الفصل الثاني عشر
وجدَت كاثرين، برغم شعورها بالإثارة، سعادةً غامرة في حماسة الأسقفِّ المشوبة بالذهول التي تلقَّى بها تلك الأخبارَ المذهلة. وجدَته وحيدًا في ذلك المنزل الكبير الكئيب الذي كان يسكنه عادةً في لندن، وكان يعمل في مكتبة كئيبة دخلَت إليها كاثرين بعد تأخيرٍ طال بضعَ دقائق. وبطبيعة الحال، تلقى الأسقفُّ في البداية الأنباءَ التي جاءت بها بارتيابٍ شبهِ تام. غير أن سعادةً حقيقية غمَرَته لدى تيقنه منها.
قال الأسقف: «دائمًا ما كنتُ معجبًا بجوليان. دائمًا ما كنت أعتقد أنه ذو كفاءة وبراعة.» ثم أردف بابتسامة صغيرة غريبة: «لكن يا إلهي، يا لها من ضربة للإيرل!»
ضحكَت كاثرين.
«أتتذكَّر تلك الأمسيةَ التي تحدَّثنا فيها جميعًا عن مسألة حزب العمال؟ يبدو أن الزمن قد تحرَّك بسرعةٍ كبيرة مؤخرًا، لكن لم يكد يمضي أسبوعٌ واحد على ذلك.»
أقرَّ الأسقف قائلًا: «أتذكَّر.» وأضافَ بحرارة: «وأنا الآن يا آنستي العزيزة أشعر أن بإمكاني أن أقدِّم لكِ أصدق تهانئي.»
أشاحت بوجهها بعضَ الشيء.
وقالت متوسِّلة: «لا تفعل. كنت ستعرف عما قريب وبأي حال من الأحوال أنَّ خِطبتي لجوليان أوردين كانت مجردَ ادعاء.»
«ادِّعاء؟»
شرَحَت له كاثرين قائلة: «كنت يائسةً، كنتُ أشعر بأن عليَّ أن أستعيدَ تلك الرسائل بأي ثمن. فذهبتُ إلى جَناحه في محاولةٍ لسرقتها. ثم وجدوني عنده. فاختلق أمرَ خِطبتنا لكي يُساعدني في الخروج من ذلك المأزق.»
فقال الأسقف مذكِّرًا إياها: «لكنكما توجَّهتما إلى لندن معًا في اليوم التالي لذلك؟»
تنهَّدَت قائلة: «كان الأمر كله جزءًا من اللعبة. لا بد أنه ظنَّ أنني حمقاءُ للغاية! لكنني سعيدة. أنا سعيدة جدًّا لدرجة الجنون. سعيدة من أجل قضيتنا، وسعيدةٌ من أجلنا جميعًا. لدينا عضوٌ جديد عظيم أيها الأسقف، أعظم عضو يمكن أن نحصل عليه. فكِّر في الأمر! حين يعرف الحقيقة، لن يكون هناك المزيدُ من المشكلات. سيُسلِّمنا الرسائل. حينها سنعرفُ أين نقف. سنعرف في الحال ما إن كان لدينا الجُرأة على توجيه الضربة الكبرى.»
أخبرها الأسقف قائلًا: «كنتُ في ويستمنستر عصرَ اليوم. يبدو أن آلية مجلس العمال برُمَّتها قد اكتملت. عشرون رجلًا يتحكَّمون في إنجلترا الصناعية. إنهم يتمتَّعون بقوةٍ مطلقة. وهم في انتظار الكلمة المفقودة فقط.» ثم أردف الأسقف: «وتخيُّلي أنه كان من المقرر لي أن أقابل جوليان غدًا. كان من المقرر أن أستخدم قدراتي في الإقناع.»
صاحت كاثرين: «لكن لا بد أن ننطلق الليلة.» وأردفت: «ما من سببٍ يدفعنا إلى تضييع لحظةٍ واحدة.»
فوافقها الأسقفُّ في سرور: «سيسعدني ذلك كثيرًا. أين هو؟»
فجأةً بدَا على قسمات كاثرين الحزنُ وخيبة الأمل.
وأقرَّت قائلة: «ليس لديَّ أدنى فكرة. ألا تعرف أين هو؟»
هزَّ الأسقف رأسه نافيًا.
وأجابها: «كانوا سيُرسلون معي أحدهم غدًا، لكن فين يعرف مكانه على أي حال. يمكننا أن نذهب إليه.»
