الفصل السابع
كانت الساعة تقترب من العاشرة والنصف في صباح اليوم التالي حين دلفَ جوليان إلى حجرة الجلوس الخاصة بمايلز فورلي استجابة لدعوة جهورية منه بالدخول. كان فورلي ممددًا على الأريكة يُدخن غليونًا ويقرأ الجريدة.
استقبله فورلي استقبالًا حارًّا قائلًا: «الرجلُ الطيب!» ثم أردفَ: «كنت آمُل أن تزورني هذا الصباح.»
سحبَ جوليان الكرسي الوثير المتداعي الآخَر بالقرب من نار المدفأة، وشرعَ يملأ غليونه من برطمان التبغ المفتوح.
ثم سأله: «كيف حال ساقك؟»
أجابه فورلي بابتهاج: «كادت تُصبح على خيرِ ما يُرام. يبدو لي أنني كنت خائفًا حتى من قبل أن أُصاب. كيف حال رأسك؟»
صرَّح جوليان وهو يُمدد جسده: «لا ألم على الإطلاق. لا بد أنني أمتلكُ جمجمة حديدية.»
«هل من أخبار؟»
«هناك أخبار بما يكفي، إن كنت لم تسمع بها. لقد قبضوا على الرجل الذي ضرَبني على رأسي، والذي أعتقد أنه قطع اللوحَ الخشبي بالمنشار، وأردَوه قتيلًا بالرصاص ليلة أمس.»
صاحَ فورلي وهو يُخرج غليونه من فمه: «أحقًّا فعلوا!» وأردفَ: «قتلوه؟ مَن هو سيِّئ الحظ ذاك إذن؟»
أجابه جوليان: «يبدو أنه كان مصفِّف شعر ألمانيًّا، هرب من معسكر اعتقال قبل عامَين وظلَّ طليقًا منذ ذلك الحين، وكان على اتصالٍ بطريقة أو بأخرى مع أصدقائه على الجانب الآخر. لا بد أنه أدرك أن اللعبة قد انتهت بمجرد أن أُلقي القبضَ عليه. فهو لم يُحاول حتى إبداء أيِّ مقاومة للدفاع عن نفسه.»
كرَّر فورلي وهو يعيد إشعال غليونه: «قتلوه؟» وأردف: «لقد نال ما يستحقُّه تمامًا!»
قال جوليان وهو مستغرقٌ في التفكير: «أتعتقد ذلك؟»
«ومَن لا يعتقد ذلك؟ إنني أكره الجاسوسية. وكل رجل إنجليزي يكرهها. وأعتقد أننا لهذا السبب خُرْق في هذه اللعبة.»
راقب جوليان صديقه في شيءٍ من العبوس.
ثم سأله بنبرةٍ هادئة: «كيف تورَّطت في هذا الأمر بحق السماء يا فورلي؟»
كان ارتباك فورلي أكثرَ تلقائيَّة من أن يكون مصطنَعًا. فأخرج الغليون من بين أسنانه وراح يُحدق في صديقه.
وتساءل: «ماذا تقصد بحق الجحيم يا جوليان؟» وأردف: «أؤكد لك أنني ما خرَجت ليلة أولَ من أمسِ إلا لكي أقوم بواحدةٍ من تلك الجولات التي تُلقى على عاتقي حين أكون في هذا الجزء من العالم وأُرشَّح لأداء مهمة. يوجد أحدَ عشر رجلًا منا بين هنا وشيرنجهام، ضباط خصوصيُّون من فرعٍ صغير من فروع الخدمة السرية إن كنتَ تُفضل أن نصفها بهذا الاسم. نحن مؤسسة معروفة بين المؤسسات القائمة. أحيانًا ما كنتُ أجوب هذه الأهوار منذ منتصف الليل وحتى الفجر، وعلى الرغم من أنني دائمًا ما أسمع شائعات، فلم أسمع أو أرَ حادثة واحدة غيرَ عادية حتى ليلة أمس.»
قال جوليان في إصرار: «لم يكن لديك أدنى فكرةٍ إذن ما كان ذلك الشيء الذي كنت تبحث عنه ليلة أول من أمس؟ لم يكن لديك فكرة، لنقل من أي مصدر أيًّا كان أنه سيكون هناك محاولةٌ من جانب العدو للتواصل مع أصدقاء له هنا على هذا الجانب؟»
«يا إلهي، لا! إن مجرد المعرفة بهذا يُسمى خيانة.»
«أتعترف بذلك؟»
استقام فورلي في كرسيِّه متصلبًا. بدَت كتلة شعره البُنية شعثاءَ أكثرَ من المعتاد، وبدا وجهه الجامد أشدَّ صرامةً من أي وقتٍ مضى بفعل عبوسه الشديد.
«ماذا تقصد بحق الجحيم يا جوليان؟»
أجابه جوليان: «أقصد أنني لديَّ أسباب تدفعني للشكِّ في أنك تُجري أو تحاول إجراء اتصالاتٍ سرية مع عدوٍّ للبلاد يا فورلي.»
