عن الإبداع والمرأة
أهم صفة للإنسان أو الإنسانة المبدعة أنها قادرة على تجاوز القيود الاجتماعية المفروضة على العقل، وقد فُرضت قيود على العقل منذ نشوء الرق، حتى لا يدرك النساء والعبيد أسباب الظلم الواقع عليهم من المجتمع، ويتصورون أنه القانون الطبيعي أو القانون الإلهي.
وقد تتنوع القيود المفروضة على العقل وترتدي أثوابًا جميلة. وفي التاريخ جاءت أقبح أنواع القيود تحت أجمل ما يحب الناس، مثل: العلم والأدب والفلسفة والأخلاق والدين والتاريخ … إلخ.
وكان أول القيود الاجتماعية على العقل هو فصله عن الجسم، وبالتالي فصله عن الحقيقة، سواء كانت جسم المجتمع، كحياة سياسية، أو جسم الإنسان كفرد.
لهذا السبب غرق أرسطو في نظريات فلسفية بعيدة عن الظلم الاجتماعي الذي فُرض على النساء والعبيد في اليونان القديمة، وتصور أن العبودية أمر عادل تفرضه الطبيعة.
وقد عاصر «أرسطو» فلاسفة آخرين كانوا أكثر إدراكًا للظلم الاجتماعي العبودي، إلا أن أفكارهم كانت تهدد الطبقة الحاكمة في أثينا، وبالتالي تم تجاهلهم، ولم يشتهروا بمثل شهرة الفلاسفة الآخرين أمثال أرسطو وأفلاطون، الذين غرقوا في الرياضة النظرية الكلامية، وابتعدوا عن الصراع الاجتماعي السياسي بين الأسياد والعبيد، أو بين الحاكمين والمحكومين.
وقامت الفلسفة الرسمية في الحضارة اليونانية ثم الحضارة الغربية الحديثة على هذا الفصل التعسفي بين المدركات العقلية والمدركات الحسية، من أجل فصل العقل أو نظرية المعرفة عن الواقع الاجتماعي.
أعلن أرسطو أن هدف المعرفة هو المعرفة ذاتها وليس الحياة الاجتماعية «أو مقاومة العبودية»، وأن هدف الفلسفة هو الفلسفة ذاتها، و«أن هدف الفن هو الفن ذاته».
فالإبداع أو التفكير لا يؤدَّى من أجل هدف اجتماعي، وإنما لمجرد لذة التفكير.
ولهذا لم يكن أرسطو يُبدي أيَّ اهتمام إذا سمع أن سيدًا يونانيًّا امتلك نصف أثينا وقتل آلاف النساء والعبيد؛ لأن عقل أرسطو تعوَّد على التفكير في الأرض كلها، والسماء والبحار، وليس قطعة أرض معينة في أثينا.
إلا أن هذه «اللذة» التي أباحها أرسطو (وغيره من الفلاسفة) لنفسه قد حرَّمها على المرأة والعبد، باعتبار أن الرجل السيد هو الذي يملك «العقل»، أما المرأة (أو العبد) فلا تملك إلا الجسد، لأنها حيوان، وتم الفصل بين العقل والحياة من أجل الفصل بين التفكير والهدف من التفكير، والفصل بين الهدف والوسيلة، أو الفصل بين عمل الفرد والهدف الاجتماعي لهذا العمل.
وقامت الحضارة الحديثة كلها على هذا التقسيم المستمر والفصل الوهمي بين الأشياء المتلاحمة، وبذلك بدأت أول عمليات لتزييف وعي المرأة الإبداعي، عن طريق تقسيم الكلمات، أو الازدواجية في معنى الكلمات.
مثلًا إذا شعرت المرأة ﺑ «لذة» وهي تلد أو تمارس الجنس، ضُربت حتى تشعر ﺑ «الألم»، وقيل لها إن هذا «الألم» الذي تشعرين به ليس إلا تكفيرًا وتطهيرًا لكِ من الإثم. وقد سادت فكرة لقرون طويلة أن الحمل إثم، وقد اعتُبر الطفل مدنسًا في المسيحية حتى يُعمَّد، وأصبح التطهير من هذا الإثم «سعادة».
وهكذا في كل الأمور الأخرى؛ لذة الطعام الشهي، لذة الإبداع الفكري، لذة الجنس، لذة الراحة من التعب.
مثلًا تحريم لذة الجنس أو لذة الراحة (من التعب) على المرأة أو العبد، وإباحتها للرجل السيد، عن طريق استخدام كلمات معينة أو مؤثرات أو أصوات معاكسة للإحساس الطبيعي للإنسان.
مثلًا إذا شعرت المرأة ﺑ «الألم» نتيجة سيطرة الرجل عليها، أو نتيجة الإرهاق في العمل لخدمة الزوج والأطفال، قالوا لها هذا الألم هو «السعادة» النفسية الناتجة عن الشعور بالتضحية من أجل الآخرين. وبالمثل أيضًا يُقال للعبد إذا شعر بألم التعب (بسبب العمل المضني)، قيل له هذه هي «السعادة» لأنك تعمل من أجل الآخرين.
لكن الآخرين (وهم طبقة الأسياد) لا يعملون من أجل الآخرين، إنهم يعملون من أجل اللذة، حسب فلسفة أرسطو: التفكير من أجل لذة التفكير، وليس لأي هدف اجتماعي.
إن غياب الهدف الاجتماعي هنا يؤدي حتمًا إلى الازدواجية والتناقض بين أقوال الفلاسفة؛ لأن ما يُطبق على النفس لا يُطبق على الغير، وكان لا بد للفلاسفة أن يفصلوا «الذات» عن «الموضوع»، حتى لا يُطبقوا على أنفسهم ما يُطبقونه على الآخرين.
وقد لعبت قدرة الإنسان على التكيف ضد القهر والهلاك دورًا في عمليات تزييف الوعي، واستُخدمت تجربة بافلوف وغيرها من الاكتشافات العلمية ضد الإنسان وليس لصالح الإنسان.
وفي عصرنا هذا استغل علماء من أتباع الاستعمار القديم والجديد أفكار بافلوف في عمليات غسيل المخ الكهربية والكيميائية، والتي استُخدمت في الحروب والسجون ضد الإنسان. وهناك تجارب جديدة على الفئران، منها «تجربة السعادة»، لإثبات العَلاقة بين الشعور بالسعادة وبين إفراز مواد كيميائية معينة في المخ، يتم تدريب الفئران حين تجوع على الضغط على جرس معين، ثم الضغط على جرسٍ آخر حين تشعر بالسعادة أو الراحة، ويستمر تدريب الفئران على اختيار الطعام (أو مجرد الشعور بالسعادة) بواسطة جرسَين مختلفَين، واتضح أن حياة هذه الفئران قد هُددت بالموت جوعًا نتيجة إدمانها على أحاسيس السعادة وتفضيلها لها عن الطعام نفسه.
