الفصل العشرون
غادر جوليان وفورلي المكان معًا. وبحثا عن الأسقف لكنهما وجدا أنه قد انسلَّ من بينهم.
قال فورلي: «أعتقدُ أنه ذهبَ إلى دوانينج ستريت. فلديه فكرةٌ مبهَمة عن اقتراح تسوية.»
كرَّر جوليان بنبرةٍ كئيبة قليلًا: «تسوية!» ثم تابعَ يقول: «كيف يمكن أن تكون هناك أيُّ تسوية! قد يكون هناك تأخير. أعتقدُ أننا كان علينا أن نُعطي ستينسون مهلةً أسبوعًا؛ ليكون لديه وقتٌ كافٍ للتواصل مع أمريكا وإرسال وفد إلى فرنسا.»
قال فورلي بنبرة نكِدة وقد توقَّف ليُعيد إشعال غليونه: «نحن كجميع المنظِّرين، نخلق ونُدمِّر عبثًا بسهولة مذهلة. وحين يصل الأمر إلى الفعل، نَجبُن ونرتاع.»
سأله جوليان صراحةً: «هل تخشى هذا الأمر؟»
«وأنَّى لأحدٍ ألا يخشاه؟ نحن على صواب من الناحية النظرية، أنا واثقٌ من ذلك. إننا إن تركنا الأمر للساسة، فستمتدُّ هذه الحرب إلى أمدٍ لا يعلمه إلا الربُّ. والشعب هو مَن يدفع ضريبة ذلك. ومن المفترض أن يُعقَد السلام بيدِ الشعب. الشيءُ الوحيد الذي يزعجني هو ما إذا كنا نفعل ذلك بالطريقة الصائبة. هل فرايشتنر صادق؟ هل يمكن أن يكون قد خُدِع؟ هل هناك أيُّ احتمال أن تكون رابطة العموم الألمانية قد تلاعبت به؟»
قال جوليان: «فين هو الوحيد الذي تعامَل معه. وأنا لا أثق في فين قِيد أنملة، لكنني أثق في فرايشتنر وأومن به.»
صدَّق فورلي على كلامه قائلًا: «وأنا كذلك، لكن هل تقارير فين عن وعود فرايشتنر وعن قوة أتباعه صادقة تمامًا؟»
اعترفَ جوليان قائلًا: «هذا هو الجزء الذي لا يروق لي في الأمر برُمته.»
«إنَّ فين، من الناحية العمَلية، هو حجر الزاوية لهذه المسألة. فقد كان هو مَن قابل فرايشتنر في أمستردام وبدأ هذه المفاوضات، وأنا لا أحب فين تمامًا، ولا أثق فيه. هل رأيت كيف نظر إلى ستينسون من جانب عينَيه، كنظرة نمسٍ صغير؟ كان ستينسون في أفضل حالاته أيضًا. لم أُعجب به بهذا القدر من قبل.»
قال فورلي موافقًا: «لا شك أنه قد احتفظ برباطة جأشه. كما كانت كلماته المباشرة القليلة في صُلب الموضوع أيضًا.»
قال جوليان: «لم يكن الموقف مناسبًا للبلاغة. سيحين وقت ذلك الأسبوع القادم. أعتقد أنه سيُحاول أن يُفرِّق شمل النقابات المهنية. يا لها من فرصة لإيدموند بيرك! أعتقدُ أنه لا بأس من ذلك، لكنني أتعجَّب من شعوري بهذا البؤس الشديد.»
أسرَّ إليه فورلي بقوله: «الواقع أن وجودي أنا وأنت والأسقف والآنسة آبواي في هذا المجلس في غير محلِّه إلى حدٍّ ما. كان علينا أن نكتفيَ فقط بتزويده بالأفكار. فحين يتعلَّق الأمر بالجانب العملي، فإن غرائزنا الأخرى تتمرَّد. ففي النهاية، إذا كنا نعتقد حقًّا أننا سنهزم ألمانيا عسكريًّا باستكمال الحرب، فأظن أن علينا أن ننسى الكثيرَ من منطقنا الرائع وندَعَ الحرب تستمر.»
قال جوليان متنهدًا: «لكن لا تبدو هذه مقايضة عادلة. إنها حياة رجالنا اليوم في مقابل حرية الأجيال القادمة، هذا إن لم تتبدَّد تلك الحرية على يدِ جيل آخرَ من الساسة. الأمرُ سيئٌ للغاية يا مايلز.»