لوَت كاثرين وجهها.
وقالت بنبرة متثاقلة: «السيد فين لا يروقُ لي. لقد اختلفتُ معه. لكن هذا لا يهم. ربما من الأفضل أن نذهب إلى مقر المجلس. سنجد بعض الأعضاء هناك، وربما نجد فين. ثَمة سيارة أجرة تنتظرني.»
وبعد قليل انطلقا بالسيارة إلى ويستمنستر. كان معظم الطابق الأرضي من تلك البناية الكبيرة، الذي كان يعجُّ في ذلك الوقت بمكاتب رجال حزب العمال المختلفين، مظلمًا، لكن في الطابق العلوي كانت توجد غرفة كبيرة تُستخدَم كنادٍ ومطعم وتُستخدَم أيضًا للاجتماعات غير الرسمية. تواجد ستة أو سبعة من بين الثلاثة والعشرين عُضوًا، لكن فين لم يكن بينهم. وكان كروس — وهو رجل ضخم البنية مفتول العضلات من نورث آمبر — يلعب مباراة شِطْرنج مع فورلي. وكان الآخرون يكتبون خطابات. وقد التفتوا جميعًا لدى دخول كاثرين عليهم. فمدَّت يدَيها نحوهم في ابتهاج.
وصاحت قائلة: «لديَّ أخبار رائعة يا أصدقائي!» وأردفت: «أضيئوا حجرةَ اجتماعات اللجنة. أريد أن أتحَّدث إليكم.»
تبعها أولئك الذين كانوا مخوَّلين بذلك إلى الغرفة الموجودة في الجانب المقابل من الممر. وظلَّ سكرتير أو اثنان وزائرٌ في الخارج. جلسَ ستة منهم إلى طاولة طويلة، وهم فينياس كروس، عامل المناجم من نورث آمبر، ومايلز فورلي، وديفيد ساندز الذي يُمثِّل مليون عامل من عمال المصانع في يوركشاير، وتوماس إيفانز، وهو عامل مناجم من ساوث ويلز.
قال فورلي: «وصلَتنا رسالةٌ منكِ يا آنسة آبواي قبل قليل. لكنكِ ألغيتِها في اللحظة نفسِها التي كنا فيها على وشك التحرك إليكِ.»
صادقَت كاثرين على حديثه قائلة: «أجل!» وأردفت: «آسفة. لقد حدَّثتُكم من شقة جوليان أوردين. هناك أتينا على ذلك الاكتشاف العظيم. أنصِتوا لي جميعًا! لقد اكتشفتُ هُوية بول فيسك.»
سادت جلَبةٌ طفيفة في الغرفة. كان اهتمام الرجال لا يُوصَف. فقد كان بول فيسك هو موضعَ إعجابهم، ومُعلِّمهم، وقائدهم الملهم بلا منازع. كان هو مَن عبَّر بأحرفٍ من نار عن الحقائق التي لم يكن لها سبيلٌ لحسن التعبير في أذهان هؤلاء الرجال. كان بول فيسك هو مَن أشعلَ فيهم جذوةَ الحماسة تجاه القضية التي كانت في البداية أقربَ إلى مسألة حياة أو موت لهم. كان بول فيسك هو مَن شكَّل أذهانهم ورسَّخ للحُجج العظيمة في عقولهم، وسلَّحَهم جميعًا بالمنطق القوي. أربعة رجال عاديُّون تمامًا، من أطياف شتى، رجال مخلصون، ينتمون جميعًا إلى طبقة العامة، لم يخلُ أحدٌ منهم من العيوب، إلا أنهم جميعًا اجتمعوا على غاية واحدة، وتُحرِّكُهم جميعًا جذوةُ الحماسة نفسُها. جلسوا متكئين على الطاولة مقتربين نحوها. ربما بدَت وكأنها تُدير طاولة قمار وهم المقامرون الذين ألقَوا بآخرِ ما لديهم من أموال الرِّهان على الطاولة.
قالت كاثرين: «وجدتُ في شقة جوليان أوردين خِطابًا من مُحرِّر جريدة «ذا بريتيش ريفيو»، يُحذره فيه أن هُويته لن تظل سريَّة طويلًا، وأنه قبل مضيِّ عدة أسابيع سيكون العالم قد عرَف بأنه هو بول فيسك. ها هو الخطاب.»
