من ساوث ويلز …»
قاطعها فين بشيء من الحماسة: «إيفانز هو أحد أسوَئِهم. إنه رجل لم يرتدِ ياقةً إلا في السنوات القليلة المنصرمة من حياته، وتهرَّب من الالتحاق بالمدرسة الداخلية لأنه كان صبيًّا عاملًا في المناجم، ولا يعرف حتى أسماء بلدان أوروبا، لكنه ما زال يؤمن بأنه مرشَّح محتمَل. وكروس أيضًا! إنه يستحمُّ حين يأتي إلى لندن، لكنه يخلد للنوم بثيابه التي يرتديها كما هي.»
قالت كاثرين: «إنه فصيحُ اللسان للغاية!»
صاحَ فين ساخرًا: «فصيحُ اللسان!» وأردفَ: «ربما، لكن مَن الذي يستطيع أن يفهمه؟ إنه يتحدث بلغة نورث آمبرلاند البذيئة. إن ما هم في حاجة إليه في القائد الذي سينتخبونه هذا الأسبوعَ يا آنسة آبواي هو رجلٌ يتمتع بقدر من الثقافة وحُسن المظهر. تذكَّري أنه سيضطلعُ بأعظمِ مهمة اضطلع بها إنسانٌ يومًا. لا بد أن يكون على قدرٍ من الشخصية، بل عليه، في رأيي، أن يتمتَّع بالشخصية والهَيبة لكي يحفظَ المنصب.»
قالت وهي تُفكِّر: «هناك السيد مايلز فورلي. إنه رجلٌ متعلِّم، أليس كذلك؟»
أوضحَ فين في حماسة: «إنه غير ملائم لهذا السبب بالتحديد. إنه لا يُمثل قطاعًا كبيرًا من الكادحين. في الواقع، ما هو إلا عضو شرفي في المجلس نظرًا إلى خدماته الخارجية التي يُقدِّمها، مثلكِ أنتِ والأسقف.»
قالت كاثرين في تأمُّل: «أذكر أنني قبل عدة ليالٍ فقط حللتُ ضيفةً في منزل ريفي مملوك للورد مالتينبي، وهو بالمناسبة والِد السيد أوردين. كان رئيس الوزراء هناك ووزير آخر أيضًا. وقد تحدَّثا عن حزب العمال وما يشهده من خلوِّ منصب الرئيس. وبالطبع لم يكن لديهم أدنى فكرة عن المجلس الكبير الذي جرى تشكيله سرًّا بالفعل، لكنهم كانوا مُجمِعين على ضرورة وجود رئيس قوي. وأبدى شخصان التعليقَ نفسه وبنبرة التخوف نفسِها تقريبًا: «لو أعلنَ بول فيسك عن نفسه، فستُحَل المشكلة»!»
صادقَ فين على كلامها في فتور.
ثم ذكَّرَها قائلًا: «لكن في النهاية، الكاتِب الماهِر لا يتحوَّل دائمًا إلى خطيبٍ مفوَّه، ولا يتمتع دائمًا بالشخصية والتميُّز المطلوبَين في هذه الحالة. كما أنه سيكون غريبًا بيننا؛ أقصدُ على الصعيد الشخصي.»
قالت كاثرين معترضةً: «ليس بالمعنى الأشملِ للكلمة. إنَّ بول فيسك أكثرُ من مجرد رجل عادي يمتهن الكتابة. فوجدانه متناغمٌ مع ما يكتبه. تلك الكلمات التي يكتبها ليست مجرد كلمات بليغة. إنَّ بها شيئًا يتجاوز مجرد صياغة الكلمات والعبارات … بها سِمة تفهُّم ممتزجٌ بالتعاطُف وترقى لدرجة العبقرية.»
راحَ رفيقُها يُداعب شاربه برهة.
وأقرَّ قائلًا: «إنَّ فيسك ناجحٌ تمامًا في هذا المجال، لكن مسألة القيادة، فيما يتعلق به، لا تدخل في نطاق السياسة العَملية. آنسة آبواي، لقد اقترحَ واحدٌ أو اثنان من الممثلين الأكثرِ تأثيرًا، كما اقترحت أيضًا أعداد كبيرة من الرسائل والبرقيات التي انهالت علينا خلال الأيام القليلة الماضية، ضرورة انتخابي لِشَغل هذا المنصب الشاغر.»
