الفصل الرابع عشر
بعد أكثرَ من نصف ساعة بقليل كان جوليان يصعد درجات سُلَّم ناديه في «بال مول» وطلبَ من حارس الردهة الخطابات. ولم يكن باديًا على مظهر جوليان شيءٌ يوحي بمروره بعدة أيامٍ من الإجهاد الشديد عدا أنه كان أكثرَ شحوبًا بقليل من المعتاد ويتَّكئ على عكازه بمزيدٍ من الثقل. وكان هناك نبرةُ فضول مختلطٍ بالدهشة في تحية الحاجب المهذَّبة له.
إذ قال: «كانت هناك تساؤلاتٌ كثيرة عنك في الأيام القليلة الماضية يا سيدي.»
فأجابه جوليان: «اضطُررت إلى السفر خارجَ المدينة فجأة.»
ألقى جوليان نظرةً سريعة على كومة الرسائل الصغيرة، واختار من بينها مظروفًا كبيرًا بعثه إلى نفسِه بخط يده. عادَ جوليان به إلى السيارة الأجرة حيث كانت كاثرين والأسقفُّ يجلسان في انتظاره. راحا يُحدِّقان بأعينٍ مبهورة إلى المظروف الذي كان يحمله وقدَّمه لهما في الحال.
قال جوليان وهو يتكئ إلى الخلف: «أترَيان، ما من مكانٍ منيع في العالم مثل نادٍ يتمتَّع بسُمعة حسنة. إنه يتفوَّق على أفضل الخزائن المشفَّرة. وكان الأمر سيتطلب سكوتلاند يارد كلَّها من أجل سحبِ هذا المظروف من فوق الرف.»
تساءلت كاثرين لاهثة: «أهذا هو … حقًّا؟»
قال جوليان مؤكِّدًا: «هذا هو الخطاب الذي سلَّمتِني إياه لأحتفظَ به في مكان أمين في مالتينبي.»
انطلقت بهم السيارة في صمت شبهِ تام إلى منزل الأسقف، حيث تقرَّر أن يقضيَ جوليان ليلتَه هناك. ترك الأسقفُّ جوليان وكاثرين معًا أمام المدفأة في مكتبته، بينما كان يُشرف شخصيًّا على ترتيب حجرة لضيفه. اقتربت كاثرين وجثَت بجوار كرسيه.
وهمست قائلةً: «هل أطلبُ الصفحَ عن الماضي، أم أتحدَّثُ عن المستقبل، المستقبل المجيد؟»
سألها جوليان في تشكُّك بعضَ الشيء: «هل سيكون المستقبل مجيدًا؟»
أجابته كاثرين في حماسة: «يمكنك أن تجعلَه كذلك أكثرَ من أي شخص آخر على قيد الحياة. أتحدَّاك أنت، أنت يا بول فيسك، أن تُفنِّد مخططنا، وغاياتنا، والهدف الذي نُناضل لأجله. كلُّ ما كنا بحاجةٍ إليه هو قائد يُمكنه أن يرفعَنا فوق مستوى المحلية وضيق رُؤى هؤلاء الرجال. إنهم جادُّون إلى أبعدِ حَدٍّ، لكنهم لا يستطيعون أن ينظروا بعيدًا بما يكفي، وكلٌّ منهم يرى حتى حدوده فقط. صحيحٌ أن الشمس نفسها تسطع في النهاية، لكن لا يمكن لجَمْعٍ من الناس أن يتحركوا في عدة اتجاهات مختلفة ويُحافظوا على الهدف نفسِه نُصب أعينهم.»
لمسَ جوليان الرسائل.
وقال مذكِّرًا إياها: «لا نعرف بعدُ ما هو مكتوب هنا.»
ألحَّت كاثرين قائلة: «أنا أعرفها، قلبي يُنبئني. بالإضافة إلى أنني حصلتُ على الكثير من التلميحات. ثَمة أناسٌ في لندن يجبرهم وضعهم على التزام الصمت، لكنهم يعرفون ويفهمون.»
سألها جوليان في ارتياب: «غرباء؟»
«محايدون بالطبع، لكنَّ المحايدين الذين يتمتعون بحرية التصرف يكونون مفيدين للغاية. إن الجَناح العسكري في ألمانيا لا يزال يُقدِّم أداءً شجاعًا، لكنه ينهزم، بغضِّ النظر عن الانتصارات التي يُحققها. فالشعب مجتمعٌ هناك بالملايين. وصوتُهم أصبح مسموعًا بالفعل. هاكَ هو دليلنا على ذلك.»
