عن مشاكل المرأة المبدعة
مع تطور نظرية المعرفة والإبداع اتسع مفهوم الخلق الفكري، وأصبحت العملية الإبداعية تشمل جميع أنواع الفنون والعلوم بما فيها الحب والصداقة والتعاون من أجل حياة أفضل وإنسان أرقى. إنها لا تقتصر على العمل العقلي والإنتاج الفكري للإنسان الفرد، ولكنها تشكل أيضًا العمل والقدرة على تنظيم الناس من أجل تغيير حياتهم إلى الأحسن. وهي تشمل العمل الجسدي أيضًا، وإن كان من المستحيل أن نفصل بين جسد الإنسان وعقله، فالرقص وإن كان يبدو لنا عملية جسدية إلا أنه عملية فكرية أيضًا، والفلاح أو الفلاحة التي تمسك الفأس أو تحمل الجرة فوق رأسها قد تكون خلَّاقة في حركتها إذا ما استطاعت أن توظف أعضاء جسمها بأكفأ ما يمكنها لتحقيق الهدف الذي تريده.
في وسط دلتا النيل في مصر فلاحات يحملن الجِرار الثقيلة المملوءة فوق رءوسهن دون الاستعانة بأيديهن بطريقة خلَّاقة عجيبة، بحيث لا تقع الجرة أبدًا مهما حركت الفلاحة عنقها في أي اتجاه، وفلاحات يحملن أطفالهن على ظهورهن يضربن الأرض بالفأس دون أن يرتج الطفل، ومشاهد عجيبة لآباء أو أمهات يصارعن الموت من أجل انتزاع قطرة مياه لأطفالهن وينجحن في هذا الصراع.
إن جسد الإنسان (رجل أو امرأة) وعقله وعواطفه تنطوي على إمكانيات كبيرة مذهلة لا تنكشف إلا من خلال الأعمال الخلَّاقة، والتي قد نراها أمام عيوننا كل يوم، يقوم بها نساء ورجال بسطاء ممن نطلق عليهم اسم «عاديين»، ذلك أن عملية الخلق والإبداع ارتبطت في أذهاننا ووجداننا بأشكال محدودة اقتصرت على طبقة معينة من الرجال رفعها النظام الطبقي الأبوي إلى مصاف الآلهة، وأطلق عليهم أسماء عظيمة مثل: العباقرة الفنانون، الموهوبون، الخلَّاقون، غير العاديين … إلخ. وأسقط الأغلبية الساحقة من النساء والرجال الساعين إلى رزقهم كل يوم في بئر العادية والعمل الروتيني الميكانيكي المتكرر، بمثل ما أسقطهم في ظلام الفقر والجهل والمرض. هذا السقوط الذي أفقدهم الكثير من قدراتهم الجسدية أو النفسية أو العقلية، وأحدها تلك الفطرة الفنية الخلَّاقة الكامنة فيهم.
إن الإنسان (رجلًا أو امرأة) فنان وخلَّاق بالطبيعة، وموهبة الخلق موهبة إنسانية وصفة فطرية، وليست تميزًا مقصورًا على فئة معينة، ذلك أن الإنسان يسعى دائمًا لأن يُجمِّل حياته ويُحسِّنها بأي شكل كان، والفن الشعبي الذي يُغنِّيه الناس من أساطير أو حكايات متوارثة منذ دهور دليل على أن أجمل الفنون من صنع رجال ونساء عاديين.
رغم أن عملية الكتابة عملية فردية ذاتية إلا أن الكاتب أو الكاتبة تستمد أفكارها من إبداع خيال النساء والرجال والأطفال الذين تعيش وسطهم، وأنها ثارت على الكثير من تقاليدهم وعاداتهم، إلا أنهم المنبع الخصب الدائم الذي تستلهم منه أفكارها ومشاعرها.