صاحت مشدوهةً بعضَ الشيء: «أنت؟»
فسألها بنبرةٍ خفيفة من المشاكسة في حديثه: «هل ترَين شخصًا أنسب؟» واستطردَ قائلًا: «لقد رأيتنا جميعًا معًا. لا أقصدُ بحديثي هذا الإطراء على نفسي، لكن فيما يتعلَّق بأمور التعليم وخدمة القضية والدراية بأصول الخطابة، وأعداد أولئك الذين أُمثِّلُهم …»
قاطعَته قائلة: «أجل، أجل! أفهم. لا أرى شيئًا يمنع انتخابك يا سيد فين بالنظر إلى ممثلي حزب العمال العشرين فقط، لكنني تخيَّلت، بطريقةٍ ما، أنَّ شخصًا من الخارج، كالأسقف على سبيل المثال …»
قال فين: «هذا غير وارد تمامًا. سيفقد الناسُ إيمانهم بالأمر برُمَّته في لحظة. ينبغي للشخص الذي سيتحدى رئيس الوزراء أن يحظى بالتفويض المباشر من الشعب.»
بعد قليلٍ فرَغا من عَشائهما. ونظر فين في إعجاب إلى العلبة الذهبية الملَكية التي أشعلَت منها كاثرين واحدة من سجائرها الصغيرة. وأشعل هو سيجارة أمريكية.
ثم أسرَّ إليها وهو يميل نحوها: «كنتُ أريد أن أقترح عليكِ الذَّهاب إلى المسرح الليلة آنسة آبواي، في الواقع، كنت أبحثُ عن شراء تذاكرَ لمقاعد الشُّرفة في مسرح جايتي. لكن طرأ أمرٌ آخر. ثَمة مهمة صغيرة علينا القيامُ بها.»
قالت كاثرين مُكررة: «مهمة؟»
أخرج فين ورقة مطوية من جيبه ومرَّرها إليها عبر الطاولة. وراحت كاثرين تقرؤها بشيء من العبوس.
ثم صاحت قائلة: «إنه أمرٌ يُخوِّل لحامله تفتيشَ شقة جوليان أوردين!» وأردفت: «لا نريد أن نفتش في تلك الشقة، أليس كذلك؟ ثم ما سُلطتنا لذلك؟»
أجابها وهو ينقر بسبَّابته الباهتة على التوقيع الموجود في أسفل الورقة: «السلطة الأفضل.»
تفحَّصَته كاثرين في عبوس مَشوبٍ بالشك.
وسألته: «لكن كيف تحصَّلت على هذا؟»
ابتسمَ لها فين في ترفُع.
وأجابَ صراحة: «بطلبه. وبيني وبينك يا آنسة آبواي، ليس هناك الكثير مما يمكننا طلبُه ويمكنهم رفضه الآن.»
فقالت مذكِّرةً إياه: «لكن الشرطة فتَّشت بالفعل مسكنَ السيد أوردين.»
«من المعروف عن الشرطة أنهم يُغفلون الأشياء. بالطبع، ما آمُل به هو أن أجد بين أوراق السيد أوردين دلالةً أو إشارة على المكان الذي أودعُ فيه وثيقتنا.»
قالت كاثرين محتجَّة: «لكن لا علاقة لي بهذا الأمر. لا يروق لي أن أتورَّط في مثل تلك الأمور.»
فألحَّ عليها قائلًا: «لكنني أرغب منكِ بشكلٍ خاص أن تُرافقيني في ذلك. أنتِ الوحيدة التي رأت الرسائل. ولذا سيكون من الأفضل إن قمنا بالتفتيش معًا.»
عبسَ وجهُ كاثرين قليلًا، لكنها لم تُبدِ مزيدًا من الاعتراض. غير أنها أبدت اعتراضًا قويًّا حين حاول فين أن يتأبَّط ذراعها حين همَّا بمغادرة المكان، وانسحبت إلى زاوية السيارة الأجرة بمجرد أن استقلَّاها.
وقالت: «ينبغي أن تستميحَ لي العذر في تحيزاتي يا سيد فين، ونشأتي الأجنبية، ربما … لكنني أكره أن يمسسَني أحد.»
فقال محتجًّا: «أوه، بربك!» واستطردَ: «لا داعي لكل هذا التحفظ.»
ثم حاول أن يُمسِك يدها، وهي المحاولة التي أحبطَتها باقتدار.