ثم مرَّرَته لهم. راحوا يتدارَسونه واحدًا تلو الآخر. وكانوا جميعًا مذهولين بعضَ الشيء.
صاحَ فورلي في دهشة تامة: «جوليان!» وأردفَ: «لقد كان يتندَّر عليَّ لأكثرَ من عام!»
قال كروس لاهثًا: «إنه ابن إيرل!»
صرَّحَت كاثرين قائلة: «لا تُلقوا بالًا لذلك. إنه مُوالٍ للديمقراطية وصادقٌ في ولائه حتى النخاع. وسيُخبركم الأسقفُّ بذلك. فقد عرَفه طيلة حياته. فكِّروا! ليس لدى جوليان أوردين أيُّ غرض يُحققه ولا مصلحة شخصية يبتغيها. ليس لديه شيءٌ ليفوز به، ويمكن أن يخسر كلَّ شيء. إن لم يكن جوليان مخلصًا، وإن كانت كلماته تلك التي نتذكرها جميعًا لم تنبع من قلبه، فأين يمكن أن نجد المبرِّر أو السببَ وراء ما يُدافع عنه؟ فكِّروا فيما يعنيه هذا لنا!»
سألَ ساندز في غموض: «أليس هو الرجلَ الذي يتولون أمره بالأسفل هناك؟»
أجابته كاثرين: «لا أعرف أين يقعُ «بالأسفل هناك» ذلك، لكنه في حوزتكم في مكانٍ ما. لقد غادر شقته يوم الخميس الماضي في نحو السادسة والربع ليأخذَ تلك الرسائل إلى وزارة الخارجية، أو ليقوم بترتيبات تسليمها هناك. لكنه لم يصل أبدًا إلى وزارة الخارجية. ولم يُسمَع عنه شيءٌ منذ ذلك الحين. بعضكم يعرف أين هو. وأنا والأسقف نريد أن نذهب ونلتقيَ به في الحال.»
صرَّح كروس قائلًا: «فين وبرايت يعرفان مكانه. إنها مهمة برايت.»
تساءلَت كاثرين في نفاد صبر: «ولِمَ يضطلعُ برايت بهذه المهمة؟»
قطَّب كروس جبينه وزمَّ شفتيه، في حيلة غريبة كان يستخدمها حين يكون منزعجًا.
قال موضحًا: «يُمثِّل برايت العمالَ في المصانع الكيميائية. يقولون إنه لا يوجد سمٌّ سواءٌ كان سائلًا أو صُلبًا أو غازيًّا إلا ويعرف برايت كلَّ شيء عنه. ذلك الرجل يجعلني أقشعرُّ حين يقترب مني. وهو وفين يُديران فرع الخدمة السرية للمجلس.»
فاقترحَت كاثرين قائلة: «إن كان يعرف مكان السيد أوردين، أفلا يُمكننا أن نُرسل له في الحال؟»
تطوَّع فورلي وقال: «سأذهب أنا.»
ثم عاد في غضون دقائق قليلة.
وصرَّح قائلًا: «فين وبرايت بالخارج، وغرفهما مُوصَدة. وقد اتصلت بمنزل فين، لكنه لم يعد إلى منزله.»
ضربَت كاثرين الأرضَ بقدميها. كان نفاد الصبر يكاد يُفقدها صوابها.
صاحت كاثرين: «ألا يبدو الأمر مريعًا للغاية!» وأردفَت: «فقط لو تمكنَّا من الوصول إلى جوليان أوردين الليلة، لو تمكَّنتُ أنا والأسقف من التحدُّث إليه خمسَ دقائق، فسيُمكننا حينها أن نحصل على تلك الرسالة التي طال انتظارنا لها.»
هنا فُتِح الباب فجأة. ودخلَ فين وتلقى عاصفةً صغيرة من الترحاب. كان يرتدي معطفًا طويلًا خشنًا أسودَ اللون فوق ثيابه المسائية وقبعةً مستديرة سوداء. تقدَّم فين نحو الطاولة في شيء من الخُيَلاء المعروف به.
قال الأسقفُّ: «سيد فين، كنا ننتظر وصولك بفارغ الصبر. أخبِرْنا من فضلك أين يُمكننا أن نجد السيد جوليان أوردين.»
أطلقَ فين ضحكة ساخرة صغيرة تكاد تكون مكبوتة.
وقال: «لو سألتموني قبل ساعة، لأخبرتكم بأن تُحاولوا البحث في فيلا آيرس، أو على طريق أكاسيا، أو في هامبستيد. لقد جئتُ من هناك لتوي.»