إن الفن الأدبي أو العلمي لا يزدهر وينمو إلا في ظل ارتباطه الوثيق بالناس، هذا الارتباط الذي يحمي الكاتب أو الكاتبة من حزن الوحدة واغتراب التفرد. وبقدر حرص الكاتبة وحاجتها الملحة للانعزال عن الناس للتفكير المتعمق وتأمل الأشياء بقدر ما هي في حاجة ملحة للاتصال بالناس، ليس من أجل أن تكتب عنهم، وإنما من أجل أن تعيش بينهم.
إن عملية التفكير المتعمق والتأمل واسترجاع الماضي تقود الإنسان إلى درجة أعلى من الإحساس، فإذا به يرى شيئًا جديدًا في الشيء القديم ويكتشف شيئًا مدهشًا في الشيء العادي. إن عملية الخلق لا تتم بغير عملية التأمل هذه، حيث يعيش الإنسان الواقع مرة أخرى، لكنه ليس الواقع تمامًا. إنه القدرة على تخيل الواقع، بمعنى أن الأفكار والخيال والتأملات لا تولد خارج الواقع ولكنها تنبع منه. إنها الواقع فعلًا، ولكنها ليست أبجدية النقل الحرفي لتشكيلات الواقع، فهي أكثر صعوبة من مجرد النقل، وأكثر صعوبة أيضًا من مجرد الاستغراق في الخيال. إنها القدرة على إعادة تركيب الواقع في شكل ومضمون مختلف يبدو وكأنه واقع جديد.
إن الحرية الفنية تزداد بازدياد قدرة الفنان أو الفنانة على الإمساك بتفاصيل الواقع وتجسيدها وتخيلها على نحو أكثر إنسانية أو أقل إيلامًا.
عملية الخلق لغة وثقافة جديدة، لغة الواقع من أجل أن يكون واقعًا أفضل وأجمل، وكأنما هناك صوت يأتي من الأعماق يهمس دائمًا بأن العقل قادر على أن يخلق صورًا أخرى غير تلك التي يقدمها الواقع وآلامه. وإذا بالفنان أو الفنانة تمسك القلم وترسم هذه الصور التي تغزو عقلها على نحوٍ تلقائي شبه غريزي، وتصبح عملية التعبير في تلك اللحظات عملية ضرورية كالتنفس تمامًا، ولا حياة لها دون أن تنقُل أفكارها خارج عقلها وكيانها إلى الآخرين.
في فترات العمر الأولى تكون الأفكار مثالية ويتصور الفنان أو الفنانة أن هناك حقيقة كاملة مطلقة، وبعد مرحلة اليقين تأتي مرحلة أكثر نضجًا وأكثر إنسانية ولا يعود المهم هو وجود الكمال المطلق أو عدم وجوده، ولكن المهم هو تلك المحاولة الإنسانية المستمرة للوصول إلى الأفضل والأكمل. المهم هو ذلك الإخلاص والإبداع اللانهائي للإنسان والحياة، ذلك الطريق المفتوح إلى الأبد والذي لا ينتهي بالنجاح أو الفشل أو السجن أو الموت. وقد يكون ذلك سر العذاب الذي يعيشه الإنسان الخلَّاق، وسر سعادته أيضًا.
حين يكتب الفنان أو الفنانة لا تعرف لماذا تكتب. إن عملية التعبير عن أفكارها ضرورية لحياتها كإنسانة؛ لهذا لا تشغلها كثيرًا تلك الفكرة القائلة: الفن للفن. والفكرة الأخرى التي تقول: الفن الهادف أو الفن للمجتمع. إن الفن الصادق يخدم الفن ويخدم الحياة والمجتمع في آن واحد، ذلك أن هذا العمل الخلَّاق يعبر عن رأي صاحبه أو صاحبته في الحياة، ويعكس موقفها تجاه النظام الذي يسود المجتمع، يعكسه بطريقة تلقائية عفوية، وكأنما العمل الخلَّاق قادر في حد ذاته على ولادة ذلك الموقف وتلك الأفكار، وهكذا يصبح العمل الخلَّاق وكأنه يتحول من شيء مخلوق إلى شيء خلَّاق، قادر على خلق أفكار ومشاعر جديدة في عقول وقلوب الناس. وهذه هي الغاية من أي عملية خلق أو إبداع. إنها تخلق في الإنسان أفكارًا ومشاعر جديدة تساعد على فهم نفسه أكثر وأكثر، وتعرفه على أحسن ما فيه وأقوى ما فيه، وتزيد أمله ونضاله من أجل الحرية والعدالة، وتدفعه إلى الغضب والثورة على كل مظاهر القهر والظلم، وتفتح عينيه على أنواع جديدة من الجمال والحب.