وهذه هي «السعادة الوهمية» التي عاشها كثير من العبيد والنساء نتيجةَ عمليات تزييف الوعي لتدريبهم على القهر والخضوع. حين يتحول الإنسان أو الإنسانة من مقهورة إلى قاهرة لذاتها، فإن الأمل في قدرتها على المقاومة والتمرُّد أو الوعي بالظلم يصبح بعيد المنال.
وبدلًا من أن يتطور وعي المرأة ومداركها الفكرية التطور الطبيعي، حدثت عمليات تزييف لتدريبها على القهر والخضوع، وإلغاء عقلها، ثم الإحساس بالسعادة الوهمية.
وسُميت هذه السعادة في علم النفس الحديث سعادة العبيد. وأساسها تحويل الألم الجسدي إلى سعادة عقلية أو روحية أو نفسية، تنبع من القَبول الاجتماعي أو رضا الأسياد والحكام، ورضا الآلهة في السموات.
ولم يكن من الممكن تحقيق هذه العملية دون فصل الجسد عن العقل. وقد انتبه لهذه الحقيقة عدد من الفلاسفة في كل العصور منذ نشوء العبودية، لكن التاريخ الحديث أغفلهم لضمان استمرار العبودية. وحدث الصراع الفكري بين الفلاسفة في جميع مراحل التاريخ حول هذه المشكلة بالذات.
وأصبح القانون العبودي في كثير من الأديان التي نشأت في ذلك العصر قانونًا مقدسًا تفرضه الآلهة. وفي القرن التاسع عشر ارتدى الظلم الاجتماعي ثوب العلم أو القانون البيولوجي.
وتم الربط التعسُّفي بين البشرة السوداء وبين التخلف العقلي، أو بين المرأة ونقصان العقل.
لكن بعض الفنانين والمبدعين كانوا أكثر إدراكًا للحقيقة من معظم الفلاسفة والعلماء، وكانوا أكثر إحساسًا بالظلم الاجتماعي.
وحين أعلن أرسطو أن العبودية قانون طبيعي، عارض الكاتب المسرحي اليوناني «يوربيدس»، وقال: إن العبودية ضد الطبيعة الإنسانية. لكن «أرسطو» ارتفع إلى قمة السلطة الفكرية، وهبط يوربيدس في نظر الطبقة الحاكمة، واتُّهم بالجنون وغياب العقل.
وفي التاريخ أسماء كثيرة لنساء حُرقن أو عُزلن في مستشفيات الأمراض العقلية لمجرد شجاعتهن الفكرية والتعبير عن آرائهن بحرية، وأشهرهن في بلادنا هي الكاتبة المبدعة «مي زيادة»، التي اتُّهمت بالمرض العقلي وماتت، ثم بدأنا نهتم أخيرًا ونعيد قراءة مؤلفاتها الأدبية والفكرية، ونحتفل بذكراها كل عام.
وقد استفاد العلماء والفلاسفة من بعض كتابات الأدباء والفنانين في تطوير نظرياتهم العلمية. ومن رسومات ليونارد دافنشي مثلًا استطاع سيجموند فرويد أن يتجاوز بعض الحواجز بين المدركات العقلية والمدركات الحسية، أو بين ما يُطلق عليه العقل الواعي والعقل الباطن أو غير الواعي، إلا أنه ظل يجهل قدرة المرأة الفكرية الإبداعية، وأعلن أن المرأة تفقد قدرتها على الخلق في إنجاب الأطفال وليس الأفكار، وأن المرأة لا يمكن أن تكون عبقرية أو مبدعة، لأنها ذاتية نرجسية. أما الرجل فهو موضوعي عقلاني، والعبقرية هي قمة الموضوعية وقمة العقل. وردد هذه الأفكار كثير من المفكرين والعلماء في الغرب والشرق.
وفُرض على المرأة — بمثل ما فُرض على العبد — أن تنكر ذاتها من أجل الآخرين، ومع ذلك اتهمها العلماء بأنها ذاتية، وأنها أقل عقلانية من الرجل.
وارتكزت عملية تزييف «وعي» المرأة الإبداعي عن طريق إحلال الثوابت محل المتغيرات، أو إحلال الطبيعي محل الاجتماعي، أو إحلال البيولوجي محل الثقافي.
مثلًا يُقال للمرأة إن عجزها عن بلوغ العبقرية يرجع إلى نقصٍ طبيعيٍّ في فص المخ الأمامي، وليست بسبب العبودية والظلم الاجتماعي وحرمانها من فرص التعليم والعمل في مجالات الفكر والإبداع والخلق.
أو أن يُقال إن مجالها للخلق والإبداع هو في خلق الأطفال أو الولادة أو الوظيفية البيولوجية فحسب.
إلا أن الاكتشافات البيولوجية الجديدة، خاصة في مجال وظائف المخ، قد أوضحت أن جميع الأطفال إناثًا وذكورًا يولدون بمخاخ واحدة. وقد أدى الجهل بوظائف المخ إلى الاعتقاد أن مخ الرجل أذكى من مخ المرأة، أو أثقل وزنًا. لم يدركوا أن وزن المخ يزيد بازدياد وزن الجسم، ثم أدركوا أخيرًا أن وزن المخ لا عَلاقة له بالذكاء، بل اتضح أن أثقل المِخاخ وزنًا هي أشدها غباءً.
وفي ضوء ثورات النساء في مختلف العصور، عبيد الإقطاع ضد ملاك الأرض، وعبيد المصانع ضد أصحاب رءوس الأموال، وعبيد المستعمرات في العالم الثالث ضد الاحتكارات والرأسمالية العالمية، في ضوء كل هذه الحركات الاجتماعية التحريرية من أجل العدالة الاجتماعية تطورت العلوم الطبيعية والإنسانية، وتطورت معها نظرية المعرفة. لم تعد نظرية أرسطو «عن المعرفة من أجل لذة المعرفة» صالحة للاستعمال، وأوضحت علوم البيولوجي والفسيولوجي أن خلايا المخ ترتبط مع جميع أعضاء الجسم في جميع مراحل عمليات الشعور والتفكير والسلوك وإدراك العَلاقات بين الماضي والحاضر والمستقبل.
أصبح معروفًا أن المخ يتلقَّى الشفرات الهرمونية والكيماوية والكهربية من جميع أعضاء الجسم (عن طريق الأعصاب) ثم يردها إليها مرة أخرى على شكل شفرات كيماوية وكهربية وهرمونية، تؤدي إلى وعي معين أو سلوك معين.