انكسر ساق الغليون الذي كان مُمسَكًا به بين أصابع فورلي. واشتعلَت عيناه غضبًا.
ثم صاح قائلًا: «تبًّا لك يا جوليان!» وأضاف: «لو كنت أستطيع الوقوف على قدمَين لهشمت رأسك. كيف تجرؤ على المجيء إلى هنا والتحدثِ بمثل هذه الترَّهات القذرة.»
سأله جوليان بنبرة صارمة: «أليس هناك شيءٌ من الحقيقة فيما قلتُه لتوي؟»
«ولا كلمة واحدة.»
التزم جوليان الصمت بُرهة. كان فورلي يجلس منتصبًا على الأريكة وعيناه الحادَّتان تلمعان من شدة الغضب.
ثم قال: «أنتظر تفسيرًا منك يا جوليان.»
فجاءه الرد سريعًا: «ستحصل عليه. إن رفيقة الرجل الذي أُردِي قتيلًا بالرصاص، التي تبحث عنها الشرطة في هذه اللحظة، تحلُّ ضيفةً في منزل والدي. وقد اضطُررت إلى الكذب لأُنقذها من افتضاح أمرها.»
قال فورلي لاهثًا: «أهي امرأة؟»
«أجل! تلك الشابة التي كانت ترتدي معطف الصياد المشمع، والتي مُرِّرت تلك الرسالة إليها ليلة أمس هي الآنسة كاثرين آبواي. لقد بعثَتني إليك لأحصل على تفسيرٍ لحيازتها تلك الرسالة.»
ظل فورلي صامتًا تمامًا عدة لحظات. كان أول تعبير ارتسم على وجهه تعبيرَ ذهولٍ وحيرة. ثم بدأت الأمور تتجلَّى أمامه. بدأ يفهم. وحين تحدث، كانت كل مشاعر التحفز قد اختفت من نبرته.
قال فورلي: «عليك أن تتركني أُفكر في هذا الأمر لحظةً يا جوليان.»
«خذ وقتك. ما أريد إلا تفسيرًا.»
جمع فورلي شتاتَ نفسه ببطء. ومدَّ يده نحو حامل الغلايين، وعبَّأ غليونًا آخر وأشعله. ثم بدأ حديثه.
فقال: «كل كلمة حدَّثتك بها يا جوليان بشأن ليلة أول من أمس هي الحقيقةُ بعينها. لكن يوجد اعتراف آخر عليَّ أن أُقرَّ به في ظل هذه الظروف. إنني أنتمي لجماعةٍ من الرجال على اتصال بجماعة مشابهة لهم في ألمانيا، لكني لا أشارك في أيٍّ من الفعاليات العملية، أو ما أُطلق عليه الآليات، الخاصة بمنظمتنا. كنت أعرف أن ثمة اتصالاتٍ بين الجانبين، لكنني كنت أتخيل أن ذلك يحدث من خلال بلدانٍ محايدة. وقد خرجت ليلةَ أول من أمسِ كمواطن إنجليزي عادي، لكي أقوم بمهمتي. ولم يكن لديَّ أدنى فكرة بوجود أي محاولات لتوصيل رسالة إلى هنا، فيما يتعلق بالأمور المعنيِّ بها. وفي رأيي أن الدليل على كلامي يكمن في حقيقة الجهود التي بُذِلت من أجل منعي من الوصول إلى موقعي، وأنك، بوصفك بديلًا لي أرسلته عن عمدٍ ليحلَّ محلي، قد تعرضت لهجوم.»
قال جوليان: «أوافق على كلامك حتى الآن، أكمل رجاءً.»
فأكمل فورلي: «أنا مواطن إنجليزي ووطني مثلك تمامًا، على الرغم من أنك ابن إيرل مالتينبي وأنك قاتلتَ في الحرب. لا بدَ أن تُنصت لي من دون تحيز. ثَمة رجال عقلاء في إنجلترا، وهم وطنيون حتى النخاع، يُحاولون أن يتلمسوا طريقهم نحو الحقيقة بشأن هذه التضحية الدامية. وثَمة رجال عقلاء في ألمانيا يتبعون النهجَ نفسه. ولو حاولنا التواصل بعضنا مع بعض، من أجل إصلاح العالم، فإن هذا في رأيي لا يُعد خيانة أو اتصالًا مع دولة عدوة بالمعنى المتعارَف عليه.»
تمتم جوليان قائلًا: «فهمت. إن الذنب الذي أنت على استعدادٍ للاعتراف به هو التواصل مع أعضاء حزب العمال والحزب الاشتراكي في ألمانيا.»