قال جوليان معترضًا: «لكن حتى ولو كانت تلك الشروط المقترَحة ملائمةً كما تقولين، كيف لكم أن تفرضوها على مجلس الوزراء الإنجليزي؟ يوجد تحالفٌ أمريكي فرنسي. إنَّ مطلبكم ما هو إلا مطلب داخلي بحت. أما الحكومة فلديها أشياءُ أخرى تُفكِّر فيها وتضعُها في الاعتبار.»
قالت كاثرين: «فرنسا أعيَتها الحرب حتى النخاع. وستحذو حَذْو إنجلترا، لا سيَّما حين تعلم محتويات هذه الرسائل. أما عن أمريكا، فقد دخلت هذه الحربَ بعد التضحيات الكبرى التي قُدِّمت. وهي لا تُطالب بأي شيءٍ أكثرَ مما سيتم كشفه. إن المهتمين بالشئون الإنسانية في العالم لن يتردَّدوا في وضع نهايةٍ لهذه المذبحة الوحشية، ليس من أجل الأفكار الخيالية أو من أجل الفوز بالحظوة الدبلوماسية.»
راحَ جوليان يتفرَّس فيها في فضول. بدا وجهها جميلًا بصورة غريبة في ضوء النار المشتعلة. كانت معنويات كاثرين مرتفعةً بفعل حماسة أفكارها. وكان العُمق في عينيها البُنيتَين الناعمتَين لا حدود له؛ وكانت الرعشة التي في شفتَيها الناعمتَين العذراوين، ملهمة ومثيرة. كانت يدها مستندةً على كتفه. بدَت كاثرين تتفرَّس في تعبيرات وجهه، وتُنصت إلى كلماته في شغف. غير أنه أدركَ أنه لم تكن هناك نبرةُ خطاب شخصي في كل ما سمع منها. كانت كاثرين نصيرة لقضية مقدَّسة، تتَّقد بالعزم والإصرار.
قال جوليان في تفكير: «سيعني هذا قيامَ ثورة.»
أوضحت كاثرين قائلةً: «لقد تم إرساءُ الدعائم لثورة قبل عامَين، ومنذ ذلك الحينِ تقلَّد الشعبُ سلطاته.» وأردفت في حماسٍ وشغف: «سأخبرك بما أومنُ به اليوم، أنا أومن بأن الطبقة التي كانت الأكثرَ تعنتًا وتمسكًا بموقفها بخوض الحرب، والتي تُحكِم قبضتها بشدة على سيفها هي نفسُها الطبقةُ التي ستكون الأكثرَ امتنانًا للشعب الذي سينزع منهم زِمام المبادرة ويُريهم الطريقَ نحو سلام مُشرِّف وحتمي.»
سألها جوليان: «متى تنوين فضَّ هذه الأختام؟»
أجابته: «مساءَ الغد. سيكون هناك اجتماع للمجلس بكامل هيئته. وستُقرأ الشروط. وبعدها تتخذ قرارك.»
«ماذا سأقرر؟»
«ما إن كنت ستقبلُ بمنصب المتحدِّث الرسمي، ما إن كنت ستُصبح السفيرَ الذي سيتحدَّث إلى الحكومة.»
قال جوليان معترضًا: «لكن قد لا ينتخبونني.»
أجابته كاثرين في ثقة: «سينتخبونك. لقد كنتَ أنت مَن أظهرت لهم مدى قوتهم. كان إلهامُك هو ما قادهم وحرَّك حماسهم؛ أنت مَن ستكون مُمثِّلهم.» ثم أردفت: «ألا تُدرك أنَّ ارتباط رجال مثلك ومثل مايلز فورلي والأسقفِّ بهذه الحركة هو ما سيُضفي عليها صفة الواقعية في عيون الطبقة البرجوازية في البرلمان والبلاد؟»
هنا عادَ مُضيفهما يتبعه كبيرُ الخدم حاملًا صينيةً من المرطبات، فنفَضوا عنهم عبءَ الأمور الجادة. ولم يَعُد أيٌّ من الرجلين إلى التطرق إلى المسألة الكبرى التي سيطرت على أفكارهما إلا بعد أن غادرتهما كاثرين وبقيا برهةً بالقرب من النار قبل أن يخلدا إلى النوم.
