الروضة الأولى في مجالس رمضان

(١) المجلس الأول

طلعت يوم الخميس ثالث عشرين رمضان المبارك في تاريخ ستة عشر وتسعمائة، وكان في خدمته ناصح الملوك والسلاطين، الشيخ حسين جلبي، وكان الإمام في تلك الليلة الشيخ شمس الدين السمديسي؛ وقعدوا في الأشرفية ستين درجة، ووقع في تلك الليلة أسئلة:

السؤال الأول: قال حضرة مولانا السلطان: الصلاة من الله تعالى رحمة، ومن المؤمنين الدعاء، فمعنى: اللهم صل على محمد؛ أي: ارحم محمدًا، فكيف يجوز لنا أن نسأل له الرحمة مع أنه رحمة للعاملين؟ لا بد أن تكون مرتبة السائل أعظم من المسئول له؟

عجزوا عن الجواب، ثم قرأنا الفاتحة.

قال حضرة مولانا السلطان: إنا نسأل الدعاء في الحقيقة لأجل أنفسنا، ولا شك أن النبي ما هو محتاج إلى صلاتنا عليه، والمقصود من صلاتنا عليه طلب زيادة قدر النبي ، وطلب زيادة قدر النبي مستلزم لزيادة قدر أمته، كما ورد الأحاديث في فضيلة الصلاة عليه.

قال الشيخ برهان الدين بن أبي شريف، والشيخ جلال الدين السيوطي: هذا الجواب في غاية الحسن.

السؤال الثاني: قلت: ما السر في أن الدعاء في جميع الشرائع لا يقبل إلا بالصلاة على نبينا، وفي الشرائع الأخر إجابة الدعاء ما هو موقوف على الصلاة على أنبيائهم، بل بمجرد الصلاة على نبينا يقبل دعاؤهم، كآدم عليه السلام ما استُجيبت توبته إلا بعد الصلاة على محمد، وكذلك يوسف عليه السلام ما تخلص من السجن إلا بعد الصلاة على نبينا؟

قال حضرة مولانا السلطان: الواجب على الداعي أن يتوسل بأعظم شفيع، لا شك أن أعظم شفيع عند الله محمد عليه السلام.

السؤال الثالث: قال مولانا السلطان: أي رجل صلى ركعتين بلا سهو فما لم يسجد سبع سجدات لا تصح صلاته؟

وقال: أمهلتك ثلاثة أيام، ثم بعد ثلاثة أيام بُسْتُ الأرض وقلت: رجل دخل مع الإمام في الركعة الثانية؛ فقد أدركه في السجدتين، فلما قعد الإمام قدر التشهد قبل أن يسلم أحدث وتأخر وقدم هذا المسبوق ليسلم، ثم أخبره الإمام أنه ترك سجدة فإنه يجب عليه أن يأتي بها ويشير إلى القوم ليسلموا، ثم يصلي ركعتين بأربع سجدات.

السؤال الرابع: قال الله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، لأي حكمة ما قال: (وأطيعوا أولي الأمر منكم)؟

قال مولانا السلطان: حتى يفهم منه أن أمر أولي الأمر ما هو مخالف لأمر الله وأمر الرسول، بل لا بد أن يكون موافقًا للشرع الشريف والكتاب والسنة.

لطيفة

ذكر مولانا السلطان على الطارئ أنه قيل: ركب خواجة محمود الكاوان في الهند مع الوزراء فلما وصلوا إلى زريبة البقر وهي في الصياح قالوا له: يا خواجة، ما يقول البقر؟

فقال: هي تقول لي: اخرج من بين الحمير وتعال عندنا.

المناسب لهذا المجلس.

حكاية

قيل: قصد السلطان محمود الغزنوي رحمه الله زيارة واحد من الأولياء، وسافر مسيرة شهر، فلما وصل إلى بلاد الشيخ بعث قاصدًا إلى الشيخ وقال: قل له: إنا جئنا بطول مسافة شهر لقصد زيارتكم ووصلنا إلى باب مدينتكم فالواجب عليكم أن تخرجوا إلى باب المدينة حتى يزوركم السلطان! قال الشيخ: ما لنا حاجة بزيارة السلطان. ثم بعث السلطان ثانيًا فقال: قولوا له أما قرأت قوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ؟

قال الشيخ: إطاعة أولي الأمر واجبة إذا كانت موافقة للكتاب والسنة، والله تعالى ما أمرنا في كتابه بزيارة السلطان.

فأعجبه منه هذا الجواب فركب إلى زيارة الشيخ.

نختم هذا المجلس بظرافة: قيل: إن أعرابيًّا كان يأكل في شهر رمضان الفاكهة بالنهار، قيل له: ما هذا؟! فقال الأعرابي: رأيت في كتاب الله: كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ، وأنا خفت أن أموت قبل الإفطار فأكون عاصيًا.