قال فورلي: «إذن لنكن شاكرين أنَّ الحرب ستتوقَّف. لقد أعلنَّا تمسكنا بمعتقداتنا وآرائنا يا جوليان. إن فين لا يروق مثلك تمامًا، ولا أثق فيه أيضًا، لكنني في هذا الموقف لا أرى أنه قد يجني أيَّ شيء وراء اتباع الطرائق الملتوية. بالإضافة إلى أنه لا يمكن أن يكون قد زوَّر شروط السلام، وهذه هي الوثيقة الوحيدة المهمة.» ثم أضافَ بعد أن توقَّفا عند ناصية الشارع حيث افترقا: «طابت ليلتك واخلد إلى النوم.»
كان ثمة شيءٌ مختلف إلى حدٍّ مثير للفضول في سلوك الخادم الأمين لجوليان بينما كان يأخذ معطف سيده وقبعته. ولم يخفَ ذلك عن جوليان حتى وهو منهمك في التفكير في أحداث ذلك المساء.
قال جوليان معلقًا: «تبدو متعكِّر المزاج الليلة يا روبرت!»
أجابَ الأخير بنبرةٍ شبه فظَّة، رغم أن أسلوبه عادة ما يغلب عليه الدماثة واللطف.
«لديَّ ما يكفي لأكونَ كذلك يا سيدي، بل أكثر مما يكفي. أريدُ أن أُبلغك أنني سأترك العمل في غضون أسبوع.»
سأله سيده: «هل كنت تُعاقر الشراب يا روبرت؟»
ابتسم الرجل في كآبة.
وأجابَ: «بل أنا في غاية الاتِّزان واليقظة يا سيدي، لكنني سأُسرُّ أن أغادر في الحال. سيكون ذلك أفضلَ لكِلَينا.»
سأله جوليان متحيِّرًا: «ما الذي جعلك تنقلب ضدي هكذا؟»
كان ردُّ روبرت عنيفًا إذ قال: «حياة ولديَّ. لقد مات فريد الآن، تُوفي في المستشفى ليلة أمس. وأنت مَن أقنعتهم بالتطوع للكفاح العسكري.»
تغيَّر أسلوبُ جوليان في الحال، وصارت نبرته أكثرَ رقة.
«من الغباء أن تلوم أحدًا على ذلك يا روبرت. لقد أدَّى ولداك واجبهما. ولو لم يلتحقا بالجيش في الوقت الذي التحقا فيه، كانا سيلتحقان به إجباريًّا فيما بعد.»
كرَّر روبرت في ازدراءٍ مكبوت: «واجبهما!» ثم أردفَ يقول: «واجبهما تجاه مجموعة من الساسة الجبناء المراوغين، أستميحك عذرًا يا سيدي. إنَّ الحكومة بأكملها لا تستحقُّ دماء واحد منهما!»
قال جوليان في تعاطف: «أنا آسفٌ لموت فريد. ولكن يا روبرت، لا بد أن تُحاول وتستجمع شتات نفسك.»
تأوَّه الرجل.
وقال بنبرة غاضبة: «أستجمع شتاتَ نفسي!» واستطرد: «سيد أوردين، أنا أُحاول يا سيدي أن أحافظ على احترامي، لكن من الصعب عليَّ ذلك. لقد قرأتُ صحف المساء. وهناك مقال موقَّع باسم «بول فيسك» في «بال مول». يقولون لي إنك أنت بول فيسك. ويبدو أنك تؤيِّد السلام، السلام مع الإمبراطور الألماني وعُصبته الدموية الوحشية.»
أقرَّ جوليان قائلًا: «بل أؤيد السلام وفقًا لشروط معينة في أقربِ وقت ممكن.»
قال روبرت في شراسة وعنف: «لقد خُنتنا في هذه النقطة … خُنتنا جميعًا!» وأردف: «لقد مات ولداي وهما على اعتقادٍ بأنهم يُحاربون من أجل رجالٍ سيوفون بكلمتهم. كان يجب أن تستمرَّ الحرب حتى نفوز بها. لقد ماتا سعيدَين، وهما يعتقدان أن أولئك الذين تحدَّثوا باسم إنجلترا سيلتزمون بكلمتهم. لقد أخذَتك الشفقة كثيرًا بالأحياء في ذلك المقال يا سيدي. فهل فكَّرتَ في الموتى حين جلست لتكتبه؟ هل فكَّرت في وحشة الأجداث بصُلبانها البيضاء في فرنسا؟ أنت تقترح بدمٍ بارد أن ندعَ أولئك الأشرار يظلون على ركام روثهم.»