فأجابه فورلي بشيء من شراسته القديمة: «لست بصدد الاعتراف بأي ذنب. لا تتحدث مثل والدك والطبقة التي ينتمي إليها يا جوليان. دعك من هذا. كن على سجيَّتك. لا يمكن للوزراء أن يُنهوا الحرب. ولا يمكن لحكومة بلادك أن تُنهيها أيضًا. لقد تشدَّقوا بكلماتٍ رنانة في البداية. وتعهدوا بالتزاماتٍ أكثرَ مما ينبغي. اسأل ستينسون. سيخبرك أنني أقول الحقيقة. وهكذا نشبت الحربُ واستمرت وكل يوم تُكلف العالم عدة مئات أو عدة آلاف من الأرواح البشرية، والرب وحده يعلم كم ضاع من جهدٍ وعقول الرجال وذهب هباءً! لا بد أن تتوقف الحرب بطريقة أو أخرى يا جوليان. وإن لم يوقفها الساسة، فلا بد للشعب أن يوقفها.»
كرَّر جوليان في شيءٍ من الأسى: «الشعب. لقد وضع رينزي ثقته في الشعب يومًا ما.»
احتجَّ فورلي قائلًا: «هناك فرق. الشعب اليوم على حق، أما رينزي فليس هنا؛ يا إلهي!»
ثم توقف فجأة، متتبعًا حبلًا آخرَ من الأفكار. واتَّكأ إلى الأمام.
وقال: «اسمع، سنتحدَّث عن مصير تلك الرسائل فيما بعد. ماذا عن الآنسة آبواي؟»
قال جوليان: «كانت الآنسة آبواي على وشك أن يُلقى القبض عليها ليلة أمسِ باعتبارها جاسوسةً. وقد فعلت كل ما بوُسعي من أجل حمايتها من عواقب تصرفها الغبيِّ وغير المبرر، مخالفًا بذلك كلَّ مبادئي وقناعاتي. لا أعرف أي شيء عن منظمتك تلك يا فورلي، لكنني أرى أنكم مجموعةٌ من الأوغاد؛ لأنكم سمحتم لفتاة أن تضطلع بمهمةٍ كهذه.»
لمعت عينا فورلي تضامنًا مع كلامه.
وقال مؤيدًا إياه: «كان ذلك تصرفًا جبانًا يا جوليان. إنني أشتعل خزيًا حين أفكر في الأمر. لكن بالله عليك لا تُفكر أن لي صلةً بهذه المسألة! إن لدينا فرعًا للخدمة السرية يضطلع بترتيب تلك الأمور. إن ذلك الحقير فين هو المسئول. تبًّا له!»
صاح جوليان: «نيكولاس فين، الداعي إلى السلام!» وأردف: «أتُشركون حشرةً كهذا في جماعاتكم!»
تمتم فورلي قائلًا: «لا يُمكنك أن تُطلق عليه هذه الصفة القاسية أمامي في هذه الظروف.»
كرَّر جوليان اسمَه وقد لمع في عينَيه وميضٌ جديد: «نيكولاس فين. كانت البرقية التي أخضعتها للرقابة مرسَلة إليه إذن! فهو الخائن الرئيسي إذن!»
فأقر فورلي: «نيكولاس فين ضالع في هذا الأمر؛ رغم أنني أُنكر وجود أي خيانة إطلاقًا.»
ردَّ جوليان قائلًا: «دعك من هذا الهراء! وماذا عن مصفِّف الشعر الألماني الذي قُتل هذا الصباح؟»
اعترف فورلي قائلًا: «كان من الخطأ استخدامُه. لقد خدَعَنا فين جميعًا بشأن طريقة اتصالنا بعضنا ببعض. لكن أنصِت لي يا جوليان. هل ستتمكَّن من إخراج الآنسة آبواي من هذه الورطة؟»
أجابه جوليان: «لو لم أفعل فسأقعُ أنا نفسي في هذه الورطة؛ لأنني كذبتُ بالفعل.»
قال فورلي: «أنت رجل نبيل يا جوليان رغم كل ما تتَّسم به من تكلُّف. ولو حدث أي شيء لتلك الفتاة، فسأدقُّ عنق فين.»
قال جوليان: «أظن أنها آمنةٌ في الوقت الراهن. فالوثيقة التي تُدينها ليست بحوزتها. لقد أخذتها منها حين كانت معرَّضةً لخطر الاعتقال.»
«ماذا ستفعل بها؟»
ردَّ جوليان في رباطة جأش: «لا ينبغي أن يكون لديك شكٌّ بشأن ذلك. سأذهب إلى المدينة غدًا وأُسلمها للسلطات المعنية.»
نهض جوليان بينما كان يتحدث. ونظر إليه فورلي في قلةِ حيلة.
وقال متأوهًا: «كيف لي أن أجعلَك ترى الحقيقة بحقِّ السماء يا رجل!»
وقع شعاعٌ رقيق من شمس الشتاء على وجه جوليان، الذي كان في تلك اللحظة، وللعجب، يُشبه وجه والده في ملامحه الأرستقراطية الجامدة. يبدو أن ذكر اسم نيكولاس فين قد أحدث فيه تحولًا.
قال جوليان بنبرةِ نُصح: «لو كنت مكانك يا فورلي، ولأجل صداقتنا، لم أكن لأحاول. ما من أيِّ اعتبار الآن من شأنه أن يثنيني عما أنتوي فعله.»