(٢) المجلس الثاني

طلعت ليلة الأربعاء سابع عشرين رمضان المبارك، والإمام كان الشيخ شمس الدين السمديسي، وقعدوا في تلك الليلة ستين درجة في الأشرفية، فوقع في تلك الليلة أسئلة:

السؤال الأول: قلت: أي شيء فعله حرام، وتركه حرام؟!

الجواب: قال مولانا السلطان: صلاة السكران.

السؤال الثاني: سأل مولانا السلطان: أي صائم إذا أفطر فصلاته صحيحة، وإن تم صائمًا بطلت صلاته؟

الجواب: هذا رجل اغتسل في ليل رمضان بدون المضمضة والاستنشاق، فإذا شرب الماء وصل إلى حلقه فخرج من الجنابة.

السؤال الثالث: قال مولانا السلطان: أي جنب يطهر من الجنابة بوزن درهم من الماء؟

الجواب: قلت: إذا اغتسل جميع بدنه فلصق في بدنه قطعة من الشمع، فما لم يغسل هذا الموضع لم يخرج من الجنابة، ويكفي في غسل هذا الموضع قدر الدرهم من الماء.

السؤال الرابع: قال مولانا السلطان: رجل صلى صلاة الظهر — مثلًا — بالوضوء الكامل، وما أحدث شيئًا وما وصل إليه نجاسة جديدة فركعتان منها صحيحتان وركعتان منها فاسدتان.

الجواب: قلت: رجل أصاب ثوبه دهن نجس أقل من الدرهم ثم انبسط بعد الركعتين الأوليين.

السؤال الخامس: سأل مولانا السلطان: إذا ابتلع الصائم أشرفيًّا من الذهب هل هذا مبطل لصومه أم لا؟

الجواب: قلت: عند الشافعي يبطل مطلقًا، وعند أبي حنيفة لا يبطل، وعند مالك فيه قولان.

السؤال السادس: أي رجل إذا دخل في مسجد فبدخوله يقع طلاق الإمام، ويجب حلق ذقن المأموم، ويجب هدم المسجد؟

الجواب: قلت: هذا الرجل كان مسافرًا، وجاءت هذه الجماعة الذين هم مأمومون وقت دخوله، وشهدوا بالزور بموته، وأخذ الإمام امرأته وعمل بيته مسجدًا.

السؤال السابع: قال مولانا السلطان: امرأة رأت رجلًا فقالت: هذا ابني وأخي وزوجي وعبدي؟
عجز أهل المجلس عن جواب هذه المسألة.
ثم قال مولانا السلطان: أمهلتك ثلاثة أيام، رح فهات الجواب، وقال مولانا السلطان: ما يعرف جواب هذه المسألة إلا القاضي شهاب الدين بن الفرفور.
قلت: أروح عنده وأسأل وأجيب الجواب.
ثم بعث مولانا السلطان قاصدًا إلى ابن الفرفور، وقال: إن الشريف يأتي إليك لجواب المسألة، لا تذكر له الجواب.
فلما رحنا عند القاضي رحمه الله قال: ما نقول جواب مسألة السلطان إلا بأمر مولانا السلطان.
ثم درت في المدينة ثلاثة أيام وسألت جميع الفقهاء والفضلاء، ما قال لي أحد جوابها.
ثم بعد ثلاثة أيام طلب مني مولانا السلطان جواب المسألة، قمت وبست الأرض وقلت: مولانا السلطان أعلم بها من جميع العلماء، ثم قرأنا الفاتحة.

الجواب: قال مولانا السلطان: إنه وقع نكاح الشبهة بين الأب والبنت فولد منهما ولد، ثم تزوج هذا الولد أمه أيضًا بالشبهة، ثم أسلمت الأم واشترت ابنه.

السؤال الثامن: قال مولانا السلطان: لأي حكمة سموا الإمام الشافعي بالشافعي؟
قلت: هذا السؤال بعينه سأله السلطان شاه رخ في العجم.

الجواب: قيل ماتت امرأة وهي حبلى، فأمر الإمام مالك بدفنها؛ فلما خرجوا من عند الإمام مالك لقوا الإمام الشافعي، وكان في ذلك الزمان شابًّا يقرأ على الإمام مالك، قال الشافعي: ادفنوها ولكن اعملوا على لحدها قصبًا مجوفًا وانتظروا ثلاثة أيام.

فلما عملوا بقول الشافعي ولدت الميتة في اليوم الثاني، فأخرجوا الولد من القبر، فلما كبر وقرأ القرآن دخل هذا الصبي يومًا عند الإمام مالك، فأعجب الإمام قراءته، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا الذي أمرت بدفني مع أمي. فقال الإمام: كيف جرى؟ فقالوا: دلنا محمد بن إدريس على هذا. فقال الإمام: هو الشافعي.