ذكَّره جوليان قائلًا: «هذه مسألةٌ كبيرة للغاية يا روبرت. إنَّ الحرب تتجه سريعًا إلى مرحلةٍ من الاستنزاف المتبادل لكلا الطرفين.»
هنا ذهبَ كلُّ تحفظ لدى الرجل أدراجَ الرياح.
إذ جاء ردُّه غاضبًا: «هُراء!» واستطرد: «أنتم أيها الأغنياء تريدون الرجوع إلى ترَفِكم مرةً أخرى. لدينا بضعة ملايين آخَرين من الرجال، أليس كذلك؟ وأمريكا لديها بضعة ملايين آخرين؟»
قال سيده بنبرة رقيقة: «لقد جعلَتك خَسارتك التي تكبَّدتَها يا روبرت عنيفًا ولاذعًا، وهذا طبيعيٌّ تمامًا. ينبغي أن تدعَ أولئك الذين فكَّروا في هذا الأمر يتوصَّلون إلى قرارٍ بشأنه. فبعد مرحلة معينة، ينبغي الحفاظ على رجال العالم.»
«يبدو هذا لي يا سيدي مجردَ كلام منمَّق، وليس أكثرَ من ذلك؛ كلام على شاكلة ما يُطبَع في المقالات ولا يُلقي إليه أحدٌ بالًا. كانت الكلمات صريحة وجلية بما يكفي حين خرجنا للقتال في هذه الحرب. كنا ذاهبين لسحق الروح العسكرية الألمانية ولن ندع القتال حتى نُحقق ذلك. حينها لم يقل أحدٌ شيئًا عن صون ملايين الرجال والحفاظ عليهم. كان المقرَّر أن نخوض الحربَ حتى النهاية، أيًّا كان الثمن.»
«لقد كنت فيما مضى مناهضًا للحرب!»
كرَّر الرجلُ الكلمة في انفعالٍ شديد: «مناهضًا للحرب!» ثم أردفَ: «كان كلُّ رجل عاقلٍ مناهضًا للحرب حين اندلعت.»
قال جوليان مذكِّرًا إياه: «لكن الحرب كانت مفروضةً علينا. لا يمكنك إنكار ذلك.»
«لا أحدَ يريد إنكارَ ذلك يا سيدي. لقد فُرِضت الحربُ علينا بالفعل، لكن مَن الذي جعل منها ضرورة؟ إنها حكومتنا المتعفِّنة على مدى العشرين عامًا المنصرمة! ساستنا الذين يُثرثرون الآن بالسلام يا سيد جوليان قبل أن يُتموا مهمتهم! لو أننا أمَّنَّا لأنفسنا الحماية وكنا مستعدِّين، أتظنُّ أن الحرب كانت ستندلع من الأساس؟ قطعًا لا! لقد بحَثنا عن المتاعب، وها نحن نُعاني منها الأمَرَّين. وإن عقَدنا السلام الآن، فسنكون مستعمرةً ألمانية في غضون عشرين عامًا، والفضلُ في ذلك يعود إلى السيد ستينسون وإليك وإلى بقيتهم. يمكن للمرء أن يكون مناهضًا للحرب حتى يأتيَ من يُعتدى عليه. وبعد ذلك، تنطبق عليه صفةٌ أخرى. هل هناك شيءٌ آخر يمكن أن أقوم به لك الليلة يا سيدي قبل أن أغادر؟»
«لا شيء، شكرًا لك. أشعر بالأسف حيال فريد.»