قال الأسقفُّ بشيءٍ من القلق في صوته: «أنت تفهم يا جوليان أنني أتخذ موقفك نفسَه فيما يتعلَّق بالمقترحات التي قد يحويها هذا المظروف؟ لقد اشترطتُ عند الانضمام إلى هذه الحركة — أو المؤامرة كما يُفترض أن يُطلَق عليها — أن تكون الشروط الموضوعة شروطًا قد تفخر بقَبولها دولةٌ مسيحية محبة للقانون قدَّم أبناؤها بالفعل تضحياتٍ عظيمة في سبيل قضية الحرية. وإن كانت غير ذلك، فسيتحوَّل كلُّ ما قد أملك من ثقلٍ وتأثير لدى الناس إلى الجانب الآخر. أعتقدُ أن الأمر كذلك بالنسبة إليك؟»
وافقه جوليان قائلًا: «تمامًا.» ثم أضافَ: «ولكي أكونَ صريحًا معك، فإنَّ ما ينتابُني من شكوك لا يتعلَّق بشروط السلام نفسِها بقدر ما يتعلق بقدرة الديمقراطية الألمانية على فرضها.»
أقرَّ الأسقفُّ قائلًا: «لقد اعتمدنا كثيرًا على تقاريرَ من أشخاص محايدين.»
ابتسم جوليان في تجهُّم بعضَ الشيء.
ثم قال: «لقد ألصقنا الكثيرَ من الألقاب والصفات بالدبلوماسية الألمانية انتقادًا لها، لكن يبدو أن ألمانيا تعرف كيف تُحكِم قبضتها على معظم أولئك المحايدين. أتعرف ما قاله ذلك الفرنسي؟ «وراء كل محايدٍ مسئولٌ دعائي ألماني»!»
قادَ الأسقفُّ جوليان إلى الطابق العلوي. وخارج باب حجرة جوليان، وضعَ الأسقفُّ يده في حُبٍّ وعطف على كتف الشاب.
وقال: «ابني بالمعمودية، لم نتحدَّث بعدُ بشأن هذه المفاجأة الكبرى التي قدَّمتها لنا، أعني مفاجأة بول فيسك. كلُّ ما سأقوله لك الآن هو الآتي. أنا فخورٌ للغاية بكونك ضيفي الليلة. وتسرُّني كثيرًا فكرةُ أننا سنكون زملاءَ عمل بدءًا من الغد.»
بينما كانت كاثرين تنتظر وصول الشاي في استراحة كارلتون بعد ظهر اليوم التالي، راحت تُحدِّق في النخيل المتدلِّي الذي يظلُّ الطاولة المنعزلة بعضَ الشيء التي كانت تجلس إليها في مشهدٍ بديع للغاية. كانت الساعة قد بلغَت الخامسة تمامًا، وكان هناك حشدٌ كبير متزاحِم من اللندنيِّين المتأنقين يستمعون إلى أنغام فرقة موسيقية شهيرة، أو يُحاولون الاستماع إليها قدرَ ما يمكنهم وسط ضجيج المحادثات الدائرة بين الناس.
قالت كاثرين لرفيقها: «الأمر مدهشٌ إلى حد كبير، أليس كذلك؟»
أنزلَ الأخير نظارته — وكان ملحقًا في إحدى سفارات الدول المحايدة — وراحَ يلمِّعها بمنديلٍ حريري، كان مطرزًا في إحدى زواياه بتاج صغير بارز بعضَ الشيء.
وصرَّح قائلًا: «إنه يصلح لأن يكون دراسةً مثيرة للاهتمام. إنَّ برلين الآن غارقةٌ في الصخب والملذَّات بجنون، وباريس تتحلَّى بالرزانة والاحتشام. فقط لندن هي مَن لا تزال طبيعية؛ لأنَّ جلدَها هو الأغلظ، ولأنَّ وعيها هو الأقل حِدَّة، وأنانيتها هي الأعمق.»
راحت كاثرين تُفكِّر مَليًّا للحظة.