يصبح الإنسان أكثر قوة وثقة وثراء من الداخل، وبالتالي أقل سيطرة وأكثر بساطة وحنانًا وتعاونًا.
إلا أن الشرط الأساسي الذي يساعد العمل الخلَّاق على تحقيق هذه الغاية هو «الصدق»، وكلمة الصدق هنا تبدو سهلة، لكنها ذلك السهل الممتنع، أو السهل الصعب.
إن النظام السائد في العالم هو النظام الطبقي والأبوي، القائم على سيطرة الرجل في الأسرة وسيطرة طبقة ملاك المال والسلطة في المجتمع، ومثل هذا النظام لا ينمو ولا يتغذى إلا على مختلف أشكال القهر والظلم، ابتداءً من مصادرة حرية الطفل في اكتشاف أعضاء جسمه، والتفرقة بين البنت والولد في الأسرة، إلى التفرقة العنصرية والاستغلال والحروب من أجل السيطرة والامتلاك.
وفي ظل هذا النظام الجائر تصبح الحرية أو العدالة أو الصدق من الأمور الصعبة، والطريق إليها وعرًا شاقًّا محاطًا بالألغام والمخاطر التي تبلغ حدَّ الجنون أو الموت، وهذا أمر طبيعي، إذ في هذا الطريق تكون المقبرة التي يُدفن فيها النظام القائم على القهر والظلم.
وكم تكون المخاطر أشد وأفدح بالنسبة للنساء والفقراء العُزَّل من أسلحة المال والسلطة، إذ إن فوق أشلاء وأجساد هؤلاء النساء والفقراء قام هذا النظام الطبقي الأبوي وأسَّس علومه وفنونه وأديانه.
ولهذا السبب تضمحل قدرات النساء جسدًا وعقلًا ونفسًا منذ الطفولة حتى نهاية العمر. وإنها لنادرة فعلًا تلك المرأة التي تستطيع أن تُفلت من قبضة ذلك النظام المتربص بها داخل البيت وخارجه، وفي الشارع، وفي داخل حجرة النوم.
أما الرجل؛ فلا تزال أمامه الفرصة لأن يحافظ أو ينمي فطرته الفنية الخلَّاقة، إذا كان من طبقة الحكام والملاك، أما إذا كان من الفقراء اللاهثين ليلَ نهار وراء رغيف الخبز، فالفرصة أمامه قليلة أو نادرة، وقد تحظى المرأة من الطبقات العليا أو المتوسطة بفرص أكبر لتنمية قدراتها العقلية الخلَّاقة إذا تعلمت ومارست الكتابة أو الإبداع، ومع ذلك تظل مترددة بين شيئين: (١) قدر عقلها. (٢) وكونها أنثى. ذلك أنها رُبيت منذ الطفولة على أن دورها في الحياة هو الزواج والإنجاب، وليس الإبداع الفكري.
وكم هي محظوظة تلك المرأة التي تساعدها ظروفها على تعلم القراءة والكتابة في بلادنا، ولا يستغرقها السعي اليومي اللاهث وراء لقمة العيش، أو الأعمال المنزلية وخدمة الأهل والزوج والأطفال، وتجد فسحة من الوقت أو الجهد ليفتح عقلها وقلبها على مظاهر القهر والظلم. كم هي محظوظة تلك المرأة، وهي تُمثل قلة قليلة في بلادنا العربية، وسكان العالم الثالث بصفة عامة، حيث الأغلبية الساحقة — من الرجال والنساء والأطفال — كادحون لاهثون مسحوقون. مثل هذه المرأة قد تُبدع وتمارس الخلق الفكري إذا استطاعت أن تتخلص من الإحساس بالشذوذ أو الذنب إذا انصرفت قليلًا أو كثيرًا عن دَورها المرسوم لها في البيت.