وأصرَّت في جدية قائلة: «مثل هذه الأمور لا تروق لي حقًّا. إنني أتجنَّبها حتى وأنا بين أصدقائي.»
تساءل: «أوَلست بصديق؟»
فأقرَّت قائلة: «أنت بالطبع صديقٌ فيما يتعلق بعملنا. أما خارج نطاق العمل، فلا أعتقد أن هناك الكثيرَ يمكن أن نقوله بعضنا لبعض.»
فقال معترضًا بلهجة حادةٍ بعضَ الشيء: «لمَ لا؟ إننا متقاربان في عملنا وأهدافنا بقدرِ ما يمكن لأي اثنين أن يكونا.» وتابعَ بعد تردد لحظي ونظرة سريعةٍ للمكان من حوله قائلًا: «ربما ينبغي لي أن أفضي إليكِ فيما يتعلَّق بمكانتي الشخصية.»
قالت في سخرية طفيفة لكنها بلا جدوى: «لستُ أرحِّب بأي شيء من هذا القبيل.»
استطرد قائلًا: «أنتِ تعرفينني بالطبع باعتباري فقط المديرَ السابق لشركةٍ لتجارة الأخشاب والممثلَ المنتخَب الحاليَّ لتحالف النقابات المهنية لتجارة الخشب وبناء السفن المهنية.» ثم تسللَت نبرةُ انتصار غريبة إلى صوته وهو يقول: «ما لا تعرفينه هو أنني رجلٌ ثري.»
رفَعَت كاثرين حاجبيها.
وعلَّقَت قائلة: «كنت أظن أنَّ كل قادتنا العماليِّين مثل الحواريين؛ لا يُفكرون في مثل هذه الأشياء.»
اعترضَ قائلًا: «لا بد أن يترصَّد المرءُ الفرصَ الكبرى دائمًا يا آنسة آبواي، وإلا فكيف ستكون الأحوال حين يُفكِّر المرء في الزواج على سبيل المثال؟»
سألته كاثرين بصراحة: «من أين جاءت أموالُك؟»
كان الغرض من سؤالها ببساطةٍ هو توجيهه بعيدًا عن الحديث في موضوعٍ منفِّر. لكن شعوره بالإحراج أعطاها فرصةً للتفكير فيما هو آتٍ.
فعهِد إليها بنبرة حماسية قائلًا: «كنتُ أدَّخر المالَ طوال حياتي. وتركَ لي أحدُ أعمامي قليلًا من المال. ومؤخَّرًا كنتُ أضارب في البورصة، وحقَّقت نجاحًا في ذلك. لا أريدُ الحديث في هذا الأمر. إنما أردتُ فقط أن تعرفي أن بإمكاني أن أبدوَ بشكل مغاير تمامًا إن شئتُ، وأن زوجتي لن تُضطر إلى العيش في إحدى الضواحي.»
فجاءه ردُّها باردًا: «أنا حقًّا لا أرى كيف يعنيني هذا على الإطلاق.»
سألها قائلًا: «أنتِ تُطلِقين على نفسكِ اشتراكية، أليس كذلك يا آنسة آبواي؟ ألا تعترفين بحقيقة أنكِ من الطبقة الأرستقراطية وأنني رجل عصاميٌّ وعلى قدم المساواة معكِ؟»
أجابَته قائلة: «لا يعنيني أصلُ المرء في شيء، ينبغي أن تعرف أن تلك هي مبادئي، لكن يتصادف في بعض الأحيان أن يُسبغ الأصلُ والبيئة على المرء ميولًا من المستحيل تجاهلُها. أرجوك دعنا لا نَخُض في هذا الحديث أكثرَ من ذلك يا سيد فين. لقد حظينا بعشاء لطيف للغاية، وأشكرُك على ذلك، وها نحن عند شقة السيد أوردين.»
ساعدَها رفيقها في الخروج في شيء من الاستياء، ثم استقلَّا المصعد إلى الطابق الخامس. فتح لهما البابَ خادمُ جوليان. عرفَ الرجلُ كاثرين وحيَّاها في احترام. وقدَّم فين الإذنَ الذي بحوزته، فقبله الرجل من دون تعليق منه.