جاء صوت رفع المزلاج الخارجي، أعقبه طرقٌ على الباب. ودخل الزائران من دون أيِّ تكلُّف. كان السيد ستينسون وكاثرين واقفَين عند الباب.
نحَّى السيد ستينسون كلَّ أوجهِ التكلف جانبًا وأثنى فورلي عن محاولة النهوض على قدمَيه لتحيَّتهما في الحال.
وقال متوسلًا وهو يُصافحه: «لا تقُم رجاءً يا فورلي. آمُل أن تغفر لنا مثلَ هذه الزيارة غير الرسمية. لقد التقيت بالآنسة آبواي وأنا في طريقي إلى البحر وحين أخبرَتني أنها قادمة لزيارتك، استأذنتها في أن أرافقها.»
ردَّ فورلي في كياسة وود: «مرحبًا بك يا سيدي. زيارتك شرفٌ لم أكن أتوقعه.»
جاء جوليان بكرسي لكلٍّ منهما، وواصل السيد ستينسون حديثَه اللطيف، لما أدرك من خلال حَدْسه وجودَ حالة من التوتر.
فقال: «كنت أنا والآنسة آبواي منخرطين في حديث، أو بالأحرى جدال، شائقٍ للغاية. أرى أنها تتبع طريقة تفكيرك نفسَها تمامًا يا فورلي. إنَّ كلَيكما ينتمي إلى ما أطلق عليه جماعة الساسة النفَّاثين.»
ضحكت كاثرين بشدة على ذلك التشبيه.
وأشارت قائلة: «السيد ستينسون نموذج صارخ لأولئك الذين لا يعرفون أصدقاءهم. أنا والسيد فورلي نؤمن بأن أفكارنا ستَلقى يومًا ما قَبولًا لدى كل المفكرين والإيثاريين في العالم.»
قال فورلي: «إنها لمهمةٌ رهيبة أن تدفع الناسَ إلى التفكير. فهم منشغلون بصورةٍ شبه دائمة بفعل شيء آخر.»
أردفت كاثرين وهي تبتسمُ إلى جوليان: «وهؤلاء الأرستقراطيون!» واستطردت: «أتعلم أنك في إنجلترا تُفسدهم بذلك. إن جامعتي أكسفورد وإيتون مريعتان فيما يتعلق بتأثيرهما المقلِّص للفكر على الشباب. الأمر أشبه بوضع الموادِّ الخام في آلةٍ لصنع النقانق.»
قال ستينسون بخفَّة ظله التي لا تنقطع: «الآنسة آبواي قاسية جدًّا هذا الصباح. لقد ظلت تُهاجم سياستي ومبادئي طوال سيرنا معًا. من المؤسف أن تتعرض لهذا الحادث يا فورلي. أعتقد أننا كان ينبغي علينا أن نلتقيَ حين كنتُ هنا لولا روحُ المغامرة الزائدة التي تتحلَّى بها.»
نظر فورلي إلى جوليان نظرةً خاطفة وابتسم.
وقال: «لست واثقًا من هذا كثيرًا يا سيدي. فمضيفك لا يُحبذ وجودي كثيرًا.»
تساءل السيد ستينسون: «وهل للتحيزات السياسية وجودٌ في مكان ناءٍ كهذا عن موطنها؟»
قال جوليان معترفًا: «أخشى أن والدي رجعيٌّ نوعًا ما.»
فقال فورلي: «جميعكم رجعيُّون ومتحجرون بفعل تحيزاتكم.» وأردف ملتفتًا إلى كاثرين: «فحتى أوردين لا يتحملني إلا لأننا تناولنا العَشاء معًا من الصَّحن نفسه حين كنا نتخذ قرارًا بشأنِ أن نَشغل منصب المستشار اللورد السامي.»
فأفضى جوليان بينما كان يميل إلى الأمام عبر الطاولة ويأخذ سيجارة قائلًا: «صديقنا فورلي لا يتمتع باللباقة، ولديه الكثير من التحيزات. ويكتب من الهراء الكثيرَ عن الطبقة الأرستقراطية. أتذكر مقالًا له لم يمرَّ عليه وقتٌ طويل، كان بعنوان «اطردوا نُبلاءنا!» لا بأس بابنٍ صغير مثلي أن يتقبلَ الأمر ببساطة، لكن لا يمكنك أن تتوقع من أبي أن يتقبله. أضف إلى ذلك أنني أومن أنه مرتدٌّ عن مبادئه السياسية. وفي رأيي أنه وُلد في الأوساط الضيقة.»
زمجر فورلي في ارتياح قائلًا: «أنت مخطئ هنا. كان والدي مُصنِّع أحذية في قرية ليسترشاير الريفية. وتقدمت لاختبارات الانضمام إلى نقابة المحامين؛ لأنه ترك لي أموالًا طائلة، يبدو أنني بدَّدتُ معظمَها بالمناسبة.»
قال جوليان بنبرةٍ جافة: «بدَّدتَها في الأساس في المخططات اليوطوبية لإصلاح سادته.»
اعترف فورلي: «بالتأكيد كنتُ أعرف مِصحَّة للأبناء المعاقين الأصغر سنًّا.»