ثم قالت: «أظن أن التاريخ الفلسفيَّ للحرب سيُشكِّل موضوعًا مثيرًا للاهتمام كثيرًا لمَن سيأتون مِن بعدنا. أقصد دراسة المزاج القومي العام قبل الحرب وفي أثنائها وبعدها. سيكون الشيء الملحوظ على الدوام هو الكراهية الشديدة التي تُكنُّها أنت — وربما أنا والغالبية العظمى من المحايدين بالتأكيد — تجاه إنجلترا.»
صادق الشابُّ بنبرةٍ جادة على ذلك قائلًا: «هذا صحيح. يجد المرءُ ذلك في كل مكان.»
تابعت كاثرين قائلةً: «قبل الحرب كانت ألمانيا هي المكروهةَ في كل مكان. كانت تشقُّ طريقها إلى أفضل الأماكن في الفنادق والمنتجعات الصحية، كمونت كارلو على سبيل المثال، والمنتجعات الشهيرة الأخرى. واليوم، يبدو أن تلك الكراهية المتراكمة تحوَّلت إلى إنجلترا. أنا نفسي لستُ من أشدِّ المعجبين بهذا البلد، لكنني أسأل نفسي لماذا؟»
فقال الشاب: «إنجلترا متعجرفة، متحجرة القلب، ومنافقة وإن كان ذلك بلا عَمْدٍ منها. إنها تتخذ موقفًا استنكاريًّا ساخطًا حيالَ جرائم جيرانها وأخطائهم، ولا تُدرك أخطاءها. إنَّ الألمان متعجرفون، لكن المرء يُدرك تلك الحقيقة ويتوقعها. أما الإنجليز فهم مزعِجون.» ثم أضافَ خافضًا صوته قليلًا وراحَ ينظر حوله ليتأكَّد من أنهما بمفردهما: «لا شك أن تعاطُفَنا نحن المحايدين المتبقِّين يظل مع دول المحور.»
قالت كاثرين متنهدة: «لديَّ بعض الأصدقاء الأعزَّاء في هذا البلد أيضًا.»
«بين أولئك المنتمين إلى طبقتك بالطبع. لكن ثَمة اختلافًا طفيفًا جدًّا بين الطبقات الأرستقراطية في كل عِرق من الأعراق في العالم. إنما الطبقة المتوسطة هي مَن تؤثر، وتضع طابَعَها على شخصية الأمة وتسبغ عليها صفاتها المميِّزة.»
كان الشاي الخاصُّ بهما قد وصلَ، ولبضع لحظاتٍ اتخذت المحادثةُ مساراتٍ ألطفَ وأخف. فراحَ الشابُّ — الذي كان شخصًا ذا مكانة وحيثية في بلاده — يتحدَّث بأريحية عن المسارح والأصدقاء المشتركين وإحدى الرياضات التي كان يُمارسها. وعادت كاثرين إلى الدور الذي كان دورها الأول في الحياة؛ ألا وهو دور الشابة الأنيقة العصرية. وبهذا لم يجذبا انتباهَ أي أحد عدا بعض نظرات الإعجاب الخاطفة التي كانت موجَّهةً إلى كاثرين من جانب المارة. وحين بدأت أعداد الناس من حولهم في التناقص بعضَ الشيء، أصبح حديثُهما أكثرَ ألفةً وحميمية.
إذ قال الشاب متأملًا: «سأظل دومًا أشعر بأنني عايشتُ في هذه الأيام أحداثًا عظيمة. لقد رأيتُ وأدركتُ ما سيرويه المؤرِّخون من مصادرَ غيرِ مباشرة. فأعظم الأحداث تتحرك كالقشِّ في الرياح. قبل شهر واحد، بدا وكأنَّ دول المحور ستخسر الحرب.»
قالت كاثرين: «أعتقدُ أن الأمر يعتمد كثيرًا على ما تقصد من الفوز بالحرب؟ إنَّ شروط السلام هي شروط النصر، أليس كذلك؟»
كرَّر الشابُّ الكلمة في تأمل: «شروط السلام.»
تابعت كاثرين متحدثةً بنبرة خفيضة للغاية: «نحن نعرف تلك الشروط، أليس كذلك؟ الشروط الأساسية على أي حال.»
قال الشابُّ بنبرة بطيئة: «أتقصدين الشروط المقدَّمة من قِبَل الحزب الاشتراكي الألماني لضمان تحقيق هدنة؟»
قالت مذكِّرةً إياه: «ووافقَ عليها القيصر وأهمُّ رجلَين من رجال الدول الألمان.»