سألته كاثرين: «ألم تأتِ أخبارٌ عن سيدك بعد؟»
كان ردُّه يحمل شيئًا من الحزن والكدر إذ قال: «إطلاقًا يا سيدتي. أخشى أن مكروهًا أصابه. فلم يكن من نوعية الرجال الذين يرحلون بهذا الشكل دون ترك خبر خلفهم هكذا.»
فقالت بنبرةٍ مبتهجة: «لكن ينبغي ألا نفقد الأمل. من المؤكَّد أن أشياءَ رائعةً ستحدث وسيعود سيدك إلى المنزل غدًا أو بعد غدٍ وسيُقدِّم تفسيرًا لغيابه.»
أجابها الرجل وهو يتراجع نحو الباب: «سأُسرُّ كثيرًا لرؤيته يا سيدتي. إن كان بوُسعي تقديم أي مساعدة لكما، فيمكنكما أن تقرعا لي الجرس.»
وانصرف الخادم مغلقًا الباب خلفه. جالت كاثرين بنظرها في أرجاء الحجرة التي أُدخِلا إليها مقطِّبةً جبينها بعض الشيء. كانت حجرة جلوس ذات طابع رجالي بالأساس، لكنها كانت مفروشة جيدًا وبذوق رفيع، وذُهلت كاثرين من أعداد الكتب والكتيبات ونسخ جريدة «ريفيو» التي اكتظت بها الجدران وكل مساحة متاحة. كان المكتب لا يزال مفتوحًا، وكان هناك آلة كاتبة على منضدة خاصة، وكومة من الأوراق المخطوطة باليد.
تمتمت كاثرين قائلة: «لماذا كان السيد أوردين في حاجة إلى آلة كاتبة بحق السماء؟! كنت أظن أنَّ العمل الصحافي يُمارَس عامةً بداخل مكاتب الجرائد؛ ذلك النوع من الصحافة التي كان يمارسها.»
قال فين وهو يُلقي نظرة سريعة حوله: «شقة صغيرة جميلة، أليس كذلك؟» وأردفَ قائلًا: «أراه مكانًا صغيرًا مريحًا.»
تسبَّب شيءٌ ما في تعبير وجه الرجل بينما كان يتقدَّم نحوها في عودة البرودة إلى أسلوبها ونبرة صوتها.
وقالت: «إنها شقة لطيفة، لكنني لست واثقة تمامًا من أن وجودي هنا يروقُ لي، ومهمتنا هذه لا تروق لي بالطبع. فلا يبدو معقولًا أن نجدَ الرسائل هنا إن كانت الشرطة قد أجرت تفتيشًا بالفعل.»
فذكَّرها قائلًا: «الشرطة لا تعرف ما تبحث عنه. لكننا نعرف.»
كان السيد فين يبدو على قدرٍ قليل من الكِياسة. فقد سحبَ كرسيًّا نحو المكتب وبدأ البحث وسط كومة من الأوراق، مُدْليًا بتعليقات سريعة في أثناء ذلك.
«همم! يبدو أن صديقنا كان يهوى جمع الكتب القديمة. أعتقد أن بائعي الكتب المستعمَلة وجدوا فيه هدفًا لهم. أحدهم هنا يشكره على قرض أعطاه إياه. وهذه فاتورة خياط ملابس. يا إلهي، آنسة آبواي، استمعي إلى هذا! «بِذلة واحدة أربعة عشر جنيهًا!» تلك هي الطريقة التي يُبدد بها هؤلاء الذين لا يفقهون شيئًا أموالهم.» ثم أضاف وهو يلتفتُ سريعًا في كرسيه نحوها قائلًا: «الملابس التي أرتديها كلَّفتني أربع جنيهات وخمسة عشر شلنًا، وأكاد أجزم أن ملابسه ليست بأفضلَ من ملابسي.»
قطَّبَت كاثرين جبينها في نفاد صبر.
«لم نأتِ إلى هنا يا سيد فين من أجل مناقشة فاتورة خياطة ملابس السيد أوردين، صحيح؟ لا أرى أي غايةٍ من التفتيش في مراسلاته بهذا الشكل. ما يجب أن تبحث عنه هو مجموعةٌ من الرسائل ملفوفة في قطعة من المشمَّع الرفيع الأصفر، ومكتوب عليها من الخارج بحبر أسود «رقم ١٧».»