فاقترح جوليان قائلًا: «أطلب هدنة. ليس من الأدب أن نتراشق بالألفاظ أمام الآنسة آبواي.»
قال السيد ستينسون: «يبدو لي هذا معبدًا حقيقيًّا للسلام. لقد وصلت لي هنا حرفيًّا زحفًا على أربع. وقد أثبتَت لي الآنسة آبواي بصورة شبه قاطعة أنني قد أضعتُ مهنتي كقائد ديمقراطي.»
نظرَت إليه نظرة توبيخ. غير أن كلماته بدَت وكأنها أعادت إلى ذهنها إثارةَ حديثهما الذي كان محفزًا على قِصَره. وتحول وجهها بفعل ومضة من جدِّية حقيقية مرت على قسماتها سريعًا مثلما بدا شعاعٌ من شمسٍ شتوية، شق طريقه إلى الداخل عبر النافذة المفتوحة، وقد وجد خيوطًا من الذهب بين خصلات شعرها ذي اللون البُني الثقيل المَجْدول بإحكام. وكانت عيناها مفعمَتَين بنظرات شبه ملهمة:
وقالت متذمرة: «نادرًا ما يكون السيد ستينسون منصفًا معي. أنا لم أتجرَّأ على انتقاد حنكته السياسية، لكن هناك بعضَ الأشياء هنا تبدو مثيرةً للشفقة. ينبغي أن تكون إنجلترا مثالًا للديمقراطية في العالم. قوانينكم تعترف بذلك، وحكومتكم كذلك. ليس للمال أو الأصل ضرورةٌ من أجل تحقيق النجاح. فالطريق مفتوحٌ أمام العامل ليصل حتى إلى مجلس الوزراء. لكنكم لا تُطبقون أيَّ شيء من هذا. ما من بلد تُعرَض فيه قضية الشعب على نحوٍ مخجل وسيئ أكثرَ من هنا. إن لديكم طبقةً برجوازية تُحافظ على نفسها في ترَف شبه إقطاعي بواسطة العمالة التي تعمل لديها، وتلك العمالة تكتفي بالصرصرة وفتحِ فمها للتغذِّي على الديدان، في حين أنها ينبغي أن تحصل على أفضل الثمر. وكل هذا بسبب انعدام القيادة. فيخرج أمثال ديفيد ساند وفينياس كروس ونيكولاس فين وتوماس إيفانز. كلٌّ منكم يعتقد أنه يُمثِّل الطبقة العاملة، لكنكم لا تُمثلونها. أنتم تُمثلون المهنة … العاملين في مهنةٍ بعينها. كم يسخر منكم أولئك الرجال الذين يرغبون في الاحتفاظ بحكم هذه البلاد في حوزتهم! إنهم يَمدُّون يدَ العون لمن يصعد لأعلى ارتفاع، ويضعونه في الحكومة، وبعد ذلك تكون الطبقة العاملة قد انتهت منه إلى الأبد. لقد وجد مكانه بين العظماء. وربما يمنحونه لقب «سير» ويمنحون زوجته لقب «ليدي»، لكن بالنسبة إليه فالقضية قد انتهت تمامًا بلا رجعة. وهكذا تضيع عشَرة أعوام أخرى، في حين يكبر رجل آخر ويرتقي ليحلَّ محله.»
أقرَّ فورلي بنبرة كئيبة قائلًا: «إنها محقة تمامًا. ثَمة خطب ما بشأن الجو العام في الحياة الداخلية للسياسة، الذي ثبَت أنه كارثيٌّ لكل رجلٍ ينتمي للطبقة العاملة ارتقى وعظم شأنه. لقد كتب بول فيسك عن الأمر نفسِه قبل بضعة أسابيع فقط. إنه يرى أن الخطب يكمن في الجو الاجتماعي العامِّ المحيط بسياساتنا الذي ما زلنا نحتفظ به. فلا نلبث أن نضع أيديَنا على رجل ماهر مولود من رحم الشعب حتى نُلبسه ملابس المومياوات ونُقدمه في حفلات العشاء والحدائق، ليفعل أشياءَ لم يعتَدْ فعلها، وننتظر منه أن يُحافظ على سِمات شخصيته بين أناس ليسوا من شيعته. ثَمة شيء قاتل في هذا الأمر.»
اقترح ستينسون بنبرة جافة قائلًا: «ألا تعتقدون أنكم جميعًا تدَّعون أن حزب العمال هو الحزب السياسي الوحيد الذي يستحقُّ التقدير؟»
قالت كاثرين: «لو عرَفوا قوتهم الحقيقية، لصار الحزب المهيمن. أتُحب أن تذهب إلى صناديق الاقتراع اليوم وتُقاتل من أجل مقاعدك أمامهم؟»
فصاح قائلًا: «معاذ الله! لكننا أجمعنا على أمر واحد: لا انتخابات عامة أثناء الحرب. بعدها، لن أندهش إطلاقًا إذا اندمج النقابيون والليبراليون وحتى الراديكاليون، وكوَّنوا حزبًا واحدًا.»