إن حوارًا متصلًا يدور كدورة الدم بين خلايا المخ وجميع أعضاء الجسم، ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال فصل سلوك معين أو تفكير معين عن مخ الإنسان الذي يفكر والبيئة المحيطة به، حاضرًا ومستقبلًا وفي الماضي.
لا يمكن فصل المادي عن الفكري، أو فصل الذاتي عن الموضوعي، وهنا تكمن مشكلة الإبداع (وخاصة فيما يتعلق بالمرأة). لقد اتضح أن القدرة الإبداعية هي قدرة الإنسان على أن يُلغيَ الانقسام أو التناقض الذي حدث داخله بين التفكير والإحساس، أو بين العقل والوجدان.
وبحث الفلاسفة الجدد عن كلمة تُعبِّر عن هذا الالتحام، ووجدوا كلمة «حدس» كتعبير عن مصدر الإبداع ومنهل الأصالة، ووجدوا أن معظم الناس عجزوا عن الإبداع بسبب فصل الفلسفة عن العلم، وفصل العلم عن الفن. وتساءل الفلاسفة الجدد: ما الفرق بين العلم والفن؟ أو ما الفرق بين العلم والمعرفة؟
واكتشفوا أن الفرق الأساسي هو «البعد الاجتماعي» للمعرفة، وسُميت نظرية المعرفة الجديدة باسم «سوسيولوجية المعرفة» أو نظرية «الوعي الاجتماعي».
إن كل علم يتحدد بالموضوع الذي يبحثه، وهذا الموضوع يحدد الوظيفة الاجتماعية لهذا العلم. وبانفصال الهدف عن الوسيلة انفصل العلم عن الأهداف الاجتماعية الإنسانية، وتحوَّل لأن يكون من أجل العلم. هذا في الظاهر فحسب، لكن الحقيقة أن العلم لم يكن أبدًا للعلم فحسب، والفلسفة لم تكن أبدًا للفلسفة فحسب. لقد كانت فلسفة أرسطو فلسفة سياسية تساند العبودية وتدعمها بالمقولات الفلسفية والبيولوجية أيضًا.
إن أي «معرفة» تُكتسب عن طريق «العلم» تصبح جزءًا من «الوعي». وبقدر ما انفصلت العلوم الطبيعية عن العلوم الاجتماعية، بقدر ما انفصل العلم عن المعرفة الحقيقة، أو عن الوعي الاجتماعي والوعي بالذات أيضًا.
الإبداع هو الوعي الذاتي والاجتماعي بالواقع الحي مع تذكُّر الماضي (التاريخ)، والقدرة على تخيُّل المستقبل. إلا أن هذه القدرة الطبيعية في كل إنسان أصبحت مستعصية، وشبه مستحيلة، لا يقدر عليها إلا النادر من الناس (أُطلق عليهم عباقرة ومبدعون) بسبب القرون المتعاقبة من أنظمة وفلسفات فصلت بين الإنسان وعقله، وفصلت بين الإنسان والمجتمع، بين الفردي والاجتماعي، أو بين الخاص والعام.
الإبداع هو الوعي (الذاتي والاجتماعي)، ونبض الإبداع هو اللاوعي (الذاتي واللاوعي الاجتماعي).
إن أهم وظيفة للإبداع أو الخلق الفني هي أن يساعد الإنسان على مزيد من الوعي الذاتي والاجتماعي، بمعنى أن الإنسان المبدع يكتشف ذاته لحظة اكتشافه لموضوعه، وفي كل عملية إبداعية يتكرر ذلك الاكتشاف الذاتي والموضوعي، ويزداد المبدع معرفةً بنفسه ومعرفة بمجتمعه وما يحدث فيه في الحاضر (أو ما حدث فيه في الماضي)، ويصبح قادرًا على تخيُّل المستقبل على نحوٍ أوسع وأشمل، وهذه هي الصلة العضوية المستمرة بين الذات والموضوع في العملية الإبداعية.
ومن الملاحظ أن الدراسات العلمية عن الخلق الفكري في بلادنا قليلة أو نادرة، وتكاد تكون مقصورة على المتخصص في علم النفس، وكأنما النشاط الفكري الإبداعي أو الخلَّاق عملية نفسية فحسب، ولذلك ينغلق التعريف العام للإبداع داخل نظريات نفسية أو فلسفية أو روحية غامضة.
إن كلمة «نفس» لا تزال غامضة علميًّا، وبالتالي النشاط النفسي. فما هو المقصود بالنشاط النفسي؟ أو النشاط الوجداني أو الروحي؟ أهو نشاط عقلي أم جسدي؟ أم أنه لا هذا ولا ذاك؟ ومن أين ينبع الفكري إذا لم يكن من داخل العقل أو داخل الجسد؟
لذلك تَحيَّر المفكرون في تحديد مصدر الإبداع الفكري. بعضهم قال إنه إلهام إلهي يهبط من السماء كالوحي، وبعضهم رأى أنه ينبع من خارج العقل أو من اللاوعي.
وقد عجز فرويد عن إدراك هذه العَلاقة الجدلية بين ما سمَّاه ﺑ «اللاوعي» والوعي، وفصل بينهما، وتصور أن الإبداع لا عَلاقةَ له بالوعي، وأنه ليس إلا تفسيرًا لغة اللاوعي.
لهذا أصبح الإبداع عند فرويد (وزملائه من أصحاب نظرية التحليل النفسي)، وسيلة للتوازن النفسي الداخلي، لحل الصراعات والتناقضات بين الرغبات الواعية المقبولة اجتماعيًّا، وبين الرغبات غير الواعية وغير المقبولة اجتماعيًّا.
بعبارة أخرى، أصبح الإبداع عند فرويد نوعًا من التطهير النفسي أو العلاج النفسي من الشعور بالذنب أو الألم أو النقص، وهو يشبه إلى حدٍّ كبير التطهير الأرسطي «نسبة إلى أرسطو» عن طريق التراجيديا أو المأساة في الفن اليوناني القديم.
ولم تكن المرأة في نظر فرويد قادرةً على الإبداع الفكري؛ لأنها تستنفد كلَّ طاقتها الإبداعية في آلام الولادة، أو في عملية التطهير البيولوجي.
وبنى فرويد نظريته عن عجز المرأة الفكري واضمحلال «الأنا العليا» عندها على فكرة أن الطفلة الأنثى تحسد أخاها الولد (بسبب امتلاكه عضو الذكر) وأنها تتقرب إلى أبيها بأمل الحصول على طفل يعوضها عن النقص، وحين يخذلها أبوها فهي تُشفى من عقدتها الأوديبية، لكنها تظل تأمُل في الحصول على الذكر بلا جدوى، ثم تقبل الحقيقة المُرة، وهي أنها ذكرٌ مخصيٌّ ناقص، وتحاول أن تعوض عن نقصها بالحصول على طفل، وبهذا تسعى إلى رجل تتزوجه وتصبح أنثى ناضجة طبيعية.