فقال فين موضحًا: «أوه، ربما دسَّها في أي مكان. إضافةً إلى ذلك، ثمة احتمالٌ دائمًا أن يُعطينا أحدُ خطاباته دليلًا على المكان الذي خبَّأ فيه الرسائل. تعالَي واجلسي إلى جانبي، هلا تجلسين يا آنسة آبواي؟ هيا!»
ردَّت قائلة: «أُفضِّل الوقوف، شكرًا لك. يبدو أنك تجد في مهمتك الحاليَّة ما يُرضي ميولك. أنا أمقتُ هذا!»
قال فين بحماس: «لا أفكِّر أبدًا في مشاعري حين تكون هناك مهمةٌ عليَّ القيام بها. لكنني أتمنى أن تكوني وَدودةً أكثرَ بعضَ الشيء يا آنسة آبواي. دعيني أسحب ذلك الكرسيَّ لكِ بجانبي. أودُّ أن تكوني قريبةً مني. كما تعرفين، لقد ظللتُ أعزبَ سنواتٍ طويلة.» ثم أردفَ في إعجاب: «لكنَّ مكانًا صغيرًا ومريحًا كهذا يجعلني أُفكِّر في أشياء. لست ضد الزواج فقط لو كان الرجل محظوظًا بما يكفي ليحظى بالفتاة المناسبة، وعلى الرغم من أن المفكِّرين التقدميِّين مثلي ومثلكِ وثلَّة من الآخرين ينظرون إلى الأمور بطريقة مختلفة، فإنني ما كنتُ لأُمانع كثيرًا فيه هذه الأيام أيًّا كانت الطريقة»، وأسرَّ لها خافضًا صوته بعض الشيء وواضعًا يده على ذراعها: «إن تمكنتِ من اتخاذ قرار …»
انتزعت ذراعَها بعيدًا عنه، ولم يتمكَّن هذه المرةَ حتى من أن يُخطئَ الغضبَ الذي كان يستعرُ في عينيها.
وصاحت به قائلة: «سيد فين، لماذا أجدُ صعوبة كبيرةً هكذا في جعلِك تفهم؟ إنني أمقتُ مثل هذه الحرية التي تسمح بها لنفسك. أما بالنسبة إلى بقية ما تتحدَّث عنه، فإنني مخطوبة بالفعل.»
قال فين متجهمًا بعضَ الشيء: «يبدو في ذلك شيءٌ من الرجعية. بالطبع لم أتوقَّع …»
قاطعَته قائلةً: «لا يُهمني ما تتوقعه. من فضلك أكمِل بحثك، إن كنت تعتزمُ القيام بأي بحث من الأساس. إنَّ بذاءة الأمر برُمته تُزعجني، ولا أعتقد أبدًا أن الرسائل هنا.»
قال مذكرًّا إياها في تجهُّم: «لم يكن الأمر مسئوليةَ أوردين.»
أجابته: «إذن لا بد أنه أرسلَها إلى مكانٍ ما كي تكون في مأمن. فقد أعطيتُه سببًا بالفعل ليأتي على فعل ذلك.»
قال فين موضحًا في حدةٍ تامة: «إن كان قد فعل، فقد يكون هناك بين مراسلاته ما قد يُشير إلى المكان الذي أرسلها إليه. وإن كانت هذه المهمةُ لا تروق لكِ، ولن تُليني جانبَكِ، فمن الأفضل أن تجلسي على ذلك الكرسي الوثير وتنتظري ريثما أنتهي.»
جلسَت كاثرين تُراقبه بعينَين غاضبتَين وقد ملأتها مشاعرُ الانزعاج والتعاسة والإهانة. بدَت وكأنها انتقلت في غضون ساعاتٍ قليلةٍ من عالم الأفكار الصافية الرائعة إلى عالمٍ من الأفعال التافهة الحقيرة. لم تغفل عن فعلٍ واحد من أفعال رفيقها. فقد راحت ترقبه وهو يفحص دعوة دوقية بتقديرٍ لم يستطع إخفاءه، ورأته وهو يقرأ خطابًا من دون تردد شعرت أنه كان خطابًا من والدته. ثم:
كان التغيير الذي طرأ على الرجل مذهلًا للغاية؛ إذ صاح مغمغمًا في تعجب، وكان تعجبه طبيعيًّا تمامًا حتى إن الألفاظ النابية لم تكن مزعجة. بدَت عيناه وكأنها ستخرجُ من رأسه، وكانت شفتاه ممطوطتين خلف أسنانه. عقَدَت المفاجأة الصادمة التي لا تُوصَف لسانه، وكأنه صار أصمَّ وأخرسَ، بينما كان يُحدِّق في نصف ورقة مكتوبة على الآلة الكاتبة. اندهشت كاثرين نفسها من مظهره الذي تحوَّل تمامًا، وتعذَّر عليها أن تجد كلماتٍ مناسبة لتلك اللحظة. ثم حدث تغييرٌ غريب على محيَّاه. فقد اقتربَ حاجباه بعضهما من بعض، ولوى شفتَيه في خبث. ثم دسَّ الورقة تحت كومة أخرى من الأوراق والتفتَ برأسه تجاهها. التقت أعينهما. وكان في عينيه شيءٌ أشبه بالخوف.