قال فورلي متجهمًا: «ليُحاربوا حزب العمال.»
رد السيد ستينسون: «بل للحفاظ على إنجلترا عظيمة. لا بد أن تتذكر أنهم أظهروا أنانية شديدة بلا منازع فيما يتعلق بأي مخطط أو برنامج أفصحَ عنه حزب العمال حتى الآن، سواءٌ في هذا البلد أو في أي بلد آخر. إن لإنجلترا مصالحَ ضخمةً عبر البحار. واعتماد مجلس الرعية كشكلٍ من أشكال الحكم من شأنه أن يجلب كارثة في القريب العاجل.»
نظر جوليان إلى الساعة ثم نهض واقفًا.
وقال: «لا أريد أن أتعجَّلكم، لكن والدي صارمٌ بشأن موعد الغداء.»
فنهضوا جميعًا. والتفت السيد ستينسون إلى جوليان.
وقال له متوسلًا: «هلا سبقتَني مع الآنسة آبواي؟» وأضاف: «سألحقُ بكما عند الأهوار. أريد أن أتحدث إلى فورلي قليلًا.»
عبر جوليان ورفيقته الطريق الريفي وعبَرا من البوابة المواجهة على الدرب الوعر الذي كان يُؤدي إلى البحر تقريبًا.
قال جوليان: «آنسة آبواي، أنتِ مهتمةٌ للغاية بقضايا العمالة الإنجليزية، بالنظر إلى أنكِ نصف إنجليزية فقط.»
ردَّت في نفادِ صبر: «لستُ مهتمةً فقط بالطبقات العاملة الإنجليزية. إن قضايا الشعوب حول العالم بأكمله هو ما أُناصره وأؤيده في نطاقي المحدود.»
تابع في خجلٍ بعضَ الشيء قائلًا: «لكن بلادك ليست بنموذجٍ جيد لقضية الإصلاح الاجتماعي.»
سرَت في نبرةِ صوتها رعشةُ سخط واستياء وهي ترد عليه.
فقالت: «لقد عانت بلادي قرونًا عديدةً من قمع رهيب، حتى إنه كان حتميًّا ألا يُسفر ردُّ الفعل، في مراحله الأولى، عن شيء سوى الفوضى. وتلقائيًّا، سيختفي كلُّ ما تراه غيرَ منطقي أو خبيثًا حتى أو مريعًا بطريقةٍ ما، بمرور الوقت. ستجد روسيا نفسها مرة أخرى. وفي غضون عشرين عامًا ستكون ديمقراطيتها قد حلَّت المشكلة الكبرى، وستكون روسيا هي الجمهوريةَ الأولى والرئيسة في العالم.»
قال: «في هذه الأثناء، تخذلنا روسيا جميعًا وعلى نحو سيئ للغاية.»
صاحت قائلة: «لكنكم أنانيون، أيها الإنجليز!» وأردفت: «إنكم ترون واحدةً من أعظم الأمم في العالم تمر بوقت عصيب، ولا تُفكرون في شيء سوى مدى التأثير السلبي لما تمر به عليكم! إن كل مفكِّر في روسيا يشعر بالأسف لحدوث هذا الشيء في مثل هذا الوقت. لكن من الأفضل لكم أيها الإنجليز أن تُواجهوا الحقيقة. لم يكن للشعب الروسيِّ أيُّ التزام نحوكم، ولم يكن هو من ترتبطون معه بتحالف. إنما هي تلك الخدعة المشئومة التي يُمارسها كل الساسة الأوروبيين من عقد اتفاقيات وتفاهمات سرية، وبناء دول عازلة، في محاولةٍ منكم لاستقطاع قطعةٍ من الخريطة لأنفسكم، محاولين طَوال الوقت ممارسة الخداع تحت مظلةِ ما يُسمى بالدبلوماسية. ذاك ما تسبب بالحرب. لم تكن الحرب يومًا إرادةَ الشعوب. بل كان سببها آل هوهينتزولرن وآل رومانوف، أدوات الحكومة الفرنسية في إثارة الشغب والقلاقل، وجهودكم الخرقاء الغبية لتحقيق أقصى استفادةٍ من الجميع، مع الاحتفاظ بوجدانكم المستقل. لم تُشعل الشعوبُ هذه الحرب، لكنهم هم من سيضَعون نهاية لها.»