وعلى هذا لم يكن إبداع المرأة في نظره إلا تجسيدًا للرغبات اللاواعية في قالَب أسطوري خيالي يساعد على شفائها من مرض العصاب.
لكن «كارل يونج» وغيره من علماء النفس والفلاسفة الذين أدركوا البعد الاجتماعي والثقافي للمعرفة، كانوا أكثر فهمًا لإبداع المرأة أو أسباب عجزها عن الإبداع، وأدرك «يونج» ما سمَّاه باللاوعي الاجتماعي والثقافي الذي يمكن أن يورَّث من جيل إلى جيل في ذاكرة الإنسان أو في «اللاشعور»، وبذلك يورث القهر والعبودية والتاريخ العنصري عبر آلاف السنين.
وتزايد الإدراك بالتفاعل الجدلي المستمر بين الصفات البيولوجية وبين العوامل الثقافية والاجتماعية، ولم يعد هناك ما يُمكن أن يُسمى بالطبيعة الثابتة للأنوثة أو الذكورة، فالطبيعة البشرية تتغير على الدوام مع تغير المجتمع والحضارة والتاريخ من مرحلة إلى أخرى.
وتعود الفلسفة الجديدة إلى ما قبل سقراط، إلى ديموقريطس وغيره من الفلاسفة الذين قاوموا العبودية، وتعود إلى ما قبل نشوء العبودية، في الحضارات القديمة، حين كان الإنسان عقلًا وجسدًا وحدة واحدة، وحين كانت المرأة تملك العقل والجسد معًا، وتملك القدرة على الإبداع، وهذه فكرة بديهية.
ولهذا لم يجد الفلاسفة تعريفًا لكلمة «الحدس» سوى القدرة الطبيعية على فَهْم البديهيات.
والإبداع هو منطق الحياة الجدلي المتغير، هو جدل الطبيعة وجدل المجتمع، وجدل الفرد، ومن تفاعُل هذا الجدل أو الحوار الثلاثي المتبادل ينتج الوعي والإبداع الذي يغير الطبيعة ويغير المجتمع ويغير الفرد إلى مستوى أعلى من إبداع آخر.
الإبداع يقوم على الأصالة أو «المتغيرات»، والتقليد يقوم على النقل عن الغير أو «الثوابت».
وأصبح معروفًا الآن أن جميع الأطفال، ذكورًا وإناثًا، يولدون بقدرات إبداعية متساوية، لكنها قد تزيد وتنقص حسب التربية والثقافة والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي يتربى عليها الطفل. واتضح أن الخوف من السلطة الأبوية في الأسرة من أهم العوامل التي تضعف القدرة الإبداعية للطفل.
ساهمت الفلسفات المناهضة للعبودية (منذ ديموقريطس وزملائه في اليونان القديمة، ومرورًا بابن رشد وغيره من الفلاسفة العرب، حتى كارل ماركس وفردريك إنجلز وغيرهم من فلاسفة الغرب) بدورها في تطويرها نظرية المعرفة والإبداع وفي تطوير النظرة إلى المرأة أيضًا.
لقد ارتبطت في التاريخ البشري (منذ الانتقال من المجتمع الأمومي إلى النظام الأبوي الطبقي) فكرة تأثيم المرأة بتأثيم المعرفة، وعلى هذا كان لا بد أن ترتبط فكرة تبرئة المعرفة بتبرئة المرأة.
وقد استطاعت الفلسفة المادية الجدلية أن تطبق هذه الفكرة على طبقة العمال في عَلاقتهم مع طبقة الرأسماليين، لكنها لم تطبق الفكرة ذاتها على المرأة في علاقتها بالرجل (بالرغم من أن «إنجلز»، في كتابه أصل العائلة، اعتبر عبودية المرأة للرجل في الأسرة شبيهة بعبودية العامل لصاحب المصنع).
لقد أدركت المادية الجدلية مفهوم «الوعي الاجتماعي» الذي جعل الوجود الطبقي هو الموضوع الخاص للفلسفة المادية الجدلية، أما الوجود «الأبوي» أو استغلال الرجل للمرأة وسيطرته عليها فلم يكن موضوعها.
لقد تم رفع الصراع الطبقي من اللاوعي الاجتماعي إلى الوعي الاجتماعي عن طريق الفلسفة المادية الجدلية والثورات الاشتراكية خلال هذا القرن. لكن الصراع بين الجنسين لا يزال أسير اللاوعي الاجتماعي، فالمرأة لم تقدم فلسفتها الجدلية المتكاملة، ولم تتحقق بعد الثورات النسائية التي يمكن من خلالها أن يتحول اللاوعي الاجتماعي إلى وعي.
أما «وعي» النساء وتنظيمهن وإنضاجهن من خلال الصراع بين الجنسين ليكون القوى الثورية لتحقيق المجتمع اللاأبوي، فهذا ما لم تتعرض له المادية التاريخية الجدلية.
ولهذا السبب عجز الإبداع المادي التاريخي الجدلي عن التعبير عن الواقع الحقيقي الذي تعيشه المرأة، أو عن الصراع الذي تعانيه من جراء سيطرة الرجل في الأسرة والمجتمع.
إن كل إبداع فني في مرحلة تاريخية معينة لا يتجاوز «الوعي» الذي وصل إليه فلاسفة تلك المرحلة.
لذلك عبَّر مسرح شكسبير مثلًا عن الصراع الحاد بين الجسد والعقل، والخير والشر، وتراجيديا اليونان في عصر أرسطو العبودي قامت على هذا الصراع أو التناقض بين العقل المطلق (الخير) وبين الجسد المطلق (الشر).
وقد حاول «بريخت» علاج هذا التناقض، لكنه عجز عن كشف الصراع الرئيسي، ذلك أنه لم يحل ازدواجية أرسطو، أو الثنائية الأساسية، وهي التناقض بين العقل والعاطفة (أو الوجدان).
وقد استطاع «بريخت» أن يُعدِّل من مسرح أرسطو، لكنه لم يغيره جذريًّا، ذلك أن «بريخت» لم يغير جذريًّا من نظرته إلى الإنسان (أو إلى نفسه)، بقدر ما غيَّر رؤيته إلى المجتمع وتكويناته الطبقية.
لكن «بريخت» تجاوز نفسه، ولم يغير نفسه، وقفز إلى تغيير العالم. وهل يمكن لفاقد الشيء أن يُعطيَه؟ هل يمكن أن يحرر الإنسان العالم دون أن يغير نفسه؟
ويقول «بريخت»: إذا أحسنتم العالم أحسنتم الحقيقة!