شعر جوليان بإنهاكٍ شديد، فتحلَّل من ملابسه وذهب إلى الفِراش فورَ أن غادر الرجل. كان قد خلد إلى النوم بالفعل حين استيقظ فجأةً منزعجًا. انتصبَ جوليان في سريره وراحَ يُرهف السمع. كان الصوت الذي أزعجه يتكرَّر، كان صوت جرس الباب الأمامي يتردَّد في خفوت لكن على نحوٍ متواصل. نظر جوليان في ساعته. كانت الساعة بالكاد قد تجاوزت منتصف الليل، لكن الوقت كان متأخرًا جدًّا للزيارة. دقَّ الجرس مرة أخرى، وتذكَّر هذه المرةَ أن روبرت خارج المنزل، وأنه وحيدٌ في الشقة. دسَّ جوليان قدمه في خفيه ولفَّ مبذله حول جسده واتجه نحو الباب الأمامي.
كانت الفكرة الوحيدة التي تدور في ذهن جوليان أن هذا ربما يكون رسولًا من المجلس. وما أثار دهشته أنه وجد كاثرين أمامه.
قالت كاثرين في رجاء: «أغلِق الباب، وتعالَ إلى حجرة الجلوس.»
اندفعت كاثرين إلى الداخل متجاوزةً إياه وامتثل لما قالت، وكان لا يزال معقودَ اللسان من المفاجأة ومن صدمة استيقاظه المفاجئ. بدَت كاثرين نفسها غيرَ واعية لملابسه غيرِ المعتادة، وغير عابئة بالوقت وغرابة زيارتها. كانت ترتدي معطفًا طويلًا من صوف الشنشيلة كان يُغطيها من رأسها حتى قدمها، وحجابًا قصيرًا حول رأسها كان يُخفي ملامحها جزئيًّا. وما إن رفعَت كاثرين عنها حجابها، أدركَ جوليان أنَّ خَطْبًا جللًا قد وقع. كانت وجنتاها بلونٍ عاجي شاحب، وعيناها منتفختَين بصورة غير طبيعية. أما نبرة صوتها فكانت هادئةً لكنها مُفعَمة بانفعالٍ مكبوت.
صاحت قائلة: «لقد خُدِعنا يا جوليان … تعرَّضنا للغش! وقد أتيتُ إليك طلبًا للمساعدة. هل أُرسِلت البرقيات بالفعل؟»
أجابها: «ستُرسَل في الثامنة من صباح الغد.»
«حمدًا للرب أن الوقت لم يَفُت بعدُ لمنع إرسالها!»
نظر جوليان إليها لحظةً في ارتياب شديد.
كرَّر جوليان كلمتها متسائلًا: «نمنع إرسالها؟» وأردفَ: «لكن كيف يمكننا ذلك؟ لقد أعلن ستينسون الحرب.»
صاحت كاثرين بصوت مرتعش: «حمدًا للرب على ذلك!» ثم أردفت: «إن الأمر برُمته مؤامرةٌ ملعونة يا جوليان. إن الاشتراكيين الألمانَ لم يشهَدوا زيادة في قوتهم إلا في مخيلاتهم. إنهم عاجزون تمامًا. هذه أكثر خطط هذه الحرب مكرًا وخداعًا. كان فرايشتنر مجرد لعبة في يد العسكر. لقد حثُّوه على إرسال هذه المقترحات والتواصل مع نيكولاس فين. وعند إعلان الهدنة وبدء المفاوضات، سيتم إنكار تلك التوقيعات الثلاثة والتنصُّل منها. إن السلام الذين يريدون فرضه إنما هو من إملائهم، وفي تلك الأثناء سنكون نحن قد أحدثنا كارثة هنا. ولن تبدأ الحرب مرة أخرى مطلقًا. فكل الحلفاء سيكونون في شقاقٍ وخصومة.»
قال جوليان لاهثًا: «كيف اكتشفتِ ذلك؟»
«من أحد أصدقاء ألمانيا الكبار في إنجلترا. إنه يحتل مكانة مرموقة في السلك الدبلوماسي ﻟ… لدولة محايدة، لكنه يعمل لصالح ألمانيا منذ بداية الحرب. وكان يساعد في هذا. لقد رآني عدة مرات مع نيكولاس فين، ويعتقد أنني أعمل من خلف الكواليس أيضًا. ويعتقد أنني أعرف الحقيقة، وأنني أعمل لصالح ألمانيا. ويمكن التعويل على كلامه بكل تأكيد. إن كل كلمة أُخبركَ بها هي عين الحقيقة.»