إن إناث جميع الكائنات الحية تستطيع أن تخلق الحياة من جديد عن طريق الإنجاب، لكن المرأة هي الإنسان أو الكائن الوحيد الذي يستطيع بعقله أن يحوِّل عملية الإنجاب من عملية بيولوجية شبه ميكانيكية إلى عملية عقلانية خلَّاقة، وأمومة متطورة قادرة على التغير نحو الأفضل جسدًا ونفسًا وفكرًا وعاطفة.
إلا أن النظام الطبقي الأبوي قد سلبَ من المرأة أعزَّ ما تملكه، وهو عقلها، واستبدله بغشاء البَكارة، وبذلك سلبها قدرتها على الخلق الفكري والنفسي والعاطفي، بل والجسدي أيضًا، وحوَّل قدرتها على الإنجاب وأمومتها الإنسانية الخلَّاقة إلى قيود وأثقال وآلام ترهقها وتضعفها أكثر مما تساعدها وتقويها وتطورها، وكم تتبدد قدرات المرأة تحت هذه الأثقال اليومية ومحاولة التكيف مع نظام غير عادل وغير إنساني. إن محاولة التكيف هي التي تبعدها عن الصدق وعن حقيقة نفسها.
وقد تنزلق المرأة الخلَّاقة إلى نسيان صدقها وحقيقتها لتمارس ما يمارسه الرجال، وتنافسهم بطرقهم وأساليبهم للوصول إلى ما يسمونه المجد أو الشهرة أو النجاح أو العبقرية، إلى آخر تلك الأسماء اللامعة التي قد تبعدها عن حقيقة نفسها وعن سعيها الخلَّاق نحو الصدق. إذا ما انزلقت المرأة الخلَّاقة في هذا الخضم امتصها النظام الطبقي الأبوي وأضحت جزءًا منه وفقدت نفسها، وإن ظلت تنتج وتعمل، لكن مستوى عملها الخلَّاق يظل في هبوط مستمر، وإن ظلت شهرتها الأدبية في صعود مستمر.
وقد ينتشل المرأةَ من هذا الضياع حادثٌ مؤلم في حياتها الخاصة أو العامة أو فجيعة ما تضعها في مواجهة أو صدام مع النظام داخل البيت أو في المجتمع، فتدرك رفضها لأحكامه غير العادلة وتبدأ من جديد لتصارعه. أو قد تهوي بها ظروفٌ ما إلى أسفل، إلى حيث يعيش المرضى أو الفقراء أو المنبوذون أو المساجين أو المطلقات أو المومسات، فترى الوجه الآخر لهذا النظام وتدرك أنها ليست جزءًا منه، وتبدأ تقاوم لتسترد نفسها وتسترد صدقها، وتسترد معهما قدرتها على الخلق، ويصبح إنتاجها أكثر صدقًا، وبالتالي أكثر وصولًا وتأثيرًا في قلوب الناس وعقولهم.