وإذا أحسنتم الحقيقة أحسنتم العالم!
وإذا غيرتم الحقيقة غيرتم البشرية!
بعد أن تغيروا العالم، غيروا أنفسكم!
وكيف يغير الإنسان العالم والبشرية وغيره من الناس قبل أن يغير نفسه؟ فاقد الشيء لا يعطيه.
ولعل هذا التجاوز للنفس إلى العالم والبشرية هو الذي جعله لا يرى حقيقة هامة هي «ذات» المرأة، وكونها إنسانة تُعاني مشكلة اغترابها عن ذاتها في الأسرة الأبوية والمجتمع بمثل ما يُعاني العامل الرجل اغترابًا في المجتمع الرأسمالي.
لقد عبَّر مسرح بريخت عن اغتراب الرجل، لكنه عجَز عن تصوير اغتراب المرأة. إن «الأم شجاعة» مثلًا في مسرحيته المعروفة، لم تدرك إلا مأساة أبنائها الذكور، ولم تدرك من أبعاد القهر الواقع عليها إلا البعد الاقتصادي أو البعد الطبقي فقط، ولم تدرك القهر الأبوي الواقع عليها.
وقد حاول كثير من الرجال المبدعين في مصر وفي بلادنا العربية التعبير الأدبي عن القهر الطبقي، عن انسحاق الفلاح الأجير، أو العامل الفقير في مصنع، إلا أنه من النادر ما يتعرض الكاتب لموضوع القهر الأبوي.
ويندر أيضًا أن النقاد الذين يستطيعون إلقاء الضوء على أعمال أدبية تتناول وضع المرأة في الإنتاج الإبداعي للكتاب أو الكاتبات، إلا أن هناك بعض المحاولات التي بدأت تكشف وتحلل رمزية المرأة في الإبداع العربي من منظور جدلي، وفي ضوء الحقائق التاريخية الجديدة عن نشوء النظام الأبوي القائم على سلطة الرجل أو سلطة الأب المطلقة.
هذه المحاولات النقدية الجديدة لا تزال في بدايتها في بلدنا، ولا يزال الإنتاج الإبداعي للنساء في بلادنا في حاجة إلى مدرسة نقدية جديدة، تستلهم العلوم والفلسفات الحديثة، وتطلع على التاريخ والحضارات القديمة.
وقد أصبح في العالم الغربي اليوم ما يمكن أن يُسمى بالمدرسة النقدية الجديدة، روادها من النساء الناقدات والرجال النقَّاد، يحاولون دراسة الإنتاج الإبداعي للنساء الذي ازداد غزارة وتنوعًا في النصف الأخير من هذا القرن.
تقول هذه النظرية إن الانفصال الأول الذي يشعر به الطفل هو الانفصال عن الأم؛ لذلك فإن الموقف من الأم هو الموقف الأول المصاحب لعملية اكتشاف «الذات» وتطورها عندما تأخذ مضمونًا «سلبيًّا». إن اختلافه عن «الآخر» يحتاج دائمًا إلى ما يؤكده، أما بالنسبة للطفلة الأنثى، فإن اكتشاف «الذات» عندها يأخذ مضمونًا إيجابيًّا، فهي أنثى مثل الأم، ولا تحتاج إلى تأكيد ذلك.
لذلك فإن تطور ونمو «الذات» عند الطفلة يسير بسهولة أكثر من الذكر، في تلك المرحلة الأولى من الحياة. لكن مشكلة الطفلة الأنثى تبدأ بعد المرحلة التي أُطلق عليها الرحلة الأوديبية، حين تشعر الطفلة بالسيطرة الأبوية التي تلعب الدور الحاسم «حسب هذه النظرية» في أن تكون الاختلافات الجنسية بين الذكر والأنثى هي أساس القيم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والدينية.
وهناك محاولات علمية لاكتشاف ثقافة الأم الأصلية ولغتها قبل «المرحلة الأوديبية» بالنسبة للفرد، وقبل «نشوء العبودية» بالنسبة لتاريخ البشرية.
ولقد دلَّت الدراسات الأخيرة أن التاريخ ناقص وطبقي وأبوي، وبالتالي عاجز عن نقل تجربة النساء في أي عصر. بعبارة أخرى، لقد نقل لنا التاريخ صورة المرأة الصامتة والمفروض عليها الصمت.
إن أي أغلبية صامتة في التاريخ، مثل النساء، تستخلص قيمتها الخاصة وثقافتها ولغتها من واقع حياتها المعاشة، إلا أن هذه القيم الثقافية تظل على مستوى «اللاوعي»، أو المستوى الداخلي السري، ذلك أن الطبقات الحاكمة تتحكم في «الوعي» أو جميع أشكال التعبير على المستوى الواعي العلني.
ولا يكون أمام الأغلبية الصامتة إلا أن توصل أفكارها وثقافتها من وراء الستار، أو عبر الأساطير والأغاني الشعبية الفولكلورية والأدب الشفهي والرقصات الجماعية والزار وأعمال السحر أو الشعوذة والجنون.
وتقول بعض الآراء إن إبداع المرأة الحقيقي يعيش وراء الستار، أو خارج عالم الرجل والحضارة والثقافة السائدة. يسمونه «عالم المرأة»، وهو «عالم» يراه الرجال غامضًا ضبابيًّا أسطوريًّا شبه مخيف، محاطًا بالأشباح أو الجان والعفاريت.
وفي بلادنا، في بعض القرى والمدن، ما زال الرجل يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم حين يدخل بيتًا فيه نساء، ويردد قائلًا: يا ساتر يا حفيظ، أو يردد: «دستور» (بمعنى إفساح الطريق)، وهي نفسها الكلمة الشائعة في الريف لطرد العفاريت أو الجان.
وتحاول هذه الدراسة النقدية أن تستكشف أغوار ورموز هذه المنطقة من كتابات النساء وإنتاجهن الفني، ويسمونها الكتابات بالحبر الأبيض فوق أرض سوداء.
إن المدرسة النقدية الأدبية الجديدة تحاول أن تطلق على هذه المنطقة اسم: منطقة الثورة اللغوية النسائية، من أجل خلق لغة جديدة، لغة لكل شيء كُبت ودُفن في اللاوعي.
