الفصل الثالث
دخلَ جوليان غرفة الاستقبال في مالتينبي هول قبل موعد العشاء ببضعِ دقائق في مساء ذلك اليوم. مدَّت أمه يدَها إليه ليُقبِّلها ورحَّبت به بابتسامة ساحرة، وكانت بمفردها ومما أثار استغرابَه أنها كانت مضطجِعةً تستريح. وبرغم خصلات شعرها الرمادي، كانت لا تزال تبدو امرأةً شابة في مقتبل العمر إلى حدٍّ لافت، وكانت تتمتع بسُمعة رائعة كمضيفة.
صاحت أمه قائلة: «عزيزي جوليان، تبدو كشبَح! لا تُخبرني أنك اضطُرِرت لقضاء الليل كلِّه في اصطياد ذلك البطِّ اللعين؟»
سحبَ جوليان كُرسيًّا إلى جوار أمه وجلسَ في شيء من الارتياح.
وأفضى إليها قائلًا: «لم أُدرك يومًا أن العمر قد تقدَّم بنا كالآن. أتذكَّرُ قبل عشَرة أعوام أو خمسةَ عشر عامًا، حين كنتُ معتادًا التسللَ إلى خارج المنزل في جُنح الظلام وأقود الدراجة إلى المستنقع، حاملًا بندقية صيد عيار ٢٠ مترقبًا الفرصةَ لإطلاق رصاصة فريدة من نوعها.»
فتابعَت أمُّه: «وأعتقد أنك بعد أن أمضيت نصف الليل في الخوض في المياه المالحة، أمضيت النصف الآخر في التحدُّث إلى ذلك السيد فورلي المريع.»
«بالضبط. لقد شعرنا بالبرد وابتلَّت ثيابنا في المساء، فجلسنا نتحدَّث حتى ساعاتِ الفجر الأولى، ثم شعرنا بالبرد وابتلَلْنا مرةً أخرى هذا الصباح؛ وها أنا ذا.»
فقالت أمه معلَّقة: «أنت رجل رياضي متحوِّل. أتمنى لو تستطيع تحويل صديقك السيد فورلي. ثَمة مقال مريع تمامًا له في عدد جريدة «ذا ناشونال» لهذا الشهر. لا أفهم منه كلمةً واحدة، لكنه يبدو من مضمون كلماته أنه ينضح بأناركية بحتة.»
علَّق جوليان قائلًا: «لا بد أن يكون هناك اشتراكيُّون طالما ظلَّ العالم موجودًا، وفورلي نزيهٌ على الأقل.»
قالت أمُّه معترضة: «عزيزي جوليان، كيف يمكن لاشتراكي أن يكون نزيهًا! وموقفهم أيضًا فيما يخصُّ الحرب موقفٌ شائن. أنا واثقة من أن ذلك المدعوَّ فين، على سبيل المثال، كان ليقتل لو كان في أي بلدٍ آخر.»
فتساءل جوليان منحرفًا تمامًا عن نطاق الموضوع: «ماذا عن حفلكِ المنزلي؟»
«لقد وصَلوا جميعًا. أعتقد أنهم سينزلون مباشرة. السيد هاناواي ويلز هنا.»
تمتم جوليان قائلًا: «السيد ويلز العجوز الطيِّب!» وأضافَ: «كيف يبدو منذ أصبح وزيرًا في الحكومة؟»
ردَّت الليدي مالتينبي بابتسامة قائلة: «رائع. لا يبدو أنه سيحظى بالراحة أبدًا. وآل شيرفينتون هنا، والأميرة تورسكي، عمَّة صديقتك الآنسة آبواي.»
كرَّر جوليان متسائلًا: «الأميرة تورسكي؟» وأردفَ: «مَنْ هي بحقِّ السماء؟»
قالت أمه موضِّحة: «كانت إنجليزية الجنسية، وهي من أبناء عمومة آبواي. وقد تزوجت في روسيا وهي في طريقها الآن إلى فرنسا لتلتقيَ بزوجها، وهو قائدٌ لكتيبة عسكرية روسية هناك. تبدو لطيفةً للغاية، لكنها ليست كمثل ابنة أخيها ولو من بعيد.»