راحَ الشابُّ يعبث بفنجانِ شايه، ثم أخرج علبة سجائر ذهبية اللون من جيبه وتخيَّر منها سيجارة وأشعلها.
وقال وهو يبتسم إلى رفيقته: «تُحاولين أن تجعليني أُصدِّق أنكِ اليوم لستِ في أذكى حالاتكِ.»
استجدَته كاثرين بجدِّية قائلةً: «اشرِح لي ما تقصده من فضلك.»
راحَ الشاب يُدخن سيجارته في تبلد لعدة لحظات.
ثم قال: «أظن أنكِ تحتفظين معي بشيءٍ من ذلك الجهل المصطنَع بمهارة شديدة، الذي يعتبر القناعَ الحقيقي للشخصية الدبلوماسية. لكنني أتساءل، هل الأمر يستحق؟»
التقطت كاثرين أنفاسها.
وغمغمت وهي تنظر إليه خِلسةً قائلة: «أنت بارع للغاية.»
واصلَ الشابُّ حديثه قائلًا: «لقد رأيتِ كيف جاهدَت ألمانيا، التي هي في حاجةٍ ماسة إلى السلام، من أجل استغلال أكثرِ القُوى ازدراءً فيها لأجل مصلحتها، وأقصدُ بذلك الحزب الاشتراكي. فبعد أن كانوا يُعامَلون بازدراء واحتقار، رأى الرجلُ الأول بذاته فجأةً، في وقتِ اقتراح مؤتمر ستوكهولم، أنهم يستحقون الاهتمامَ والملاحظة. لقد أدركَ فجأةً مدى الاستفادة الرائعة التي يمكنه تحقيقُها من ورائهم. كان فخًّا بارعًا للغاية تم تزويده بطُعم، وعدم وقوع الحلفاء في هذا الفخ لا يرجع إلى أيِّ بصيرة ثاقبة أو براعة من جانب هذا البلد.» ثم استطرد: «أقولها مرةً أخرى إن الحظ فقط هو ما حالَ دون تمثيل الحُلفاء في ذلك المؤتمر والانزلاق إلى حافة الهاوية.»
قالت كاثرين موافقةً إياه: «أنت محقٌّ تمامًا.»
أكمل الشابُّ قائلًا: «قد تكون الدبلوماسية الألمانية غبيةً وبليدة في بعض الأحيان، لكنها على الأقل مُثابرة. وبالتأكيد ستُصنَّف خطوتهم التالية في التاريخ باعتبارها الأذكى والأشدَّ دهاءً منذ بداية الحرب.» وتابعَ الشابُّ وهو يُثبِّت سيجارته في حامِل طويل كهرماني اللون قائلًا: «لا يسَعُنا نحن مِمَّن ليسوا بألمان سوى أن نُخمِّن تلك الحركة بالطبع، لكن حتى التخمين مدهش.»
قالت كاثرين في رجاء: «أكمِل من فضلك يا عزيزي البارون. فأنا أشعر وكأنني أستمع إلى بيسمارك آخرَ حين تتحدَّث بهذا الشكل وتُطلعني على ما تُفكِّر فيه.»
قال الشابُّ: «أنت تُجاملينني أيتها الكونتيسة، لكن هذه الأحداث مثيرةٌ بالفعل. تتبَّعي مسارها بنفسكِ بعد فشل مؤتمر ستوكهولم. لقد أسَّس القيصر علاقاتٍ بعينها مع الحزب الاشتراكي. مرةً أخرى اتجه إليهم. إنه يتصنَّع إنهاكًا من الحرب لا يشعر به. إنه يضع في رءوسِهم أنَّ عليهم أن يتَواصلوا من دون إثارة أيِّ قلاقل مع رجالٍ بأعينهم في إنجلترا يحظَوْن بأتباع عُمَّاليين كُثْر. لقد بدأ المخطط. وتعرفين جيدًا مدى التقدُّم الجيد الذي يُحرزه.»
قالت كاثرين موافقةً إياه: «بالطبع، لكن أخبرني أين ستتدخل تلك الدبلوماسية الرائعة في النهاية؟ إنَّ شروط السلام ليست شروطَ دولة مُعتدية. ستتعهَّد ألمانيا بالتخلي عن كل ما أقسمَت على احتلاله، بل ستدفع تعويضات، وستُعيد كلَّ الأراضي المحتلة، وستسحب كلَّ قواتها إلى ما وراء نهر الراين.»
