الفصل الخامس
كان منزل مالتينبي أحدَ تلك المنازلِ القديمة الطِّراز التي يُقدَّم فيها نبيذُ البورت كطقسٍ عادي، ويستجيب ضيوف المنزل إلى دعوتهم إلى غرفة الجلوس ببطءٍ. وبعد أن غادرَت النساء، سحبَ الدكتور لينارد كرسيَّه بالقرب من كرسيِّ جوليان.
وعلَّقَ قائلًا: «رفيقتُك على العشاء مثيرةٌ للاهتمام. قِيل لي إنها شابة ذكية للغاية.»
فأقرَّ جوليان: «إنها موهوبة بكل تأكيد.»
تابعَ الأستاذ الجامعي بأكسفورد حديثه قائلًا: «راقبتُها بينما كانت تتحدَّث إليك. إنها إحدى تلك الشابات النادرات التي لا يلتفتُ المرء إلى جَمالها الأخَّاذ بفعل جاذبيتها العامة. كانت الليدي مالتينبي تُخبرني بمقتطفاتٍ صغيرة عن تاريخها. يبدو أنها تُفكِّر في ترك عملها في مجال الفن من أجل نوعٍ من العمل الاجتماعي.»
فقال جوليان وهو يُفكِّر مليًّا: «من الغريب مدى انجذابِ الموهوبين من الروس دائمًا لمصلحة العامة. فإنجلترا، على سبيل المثال، لا تُفرز ديمقراطيِّين حقيقيين ذَوي عبقرية. يبدو أن روسيا تحتكرهم جميعًا.»
أشارَ الدكتور لينارد قائلًا: «لا شيءَ يُحفِّز إخراجَ أفضلِ ما في رجلٍ أو امرأة أكثرَ من شعورٍ بالظلم. لا شك أن روسيا قد تعرضت لسوء حُكم وإدارة بصورة مخزية سنواتٍ كثيرة.»
أصبحَت المحادثة عامة وسخيفةً بفضل تدخُّلِ آخَرين من الضيوف الحاضرين. ثم بعد ذلك بمدةٍ قصيرة، نهضَ السيد ستينسون واستأذن. فقد كان سكرتيره على الهاتف ويرغب في اجتماعٍ قصير به. وبعد مغادرته سادَ صمتٌ قصير.
علَّقَ أستاذُ جامعة أكسفورد قائلًا: «بدأ ستينسون يُظهر علامات التوتُّر والإجهاد.»
فأشارَ اللورد شرفينتون قائلًا: «ولِمَ لا؟ لقد جاءَ إلى منصبه مفعمًا بحماسةٍ مذهلة للغاية. ودوَّت أصداءُ خطبه حول العالم كنغمةِ بوق جهير. ونجحَ في جذب المتذبذبين والمتشكِّكين إليه. وأشعلَ شراراتِ حماسٍ لا تزال مشتعلة. لكنه رجلُ أفعال. وهذا الركود الحاليُّ يُؤرقه بشدة. لقد سمعتُه يتحدَّث الأسبوعَ الماضي وأصابتني خيبةُ أمل. يبدو أنه فقدَ إلهامه. إنه في حاجةٍ إلى محفِّز من نوعٍ ما، حتى ولو كانت كارثة.»
فقال الأسقف متأملًا: «أتساءل ما إن كان خائفًا حقًّا من الشعب؟»
قال اللورد مالتينبي في غرور: «أرى أنَّ ملحوظته عن الشعب كانت في غاية الرعونة.»
تابعَ الأسقف حديثه قائلًا: «أنا أعرف الشعب وأُحبه. وأظن أيضًا أنهم يثقون فيَّ. لكنني لستُ واثقًا من أنني أرى بصيصًا مما يدور في ذهن ستينسون. هناك عدةُ ملايينَ من الناس في البلاد يعتقدون حقًّا أن الحرب في أساسها مسألةٌ تخصُّ الساسة، ويعتقدون أيضًا أنَّ النصر يعني شيئًا كبيرًا لمن يُطلقون عليه «الطبقات العليا» أكثرَ مما يعني لهم. ومع ذلك، فهم يتحمَّلون حصةً مماثلةً من القتال بكل ما تحمله الكلمة من معنًى؛ لأن المسألة حين تتعلَّق بالحياة البشرية، تُصبح حياةُ ابن العامل مساويةً لحياة ابن النبيل فيما تحظى به من قيمةٍ جوهرية.»