سأله الأسقفُّ: «أرأيتَه؟»
أجابه فين: «هذا بالضبط ما لم أفعل.»
سألته كاثرين: «ولمَ لا؟»
«لأنه لم يكن هناك، منذ الثالثة بعد ظهر اليوم.»
سأله فورلي في لهفة: «هل نقلتموه؟»
أجابَ في تجهُّم: «هو مَن نقل نفسه. لقد هربَ.»
وأثناء الصمت القصير الذي سادَ من أثر الصدمة عقب تصريح فين، تقدَّم ببطءٍ إلى داخل الغرفة. في أثناء النقاش غيرِ الرسمي الذي دار بينهم، تصادفَ أن كان الكرسيُّ عند رأس الطاولة فارغًا. تردَّد الوافدُ الجديد ثانيةً واحدة، ثم خلعَ عنه قبعته ووضعَها على الأرض بجانبه وغاصَ في الكرسي الشاغر. ورمقَ كاثرين بنظرة متحدِّيةٍ بعضَ الشيء. بدا وكأنه يعرف تمامًا من أين سيأتيه الاعتراضُ على كلماته.
قالت كاثرين وهي تُحاول جاهدةً السيطرة على مشاعرها: «أنت تُخبرنا أن جوليان أوردين، الذي نعرف الآن أنه «بول فيسك»، قد هربَ. ماذا تقصد بذلك؟»
أجابها فين: «لا يُمكنني توضيحُ ما قلتُ أكثرَ من ذلك، لكنني سأحاول. لقد كان جميع أعضاء المجلس يُقدِّر الخطر الذي نواجهه جراء سقوط تلك الرسائل في الأيادي الخاطئة. فأسندتُ صلاحيات تقديرية لفرع الخدمة السرية الصغير الذي نُشرف عليه أنا وبرايت. ومُنِع أوردين من الوصول إلى وزارة الخارجية وجرى إعجازه عن ذلك لبعض الوقت. كان التفكير في الإجراء التالي المزمَع اتخاذُه يتوقَّف على سلوكه. وقعَ خطأٌ بسيط في معالجة برايت للمسألة. وبفضل ذلك بالطبع هرَبَ أوردين من المكان الآمن الذي وُضِع فيه. وهو الآن حرٌّ طليق، وعلى الأرجح ستطلع وزارة الخارجية في وقتٍ ما الليلة، على الرسائل التي بحوزته وعلى ما حدث له.»
علَّق كروس متجهمًا: «مما يُعطيهم الفرصة لتوجيه الضربة الأولى؛ بإصدار مذكِّرات ضبط بحقِّنا جميعًا بتهمة الخيانة العظمى، صحيح؟»
قال فين مؤكِّدًا: «لستُ أخشى ذلك، إنْ تصرَّفْنا بتعقُّل. أقترحُ أن نستبقَ الأمر، ويذهب أحدُنا غدًا لمقابلة رئيس الوزراء ويعرض الموقف برُمته أمامه.»
قال فورلي: «من دون الشروط.»
أوضحَ فين قائلًا: «أعرفُ ماذا ستكون هذه الشروط بالتحديد. المشكلة بالطبع تكمن في أن الرسائل المفقودةَ تحمل توقيعَ الضامنين الثلاثة. لا شكَّ أن الرسائل ستكون بين أيدي وزارة الخارجية بحلول الغد. ويمكن لرئيس الوزراء أن يتحقق من تصريحاتنا. سنوجِّه الإنذار الأخير في وقت مبكِّر قليلًا عما كنا ننتوي، لكننا سنكون قد وجَّهنا ضربتنا أولًا وسنكون مستعدين.»
مالَ الأسقفُّ في مكانه إلى الأمام قليلًا.
وقال في رجاء: «اعذرني إن قاطعتُك لحظة. أنت تقول إن جوليان أوردين قد هرب. أنفهمُ من ذلك أنه حر طليق وأنه في حالة صحية طبيعية؟»
تردَّد فين لحظة.
وقال: «ليس لديَّ ما يدفعني لاعتقاد عكس ذلك.»