سارا في صمت بضعَ دقائق، وبدا واضحًا أن جوليان يُفكر في كلماتها الأخيرة، بينما كانت هي تستنشق الهواء القويَّ المالح بتعبيرٍ حسي مبهج عن الرضا، وقد زالت سحابة الضيق والاكفهرار عن وجهها، وكان رأسها مرتميًا للخلف قليلًا، وعيناها شبه مغلقتَين. كانت ترتدي من الثياب ما يُناسب البيئة الريفية تمامًا، من حذائها ذي المقدمة المربَّعة الشكل، ومع ذلك بدا محتفظًا بشكل مميز، والمعطف والتنورة المفصَّلَين بصورة مثالية، إلى القبعة الصغيرة الأنيقة التي ازدانَت بريشة واحدة. كانت تسير بالرشاقة العفوية التي يسير بها الرياضي، غيرَ عابئةٍ بعوائق الطريق أو عصفاتِ الريح التي كانت تجتاح الأماكن السبخة، لكن حتى النسمات التي كانت قوتها آخذةً في الازدياد، والتي كانت تتحول إلى عاصفةٍ كلما اقتربا من خط الأفق، لم تبدُ أنها تمتلك القوة لتخضيب وجنتَيها ولو بمثقال ذرة من الحُمرة. وصل جوليان وكاثرين إلى اللسان الطويل ووقفا ينظران إلى البحر قبل أن تُعاود الحديث ثانية.
قالت على نحوٍ مفاجئ بعضَ الشيء: «كنتَ كريمًا معي للغاية ليلة أمس يا سيد أوردين.»
فقال مذكِّرًا إياها: «كنتُ أرد دَينًا.»
فأقرَّت قائلة: «أعتقد أن ثَمة خَطبًا ما في ذلك الأمر. أعتقد حقًّا أن ذلك الشخص البغيض الذي أُجبِرتُ على التعاون معه مؤقتًا كان سيقتلك لو كنتُ سمحتُ بذلك.»
فقال مصدقًا على كلامها: «أميل إلى الاتفاق معكِ. لقد رأيته بشكل غير واضح تمامًا، لكن عينيَّ لم تقعا قط على شخص ذي ملامح بهذا القدر من الإجرام والشر.»
فقالت: «إذن فقد تخالصنا.»
«لكن ثَمة دَينًا صغيرًا من جانبي لا يزال عليَّ ردُّه.»
«في الواقع، لا يمكن تحديد كمِّ المتطلبات والضغوط التي قد أفرضها على صلة التعارف التي بيننا.»
فقال محتجًّا: «تعارف؟»
«أتحب أن تُطلق عليها صداقة؟»
فقال بتروٍّ: «قبل وقت قصير للغاية، لم تكن حتى الصداقة لتُرضيني.»
«والآن؟»
«لا أحب الألغاز.»
قالت وهي تتنهَّد: «يا لي من مسكينة!» وأضافت: «ولكن يمكنك أن تُخلص نفسك من عبءٍ واحد منها متى شئت بعد الغداء. أعتقد أنه سيكون من الآمن الآن أن أستعيدَ حُزمة الرسائل.»
قال موافقًا إياها بنبرة بطيئة: «أجل، أعتقد ذلك.»
رفعت نظرها إلى وجهه. رأت شيئًا فيه جعل حاجبَيها الرفيعين ينعقدان معًا في تقطيبة خفيفة.
سألته قائلة: «هل ستعطيني إياها بعد الغداء؟»
ردَّ بهدوء: «لا أعتقد ذلك.»
قالت مُذكِّرةً إياه في هدوء منذر بسوء: «إنما كنتَ مؤتمنًا عليها بعضَ الوقت فقط. إنها تخصُّني.»
فصرَّح قائلًا: «إن وثيقةً يتم تسلُّمها بهذا الشكل من السرية والتكتم من المحتمل أن تكون وثيقةً تدل على خيانة. وليس لديَّ نية لأن أُعيدها إليكِ.»
سارت بجواره في صمتٍ بضعَ لحظات. واندهش جوليان حين استرقَ النظر إلى وجهها. فلم يكن به أيٌّ من أمارات الغضب الاعتيادية، لكنه كان يحمل غضبًا مصحوبًا بشحوب شديد، كانت محاولةُ السيطرة عليه تُكلفها جهدًا هائلًا. لمست أصابعَ يده بيدها العارية من القفاز بينما كانت تخطو على مرقًى درَجي، ووجدها جوليان باردةً كالثلج. وبدت كل بهجة ذلك الصباح المشمس على غير المتوقع وقد تلاشت.
فقال في تواضع: «آسف يا آنسة آبواي أنَّ قراري قد أثار ضيقَك إلى هذا الحد. أطلبُ منكِ أن تتذكري أنني مجرد رجل إنجليزي تقليدي، وأنني كذبتُ بالفعل من أجلك. فهلا وضعتِ نفسكِ في موضعي؟»
كانا قد تسلَّقا التلَّة الرملية الصغيرة التي ينمو عليها العُشب، ووقفا ينظران باتجاه البحر. وفجأة بدا كلُّ الغضب الذي كان يعتلي وجهها وقد تلاشى. رفعت كاثرين رأسها وتلاقَت عيناها البُنيتان الناعمتان بلمعانهما بعينَيه، وبدَت التواءةُ شفتَيها الصغيرة وقد أحدثَت تحولًا تامًّا في تعبيرات وجهها تمامًا. لم تعد تلك المرأةَ الشديدة العقلانية التي تُناصر قضيةً كبرى، لم تعد تلك المرأة الماكرة المتواطئة التي يتملَّكها الغضب والحنق من أي احتمالٍ للفشل. بل تحولت فجأةً وكلية إلى أنثى جذابة مغناجة.