إن القوة الأساسية للعمل الخلَّاق هي تلك القدرة على النفاذ والتأثير في عقول وقلوب الناس. هذه القدرة التي لا تتحقق في العمل الخلَّاق إلا إذا كان صاحبه أو صاحبته تعيش حياة الناس فعلًا، تعيش آلامهم وأحزانهم وآمالهم. إن الالتصاق الوثيق بالناس والواقع يجعل المرأة الخلَّاقة قادرة على تسجيل أدق تفاصيل هذا الواقع من حيث الزمان أو المكان أو الأحداث أو الشخصيات. وهذا التسجيل يجعل من اللحظة العابرة، مثل لحظة اغتصاب فتاة، أو لحظة ضرب سجينة، أو لحظة موت طفل من الجوع … إلخ، يجعل من هذه اللحظة العابرة لحظة خالدة، لأن الآلاف أو الملايين من العقول والقلوب تمسك بهذه اللحظة مرة أخرى وتعيشها من خلال قراءتها في رواية أو مشاهدتها في لوحة. هذه اللحظة كانت جزءًا من الماضي، وكان يمكن أن تموت وتُدفن مع الماضي، إلا أن العمل الخلَّاق يبعثها أو يعيد إليها الحياة من جديد، وتصبح لحظة حاضرة، حية، تعيش في عقول وقلوب الناس في مختلف الأمكنة والأزمنة. تؤرقهم وتقلقهم، وتخلق بدورها في عقولهم وقلوبهم أفكارًا ومشاعر جديدة، كأنما تصبح لهم عقول جديدة أو قلوب جديدة، أو كأنما تتبدل شخصياتهم إلى شخصيات أخرى أقوى وأصلب وأكثر رغبة في الثورة على القهر والظلم.
وعلى هذا فإن قوة العمل الخلَّاق تكمن في أنه قادر على أن يغرس بذور الثورة في قلوب وعقول النساء والرجال والأطفال المقهورين المظلومين. وقد لا تتحقق كحركة شعبية قادرة على تغيير النظام في حياتهم أو زمانهم، ولكن على الأقل لقد غرست البذرة في الأرض، ولسوف يزدهر النبت طالما أن الشمس تطلع كل يوم.
الثورة هي النتيجة الطبيعية للعمل الخلَّاق، والحرية هي ابنة الثورة، وكلتاهما، الثورة والحرية، يصنعان الشكل والجوهر في أي عملٍ خلَّاق.
وتنعكس قوة العمل الخلَّاق على صاحبه أو صاحبته، فتحميها من بطش السلطات، وتقويها ضد الأزمات، وترتفع بها فوق المطامع الشخصية أو الصراعات المذهبية أو النعرات الدينية أو الطائفية أو القَبَلية أو الجنسية. تصبح المرأة الخلَّاقة إنسانة تنتمي إلى الإنسان المسلوب الحرية والثورة في أي زمان ومكان، وهذا الانتماء العالمي للإنسانية ليس انتماءً رومانتيكيًّا ضائعًا في الخيال، وليس رأسًا عاليًا في الفضاء بغير جذور في الأرض، ولكنه الرأس المحلق المطل على العالمية، وهو أيضًا الجذور الممتدة في بطن الأرض المحلية.
إن الأصالة والعالمية وجهان لشيء واحد هو عملية الخلق، مثلهما في ذلك مثل الذاتية والموضوعية، فالذاتية تُغذي العملية المبدعة بالتفرُّد الأصيل والنكهة الشخصية والمحلية الخاصة، أما الموضوعية فتعطيها مُقوِّمات الرؤية الصادقة كتجربة إنسانية.
وهذا هو السبب الذي يربط الفنانة دائمًا بوطنها وأرضها وأهلها ولغتها، ومها ابتعدت وتجوَّلت هنا وهناك فإنها تعود إلى جذورها.
وتقتضي المحافظة على القدرة الخلَّاقة المحافظة على النفس الحقيقية والصدق، وهذا يقتضي الاتصال الوثيق بالناس. والناس هنا لا تعني الطبقة الحاكمة أو ذوي السلطة والمال والمجد، ولكن الناس الذين يعيشون ظروف القهر والظلم التي تعيشها المرأة الخلَّاقة، ويرتبط مصيرهم ومصيرها بمستقبل واحد وآمال واحدة في الثورة والحرية. في عالمنا الطبقي الأبوي، لا يُمكن لإنسانة خلَّاقة أن تنتميَ للطبقة الحاكمة المالكة. إن صدقها وفنها يدفع بها تلقائيًّا للانتماء للناس الذين يعيشون الألم والبؤس.