فقال الأسقف في إصرار: «لكن، هل من الممكن ألا يكونَ جوليان أوردين في حالةٍ تسمح له بتقديم تلك الرسائل إلى وزارة الخارجية في الوقت الراهن؟ إن كان الوضع كذلك، فأنا أميل إلى الاعتقاد بأن رئيس الوزراء سيعتبرُ زيارتك له مجردَ خدعة. بالتأكيد، لن تكون لديك حُجةٌ قوية بما يكفي تدفعه إلى اقتراح الهدنة. لن يتحرك أيُّ شخص بِناءً على كلمتك وحدها. سيرغب في رؤية هذه الاقتراحات الرائعة مكتوبة، حتى لو كان مقتنعًا بعدالة حججك.»
سادت همهماتُ موافَقة طفيفة. فمالَ فين إلى الأمام.
وبعد ترددٍ لحظي صرَّحَ قائلًا: «أنت تقودني إلى كشفِ المزيد من الأمور، ومن ضمنها أمرٌ ربما كان عليَّ أن أكشفَ عنه بالفعل. لقد رتَّبتُ لإعداد نسخةٍ بديلة لتلك الرسائل وإرسالها. وقد شرَعتُ في ذلك الأمر بمجرد أن سمعنا من الآنسة آبواي هنا عن الواقعة المؤسفة التي حدثَت لها. ومن المتوقع أن تصلنا تلك النسخة البديلة في أي لحظة.»
قال الأسقف: «إذن، أقترحُ أن نُؤجلَ قرارنا إلى حينِ تسلُّم تلك الأوراق. تذكَّر أن المجلس حتى هذه اللحظة لم يُلزموا أنفسهم باتخاذ أي إجراء حتى يُطالعوا تلك الوثيقة ويدرسوها.»
اعترضَ فين قائلًا: «وبافتراض أن تم اقتيادُنا جميعًا غدًا في الثامنة صباحًا إلى برج لندن! قد تُصاب قضيتنا بالشلل، وسيذهب كلُّ ما عملنا لأجله كلَّ تلك الشهور سُدًى، وقد تستمرُّ تلك الحرب الدموية اللعينة حتى يرى ساستُنا أنَّ من الملائم أن يعقدوا سلامًا شفهيًّا.»
قال الأسقفُّ: «أنا أعرفُ السيدَ ستينسون جيدًا، وأنا مقتنعٌ تمامًا أنه رجلٌ أعقل مما يحلم بأخذِ مثل هذه الخطوة كما تقترحون. إنه يعرفُ ما يَعنيه حزبُ العمال على أي حال، إن كان الآخرون في وزارته ليس لديهم بُعد نظر كافٍ.»
قال فورلي: «أتفقُ مع الأسقف لأسباب عديدة.»
وقال كروس: «وأنا كذلك.»
كان الجوُّ العام للاجتماع واضحًا. ظهرت أسنان فين القبيحةُ للحظة، ثم أغلق فمه بسرعة بعضَ الشيء.
وقال: «هذا اجتماعٌ غير رسمي تمامًا. سأستدعي المجلس ليجتمع غدًا عند الظهيرة.»
قال الأسقفُّ: «أعتقد أن بإمكاننا أن ننام ليلتنا في أسِرَّتنا دون أن نخشى أيَّ إزعاج أو اعتداء، وإن كنتُ سأفاتح السيد ستينسون في الأمر إن كانت رغبة المجتمعين كذلك.»
فصرَّح فين في وقاحة: «أنت عضو شرفي بالمجلس. ولا نريد تدخلًا من أحد. هذه حركة عمالية قومية وعالمية.»
قال الأسقفُّ في هدوء: «أنا عضو في الحزب العُمَّالي المسيحي.»
فتدخَّل كروس: «وعضو مُشرِّف في هذا المجلس التنفيذي. أنت طليقُ اللسان الليلة بعضَ الشيء يا فين.»
فجاء ردُّه فظًّا: «إنما أفكِّر في أمر مَن أُمثِّلهم. إنهم كادحون ويرغبون من الكادحين أن يُبرهِّنوا على قوتهم. هم لا يريدون مساعدة من الكنيسة.» ثم أضافَ: «بل سأذهبُ إلى حدِّ القول إنهم لا يريدون مساعدة من الكتابات والمطبوعات الصحافية. إنها مهمتُهم وحدهم. هم مَن بدَءُوها، ويريدون أن يُنهوها.»
قال فورلي: «سيُظهِر اجتماع الغد مدى صحة وجهات نظرك. أرى أنَّ وضعي، ووضع الأسقف كذلك، كأعضاء في حزب العمال، يتساوى معك. وسأذهبُ إلى حَدِّ القول إنَّ روح مجلسنا تتجسَّد في تعاليم بول فيسك وكتاباته، أو جوليان أوردين كما نعرفه.»