تململَ اللورد مالتينبي قليلًا في مقعده. كان على جَبينه ذي الشكل الأرستقراطي تقطيبةٌ طفيفة. وقد اختلف كليةً مع المتحدث الذي كان يخشى مواجهته رغم ذلك. وتسلَّم السيد هاناواي ويلز، الذي كان يتحيَّنُ فرصته، زِمامَ المحادثة. وقد تحدَّثَ بأسلوبٍ متحفِّظ، وكانت أصابعه تُداعِب كأسَ نبيذه.
قال: «لا بد أن أعترف بأنني أشعر بأبلغ الاهتمام بما قاله الأسقف لتوِّه. لم أستطع أن أتحدَّث إليكم عن الوضع العسكري، حتى ولو كنتُ أعلم أكثرَ مما تعلمون، وهذه ليست هي الحال، لكنني أظنُّ أن من الواضح أننا وصلنا إلى مرحلةٍ أشبهَ بطريقٍ مسدود مؤقتًا. يبدو بكلِّ تأكيد أنه ما من سبب يدعو للانزعاج أو الذُّعر على أي جبهة، لكنَّ ثَمة اضطرابًا غريبًا دائرًا، ليس في لندن وحدها وإنما أيضًا في باريس وروما، ولا يمكن لأحدٍ أن يقطعَ بسببه، ولا يستطيع أن يرجعه إلى سببٍ محدد. وعلى الصعيد نفسه، لدينا معلومات سريةٌ بأن روحًا جديدة من الأمل تدبُّ في الخارج في ألمانيا. لقد بلغنا أن رجالًا على قدرٍ من الرصانة والتفكير الرشيد — وهم قلةٌ حتى في ألمانيا — قد تنبَّئُوا بالسلام قبل أن يمرَّ شهرٌ واحد.»
قاطعه الدكتور لينارد قائلًا: «الافتراضُ القائم هو أن ألمانيا تُخفي شيئًا في جَعبتها.»
أجابَ الوزير قائلًا: «ليس هذا افتراضًا فحسب، لكنني أعتقد أنه الحقيقة أيضًا.»
قال اللورد شرفينتون: «يمكن للمرءِ أن يتنبَّأ بخطرٍ داهم ويخشاه لو أنَّ حزب العمال في ألمانيا كان قويًّا كحزب العمَّال لدينا، أو لو كان حزب العمَّال هنا على قلب رجلٍ واحد. لكن الظروف الراهنة تُوحي لي بألَّا داعيَ للانزعاج.»
فصرَّح هاناواي ويلز قائلًا: «أظن أنك مخطئ في هذه النقطة.» وأردفَ: «إن كان حزب العمال في ألمانيا في قوة حزب العمال هنا، فإنه سيكون قويًّا بما يكفي للإطاحة بأسرة هوهينتزولرن، والقضاء على السلطة العسكرية التي نخوض حربًا ضدَّها، ووضع الأساس لجمهوريةٍ ألمانية عُظمى نستطيع أن نُبرم معها السلام الذي يتطلع إليه كلُّ رجل إنجليزي. الخطر، والخطر الحقيقي الذي علينا أن نُواجهه، يكمن في اندماج أحزاب العمَّال والاشتراكيِّين والنقابيين في هذا البلد، وفي إصرارهم على التعامُل مع حزب العمَّال الضعيفِ في ألمانيا.»
قال جوليان: «أتفقُ مع الأسقف. فالديمقراطية غير المقيَّدة في بلادنا قد تعتقد أنها تتعرَّض للقهر والاضطهاد، لكنها وطنيَّة بشدةٍ على الصعيد الفردي. ولا أعتقد أن قادتها سيجبرون الدولةَ على مدِّ يدها للسلام؛ حتى يحصلوا على ضماناتٍ كاملة بأنَّ رفاقهم في ألمانيا قادرون على احتلال مكانة مُهيمنة في حكومة ذلك البلد؛ مكانةٍ مُساوية على الأقل لنفوذ الديمقراطية هنا.»