إن الكاتبة الخلَّاقة تجد نفسها الحقيقية بين القرَّاء والقارئات أكثر مما تجدها بين النقَّاد، والطبيبة الخلَّاقة تجد نفسها بين المرضى والمريضات أكثر مما تجدها بين الأطباء، والعالمة الخلَّاقة تجد نفسها بين الناس العاديين أكثر مما تجدها بين العلماء والعظماء.
إن الفنانة الحقيقية تُفضل قراءة رسائل القرَّاء والقارئات عن أي شيء آخر، أما مقالات النقَّاد مثلًا فلا تشغلها كثيرًا، مدحًا كانت أو ذمًّا.
وفي ظل النظام الطبقي الأبوي لا يُمكن للمرأة أن تتوقع المديح أو القَبول، بل عليها أن تتوقع العداء أو الأذى. وهذا يخفف من وقْع الإساءات أو الهجوم الذي قد تتعرض له. كما أن توقُّع الأذى يجعلها تستعد له، وهذا الاستعداد يُسلحها أكثر ويساعدها على الانتصار أو يُقلل الخَسارة ما أمكن. ورغم أن الانتصار حدَثٌ مُفرِح لأي إنسان، إلا أن الهزيمة أيضًا قد تكون مفيدة أحيانًا، إذا ما استطاعت المرأة الخلَّاقة أن تحولها إلى خبرة نفسية أو فكرية أو اجتماعية جديدة تضاف إلى رصيد خبراتها. إن عملية التحويل هذه تقتضي منها أن تتدرَّب على ألا تعرف الندم، وأن تسير قُدمًا في طريقها بشجاعة وثقة وحرية.
ولعل أكثر ما يُقيد حرية المرأة الخلَّاقة أو أي إنسان يعيش في ظل هذا النظام الاستغلالي هو الحاجات الاقتصادية الضرورية أو غير الضرورية، والتي تصبح ضرورية بسبب القيم الطبقية وحركة التجارة القائمة على تصريف البضائع الكمالية وسط رجال ونساء وأطفال لم يحصِّلوا بعدُ الضروريات.
ويلجأ النظام الطبقي الأبوي إلى أن يستغل هذه الحاجات الاقتصادية عند البشر ويحولها إلى نوع من الإغراء يكافئ بها خُدَّامه ومناصريه، أو نوع من العقاب يحرم منها من يخرج أو يثور عليه؛ لهذا على المرأة الخلَّاقة أن تتعود على أن تضغط حاجاتها الاقتصادية في نطاق الضروريات، مما يزيد من استقلالها الاقتصادي، وبالتالي يزيد من حريتها. وبالمثل أيضًا بالنسبة لحاجاتها النفسية، عليها أن تستقل نفسيًّا واجتماعيًّا فتصبح قادرة تحت أي ظروف أن تعيش وحدها وتكتفي بذاتها وعملها الخلَّاق. وهذا أيضًا ينطبق على الحاجات الجسدية. إن الرياضة البدنية المنتظمة مثلًا تساعد المرأة على أن تستقل بأعمال لم تكن تستطيع أن تقوم بها دون الاستعانة بعضلات رجل مثلًا. هذا بالإضافة إلى أن الصحة والنشاط الجسمي يولد عنه نشاط نفسي وفكري، أما الكسل أو التراخي الجسدي فيساعد أيضًا على الكسل والتراخي النفسي والعقلي.
إن هذا الكسل أو التراخي من العوامل التي تضعف المرأة الخلَّاقة، فيصيبها اليأس مثلًا إذا ما حلَّت هزيمة ما، أو يصيبها الغرور إذا ما حققت شيئًا من النصر، وهذا كله ينحرف بالمرأة الخلَّاقة عن الإبداع.
إن أهم الدعائم التي تُساند المرأة الخلَّاقة هم هؤلاء الناس الذين يتأثرون بها ويحبونها ويتآزرون معها، سواء داخل وطنها أو في أي بلدٍ آخر من العالم، ويا حبذا لو تطوَّر هذا التآزر ليصبح تآزرًا مُنظَّمًا واعيًا يضع لنفسه البرامج والخطط. إن الثورة الحقيقية والحرية لن يأتيا إلا عن طريق ذلك العمل الجماعي المنظم.