صاحت به لاهثة: «ما هذا الذي وجدتَه؟»
أجابها: «لا شيء، لا شيء ذا أهمية.»
نهضَت ببطءٍ على قدميها واتجهت نحوه.
وقالت مذكِّرة إياه: «أنا شريكتُك في هذا الأمر البغيض. أرِني تلك الورقة التي أخفيتَها للتو.»
وضعَ فين يده على غطاء المكتب، لكنها أمسكَت به وأبقته مفتوحًا.
وقالت بنبرة صارمة: «أُصرُّ على رؤيتها.»
التفتَ فين وواجهها. كانت في عينيه نظرةٌ غير سارة تمامًا.
وصرَّح قائلًا: «وأنا أقول إنكِ لن ترَيها.»
سادَ صمتٌ ثقيل للحظة. بدا كلٌّ منهما يُقيِّم قوة الآخر. ومن بين الاثنين، كانت كاثرين الأكثرَ هدوءًا وتماسكًا. كان وجه فين لا يزال شاحبًا وغاضبًا. كانت شفتاه ترتعشان، وبدا مهزوزًا ومتوترًا. وأتى على محاولةٍ يائسة لإصلاح العلاقة بينهما وإعادتها طبيعية.
فقال: «اسمعي يا آنسة آبواي، لسنا في حاجة إلى العراك بشأن هذا. تلك الورقة التي وجدتُها لها أهمية خاصة لي شخصيًّا. وأريد أن أفكِّر فيها قبل أن أقول أي شيء حيالها لأي مخلوق في العالم.»
قالت متمسكةً برأيها: «يمكنك التشاور معي. فأهدافنا واحدة. ونحن هنا من أجل الغرض نفسِه.»
قال معترضًا: «ليس تمامًا. لقد أحضرتكِ هنا كمساعدة لي.»
«حقًّا؟»
فصاح قائلًا: «حسنًا، إليكِ الحقيقة إذن!» وأردف: «لقد أحضرتُكِ هنا لكي أنفردَ بكِ؛ لأنني كنت آمُل أن أجدكِ أرقَّ جانبًا بعضَ الشيء.»
سألته كاثرين برقة وعذوبة: «أخشى أنك خاب ظنك، أليس كذلك؟»
أجابها بمدلول بغيض في نبرته: «بلى، لكننا لم نخرج من هنا بعد.»
فقالت مؤكِّدة: «لا يمكنك أن تُخيفني. أنت بالطبع رجل — بشكلٍ ما — وأنا امرأة، لكنني لا أظن أنك ستجد لك أفضلية عني إذا ما آلَت الأمورُ إلى العنف. لكننا نَحيد عن محور حديثنا. إنني أطالب بالمساواة معك في حق الاطِّلاع على أي شيء قد تكتشفُه في أوراق السيد أوردين. بل ربما أطالب بالأسبقية في الاطلاع عليه إن شئتُ ذلك.»
ردَّ فين وقد اكتسى وجهه بتقطيبة بغيضة: «حقًّا؟» وأردف: «إن السيد جوليان أوردين صديقٌ خاص لكِ، أليس كذلك؟»
قالت كاثرين: «في الواقع، نحن مخطوبان تمهيدًا للزواج. لم تكن خِطبةً جادة. فقد أعلن هو ذلك في شهامةٍ بالغة من جانبه؛ لكي يُنقذني من عواقب محاولةٍ خَرْقاء للغاية من جانبي للحصول على الرسائل. لكن هكذا صار الأمر. كل فرد في أسرته في الوقت الراهن يعتقد أننا مخطوبان وأنني قد أتيتُ إلى لندن من أجل لقاء سفيرنا.»