نهضَ فين واقفًا. وكان يرتعش من الانفعال.
ثم أعلنَ في فظاظة: «رُفِعَ هذا الاجتماع غير الرسمي.»
لم يتحرَّك كروس نفسه.
وقال: «رُفِعَ أم لم يُرفع يا سيد فين، ولكن لستَ في موقعٍ يسمح لك بقول ذلك. لقد فرضتَ نفسك على ذلك الكرسي، لكن هذا لا يجعلك رئيسًا، لا الآن ولا في أي وقتٍ آخر.»
ابتلعَ فين بصعوبة الكلماتِ التي بدَت تتراقص على شفتَيه. فقد كان يعرف أعداءَه، لكن كان هناك آخرون ربما لا يزالون على الحياد.
وقال: «إن كنتُ قد اضطلعت بأكثرَ مما كان ينبغي أن أضطلعَ به، فأنا آسفٌ على ذلك. كنت أحمل لكم أخبارًا وكنت أتعجَّل توصيلها لكم. ثم تبعَ بعد ذلك ما تبع.»
نهضت المجموعة الصغيرة واتجهوا نحو الباب، وهم يتبادلون تعليقاتٍ هامسةً بشأن الأخبار التي جاءت بها كاثرين. ثم اجتازت كاثرين الغرفة إلى الجانب الآخر وواجهت فين.
قالت: «لا يزال هناك شيءٌ ينبغي قوله حول تلك الأخبار.»
لم تكن محاولة فين لتحرِّي الصراحة التامة مقنعة إلا بقدرٍ ما.
إذ قال: «لا يوجد أدنى سببٍ لإخفاء أي شيء يتعلَّق بجوليان أوردين عن أي عضو بالمجلس يرغب في معرفة المعلومات. إن تبعتِني إلى غرفتي الخاصة يا آنسة آبواي، وأنت يا فورلي، فسيسرُّني أن أُطلعكما على وضعنا الحالي.» ثم أضافَ وهو يلتفتُ إلى الأسقف: «وإنْ رافقكم الأسقفُّ، فسيشرفني ذلك.»
لم يردَّ فورلي، لكنه همسَ بشيءٍ في أذن كاثرين، ثم أخذَ قبعتَه وغادرَ الغرفة. غير أن الاثنين الآخرَين نفَّذا كلام فين وتبعَاه إلى غرفته، وجلسَا في الكراسي التي وضعَها لهما، وانتظرا بينما كان فين يتحدَّث عبر هاتف إلى الشبكة الخاصة التي كانت موجودة في البناية نفسها.
وصرَّح قائلًا عندما وضعَ السمَّاعة: «يقولون لي إنَّ برايت عادَ لتوِّه وإنه في طريقه إلى هنا الآن.»
فارتعشت كاثرين.
«أهو ذلك الشخص البشع المظهر الذي حضرَ آخِر اجتماع للمجلس؟»
صدَّق فين على حديثها قائلًا: «على الأرجح هو ذلك الشخص الذي تقصدينه. إنه لا يُبدي اهتمامًا كبيرًا بعمَلنا التنفيذي، لكنه أحد ألمع العلماء في هذا الجيل أو في أي جيلٍ آخر. لقد خصَّصَت له الحكومة بالفعل ثلاثةَ معامل ليُجري فيها تجارِبَه، وكل غاز تقريبًا يُستخدَم على الجبهة يكون مُعدًّا وفقًا لتركيبته.»
تمتم الأسقف قائلًا: «سيدُ الأهوال.»
وهمست كاثرين بصوتٍ خفيض: «ومظهره يدلُّ على ذلك.»
جاءَ صوتُ طرقٍ على الباب بعد لحظة أو اثنتين، ودخلَ برايت. كان طوله يفوق المتوسط بعضَ الشيء، وقوامه طويل ونحيل، وبه تحدُّب واضح، وكان شعره مجعدًا أسود اللون وذا ملمس خشِن. وكان رأسُه، الذي كان مشرئبًّا للأمام بعضَ الشيء، ربما بسبب قِصَر نظره، طويلًا وجبهته صغيرة، وبشَرتُه ذات لون يقترب من الأخضر الزيتوني. كان يرتدي نظارة كبيرة تُشوِّه مظهره، وكان له شفتان بارزتان كشفاه السود. حيَّا كاثرين والأسقَّف في غير انتباه، وبدا أن لديه شكوى ضد فين.