ثبَّت الشابُّ ناظرَيه على رفيقته لعدة ثوانٍ.
ثم قال: «كما يقولون بلغة هذا البلد، أرفعُ لكِ القبعة أيتها الكونتيسة. أنتِ تُحافظين على قناع الجهالة حتى النهاية. حتى إنني أجدُني في الواقع أسأل نفسي، هل تُصدِّقين حقًّا أن ألمانيا تنوي فعل ذلك؟»
قالت كاثرين مذكِّرةً إياه: «لكنك نسيتَ أنني كنتُ واحدةً من أولئك الذين حضروا مناقشة الإجراءات التمهيدية. لقد وصلَ التأكيدُ على الشروط المتفَق عليها ومعها التوقيعات، وستُقدَّم أمام المجلس العُمَّالي في السادسة من مساء اليوم.»
بدا الشابُّ متحيرًا للحظة. ثم ألقى نظرةً سريعة على ساعة ذهبية صغيرة حول معصمه، وأخرجَ السيجارة من حاملها وأعادَ الحاملَ بحرص في علبته.
ثم قال: «هذا شيقٌ ومثير للغاية أيتها الكونتيسة. لقد نسيتُ مكانتَكِ الرسمية بين الاشتراكيين الإنجليز في الوقت الراهن.»
مالت كاثرين للأمام ولامست كمَّ معطفه.
وصرَّحَت في لهفة قائلة: «لم تنسَ شيئًا. ثمة شيءٌ في ذهنك لم تبُح به.»
أجابها: «لا، لقد أفصحتُ عن الكثير مما يجول في ذهني، وربما أفصحتُ عن أكثرَ مما ينبغي، بالنظر إلى أننا نجلسُ في هذه الاستراحة العصرية للغاية ومحاطون بكثيرٍ من الناس. ينبغي أن نتحدَّث عن هذه الأمور الخطيرة في مناسبةٍ أخرى أيتها الكونتيسة. سأزور عمتكِ في غضون الأيام القليلة القادمة إن سمحتم لي بذلك.»
قالت كاثرين وهي تُخرِج قفازاتها في إصرار: «لماذا تتجنَّب الرد عليَّ؟» وأردفَت: «كلانا يعرف، فيما يتعلق بشروط السلام تلك، أن …»
قاطعَها قائلًا: «إنْ كان كِلانا يعرف، فليحتفظ كلٌّ منا بما يعرف. أحيانًا ما تكون الكلمات خطيرةً للغاية، وهناك أحداثٌ جِسام تلوح في الأفق. إذن أيتها الكونتيسة! أعتقدُ أنَّ معكِ سيارة، أم سأحظى بشرف اصطحابكِ إلى وجهتكِ؟»
قالت له وهي تهمُّ بالنهوض: «أنا ذاهبة إلى ويستمنستر.»
قال الشابُّ وهما يشقان طريقهما عبر المكان: «في تلك الحالة، ربما من الأفضل ألا أعرضَ اصطحابكِ، وإن كانت لديَّ رغبة شديدة في الوجود هناك بشخصي. أنتِ من بين أولئك الذين سيصنعون التاريخ اليوم.»
قالت كاثرين في رجاءٍ خافضةً صوتها بعضَ الشيء: «أرجو أن تأتي لزيارتي قريبًا. وسأبوحُ لكِ بقدرِ ما يمكنني البَوحُ به.»
فأقرَّ قائلًا: «هذا شيءٌ مغرٍ، فأنا أريدُ معرفة ما تمَّ في ذلك الاجتماع.»
قالت كاثرين موجهةً إليه دعوة: «يمكنك أن تعرف إذا ما أتيتَ لتناول العشاء معنا مساءَ الغد في تمام الثامنة والنصف. ستسعد عمَّتي كثيرًا برؤيتك. لا أذكر إن كان هناك أشخاصٌ سيأتوننا في ذلك الموعد أم لا، لكنك ستكون موضعَ تَرحاب كبير.»
انحنى الشابُّ وهو يُساعد رفيقته في ركوب سيارة أجرة.
وغمغمَ قائلًا: «سيكون ذلك من دواعي سروري، عزيزتي الكونتيسة.»