قالت هامسة: «لو كنتَ مجرد رجل إنجليزي تقليدي غبي متبلدَ الحس، فلِمَ غامرت بشرفك وأمنك من أجلي؟ هلا أخبرتَني بالسبب أيها الرجل الحديدي؟»
انحنى جوليان نحوها أكثر. كانت تبتسمُ في وجهه صراحةً، رافضةً ذلك التحذيرَ الذي تُوجهه لها عيناه المتقدتان. ثم فجأةً وفي صمت، ضمها نحوه وقبَّلَها في شفتَيها دون أدنى مقاومة منها. لم تُبدِ اعتراضًا. بل إنه ظن بعد ذلك، حين كان يُحاول تذكُّر ذلك المشهد العاطفي الملتهب الغريب، أن شفتَيها قد قامتا بردِّ قُبلته. كان هو مَن أعتق شفتيها؛ وليست هي من كانت تُقاوم. غير أنه فهم. كان يعرف أن ما حدث كان بمثابة مأساة.
ثم جاءهما صوتُ ستينسون من الجانب الآخر من التلة.
«تعالَ وأرني الطريق عبر هذه المنطقة المزرية من المستنقع يا أوردين. فأنا لا أحبُّ هذه الحشائش الخضراء المضللة.»
فتمتم جوليان بعباراتٍ بلا غاية من قبيل «هذه شِراكٌ للساسة» أو «انظر قبل أن تخطوَ». وأردفَ: «أنت مُحق تمامًا في تجنُّب تلك البقعة يا سيدي. فقط اتبع إصبعي حيث أشير.»
شقَّ ستينسون طريقه بصعوبة نحوهما.
وصاح قائلًا: «قد يكون هذا طريقًا مختصرًا إلى ذا هول، لكن باستثناء منظر البحر وهذا الهواء العليل الرائع، أعتقد أنني كنت أُفضل الطريق الرئيس! ساعدني على الصعود يا أوردين. ألم يحدث ذلك الأمر ليلةَ أمس بالقرب من هنا؟»
فقال جوليان مصدِّقًا على كلامه: «في هذه البقعة بالتحديد. كنت والآنسة آبواي نتحدث عنها للتو.»
ثم نظر كلاهما نحوها. كانت واقفةً مولية ظهرها إليهما وتنظر إلى البحر. ولم تتحرك حتى عند ذكر اسمها.
علَّق رئيس الوزراء من دون أن يُبدي اهتمامًا مبالغًا فقال: «في رأيي أنها بقعة مخيفة أثناء الليل. كيف نصل إلى المنزل من هنا يا أوردين؟ لم أنسَ تحذيرك بشأن الغداء، وهذا الهواء العليل يفتح شهيتي على مِصراعَيها.»
«سنسير على طول قمة هذه التلة مسافة قرابة ثلاثة أرباع الميل يا سيدي، حتى مدخل الميناء هناك.»
«ثم؟»
قال جوليان موضحًا: «لديَّ زورق يعمل بالبنزين، وسأرسو بك فعليًّا عند غرفة المائدة في غضون عشر دقائق أخرى.»
قال السيد ستينسون في حيوية: «لننطلق إذن. يا له من رجل غريب مايلز فورلي ذلك! إنه صديق مقرَّب لكِ، أليس كذلك آنسة آبواي؟»
أجابته مواصلة السير: «لقد رأيت منه الكثير من الأشياء مؤخرًا»، وكانت في سيرها تُفسح مجالًا لستينسون كي يُلاحقها الخُطى ويصيرَ بجوارها، لكن وجهها كان لا يزال متحوِّلًا عنه بعض الشيء. «إنه رجل يملك الكثير من الأفكار المشوشة؛ في رأيي أنه رجلٌ على شفا إفساد حياته المهنية.»
قال ستينسون متأملًا: «لقد عرَضنا عليه منصبًا في الحكومة.»
قالت: «أعتقد أنه كان يتمتع بما يكفي من الإدراك ليرفض ذلك»، وكانت في تلك الأثناء تتحرك ببطءٍ إلى اليمين، مانعةً بذلك جوليان من اتخاذ مكانٍ له إلى جوارها. وتابعت قائلة: «ومع ذلك أجد فيه النقيصةَ التي أجدها في الكثير من الرجال الإنجليز، تلك النقيصة التي تمنعهم من أن يُصبحوا رجالَ دولة أو جنودًا عظامًا»، وأضافت ببرود: «أو حتى محبين ناجحين.»
سأل جوليان: «وما تلك النقيصة؟»
ظلت كاثرين صامتة. بدَت وكأنها لم تسمع شيئًا. ثم أمسكت بذراع السيد ستينسون وأشارت إلى طائر نورس أبيض ضخمٍ ينجرف مع الهواء فوقهم.
وقالت: «بالتفكير في هذا النموذج، فقد انتظرنا نحن المفكِّرين قرابةَ ألفَي عام من أجل اختراع الطائرة!»