في ظل النظام القائم على القهر والظلم، تترعرع داخل الإنسان مشاعر الكراهية أو الحقد أو الغَيرة، وهي ليست مشاعر إنسانية حقيقية بقدر ما هي ردود فعل ووسائل دفاعية عن النفس، تقل أو تزيد حسب ثقة الإنسان بنفسه الحقيقية وقدرته الخلَّاقة على مقاومة القهر والظلم.
وقد تتعرض المرأة الخلَّاقة، على الأخص داخل مهنتها، لرجال ونساء يُظهرون لها نوعًا من الكراهية، وقد تتحول هذه المشاعر لديهم إلى أعمال عدوانية فيحاولون القضاء على هذه المرأة أو إبعادها أو تشويه سمعتها إلى آخر تلك الأساليب المعروفة. وقد تبدو النساء أحيانًا أكثر كراهيةً للمرأة الخلَّاقة من الرجال، إلا أن غَيرة الرجل بصفة عامة وكراهيته للمرأة الخلَّاقة أشد وأعمق، لكنه أكثر قدرة على إخفاء مشاعره، فقد تمرَّس في ظل النظام القائم على تزييف مشاعره، كما أنه أكثر توافقًا مع النظام الأبوي لكونه الرجل أو الأب. وعلى هذا تُمثل المرأة الخلَّاقة تهديدًا دائمًا له، ليس لكونه رجلًا فحسب، ولكن لأنها تُهدد النظام كله الذي جعل منه هذا الرجل (كلمة الرجل هنا تعني قيم الرجولة من حيث السيطرة والذكورة والتنافس والعدوان وكما يشكلها النظام الطبقي الأبوي).
وقد تسوق الظروف مثل هذا الرجل لأن يكون زميلًا للمرأة الخلَّاقة في مهنتها أو رئيسًا لها أو زوجًا أو أبًا أو أخًا أو أي رجل آخر تسوقه الأقدار في طريقها داخل البيت وخارجه، ويصبح عليها أن تصارعه حتى تُخرجه من طريقها. وسلاحها الأساسي في هذا الصراع هو عملها الخلَّاق الذي يربطها بالناس ويمنحها القوة والاستقلال.
لا يمكن للإنسان (رجل أو امرأة) أن يعيش بغير الحب الحقيقي والصداقات الحقيقية. ومثل هذه العَلاقات الإنسانية لا يقدر عليها إلا هؤلاء الرجال والنساء الذين حافظوا على أنفسهم الحقيقية، أي بعبارة أخرى، هؤلاء من ذوي القدرة على العمل الخلَّاق. وكم هي محظوظة تلك المرأة التي تلتقي في حياتها ببعض هؤلاء. إنهم قلة فعلًا، ولكنهم موجودون، وأعتقد أنهم يزدادون عددًا كلما سرنا في طريق الحرية والاستقلال.
لا شك أن محافظة المرأة الخلَّاقة على قدراتها وتنميتها عملية شاقة في ظل النظام الذي يسود، وهي قد تدفع ثمنًا غاليًا من حياتها الخاصة أو العامة. قد تفقد الزواج والوظيفة والسمعة الطيبة، وقد تمر بظروف قاسية تُهدد سمعتها أو استقرارها الاقتصادي أو النفسي أو حتى الجسدي، إلا أنه على المرأة الخلَّاقة أن تدرك أنها تعيش صراعًا ضد قوًى راسخة مسلحة بوسائل وأجهزة وقيم متوارثة، وعليها في هذا الصراع أن تستقطب كل قواها وأن تستند إلى القوى الحقيقية التي يُمكن أن تساندها وتحميها، وهي قوى هؤلاء النساء والرجال والشباب والأطفال الذين تصل إلى قلوبهم وعقولهم عن طريق نشاطها وإنتاجها الخلَّاق.