إلا أنني أعتقد أنه لا يمكن أن تكون هناك حركة نقدية أدبية، أو حركة إبداعية للمرأة خارجة تمامًا عن عالم الرجال الطبقي الأبوي، وأن إبداع المرأة في بلادنا أو في أي مجتمع يقع داخل الثقافة السائدة، وداخل ثقافة غير معلنة لكنها سائدة أيضًا بطرقها الخاصة. ولا يمكن للناقدة أو الناقد أن يُقيِّم إبداع النساء تقييمًا صحيحًا دون أن يفهم الثقافتين، المعلنة وغير المعلنة، وأن يُحدث تغييرًا جذريًّا في نظرته للمرأة والإبداع، فيرى المعنى بين السطور، ويكشف رموز الأصابع الضبابية التي تبرز أمامه في المساحات الخالية، وأن يعي المعاني التي تبدو له خارج الوعي المألوف، أو في اللاوعي واللامألوف، ومع ذلك هي قمة الوعي، وقمة المألوف.
ولهذا السبب؛ حُكم على كثير من النساء المبدعات بالخروج عن الوعي المألوف، أو الجنون أو الهيستيريا، وتظل كلمة «هيستيريا» حتى اليوم في قاموس الطب ترجع إلى كلمة «هيستير» أي «الرحم»، وكأنما الجنون أو نقصان الفعل هو صفة كل من يحتوي جسده على الرحم.
كانت «المعرفة» في ذلك الوقت مقصورة على الرجال من الطبقة الحاكمة، ومنهم «الكهنة»، الذين كانوا في الوقت نفسه هم «الأطباء»، وقد اعتقدوا أن الماء المقدس يشفي الناس من الأمراض، وقد حُرقت بعض النساء لمجرد قدرتهن على شفاء الأمراض باستخدام بعض الأعشاب، ووُجهت إليهن تهمة الكفر بالماء المقدس، بالإضافة إلى تهمة السحر والجنون. وحُرقت جان دارك في ذلك العصر لاتهامها بالسحر والجنون، ثم ثبت بعد ذلك أنها كانت أكثر «معرفة» من رجال عصرها.
وما زالت هذه «المعرفة» سائدة إلى حد كبير في التراث الثقافي غربًا وشرقًا، وأُبعدت النساء عن مصادر العلم والمعرفة، وفُرض عليهن الانحباس داخل البيوت، وفي بعض الأحيان تُمنع المرأة من التعبير عن نفسها بالكلام ويفرض عليها الصمت، وقد تُحرم من الإبداع الفكري والكتابة.
واكتشف أن «الهيستيريا» لا عَلاقة لها بالرحم، ولكن الخوف الشديد هو الذي يقود إلى تلك الحالة التي تسمى بالهيستيريا، والتي قد تصيب أحد أعضاء الجسم بالشلل الكامل، يسمى بالشلل الوظيفي وليس الشلل العضوي؛ لأنه بإزالة أسباب الخوف يعود العضو إلى حركته وينتهي الشلل.
ولوحظ أن معظم حالات الهيستيريا عند النساء كانت «الخرس الهيستيري» أو «شلل اللسان» أو عدم القدرة على النطق، واتضح أن سبب ذلك كان «الخوف» من الكلام، أو الخوف من «العقاب» الناتج عن الكلام.
إن فرض التحريمات والمحظورات الاجتماعية أو الأخلاقية التي تدفع المرأة إلى الصمت يؤدي في النهاية إلى أن يكون الكلام أو التعبير عن النفس أمرًا مخيفًا.
ومن فلاسفة الغرب من لا يزال حتى اليوم يفرض الصمت على النساء. ويقول كارل بارث: «إن كلمة الله تجسدت في المسيح، وإن الله تكلم بصوت الذكر، وإن النساء مستمعات فقط، إن الفرق بين الله والرجل قد امتد ليكون أيضًا الفرق بين الرجل والمرأة.»
وقد كان صوت المرأة في بلادنا يُعَد «عورة» إلى عهد غير بعيد في نظر بعض الناس، وما زلنا نذكر المشادة على صفحات الصحف في مصر واعتراض بعض الآراء على غناء ابنة أحد المشايخ، باعتبار أن صوت المرأة يجب ألا يسمعه إلا الزوج أو رجال الأسرة.
وما زالت بعض الآراء في بلادنا ترى أن كِيان المرأة كله (وليس صوتها فحسب) يجب ألا يظهر، وهناك من يرى أن وجهها فقط وكفيها هي التي يُمكن أن تظهر.
ويتناقض الإبداع مع الإخفاء والخطر والتحريم. وقد اتخذ الإبداع الفكري شكل اللغة أو الكلمات المكتوبة، وتخلفت المرأة عن الرجل في تعلم الكتابة، وحظي الرجل بفرص أكبر في المعرفة والتعليم، وأُعطي حرية أكبر من المرأة للتعبير عن نفسه، ولذلك يقل عدد النساء الكاتبات بالنسبة لعدد الرجال، على حين يزيد عدد الراقصات بين النساء عنه بين الرجال.
وفي كثير من الأحيان اقترنت مهنة المومس بمهنة الرقص بسبب القيم الأبوية الطبقية التي فرضت على المرأة أن تكون جسدًا، أو أداة لإشباع شهوات الرجال خارج الزواج، وبالتالي فرضت عليها الفنون الجسدية أو الإبداع الجسدي وليس الإبداع الفكري.
وفي مجال الإبداع الجسدي الناطق، كالتمثيل والغناء، فقد فُرض على المرأة أن تردد كلامًا لم تؤلفه هي، وإنما يؤلفه لها الكُتَّاب الرجال.
لقد فُرض على المرأة ألا تُعبر عن نفسها بقدر ما تُعبر عن غيرها. والإبداع هو الأصالة عن النفس، أي التعبير عن الذات، وليس النقل عن الغير.
ولا يزال المناخ الثقافي والإعلامي في بلادنا يرتكز على المفهوم القديم الذي يقول إن الوظيفة الأساسية للمرأة هي الوظيفة البيولوجية «ولادة الأطفال» وخدمة الزوج والأسرة، ولا تزال القوانين التي تنظم عَلاقة المرأة والرجل (قوانين الزواج) تجعل من الرجل وصيًّا على المرأة، وتكبل البنات والنساء بكثير من المحظورات والمحرمات الفكرية.
ولا تزال تخشى المرأة أن تُتهم بالذكاء أو اكتشاف التناقضات والازدواجية في القيم السائدة، والازدواجية تعني اللاعدل، إذ يُفرض على المرأة ما لا يُفرض على الرجل.
- (١)
أن ترعى غيرها.
- (٢)
أو أن يرعاها غيرها.
أما أن ترعى ذاتها فهذا وضع جديد، لم يتعود عليه إلا القليل النادر من النساء المستقلات.
ويعتمد الإبداع أساسًا على الاستقلال، والاستقلال الفكري هو الأصالة التي تُنتج الإبداع، والأصالة اختلاف عن الآخرين ونوع من التميز.