قال فين ساخرًا: «إن كنتما مخطوبَين، فلمَ لم يُخبرك بالمزيد من أسراره؟»
فكرَّرَت كاثرين كلمته في شيء من السخرية: «أسرار!» واستطردت: «لا أظن أن لديه أيَّ أسرار. أظنُّ أن بالإمكان التحريَ عن تفاصيل حياته اليومية دون أدنى شعور بالخوف.»
«ظنُّكِ في غير محله إذن.»
«يا له من أمر مثير! أنت تُثير فضولي. وهل يجب أن تستمرَّ في الإمساك بمعصمي بهذا الشكل؟»
«إذن دعيني أغلق هذا المكتب.»
«لا!»
«لمَ لا؟»
«أريد أن أطَّلع على تلك الأوراق.»
وبحركة سريعة حظي فين بأفضليةٍ لحظية وأغلقَ المكتب. غير أن المفتاح سقط على السجاد بفِعل الاهتزاز، وحصلت كاثرين عليه. وبعدها قفزت بخفَّة مبتعدةً عنه وضغطت على الجرس.
سألها: «تبًّا لك، ماذا أنتِ فاعلةٌ الآن؟»
أجابته: «سترى. لا تقترب، وإلا فستجد أن بإمكاني أن أكون مزعجة.»
هزَّ فين كتفَيه في لا مبالاة وانتظر. والتفتت تجاه الخادم الذي سرعان ما ظهر.
وقالت: «روبرت، هلا تُجري مكالمة هاتفية من أجلي؟»
أجابها الرجل: «بكل تأكيد يا سيدتي.»
«اتصل بالرقم ١٨٨٤ في ويستمنستر. قل إنك تتحدث من طرف الآنسة آبواي، واطلب من السيد فورلي أو السيد كروس أو أيًّا مَن كان موجودًا أن يأتيَ في الحال إلى هذا العنوان.»
قاطعها فين: «أنصِتي لي، لا طائلَ من ذلك.»
فقالت في إصرار: «هَلا تفعل كما طلبتُ منك فضلًا يا روبرت؟»
انحنى الرجل وغادر الغرفة. وعاد فين متجهمًا إلى المكتب.
ثم أذعن قائلًا: «حسنٌ إذن، أُعلن استسلامي. أعطيني المفتاح، وسأريكِ الخطاب.»
«هل ستفي بكلمتك؟»
فقال مطمئنًا إياها: «سأفعل.»
مدَّت يدها مناولةً إياه المفتاح. فأخذه وفتح المكتب، وبحث بين كومة الأوراق الصغيرة، وسحب نصف الورقة وأعطاها إياها.
ثم قال: «هاكِ»، ثم أضاف في تأكيدٍ بغيض: «رغم أنني مندهشٌ من أن السيد جوليان أوردين قد أخفى عنكِ سرًّا كهذا لو كنتِ مخطوبةً له حقًّا.»
تجاهلَته كاثرين وشرعت تقرأُ الرسالة، ونظرت نظرة خاطفة في البداية إلى العنوان في أعلى الورقة. كان الخطاب من جريدة «ذا بريتيش ريفيو» ويعود تاريخها إلى بضعة أيام مضت:
عزيزي أوردين
أعتقد أن من الأفضل أن أُعلمك — إن كنت لم ترَ ذلك بنفسك — أن هناك مكافأةً قدرها ١٠٠ جنيه عرضها أحدُهم بغرض معرفة اسم مؤلف مقالات «بول فيسك». إن سرية هُويتك محفوظة على نحوٍ ممتاز حتى الآن، لكنني أجد نفسي مرغمًا على تحذيرك بأن الإفصاح عنها قد بات وشيكًا. خُذ بنصيحتي وتقبَّلْها بطيبِ نَفْس. لقد رسَّختَ نفسك بصورةٍ لا يمكن زعزعتها لدرجة أنَّ قيمة أعمالك لن يُنتقَص منها شيءٌ باكتشاف حقيقة أنك نفسك لا تنتمي إلى الطبقة التي كنت تكتب عنها على هذا النحو الرائع.
أتمنى أن أراك في غضون بضعة أيام.