إذ سأله في نفاد صبر: «ماذا تريد يا نيكولاس؟» وأضافَ: «لديَّ تجاربُ أقوم بها في البلاد وليس لديَّ وقتٌ لأُضيِّعه.»
قال فين: «لقد ألغى المجلس تعليماته بشأن جوليان أوردين، ويتوقون للمثول أمامهم في الحال. وكما تعرف، نحن نقف عاجزين حيال هذا الأمر في الوقت الراهن. فهَلا تشرح للآنسة آبواي والأسقفِّ ما حدث؟»
أجابَ برايت بنبرةٍ حادة: «يبدو ذلك مضيعة للوقت، لكن إليكم القصة. غادرَ جوليان أوردين شقته في السادسة والربع من مساء يوم الخميس. وسار حتى شارع سانت جيمس وانعطفَ إلى الحديقة العامة. وبمجرد أنْ عبَر البابَ الجانبي لقصر مارلبورو، أُصيبَ بإغماءٍ مفاجئ.»
قاطعه الأسقف: «والذي أعتقد أنك كنتَ مسئولًا عنه.»
فأجابَ برايت: «أنا أو نائبي. لا يهمُّ ذلك. كان جوليان أوردين محظوظًا بما يكفي ليتمكَّن من الإشارة إلى سيارة أجرة اقتادته إلى منزلي في هامبستيد. وقد أمضى المدة الفاصلة، حتى الثالثة من عصر هذا اليوم، في معمل صغير ملحَقٍ بالمبنى.»
فتجرَّأ الأسقفُّ وقال: «أعتقد أنها كانت إقامةً جبرية، أليس كذلك؟»
قال برايت بصوته الأجش الخشن مؤكِّدًا: «إقامة جبرية جرى الترتيبُ لها بناءً على تعليماتٍ من المجلس. كان معظم الوقت تحت تأثير نوعٍ جديد من غازٍ مخدِّر كنت أُجري عليه تجارب. لكن لا بد أنني أخطأت في حساباتي الليلة. فبدلًا من أن يظل في حالة إغماءٍ حتى منتصف الليل، استعادَ جوليان أوردين وعيه أثناء غيابي ويبدو أنه غادرَ المكان.»
سألته كاثرين: «إذن فليس لديك أيُّ فكرة عن مكانه الآن؟»
قال برايت مؤكِّدًا: «ولا أدنى فكرة. كلُّ ما أعرفه أنه غادر المكانَ من دون قبعته أو قفازاته أو عصا المشي. فيما عدا ذلك، كان يرتدي ملابسه كاملة، ولا شك أنه كان معه الكثيرُ من المال في جيبه.»
سأله الأسقفُّ: «هل من المرجَح أن يُعاود الشعور بالتوعُّك الذي كان يُعاني منه جراء ما فعلته به؟»
أجابَ باقتضاب: «لن يحدث ذلك. ربما يجد ذاكرته قد تأثرَت مؤقتًا إلى حدٍّ ما. لكن يُفترَض أن يكون قادرًا على أن يجد طريقه للمنزل. وإنْ حدث عكسُ ذلك، فأعتقدُ أنكم ستسمعون أخبارًا عنه من خلال أقسام الشرطة أو أحد المستشفيات.» ثم أضافَ بعد أن سكتَ لحظة: «لم نفعل شيئًا من المرجَح أن يؤثر على صحته بصورة دائمة ولو بأقلِّ درجة.»
قال فين: «أنتِ الآن على دراية بكل شيءٍ يمكنك الاطلاع عليه يا آنسة آبواي. وأتفقُ معكِ على أن من المستحسَن للغاية العثورَ على السيد أوردين في الحال، وإنْ كان بوسعي اقتراحُ أي شيء يمكن أن يساعد في معرفة مكانه الحاليِّ، فسيسرُّني كثيرًا أن أُقدِّم يدَ العون. على سبيل المثال، أترغبين مني أن أتصل بشقته هاتفيًّا؟»
نهضت كاثرين واقفة.
وقالت: «شكرًا لك سيد فين. لا أظن أننا سنزعجك. فالسيد فورلي يتحرَّى عنه في شقته وفي النوادي التي يتردد عليها.»