تساءل جوليان لاهثًا: «ماذا عن فين؟»
فأجابته كاثرين: «لقد حصل نيكولاس فين على مائة ألف جنيه من أموال ألمانيا خلال الأشهر القليلة المنصرمة. إنه واحدٌ من أقذر الخونة على وجه هذه الأرض. كانت خطابات فرايشتنر الأولى موثوقًا فيها بما يكفي، لكنه مسجونٌ منذ ستة أسابيع في حصن ألماني، وفين على دراية بذلك.»
سألها جوليان: «هل لديكِ أيُّ دليل على ذلك؟» واستطرد: «تذكَّري أننا سنواجه المجلس، وهم مستعدون تمامًا للمعركة.»
أجابته قائلةً: «أجل، لديَّ دليلٌ غير مباشر لكنه يكفي للإدانة. لقد كان هذا الرجل في بعض الأحيان يرسل رسائلَ ويتسلمها نيابةً عني من معارفَ لي في ألمانيا. وقد سلَّمني الليلةَ رسالةً من قريب لي من بعيد. أنت تعرفه باسم الجنرال جيرولدبرج. أول صفحتين من الرسالة يتعلقان بأمورٍ شخصية.» ثم أضافت وهي تُعطي جوليان الرسالة: «اقرأ ما يقول قرب نهايتها.»
أضاء جوليان المصباح وقرأ بضعة أسطر أشارت إليها.
بالمناسبة يا ابنة عمي العزيزة، لا يُصيبنَّك القلق إذا ما تلقيت أخبارًا صادمة في غضون الأسابيع القليلة القادمة عن موافقة الثلاثة الكبار لدينا على سلامٍ عَبَثي. لقد أُخِذَت توقيعاتهم على وثيقة لا نأخذها على محمل الجِد، وفي نيتهم أن يتَنصَّلوا من تلك التوقيعات بمجرد وقوع حدث نتطلع إليه كثيرًا. صدِّقيني، حين يحينُ وقت السلام، سيكون سلامًا مجيدًا لنا. سنحتفظ بما اكتسبناه بالسيف، وسنستعيد ما أُخِذ منا بالحيلة والخداع.
قالت كاثرين: «ذلك الرجل هو أحد المقرَّبين إلى القيصر. إنه أحد الرجال الاثنَي عشرَ الحديديِّين في ألمانيا. والآن سأخبرك باسم الرجل الذي أمضيتُ الليلة برفقته. إنه البارون هيلمان. صدِّقني، إنه يعرف بالأمر وقد أخبرني الحقيقة. كان هذا الخطابُ بحوزته على مدى أسبوعين، إذ أخبرني بصراحةٍ أنه كان يعتقد أن تسليمها سيُعرِّضني لخطرٍ جسيم. والليلةَ غيَّر رأيه.»
وقفَ جوليان واجمًا لبرهة، وكانت قبضتاه مُطبقتَين وعيناه تستعران غضبًا.
ألقت كاثرين بنفسها في كرسيٍّ وثير وفكَّت أزرار معطفها.
وقالت متأوِّهة: «أوه، أنا متعبة!» وأضافت: «أعطني بعضَ الماء من فضلك أو بعضَ النبيذ.»
وجدَ جوليان شيئًا من نبيذ الهوك في نضد المائدة، وبعد أن شربته جلسا في صمتٍ مضطرب بضعَ دقائق. كانت أصوات الشارع في الخارج قد خفتَت. كانت شقة جوليان هي الشقة الأعلى في البناية، وكانا في عُزلة تامة. وفجأةً أدركَ جوليان الموقف.
فقال مقترحًا في عودة مضحكة للمألوف: «ربما عليَّ أن أرتديَ ثيابي أولًا.»
نظرَت إليه وكأنها ترى لباسه غيرَ المناسب لأول مرة. وللحظةٍ بدا كلاهما وقد عادت أقدامهما تطأ أرض الواقع مرة أخرى.
فقالت كاثرين: «أعتقد أنني أبدو في نظرك مجنونةً لكي آتيَ إلى هنا في مثل هذه الساعة. لكنَّ المرء بطريقةٍ ما لا يُفكِّر في تلك الأمور.»
وافقها الرأي قائلًا: «أنت محقة تمامًا. فليس لها أي أهمية.»