لكن المرأة تخشى التميز، لم يعوِّدها المجتمع على التميز إلا في مجال الجمال الجسدي. هذا هو المجال الأساسي الذي أعطى للنساء حق التنافس فيه والتميز (من أجل إرضاء الرجل).
لكن التميز الفكري الإبداعي للمرأة ما زال يُغضِب الرجل أو يهدد سلطته أو تميزه عنها (خاصة إذا كان زوجها).
وتخشى المرأة النجاح خوفًا من الفشل في حياتها الزوجية، ويحاول النقَّاد في بلادنا وضع جميع الكاتبات بالجملة في سلة واحدة متشابهة، يُطلق عليها «الأدب النسائي» كمحاولة لإلغاء التميز والاختلاف بين كاتبة وأخرى.
لا يزال هناك تخوف من بروز المرأة وتميزها كذات مستقلة عن غيرها (سواء كانوا رجالًا أو نساء).
لا يمكن للإنسان أن يكون مبدعًا دون أن يعيش الحاضر، ويتذكر الماضي، ويتصور المستقبل، وبسبب الخوف والكبت تعجز المرأة عن تذكُّر ماضيها. لا بد أن يكون ماضي المرأة صفحة بيضاء خالية من أي تجربة، وإن كانت تجربة فكرية فحسب (ليست جنسية)، أو رسالة أدبية كتبتها وأخفتها في أحد أدراجها. المفروض في المرأة أن تكون بلا ماضٍ، أما المستقبل فالمفروض أيضًا ألا تتصور مستقبلًا أفضل، باعتبار أن وضعها الأدنى أمر طبيعي، قدَر مفروض عليها.
أما الذكاء فلا يزال مناقضًا للأنوثة، فهو صفة ذكورية، والمرأة الذكية توصف بالقبح، فإذا ما بلغت المرأة درجة عالية من الإبداع أو العبقرية فهي تُطرد من جنس النساء لتصبح رجلًا، أو يقال إنها امرأة تتشبه بالرجال وتُقلد الرجال؛ أي نسخة مشوهة من الرجل، وتفقد بذلك صفة الأصالة التي هي أساس أي إبداع، وبالتالي تفقد العبقرية.
وأعظم ما توصف به المرأة المبدعة هي أن تكون «حساسة»، أما الرجل المبدع فيقال إنه «مفكر».
وتحاول المرأة في بلادنا أن تتفادى المحظورات وتُغلق نفسها داخل ما يسمح به المجتمع خوفًا من العقاب الأدبي أو المادي. إنها تحرص على «الفضيلة» (حسب مفهوم المجتمع)، ولا تحرص على «الاستقلال». إنها تحرص على القَبول الاجتماعي ولا تحرص على الأصالة والإبداع.
ذلك أن الإبداع يتطلب أن يعرف الإنسان «الخير والشر» معًا، ولا تزال الكاتبة في بلادنا «أطيب» من أن تكون مبدعة، و«أفضل» من أن تكون عبقرية (حسب مقاييس القيم المزدوجة).
إلا أن هناك بعض النساء المبدعات اللائي يكسرن القيود ويَنشُدن الاستقلال والأصالة وليس القبول الاجتماعي، واللائي يزداد عددهن عامًا وراء عام، في مجال القصة والرواية والشعر والمسرح والسينما والتلفزيون والراديو، وفي سائر الفنون والعلوم، ونحن في حاجة إلى دراسة نقدية جديدة لإنتاج هؤلاء النساء المبدعات في بلادنا، وفي حاجة إلى ناقدات من النساء المبدعات أيضًا القادرات على خلق مقاييس فنية جديدة، وليس مجرد الحكم بالمقاييس الموروثة وعلى رأسها الازدواجية الأخلاقية والأدبية.
إن التقليد (وليس الأصالة) هو الشائع في الحركة النقدية الأدبية في بلادنا، وغالبًا ما يكون التقليد عن المدارس النقدية في أوروبا وأمريكا.
ويحاول النقَّاد بصفة عامة الحكمَ على إبداع المرأة المصرية أو العربية بأنه منغلق على مشاكلها «الخاصة» أو «الذاتية»، أما إبداع الرجل فهو مفتوح على المشاكل «العامة» أو «الموضوعية».
ويقع نقاد الأدب في التناقض نفسه الذي وقع فيه فلاسفة العبودية، ويفصلون بين الذاتية والموضوعية بمثل ما فصل بين الوجدان والعقل، ويُفرض على المرأة أن تكون مضحية أو «لا ذاتية» ثم يُحكم عليها «بالذاتية» وتُستخدم مقاييس أخرى للحكم على الرجل، فهو موضوعي، مع أن الواقع يناقض ذلك، إذ إن التقاليد أو قانون الزواج والطلاق ما زال يفرض على الرجل أن يكون «ذاتيًّا» و«أنانيًّا» لا يتجاوز نفسه (ولا أهواءه العابرة)، وإن شرَّد في سبيل ذلك أطفاله وأسرته.
ما زال يباح للرجل أن يهدد تماسك «الأسرة» من أجل رغبته «الخاصة»، لكن يحرم على المرأة أن تهدد تماسك «الأسرة» من أجل رغبتها «الخاصة».
مع أن الأسرة هي أسرة الرجل (حسب النظام الأبوي)، والأطفال يُنسبون إلى الأب، ويمتلك الأب «السلطة» شبه المطلقة على أطفاله ونسائه حسب القانون، لكنه رغم امتلاك «السلطة» لا يُعد «مسئولًا» عن تماسك الأسرة أو الحفاظ عليها. إن المرأة هي المسئولة عن الحفاظ على الأسرة والأطفال.
إن انفصال «السلطة» عن «المسئولية» إحدى سمات الفلسفة العبودية، فالرجل السيد يملك الأرض والسلطة، لكنه غير مسئول عن العمل في الأرض أو عن جوع العبد. «آدم» يملك الفضيلة، لكنه غير مسئول عن الإثم (مع أنه مارسَ هذا الإثم)، والمسئولة هي «حواء» وحدها.
تطبق هذه الأحكام المزدوجة على إبداع المرأة، ويتم الفصل التعسفي المزدوج بين ما سُمي ﺑ «الذاتية» وما سُمي ﺑ «الموضوعية»، أو بين الخاص والعام.
في حين أن الإبداع أو الأصالة لا تتحقق دون الالتحام الكامل بين الخاص والعام، أو بين «الذات» و«الآخر» أو الموضوع.
نرى أن الناقد يبني نظريته في النقد الأدبي على أساس نظرية التحليل النفسي لفرويد وعقدة «أوديب»، وبذلك يقع في الازدواجية بسبب التقسيم التعسفي بين الإحساس والواقع، أو بين الإحساس والحدث الواقعي الذي ينبع منه الإحساس، ولذلك ينتهي بحكم غامض متناقض عن ذلك السر، في «قوة الرواية»، والذي يصفه في الوقت نفسه ﺑ «الضعف» الفني.