فألحَّ في سؤاله بينما كان يفتح لهما الباب: «إذن أنا واثق أنكِ قانعةٌ تمامًا فيما يتعلَّق بصلتي بالأمر، أليس كذلك؟»
أجابته كاثرين وهي تنظر في وجهه: «قانعة تمامًا بأنك أخبرتنا قدرَ ما تُريدنا أن نعرف في الوقت الراهن.»
أغلقَ فين البابَ خلف كاثرين والأسقفِّ واستدار عائدًا إلى داخل الغرفة. وضحكَ منه برايت بصورة مزعجة.
«علاقة حُبٍّ لا تسير على ما يُرام، أليسَ كذلك؟»
ألقى فين بنفسه على الكرسي، وأخرج سيجارة من علبة ورقية وأشعلها.
وغمغم قائلًا: «تبًّا لجوليان أوردين!»
قال صديقه متثائبًا: «لستُ أعترضَ. ما الخطبُ الآن؟»
«ألم تسمَع بالأخبار؟ يبدو أنَّ جوليان أوردين هو ذلك الشخص الذي كان يكتب تلك المقالات عن الاشتراكية وحزب العمال ويُوقِّع عليها باسم «بول فيسك». مجرد ترَّهات مثالية، لكن الأسقف وجماعته بالطبع متحمسون له.»
فأقرَّ برايت وهو يُشعِل لنفسه سيجارة: «قرأتُ بعضًا من كتاباته، وهو جيدٌ في أسلوب تعبيره عن أفكاره، لكنه عتيق الطِّراز. فأنا أبحثُ عن شيءٍ أكثرَ من ذلك قليلًا.»
أمرَه فين متجهِّمًا: «لا تخرج عن الموضوع. الآن وبعد أن عرَفوا مَن يكون جوليان أوردين، يريدون إظهاره. يريدون انتخابه في المجلس وجعله رئيسًا فوقنا جميعًا، ويدَعونه يقطف ثمار المخطط الذي تفتَّقَت عنه أذهاننا.»
«يريدونه رئيسًا؟ هذا أمرٌ مزعج.»
غمغم فين: «مُزعِج لنا.»
قال برايت في تأكيد بطيءٍ وخبيث: «أعتقدُ أنَّ من الأفضل أن ينالوه. أجل، من الأفضل أن ينالوه. سنخلع قبعاتنا ونؤكِّد له أنَّ ما حدث كان خطأً.»
«فاتَ الأوان. لقد أخبرتُ الآنسة آبواي والأسقفَّ أنه طليق. وقد أيَّدتَ كلامي.»
دسَّ برايت أصابعَه الطويلة البشعة الكثيرة العُقَد في جيبه وأخرجَ سيجارة مجعَّدة وأشعلها من سيجارة رفيقه.
ثم تساءَل: «حسنًا، ماذا تريد؟»
فقال فين في حزم: «لقد توصَّلتُ إلى استنتاج مفاده أنَّ ارتباط أوردين بقضيتنا ليس في صالحها بأي حال.»
قال برايت وهو يفكِّر: «نحن نتمتع بقدرٍ كبير من النفوذ، لكني يبدو لي أنك تميلُ إلى توسيعه. وما أفهمه أنَّ الآخرين يريدون تسليم جوليان. لا يمكننا معارضتهم.»
فأجابه فين بنبرة ذات مغزًى: «ليس إن كانوا يعرفون.»
اتجه برايت نحو المدفأة واتَّكأ بمرفقه عليه، وراحَ ينظر إلى رفيقه بوجهه الشديد القبح بتركيزٍ وثبات.
وقال: «نيكولاس، لا ألومك على التبارز، لكنني أفضِّل الكلمات الصريحة. لقد استفدتَ جيدًا من وراء هذا الحزب الجديد. أما أنا، فلم أستفد شيئًا. ليس لديك أيُّ هواية سوى ادخار أموالك. أما أنا فلديَّ مواهبُ أخرى. لقد خرَجتُ من آخر تجربتَين لي مفلسًا، برغم الإعانة الحكومية. أنا في حاجة إلى المال قدرَ احتياجكم إلى الخبز. يمكنني العيش دون طعامٍ أو شراب، لكن لا يمكنني أن أعيش من دون الوسائل التي تجعل مختبراتي تستمر في عملها. هل تفهمني؟»
أقرَّ فين بحديثه وهو يرتدي قبعته: «أفهمُك. تعالَ، سأذهبُ معكَ إلى بيرموندسي بالسيارة. وسنتحدَّث في الطريق.»