حتى بعد أن أنهت كاثرين قراءة الخطاب، كانت لا تزال تُحدِّق به. ثم قرأت مرةً أخرى الجملة الحاسمة: «إن سرية هُويتك محفوظةٌ على نحوٍ ممتاز حتى الآن.» ثم انفجرت فجأةً في نوبة شبهِ هستيرية من الضحك.
وصاحت قائلة: «إذن هذه هي الصحافة المأجورة!» وأضافت: «جوليان أوردين هو بول فيسك!»
قال فين: «لا أعجبُ من كونكِ متفاجئة. أربعة عشر جنيهًا من أجل بِذلة يرتديها، ويظنُّ أنه يفهم الرجل العامل!»
أدارت كاثرين رأسَها في بطءٍ نحوه ونظرت إليه. كان في عينيها لهيبُ غضب غريب ومكبوت. فقالت: «أنت شخصٌ أحمق للغاية. إن والديك كانا يُديران متجرًا صغيرًا أو شيئًا من هذا القبيل، حسَبما أظن، وقد ترعرعتَ في مدرسةٍ داخلية بينما ترعرع جوليان أوردين في إيتون وأكسفورد، لكنه يفهمُ وأنت لا تفهم. أتعلم، إن للقلب والتعاطف والرغبة في التفاهم أهميةً كبيرة. وأشكُّ أن هذه الأشياء موجودة حقًّا حيث أتيتَ.»
أمسكَ فين بقبعته. كان وجهه في غاية الشحوب. وكان صوته مرتعشًا من شدة الغضب.
ثم صاحَ في غضبٍ قائلًا: «هذا خطؤنا نحن أننا سمحنا لشخصٍ ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية بأن يكون له مكانٌ في مجالسنا! سنُطهرها من هؤلاء المساعدين أمثالكِ ومن الأصدقاء المزيَّفين أمثال جوليان أوردين قبل أن نتقدم خطوةً واحدة.»
كرَّرَت كاثرين قائلة: «أنت شخص أحمق للغاية. لكن مهلًا. لماذا كل هذا الغموض؟ لماذا حاولتَ أن تُخفي عني ذلك الخطاب؟»
قال فين بنبرة الواعظ: «تصوَّرتُ أنه سيكون في مصلحة قضيتنا أن تظل سرية هُوية «بول فيسك» محفوظة.»
قالت كاثرين ساخرة: «هُراء!» واستطردت تقول: «كنتَ خائفًا منه. يا لنا من حَمْقى! سنُخبره بالحقيقة كلِّها. سنخبره بمخططنا العظيم. سنُخبره بما كنا نعمل لأجله، طيلة هذه الأشهر العديدة. سيخبره الأسقف، وأنا وأنت، ومايلز فورلي، وكروس. سيسمع كلَّ شيء عن الأمر. إنه معنا! لا بد أن يكون معنا! ينبغي أن تضمَّه إلى المجلس. ها قد حُلَّت معضلتك الكبرى.» ثم أردفت في حماسة متزايدة: «ما من عاملٍ في البلاد لن يحتشدَ تحت لواء «بول فيسك». ها هو قائدكم. هو مَن سيُطلق إنذاركم الأخير.»
قال فين ملقيًا فجأةً بقبعته على الأرض وقد تحرَّك نحوها في غضب جمٍّ: «فلتحلَّ عليَّ اللعنة إن حدثَ ذلك!» وأضافَ: «أنا …»
ثم فُتِح الباب. وكان روبرت واقفًا عنده.
بدأ حديثه يقول: «الرسالة يا سيدتي»، ثم توقَّف فجأةً. فاجتازت كاثرين الغرفة متجهة نحوه.
وقالت: «أظن أني وجدتُ الطريقة التي سيعود بها سيدُك إليك يا روبرت. هَلا تصحبني إلى الطابق السفلي، وتُحضِر لي سيارة أجرة من فضلك؟»
«بكلِّ تأكيد يا سيدتي!»
ثم نظرَت خلفها من عند عتبة الباب.
وقالت: «سأُهاتف ويستمنستر في غضون دقائق قليلة يا سيد فين. وآمُل أن أصل في الوقت المناسب لأمنعَ الآخرين من المجيء. ربما من الأفضل أن تنتظر، حال كانوا قد تحركوا بالفعل.»
لم يُجبها فين. وكان العالم بالنسبة إلى كاثرين قد أصبحَ رائعًا لدرجة أن وجوده لم يَعُد له أهمية تقريبًا.