«والآنسة آبواي لا تزال هنا بالطبع؟»
«بالطبع. لقد طلبت منها أن تظلَّ أسبوعًا وأعتقد أنها تريد أن تبقى. تحدَّثنا ساعةً بعد تناول الشاي عصرَ اليوم، ووجدتُها مثيرةً للاهتمام كثيرًا. يبدو أنها عاشت في إنجلترا، في تشيلسي، سنواتٍ طِوالًا وكانت تدرس النحت.»
قال جوليان متأملًا: «إنها شابة ماهرة إلى حدٍّ استثنائي، لكنها غامضةٌ بعضَ الشيء. إن كانت الأميرة تورسكي هي عمَّتُها، فمَن كان والداها؟»
أجابته الكونتيسة: «كان والدها هو الكولونيل ريتشارد آبواي، الذي يبدو أنه كان ملحَقًا عسكريًّا في سان بطرسبرج قبل سنوات. وقد تزوج إحدى أخَوات زوج الأميرة تورسكي، ومنها ورثت تلك الشابةُ لقبًا لن تستخدمَه وثروةً كبيرة. قُتِلَ الكولونيل آبواي عن طريق الخطأ إبَّان الحرب الروسية اليابانية، وتُوفيَّت أمها قبل بضع سنوات.»
«إذن ليس لها أصول ألمانية أو شيء من هذا القبيل؟»
صاحت أمه موبِّخة: «بُني العزيز، يا لها من فكرة! بل على النقيض، إن آل تورسكي ينحدرون من واحدة من أكثر العائلات أرستقراطية في روسيا، وأنت تعلم مَن هم آل آبواي. إن الفتاة كريمةُ المَحْتِد وأراها ساحرةً وفاتنة من كل الأوجه. ما الذي جعلك تُشير إلى أنها قد تكون ذاتَ أصول ألمانية؟»
«لا شيءَ! على كل حال، أنا مسرور أنها ليس لها أصول ألمانية. مَن أيضًا؟»
أردفَت أمه قائلةً: «الأسقف، ويبدو أنه متعب كثيرًا، ذلك المسكين! والدكتور جورج لينارد من أكسفورد واثنان من الجنود الشبان من نورويتش طلبَ منا تشارلي أن نكون لطفاءَ معهما … والرجل الكبير بنفسه.»
«أخبريني عن الرجل الكبير؟ لا أعتقد أنني رأيتُه لكي أتحدَّث معه منذ أن أصبح رئيسًا للوزراء.»
«يقول إنَّ هذه هي إجازته الأولى هذا العام. إنه يبدو متعبًا إلى حدٍّ ما، لكنه أمضى ساعةً في الصيد منذ أن وصلَ ويبدو أنه استمتع بذلك. ها هو أبوك.»
كان إيرل مالتينبي، الذي دخلَ بعد لحظة، نمطيًّا إلى حدٍّ يُثير الإحباط. كان في نفس طول ابنه الأصغر الذي صافحه في شرود، والذي كان يُشبهه بصورة كبيرة. كان الرجلُ يتحلَّى بالملامح الأرستقراطية المعتادة، فكانت شفتاه رفيعتَين وعيناه زرقاوَين فولاذيتين. وكان يبدو أنه منزعج بعضَ الشيء.
سألته الليدي مالتينبي: «أثَمة خطبٌ ما يا عزيزي؟»
اتخذ زوجها موضعه على بساط الموقد.
وقال: «أنا منزعجٌ من ستينسون.»
هزَّت الكونتيسة رأسَها.
وقالت معترضة: «إنك قاسٍ جدًّا يا هنري. كنت تُحاول أن تتحدَّث معه في السياسة. وأنت تعلم أن المسكين كان في أشد الاحتياج والتوق إلى يومَين يستطيع أن ينسى فيهما أنه رئيس وزراء إنجلترا.»
قال اللورد مالتينبي موافقًا إياها: «بالضبط يا عزيزتي. أؤكِّد لكِ أنني لم أتجاوز بأي حال. لقد تفلَّتَت مني ملحوظة فيما يتعلق باستحالة توفير المقاتلين في هذه الآونة، وحقيقة أن خمسة حُراس من السبعة الخاصِّين بي يُقاتلون. في رأيي أن تعليق السيد ستينسون لم يكن لائقًا مطلقًا، بالنظر إلى كونه صادرًا من الشخص المؤتمَن على مصير هذا البلد.»