السؤال التاسع: قال مولانا السلطان: هذا الجواب مردود؛ لأنه على هذا التقدير لا بد ألا تدفن الميتة الحبلى الآن عند مالك، ومع هذا المسألة عندهم على خلاف هذا الجواب، بل الحق أن الشافعي اسم لجده، كما أن (الحنبل أيضًا اسم لجده ومنسوب إليه).
السؤال العاشر: قال الله تعالى في كتابه العزيز: مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إنا صلينا — مثلًا — ركعتين فيجازينا في القيامة بعشرين ركعة، ولا شك أنا محتاجون في القيامة إلى الجنة والرحمة، لا إلى الصلاة.

قال مولانا السلطان: المراد عشرة أمثال التي كتبتها الملائكة في الجزاء، أو نقول باعتبار رجاء العبد يعني التي هم يرجون من الله فلهم عشر أمثالها.

السؤال الحادي عشر: لأي حكمة قال: عَشْرُ أَمْثَالِهَا وما قال: عشرة مثلها؟

الجواب: حتى لا يتوهم أن الجزاء منحصر بعشرة فقط، بل يمكن أن يزيد إلى سبعمائة.

فائدة

قال مولانا السلطان، ما فات مني إحياء ليلة القدر من حين أدركت وبلغت.

ورأوا في بلاد جركس في ليلة القدر لا يجري الماء، ولا يتحرك الهواء.

المناسب بهذا المجلس.

حكاية

قيل: جاء سائل إلى باب رابعة العدوية، وكان عندها رغيفان، فأعطتهما السائل.

ثم بعد هذا جاء واحد فدق الباب وجاب عشرين رغيفًا، وسرقت جاريتها من الباب رغيفين وجابت قدام الست ثمانية عشر رغيفًا؛ فلما رأت رابعة هذا قالت: رغيفين آخرين في أين؟ قالت الجارية: أي رغيفين؟ قالت رابعة: قال الله تعالى في كتابه الكريم: مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وأنا تصدقت برغيفين، فجزاء ذلك إنما يكون عشرين.

فلما سمعت الجارية هذه المقالة من رابعة باست رجلها وأخرجت الرغيفين اللذين سرقتهما في الأول.

ونختم هذا المجلس بقول إسكندر:

قال: ينبغي للملك إطاعة الله تعالى؛ لأن سعادة الرعية في طاعة الملوك، وسعادة الملوك في طاعة الله.

(٣) من المجلس الثالث

طلعت ليلة الجمعة في سلخ رمضان المبارك، والإمام كان الشيخ محب الدين المكي، وقعدوا في البيسرية أربعين درجة، وجاء الشيخ ابن أم أبي الحسن مع كتابين، واحد منهما (سيرة الملك الظاهر بيبرس ودخوله إلى الفرنج)، والكتاب الثاني (أحاديث في فضل المسلم)، ويريد أن يقرأ جميع ما في الكتابين، مع أنه لا يمكن قراءتهما في شهر كامل!

قلت: ما مناسبة قراءة هذين الكتابين في تلك الليلة؟ أما (سيرة الملك الظاهر) فلأنه لو كان الملك الظاهر حيًّا يتمنى أن يسمع سيرة مجلس مولانا السلطان.

وأما مناسبة الكتاب الثاني في ليلة العيد فبعيد، بل المناسب في هذه الليلة الشريفة ذكر فضل رمضان وأدائه، وفضل العيد وصلاته.

ووقع في ذلك المجلس مسائل:

السؤال الثاني: شخص رأى هلال العيد، وما رآه غيره، هل هذا الشخص يفطر أو يصوم؟

قال مولانا السلطان: لا ينوي الصوم ولا يأكل الطعام أيضًا؛ موافقة للمسلمين.

السؤال الرابع: قال سلطان شروان: معنى العيد في اللغة هو السرور؛ فسرور المسلمين لأجل رواح رمضان الذي كل يوم يغفر فيه ذنوبهم وتُستر عيوبهم، وأبواب جهنم مقفولة، وأبواب الجنة مفتوحة، فالقياس أن لا يفرح المؤمن برواح مثل هذا اليوم؟

الجواب: قال مولانا السلطان: فرح المؤمنين لأجل أنهم أدوا هذه الفريضة أداءً كاملًا ووصلوا إلى درجة الصائمين الكاملين لا بواسطة رواح رمضان.

السؤال السابع: بعض البلاد نهارها ستة أشهر وليلها ستة، فكيف يصوم المسلم في ذلك البلد؟

قال مولانا السلطان: الواجب عليهم أن يقيسوا بالمنكاب بقياس ليل مكة ونهارها، ويصوموا ويصلوا الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ قياسًا على مسألة يوم خروج الدجال.

جوهرة

جاء خبر موت النشيلي في تلك الساعة: وقرأ مولانا السلطان لأجل روحه ثلاث مرات سورة الفاتحة وقال: الله تعالى يرحمه، ما تكلم أبدًا عندي في شر أحد، غير أنه قال: فلان يحبك، وفلان يبغضك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