نظرَ الدكتور لينارد إلى المتحدث في شيءٍ من الفضول. كان يعرف جوليان منذ كان صبيًّا لكنه لم يكن يعتبره سوى هاوٍ.
وقال: «لعلك لا تدرك ذلك، لكنك تشرح عمَليًّا آراءَ ذلك الكاتِب الرائع الذي كنتم تتحدَّثون عنه، بول فيسك.»
فقال الأسقف ضاحكًا بصوتٍ عالٍ: «لقد قِيل لي إنَّ بول فيسك هو اسمٌ مستعار لأحد الوزراء.»
ردَّ هاناواي ويلز: «وأنا بلغَني من مصادرَ موثوق فيها جدًّا أنه قسٌّ في كنيسة إنجلترا.»
وأضافَ اللورد شرفينتون: «آخر إشاعة سمعتُها أنه بقَّال يمتلك متجرًا صغيرًا في ويجان.»
فقال الدكتور لينارد: «يا إلهي! لقد كثرت الأقاويلُ بشدة! فقد أكَّد لي رجلٌ من أحد نوادي بوهيميا التي أحملُ عُضويتها — نادي سافيدج في الواقع — أكَّد لي أنه صحافيٌّ مدمنٌ على الأفيون، وأنه يعيش على إحسان حفنةٍ من أصدقائه؛ إنه حطامُ رجل كان فيما مضى مُحررًا لصحيفة لندنية مهمة.»
سأل الإيرل ابنَه بنبرة متعالية: «لديك قلةٌ من المعارف في مجال الصحافة يا جوليان، أليس كذلك؟» وأضاف: «ألم تسمع بأيِّ شيء؟»
أجاب جوليان: «سمعتُ الكثير، لكنني لم أمِلْ إلى تصديق أيٍّ مما قيل. أتصوَّر أن بول فيسك، رجل صنعَ لنفسه جمهورًا، ويعتقد أن كلماته المكتوبة تكتسب قيمةً إضافية من حقيقة أنه لا يسعى بالطبع إلى مكافأة أو تقدير؛ تمامًا بالطريقة نفسها التي هَزِئ بها الديمقراطيون الحقيقيون الجادُّون قبل عشرين عامًا من فكرة الحصول على مقعد في البرلمان، أو التعامُل بأي شكل مع العدو.»
قال الأسقفُّ: «كان من الرائع أن أكون واثقًا من أنَّ جميعنا ليس لديه ميلٌ مفرط قليلًا نحو المساومات والحلول الوسط. فمن السهل للغاية استنزافُ الضمير.»
فُتِحَ بابُ غرفة الطعام، وأعلن كبيرُ الخدم عن وصول زائر.
«الكولونيل هيندرسون يا فخامة اللورد.»
التفتَ الحضور جميعًا في مقاعدهم. وقام الكولونيل، الذي كان رجلًا أنيقًا ذا طلَّةٍ عسكرية، بمصافحة اللورد مالتينبي.
قال بينما كان يتَّخذ مجلسه: «أُقدِّم عميق اعتذاري يا سيدي. كانت الكونتيسة كريمةً بما يكفي لتُخبرني أنني إن لم أستطع أن أصلَ في موعد العشاء، فيمكنني أن أحضر بعد ذلك.»
«هل أنت واثقٌ من أنك تناولتَ عشاءك؟»
«تناولتُ شيئًا يسيرًا في ميس، شكرًا لك.»
«أتريد كأسًا من النبيذ إذن؟»
صبَّ الكولونيل لنفسه كأسًا من إناء النبيذ الذي مُرِّر إليه، وتبادل التحايا مع العديد من الضيوف الذين بادر مضيفه بتقديمه إليهم.
تساءل الأخير: «آمُل ألا يكون هناك غاراتٌ أو اجتياحاتٌ أيها الكولونيل؟»
«يُسعدني أن أقول إنه لا يُوجد شيءٌ خطير من هذا القبيل. لكننا حَظِينا بشيءٍ من الإثارة من نوع آخر. فقد أمسكَ أحدُ رجالي بجاسوسٍ هذا الصباح.»
استثير انتباهُ الجميع. فحتى بعد ثلاث سنوات من الحرب، كان لا يزال هناك شيءٌ مثير في تلك الكلمة.