سألته الكونتيسة في وداعة: «ماذا قال؟»
أجابها زوجها وفي عينَيه بريقُ غضب: «تحدَّث عن شيء بخصوصِ ما إن كان سيسمح لأي شخص أن يكون له سبعة حراس بعد الحرب. لو أن رجلًا مثل ستينسون سيدعم تلك الأفكار الاشتراكية. عذرًا … عزيزي الأسقف.»
ثم توافد بقية الضيوف في الدقائق القليلة التالية: الأسقف، أبو جوليان بالمعمودية، ومزيجٌ غريب جمع بين المتأنق والمتدين والناسك والرجل العاديِّ المنتمي إلى الشعب، واللورد شرفينتون وزوجته، وكانا من المعارف كبار السنِّ الذين لا ينتمون إلى فئة بعينها، والسيد هاناواي ويلز وكان محافظًا لكنه كان لبقًا دمثًا، وكان مثالًا رائعًا للنجاح الفائق الذي يُحققه أصحاب القدرات المتواضعة، وجنديَّان شابَّان خفيفا الظل خرجا لتمضية وقتٍ طيب، وكان جوليان مسئولًا عنهما، وأستاذٌ بجامعة أكسفورد كان فيما مضى معلمًا خصوصيًّا للورد مالتينبي، وأخيرًا الليدي والأميرة تورسكي، وكانت في منتصف العمر وذات مظهر بسيط وشكل رائع، تتبعها ابنة أخيها. وكان هناك بضعةُ تعارفاتٍ لا يزال يتعيَّن تنفيذها.
وبينما كانت الليدي مالتينبي مشغولةً في أداءِ هذه المهمة، التي كانت تؤديها في كل الأوقات ببراعة مُضيفة عظيمة لا تنضب، قطع جوليان حديثه مع الجنديَّين وأخذ ينظر بثباتٍ عبر الغرفة إلى كاثرين آبواي، وكأنه كان يتوق لمراجعة انطباعاته عنها أو تكملتها. كانت كاثرين آبواي متوسطة الطول وكان قوامها نحيفًا إلى حدٍّ معقول، وكانت مشيتها متأنيةً ورشيقة بصورة ملحوظةٍ في الوقت نفسه. كانت بشَرتُها تميل إلى الشحوب. وكانت ذاتَ عينَين واسعتين بلونٍ بني ناعم، وكان لشعرها درجةٌ غير مألوفة من اللون البُني الكستنائي، وممشطًا ومنسَّقًا ببساطة رائعة إلى حدٍّ لافتٍ للنظر. كانت ترتدي سلسلةً طويلة من الخرَز الأخضر حول عنقها، وفستانًا أسودَ من الحرير الرقيق لم يكن يشفُّ، لكنه كان جريئًا بعضَ الشيء في تصميمه. كان صوتُها وضحكتُها، بينما كانت تتحدَّث مع الأسقف، مثيرَين للبهجة، وخلَت لكنتُها وإيماءاتها من أي أثر يُشير إلى انحدارها من أصولٍ أجنبية. كانت لها جاذبية غير عادية، من دون شك، وكان في أسلوبها لَباقةٌ تصل إلى التحرر، لكنها كانت تتمتع بصفة التحفُّظ المميَّزة التي لا تُلحَظ إلا لدى الصَّفوة؛ فكان لها سحرٌ ملموس للغاية. وجدَ جوليان أن تفحُّصه الدقيق لها قد زادَ من إعجابه بها، وهو الإعجاب الذي كان مفروغًا منه. ورغم ذلك، وبينما كان يُراقبها، كان على جبينِه تقطيبةٌ يسيرة تنمُّ عن الحيرة، إحساسٌ بشيء أشبه بالحيرة مختلطٍ بتلك المشاعر الأخرى. أشارت إليه أمُّه، التي كانت قد التفتَت لتتحدَّث إلى تلك الفتاة محطِّ انتباهه، وفي الحال اجتازَ الغرفة متجهًا صوبَهما.