ثم فجأةً اجتاحهما إدراكٌ للصمت الذي كانا فيه، ووجودهما بمفرديهما، وعلاقتهما الغريبة الغامضة بعضهما ببعض. وللحظة شعرت كاثرين أن ذلك العبء الكبير الذي كانت تحمله قد سقط عن كاهلها. عادت إلى عالمٍ أبسط. لم يَعُد جوليان قائدًا للعامة، لم يعد عالِم الاجتماع اللامعَ ذاك، ولا رسولَ عقيدتها. بل كان ذلك الرجل الذي استحوذ على أفكارها إلى حدٍّ مثير للدهشة خلال الأسابيع القليلة الماضية، ذلك الرجل الذي هُرِعت إليه طالبةً مساعدته وحمايته، الذي كانت مقتنعة تمامًا بأن تعهد إليه بمهمة إصلاح ذلك الخطأ الفادح. راحت كاثرين تنظر إليه، وشعرت فجأة أنها قد سئمت كلَّ شيء، وأنها تريد أن تتسلل بعيدًا عن العاصفة وتستريح في مكانٍ ما. بدا لها أن الهدوء الذي يكتنفهما وحضوره يُهدئان من رَوعها. فاسترخت قسماتها المتوترة، وصارت عيناها أكثرَ رقة. وابتسمت إليه في امتنان.
صاحت قائلة: «أوه، لا يمكنني أن أصفَ لك كم أنا سعيدة لكوني معك الآن! إن كلَّ شيءٍ في العالم الخارجي يبدو مريعًا للغاية. أتُمانِع — أعرفُ أن هذا سخيفٌ للغاية، لكن في النهاية لا يمكن للمرأة أن تكون في مثلِ قوة الرجل، أليس كذلك؟ — أتمانع أن تُمسِكَ بيدي قليلًا وأن تظلَّ بجواري في هدوءٍ تام. لقد مررتُ بأمسية مريعة، وحين أتيتُ إليك، كنت أشعر كأن رأسي على وشك الانفجار. أنت لا تُمانع، صحيح؟»
ابتسم جوليان بينما كان يميل نحوها. كان يُراوده شعورٌ بالامتعاض، كان واعيًا به، ويخجل منه بقدرٍ ما، من ولائها الذي لا يتزعزع تجاه المهمة التي أوكلت نفسها بها، لكن هذا الامتعاض كان قد تلاشى في تلك اللحظة. أدركَ جوليان فجأةً لماذا قبَّلَها في ذلك الصباح المشمس عند الأهوار، في لحظة مبهمة من النشوة بدَت في هذه الأيام المفعمة بالإثارة وكأنها تنتمي إلى عالم آخر وإلى حياةٍ أخرى. أخذ جوليان كِلتا يدَيها في يديه ومال نحوها وقبَّل شفتَيها.
ثم قال: «عزيزتي كاثرين، أنا في غاية السعادة لأنكِ أتيتِ إليَّ. أظنُّ أننا نسينا في غضونِ تلك الأيام القليلة الماضية أن نكون بشرًا، وقد يُساعدنا ذلك؛ فنحن في النهاية مخطوبان، كما تعلمين!»
فهمسَت قائلة: «لكن تلك الخطبة كانت من أجل إنقاذي فقط.»
أقرَّ جوليان قائلًا: «ربما في بداية الأمر، لكنها الآن من أجل إنقاذي.»
كانت تنهيدة الارتياح والاطمئنان الخفيفة التي أطلقَتها وهي تنسلُّ مقتربة منه أنثويةً بامتياز. مرَّت اللحظات بينهما في صمتٍ هادئ ورائع. ثم ابتعدت كاثرين على غير رغبةٍ منها من بين ذراعيه الحاميتَين اللتين تُطوقانها.
وقالت: «عزيزي، أنت تبدو لطيفًا للغاية الآن، وأنا سعيدةٌ للغاية لكوني هنا، لكن أمامنا مهمَّة ضخمة.»
فقال وهو يعتدل في جلسته: «أنتِ محقَّة. انتظريني دقائقَ قليلة يا عزيزتي. سنجدهم جميعًا في ويستمنستر؛ سيكون المكان مفتوحًا طوالَ الليل. أغلقي عينيكِ واستريحي قليلًا فيما أنا غائب.»
أجابته بنبرة رقيقة: «أنا مستريحة، لكن لا تَغِب كثيرًا. السيارة في الخارج، وفي الطريق إلى هناك سأخبرك بالمزيد عن نيكولاس فين.»