الفصل الثاني والعشرون
بعد مرور بضعة أسابيع، كان الأسقفُّ وكاثرين يسيران جنبًا إلى جنب على رصيف محطة سانت بانكراس المعتِم. كان القطار الذي جاءا لاستقباله متأخرًا عن موعده رُبع ساعة، فوجدا نفسَيهما يخوضان في حديثٍ حافل بالذكريات لم يخلُ من التشويق لكليهما.
قال الأسقفُّ: «لقد تركتُ السيد ستينسون قبل ساعة واحدة. لم يكن يتحدَّث عن شيء إلا عن جوليان أوردين وخُطبِه الرائعة. يقولون إنَّ روح الحماس في شيفيلد ونيو كاسل كانت هائلة، وإنَّ العمل الفعلي الذي أُنجِزَ في ثلاث ساحاتٍ لبناء السفن على نهر كلايد في الأسبوع التالي لزيارته كان مضاعَفًا. يبدو أنه يتمتع بموهبة استثنائية في الوصول إلى قلوب الناس. إنه يجعلهم يستشعرون كلماته.»
قالت كاثرين لرفيقها بابتسامةٍ صغيرة: «أرسلَ لي السيدُ ستينسون بشأن ذلك. قال إنه لا يوجد لقبٌ رفيع يمكن التفكيرُ فيه أو استحداثه يُوفِّي جوليان حقَّه؛ لما قدَّمه من خدماتٍ جليلة لبلاده. فللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، يبدو العمال جادِّين ومخلصين في أعمالهم إلى أقصى الحدود. لقد عادَ كلُّ فرد من أولئك المفوَّضين مفعمًا بالحماس، وسيقوم جوليان بجولةٍ صغيرة مع كل واحد منهم في منطقته قبل أن ينتهي.»
قال الأسقفُّ مبتسمًا: «وبعد غدٍ أعتقدُ أنه لن يكون وحيدًا.»
ضغطَت كاثرين على ذراعه.
وقالت في هدوء: «إنَّ مجرد التفكير في الأمر رائعٌ للغاية. سأحاول أن أكون، وسأكون بالفعل، سكرتيرةً لجوليان، بينما نحن بعيدان على أيِّ حال.»
قال الأسقف: «لا تُتاح لي كثيرًا فرصة خوض حديث هادئ مع المرأة التي سأُزوِّجها لأكثرِ رجل أحترمه وأُجلُّه على وجه الأرض في اليوم السابق لزفافها.»
فقالت كاثرين في رجاء: «أَسدِ لي نصيحة مفيدة.»
هزَّ الأسقفُّ رأسَه.
وقال: «لستِ بحاجة إليها. فالزوجة التي تُحب زوجها لا تكون بحاجة إلى الكثير من النصح. ثَمة زيجاتٌ كثيرة جدًّا يمكنني أن أرى فيها العَثرات التي تنتظر طرَفَيها، حتى إنني أفتح كتابَ الصلوات برعشة خوف طفيفة تسري في أوصالي. لكن الأمر مختلف معكِ أنتِ وجوليان.»
قالت بنبرة رقيقة: «لن أدعَ في جهدي شيئًا يمكن لامرأة أن تفعله من أجل الرجل الذي تُحبه دون أن أفعله لجوليان.»
ثم راحا يَذْرعان الرصيف جيئةً وذهابًا في صمت لبضع دقائق. كانت خطوة الأسقف نشطة. فقد بدا أنه تخلَّص من كل ذلك القلق المنهِك الذي ناءَ بحمله خلال الأشهر القليلة الماضية. وكانت كاثرين أيضًا، في فِرائها الرمادي الجذاب وبوجهها المتورِّد من الإثارة، تبدو وكأنها تخلَّصَت من كل قلقها.
علَّق الأسقفُّ قائلًا: «لا بد أن موهبة جوليان في الخَطابة قد فاجأته هو نفسه. بالطبع كنا نعرف دائمًا أن «بول فيسك»، حين اكتُشِفَ أمره، لا بد أن يكون شخصية ذكية، لكنني لا أظن أن جوليان نفسَه كان يُدرك قدراته الخطابية بأي حال.»
قالت كاثرين موافقةً إياه: «لا أظنُّ ذلك أيضًا. فقد أخبرني أنَّ الأمر في خطابه الأول كان يُشبه تمامًا الجلوسَ إلى مكتبه من أجل الكتابة، إلا أن الحواجز المادية الثقيلةَ من الورق والحبر والحوائط بدَت وكأنها تتلاشى، والرجال الذين كان يرغب في أن تَمسَّهم كلماتُه كانوا أمامه ينتظرونه. إنَّ جوليان رائعٌ بالطبع، لكن فينياس كروس وديفيد ساندز وبعض الآخرين أظهَروا عبقريةً إيجابية في التنظيم. يبدو أن ذلك المجلس الذي يجمع عمومًا بين الاشتراكية والنقابية المهنية والعُمَّال، والذي تشكَّل لكي يجلب لنا سلامًا مبتسَرًا سابقًا لأوانه، قد جمعَ كلَّ العمال الكادحين في حزبٍ واحد للمرة الأولى، وأقصدُ الكادحين بأشملِ معنًى لها.»