قالت الكونتيسة: «سيصحبك جوليان إلى العشاء يا آنسة آبواي، وآمُل أن تترفَّقي به؛ فقد كان بالخارج طوال الليل وجزءًا كبيرًا من صباح اليوم أيضًا، حيث كان يصطاد البطَّ ويتحدَّث في ترَّهات مع شخص اشتراكي مريع.»
وانصرفت الليدي مالتينبي. أما جوليان، الذي كان يستند إلى عَصاه، فراحَ ينظر باهتمامٍ جديد إلى الوجه الذي لم يُبارح ذهنه منذ لقائهما الأولِ قبل بضعة أسابيعَ مضَت.
سألته قائلة: «أخبرني يا سيد أوردين، أيَّهما وجدتَ منهكًا أكثر: الخوض في المستنقعات من أجل الصيد، أم مناقشة علم الاجتماع مع صديقك؟»
أجابَ قائلًا: «في الواقع، لم نخُض في المستنقعات. لقد وقفنا بلا حَراك وابتلَّت ثيابنا بصورة غير عادية. وقد اصطدتُ إوزَّة، الأمر الذي جعلني في غاية السعادة.»
قالت: «إذن لا بدَّ أنها المحادثة. هل صديقك هذا قائدٌ ملهم أم أنه مجرد شخص عادي من العَامَّة؟»
«إنه قائد ملهم، بكل تأكيد. إنه السيد مايلز فورلي، لا بد أنكِ سمعتِ عنه.»
فأجفلَت قليلًا.
وقالت مُكرِّرة: «مايلز فورلي!» ثم أضافت: «لم أكن أعلم تمامًا أنه يعيش في هذا الجزء من العالم.»
فقال جوليان: «إنه يمتلك منزلًا ريفيًّا صغيرًا في مكانٍ ما في نورفولك، ويأخذ كوخًا هنا في أوقات غريبة من أجل صيد الطيور البرِّية.»
فسألته قائلة: «هَلا تصطحبني لمقابلته غَدًا؟»
«بكل سرور، ما دُمتِ ستَعِدينَني ألا تتحدَّثي معه في الاشتراكية.»
«أعدُك بذلك، مراعاةً لمرافَقتِك لي.» ثم تابعَت وهي تنظر إليه في شيء من التفكُّر: «أتساءل كيف تُبغض الحديث في الموضوعات الجادة إلى هذا الحد.»
أجابها: «أعتقد أنها تفاهة في التوجُّه الفكري. إنني أُفضل أن أتحدث معك عن الفنِّ بكل تأكيد.»
فقالت مبدية اعتراضها: «لكن التوجُّه السائد الآن في تشيلسي هو تجاهل الفن والتحدُّث في السياسة.»
فقال بنبرةِ نُصح: «توجُّه لن أتَّبعه، وكنت لأتمسَّك بالفن لو كنت مكانك.»
«في الواقع، هذا يتوقَّف على تعريفك للسياسة بالطبع. أنا لا أقصد السياسة الحزبية. إنما أقصد علم الحياة ككلٍّ وليس كوحدة منفصلة.»
هنا أقبلت الأميرة نحوهما بخطًى متمهلة.
وقالت: «لا أعرفُ ماهيةَ آرائك السياسية يا سيد أوردين، لكن ينبغي لك أن تحذر الصدمات إن ناقشتَ المسائل الاجتماعية مع ابنة أخي. في الأيام الخوالي ما كانوا ليسمحوا لها بالعيش في روسيا. وحتى الآن، أرى أن بعض معتقداتها من أخطرِ ما سمعت.»
«أليس هذا شيئًا جللًا من عَمَّةٍ مُحبة!»
ضحكَت كاثرين عندما تركتهما الأميرة. «أخبرني أكثرَ عن مغامراتك ليلة أمس؟»
رفعَت نظرها إلى وجهه، وأدرك جوليان فجأةً مصدرَ ذلك الإحساس الواهي بالضيق الغامض الذي لازمه خلال الدقائق القليلة الماضية. لقد عادَ إليه كلُّ شيء من خلال الرعشة الخفيفة في شفتَيها. كان فمُها بالتواءاته التي جمعَت بين الرقة والسخرية، من دون شك، هو الفمَ نفسَه الذي رآه في حُلمه المتشابك المعقَّد، حين كان راقدًا عند الأهوار، يُصارع من أجل الحفاظ على وعيه.