تقول نظرية «لاكان» إن الطفل يكتسب اللغة ويدخل عالمها الرمزي في المرحلة الأوديبية حين يقبل الطفل شخصيته الجنسية كذكر أو كأنثى. هذه المرحلة لا بد أن يشعر فيها الذكر أن «الذكورة» رمز للتفوق والانتصار على الأنثى.
وفي نظرية التحليل النفسي (الفرويدية واللاكانية أيضًا) ارتبط النقص دائمًا بالمرأة سواء كان نقصًا بيولوجيًّا (غياب عضو الذكر) أو نقصًا لغويًّا أو ثقافيًّا أو إبداعيًّا، وقد ثبت قصور هذا المنهج النفسي، وأدى إلى قصور في النقد الأدبي لإنتاج النساء المبدعات.
وقد نقل هذه الفكرة عن فرويد معظم النقَّاد في بلادنا العربية. لذلك إذا ما خرج إبداع امرأة عن دائرة رغباتها الحسية كأنثى إلى طموحاتها الفكرية والسياسية في الحياة، اعتُبر أدبها ليس أدبًا، ولم يُدرج ضمن «الأدب النسائي»، وأيضًا لا يُضم إلى أدب الرجال، لأن صاحبته امرأة.
إن الأديبة المبدعة حين تخرج عن هذه المقاييس الأوديبية (أو عقدة إلكترا في النساء) تفقد صفة الإبداع، وتكتسب صفة الشذوذ عن المألوف، أو التعدي على الحدود المرسومة لها في أسلوب ومضمون التعبير عن نفسها.
ويميل النقَّاد غالبًا إلى الاعتراف بالأدب النسائي أو إنتاج المرأة التي يدور خيالها حول الرغبة المحمومة للرجل، والسعي الدائم نحو الرجل حتى الخضوع التام أو الفناء التام في الرجل، حينئذ يعترفون بالمرأة كأديبة مبدعة.
إلا أن القصور في الفَهْم العام لإبداع المرأة، يرجع إلى القصور في فهم المرأة كإنسان كامل وليس كجسد فحسب. هذا القصور الذي اتسمت به الفلسفة العبودية منذ نشأتها حتى اليوم.
لقد ظلت هذه الفلسفة تفصل بين العقل والعاطفة والوجدان، وبين العلم والفن، وبين الرجال والنساء، وبين الأدب والسياسة والحياة الاجتماعية.
استطاع بعض الأدباء والأديبات أن يكسروا هذه الفواصل والقوالب الجامدة. ومن هؤلاء الروائي الأرجنتيني «أرنستو ساباتو» الذي قال: ما هي السياسة؟ وما هو الأدب؟ الروائي رجل سياسة، فهو يعكس الوجدان العام، وهذه هي السياسة. وهل يُمكن أن يعيش الفنان بعيدًا عن السياسة إذا كان حبل المشنقة على بعد سنتيمترات قليلة من عنقه؟ إذا وضعت الكمامات على مناقير الطيور؟ وإذا منعوا الأشجار من التعامل اللامشروط مع الريح؟ وإذا منعوا الأرض من البكاء على موتاها؟ فهل ينفصل الأدب عن السياسة؟
منذ أن اكتشف علم النفس أخيرًا نظرية الإنسان المتكامل الذي يحمل الأمومة والأبوة، أو الرجولة والأنوثة معًا، ومنذ أدرك العلم أن داخل الرجل حنانًا وبكاء هائلًا مكبوتًا، منذ نشوء الرق، وأن داخل المرأة عقلًا عملاقًا، تحت سلاسل وقيود ثلاثة آلاف عام، منذ ذلك الحين زال الحرج عن الرجل، فإذا بهم يبكون ويطلقون العِنان لعواطفهم، وزال الحرج عن النساء، فإذا بهن يفكرن ويستخدمن عقولهن.
وأصبح الفرق بين المثقف العادي والفنان الخلَّاق، هو أن المثقف يستخدم رأسه فقط، لكن الفنان الخلَّاق يعمل بكل جسمه، وأصبحت العبقرية هي تلك القدرة على أن يكون الإنسان أو الإنسانة وحدة واحدة، وليس مجرد رأس أو عقلانية كما حدث لبعض الرجال. أو مجرد جسد دون عقل كما فُرض على المرأة أن تكون.
ومن أبيات لشاعر من البرازيل يقول:
وتلخص هذه الأبيات الشعرية علم المعرفة الجديد، الذي أدرك بعد ثلاثة آلاف عام، أن الموروث الاجتماعي ضد الطبيعة وضد الحقيقة، وأن بكاء الرجل ليس ضعفًا، وأن ذكاء المرأة ليس قبحًا، وأن التناقض بين الحنان والقسوة، أو الأنوثة والذكورة لم يكن إلا قانونًا اجتماعيًّا لا عَلاقةَ له بالعلوم الطبيعية.
وحين قرأ أحد الفلاسفة في العالم «كارل بارث» رواية «العشب يغني» للكاتبة «دوريس ليسنج» هتف قائلًا: «المرأة تخلق الفن العظيم بمثل ما تخلق الجنين، بالسهولة الممتنعة عن الرجال.»
ومنذ أعوام قليلة كان هذا الفيلسوف ذاته يقول: «المرأة لا تخلق الأدب والفن لأنها تخلق الجنين»، وهي العبارة نفسها التي رددها «فرويد» متصورًا أن الطاقة الخلاقة عند الرجل تتحول إلى فكر وأدب وحضارة، وأن الطاقة الخلاقة عند المرأة تتحول بيولوجيًّا إلى ولادة الطفل.
لكن الأدب الخلَّاق الذي صدر عن بعض الكتاب والكاتبات خلال النصف الأخير من هذا القرن قضى على هذه النظرية ولم يعد أحد يقول إن الرجل ينتج الفكر والمرأة تنتج الأطفال، إلا هؤلاء الذين لا يعيشون العصر.
هوامش
وفي كتاب الأدب من الداخل ﻟ «جورج طرابيشي»، دار الطليعة، بيروت (١٩٧٨م) تعرَّض المؤلف لإنتاج اثنتين فقط من الكاتبات، هما: نوال السعداوي، وسميرة عزام.
بصفة عامة، إن الحركة النقدية الأدبية ضعيفة، ومعظم النقَّاد يشتغلون بالصحافة وليس بالنقد الأدبي، وقد أصبح شائعًا أن كلَّ مَن امتلك صفحةً في مجلة أو جريدة (أو نصف صفحة) يصبح ناقدًا.