قال الأسقفُّ: «حقيقة الأمر أنَّ الشعب قد تقبَّل القولَ الدارج عن وجوب وجود حكومة هناك بغضِّ النظر عن شكل الجمهورية الذي نستهدفه. ومجموعة من الرجال يُدركون هذا الأمر، مهما كانت أفكارهم تقدُّمية، فلا يمكن أن يتسبَّبوا في كثير من الضرر. وأنا واثق تمامًا — وستينسون نفسه يُقرُّ بذلك — أنه لن يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن يصبح لدينا وزارة للعُمَّال. لكن مَن يهتم؟ ستكون تلك الوزارة صالحةً على الأرجح، صالحة للبلاد وصالحة للعالَم. لقد كان هناك الكثيرُ من التلاعب والاحتيال في السياسة العالمية. وهذه الحربُ ستُنهي ذلك إلى الأبد.» ثم أردفَ بنبرةٍ مغايرة: «بالمناسبة، ثَمة سؤال دائمًا ما كان يتردَّد في ذهني، أودُّ أن أطرحه عليكِ. إذا ما طرحتُه الآن، فهل ستتفهَّمِين أن بإمكانِكِ ألا تُجيبي عنه إن رأيتِ أنَّ ذلك هو الأفضل؟»
أجابته كاثرين: «بالطبع.»
«مِن أي مصدر حصلتِ على المعلومات التي أنقذَتنا جميعًا؟»
أجابت كاثرين في هدوء: «أتتني من رجل ميِّت.»
ثبَّت الأسقفُّ عينيه على صف الإشارات الضوئية أمامه.
وقال: «قبل بضعة أسابيع، عُثِرَ على شابٍّ أجنبي يُدعَى البارون هيلمان، أظن أنه شخصية بارزة، مقتولًا بالرصاص في شقته.»
أذعنت كاثرين في صمت.
وأسرَّت إليه قائلة: «لو ذهبتُ إلى وزارة الداخلية واستطعتُ إقناعهم بأن يُحدِّثوك بصراحة، فأعتقدُ أنك كنت ستتمكَّن من معرفة بعض الأشياء المذهلة. أتمنى لو بإمكاني أن أصدِّق أن البارون كان الشخصَ الوحيد الذي يعيش في هذه البلاد، بلا أي شبهاتٍ حوله، ويحتلُّ مكانة مرموقة فيها، بينما هو في الواقع يعمل لصالح ألمانيا.»
قال الأسقفُّ في تمعُّن: «كانت مؤامرةً خبيثة للغاية؛ لأنها بدَت، بطريقة ما، حقيقيةً تمامًا. لقد انطلَت على حَدْس حتى أفضل رجالنا ذَوي العقل الراجح.»
قالت كاثرين مذكِّرةً إياه: «رُبَّ ضارةٍ نافعة على أي حال. فبناياتُ ويستمنستر صارت الآن هي مركزَ الوطنية في إنجلترا. كان من المفترض أن يضع حزبُ العمال نهايةً للحرب لصالح ألمانيا. أما الآن فحزب العمال هو من سيُحرز النصر لصالح إنجلترا.»
دخَل القطار متهاديًا إلى المحطة وسرعان ما أفرغ حشدَ الركَّاب الذي يحمله على متنه، وكان جوليان أولَ المترجِّلين منه. وجدت كاثرين نفسها ترتعش. وحين التقت أعينهما تلاشت من شفتيها كلماتُ الترحيب الخجولة التي تشكَّلت في ذهنها. فرفعت وجهَها في وجهه.
وتمتمت قائلة: «جوليان، أنا فخورة بك للغاية … بل أنا في غاية السعادة.»
وتركهما الأسقفُّ عندما دلفا إلى السيارة الأجرة.
وقال موضحًا: «سأذهبُ إلى قاعةٍ للأعمال التبشيرية في الجوار. فنحن نُدير حواراتٍ بشأن الحرب كلَّ أسبوع. أحاول أن أخبرهم بكيفية سير الأمور، ونُقيم قداسًا قصيرًا. لكن قبل أن أذهب، لقد أرسلَ لك السيد ستينسون رسالةً صغيرة معي يا جوليان. إذا ما ذهبت إلى ناديك في وقتٍ لاحق الليلة، فستراها في البرقيات أو ستجدها في جريدتك في الصباح. لقد دار قتالٌ محموم في فلاندرز اليوم. واختُرقت صفوفُ الألمان في أكثرَ من اثنتَي عشرة نقطة. وأسرنا نحو عشرين ألف أسير، وزيبروج أصبحَت مُهدَّدة. وفي الجنوب، بدأ الأمريكان الحرب وأحرزوا نصرًا تامًّا على قوات النخبة التابعة لولي العَهد.»
شدَّ الرجلان كلٌّ منهما على يدَي الآخر في حرارة.
وصرَّح جوليان قائلًا: «هذا هو السبيلُ الوحيد إلى السلام.»