صاحَ اللورد مالتينبي: «يا إلهي! كنت أظن أنَّ مكاننا البعيد عن بقية العالم ليس مهمًّا بالقدر الذي يجتذبُ اهتمامًا من ذلك النوع.»
فأفضى إليه الكولونيل قائلًا: «كانت مسألةَ تواصلٍ مع العدو. كانت توجد هنا غوَّاصة للعدو ليلةَ أمس، ولدينا أسبابٌ للاعتقاد بأنَّ رسالةً منها خرجَت إلى البر. وقد أمسكنا برجل عند الفجر.»
سأله الأسقف: «وماذا فعلتم معه؟»
أجابه الكولونيل ببرود: «أطلقنا عليه النارَ قبل ساعة.»
سأله جوليان وهو يميل إلى الأمام: «هل ثَمة آخَرون طلقاء؟»
فأقرَّ الكولونيل وهو يرتشفُ نبيذه بتلذُّذ: «ثَمة شخصٌ آخر. لكن رجالي في الشرطة العسكرية هنا أذكياء للغاية، وأظنه مستبعدًا أن يتمكَّن من الهرب.»
سأله الإيرل: «هل كان الرجلُ الذي أطلقتم النارَ عليه غريبًا؟» واستطردَ: «ألم يكن واحدًا من المستأجرين لديَّ؟»
فطمأنَه الكولونيل سريعًا: «كان غريبًا.»
جازفَ جوليان وسأله: «ورفيقه؟»
«يُعتقَد أن رفيقه كان شابًّا. وثَمة اعتقادٌ بأنه قد هربَ في سيارة، لكنه على الأرجح يختبئُ في المنطقة هنا.»
عبَس اللورد مالتينبي. فقد بدا من غيرِ اللائق له أن يُرتكَب شيء من هذا القبيل في نطاق مِلكيته دون علمه. فهبَّ واقفًا.
وقال: «على الأرجح أن الكونتيسة تنتظر بعضَنا من أجل لعب البريدج. آمُل أن تشاركنا أيها الكولونيل.»
نهضَ الرجالُ وخرَجوا مصطفِّين ببطءٍ من غرفة الطعام. لكن الكولونيل استوقف مضيفه، وتباطأ جوليان في خُطاه أيضًا.
قال الأول: «آمُل يا لورد مالتينبي أن تستميحَ العذر لرجالي، لكنهم أخبروني أن من الضروريِّ أن يُفتشوا مرأبَك بحثًا عن سيارة شُوهدت في الجوار.»
كرَّر اللورد مالتينبي في عبوس: «يُفتشون مرأبي؟»
قال الكولونيل موضحًا: «لا شكَّ أن الرجل الذي لا يزال طليقًا قد استخدمَ سيارةً ليلة أمس، ومن المحتمَل جدًّا أنها كانت مسروقة. أنا واثقٌ من أنك ستتفهَّم أن أي استفساراتٍ يجدُ رجالي أنَّ من واجبهم القيامَ بها إنما هي مدفوعة تمامًا بالضرورة العسكرية.»
وافقه الإيرل وكان لا يزال متحيرًا بعضَ الشيء: «هو كذلك بالفعل. ستجدُ رئيسَ السائقين لديَّ متعاونًا تمامًا. وأنا واثقٌ من أنه سيُمِد رجالك بكل المعلومات الممكنة. لكن على حَدِّ علمي، لا توجد سيارة غريبة في مرأبي. هل لديك علمٌ بوجود أي سيارة غريبة يا جوليان؟»
أجاب الابنُ قائلًا: «سيارة الآنسة آبواي فقط. كانت سيارتها الصغيرة من طِراز بانهارد متوقفة على الطريق طوال الليل، في انتظار تركيب بعض شمعات الاحتراق فيها. أما الآخرون، فيبدو أنهم جميعًا قد أتَوا بالقطار.»
رفعَ الكولونيل حاجبَيه على نحوٍ طفيف للغاية، وتحرَّك ببطءٍ متجهًا نحو الباب.
ثم قال: «الأمر بين يدَي الشرطة العسكرية، لكن أستأذنك لحظات يا لورد مالتينبي، فأنا أرغبُ في التحدث إلى رئيس السائقين لديك.»
أجابه الإيرل: «بالتأكيد. سآخذك إلى المرأب بنفسي.»