عن المرأة في الأدب
وإذا كان الفن أو الأدب يرتكز في مضمونه على الصراع، وسواء انتهى هذا الصراع بالفشل أو النجاح فهو نوع من الدراما أو المأساة التي تستحق الرواية، وتستحق التسجيل، سواء كانت مبكية أو مضحكة، سواء أكانت تراجيديا أم كوميديا، وكم من صراعات ومفارقات في حياة الإنسان تدعو إلى الضحك والبكاء معًا.
ولعل أهم هذه الصراعات جميعًا هو الصراع بين الرجل والمرأة منذ انتُزع منها حقها الطبيعي، وظل الصراع بين الرجل والمرأة مستمرًّا منذ بدأ النظام الأبوي الطبقي حتى اليوم، وظل الرجل متخوفًا حتى اليوم من أن ينتهيَ الصراع بانتصار المرأة واستردادها لحقها الطبيعي الأول. والدليل على خوف الرجل من المرأة أنه لا يزال يحوطها بالسلاسل والقيود التي قد تكون قوانين صارمة مقدسة أو نظريات علمية نفسية، أو أخلاقيات معينة، أو حتى عواطف ظاهرها الحب والنيل والحماية، وباطنها الغَيرة والاستحواذ والسيطرة والامتلاك.
والدليل على خوف الرجل من المرأة أنه لا يزال يقيدها ويملكها بشتى الوسائل، وهو يقيدها بوعي وبغير وعي، وكأنما هو في اللحظة التي يقف فيها عن تقييدها سوف ينقلب الوضع فورًا وتصبح المرأة هي الأعلى وليس الأدنى، وهي الأقوى وليس الأضعف.
وبرغم أن الرجل بذل كلَّ ما عنده لابتكار قيودٍ للمرأة منذ خمسة أو ستة آلاف سنة، إلا أنه لم يتخلص أبدًا من خوفه من المرأة، ومن حاجته المستمرة لأن يقيدها، مما يؤكد أن خوفه منطقي وله مبرراته القوية، وله دوافعه الطبيعية، وأولها إدراك الرجل أنه يفرض على الطبيعة وضعًا غير طبيعي، فالمرأة منذ أصبحت امرأة، منذ ملايين السنين، وهي تنسب أطفالها إليها بحكم الطبيعة، والرجل وإن عرَف حديثًا الأسرار العملية للحمل والولادة، إلا أنه ظل جاهلًا لها أزمنة طويلة، حملها وولادتها. ولم يكن لبضعة آلاف من السنين أن تقضيَ على خوف الرجل الذي عاش معه ملايين السنين. ولم يكن لهذا الزمن القصير، بالنسبة لعمر البشرية، أن يقتلع من ذاكرة الرجل صورة الأنثى الأم، خالقة الحياة والإلهة القديمة.
ولم تكن قصة آدم وحواء إلا تعبيرًا عن خوف الرجل من المرأة، ولولا هذا الخوف ما نُسب الشر والإثم والشيطنة إلى حواء. فالمرأة الشيطان ليست إلا تجسيدًا لمخاوف الرجل. والمرأة التي تملك من القوة والسحر والفتنة ما يوقع الرجل ويسقطه من الجنة إلى الأرض، ويسبب له الدمار والهلاك والموت، امرأة لا بد أن تكون مخيفة ومرعبة.
ويربط علم النفس بين الخوف والكراهية في نفس الإنسان، فالخوف يولد الكراهية، والكراهة تُغذي الخوف، وكلاهما يستمر باستمرار الآخر.
وقد اعترف «فرويد» بأن الرجل يكره المرأة، وأنه ينظر إليها كمصدر للخطر، وفي كتابه التحريم والعذرية، يقول فرويد: «… إن عادة الرجل أن يُسقِط كراهيته الداخلية العميقة على العالم الخارجي، أي ينسبها إلى أي شيء يكرهه أو أي شيء لم يألفه. وينظر الرجل إلى المرأة أيضًا على أنها مصدر للخطر، وأول عَلاقة جنسية بينه وبين المرأة تظل في ذاكرته محفوفة بالخطر.»
ولا يختلف خوف فرويد من المرأة كثيرًا عن خوف الرجل الأفريقي، الذي لا يزال يؤمن، في بعض قبائل أفريقيا، بأن المرأة إذا خطت فوق ساق رجل فإنه يعجز جنسيًّا، أو أن الرجل الذي يلمس المرأة في فترة الحيض يسقط ميتًا.
بمثل ما احتوى العلم على مخاوف الرجل أو المرأة، كذلك احتوى الأدب على هذه المخاوف، ولا يكاد يختلف خوف «فرويد» من المرأة عن خوف «برنارد شو»، ولا يختلف خوف «برنارد شو» من المرأة عن خوف «توفيق الحكيم» أو «عباس محمود العقاد».
والتغزل في سلبية المرأة، باعتبارها طبيعتها وفطرتها، يعني بالضرورة هجاء إيجابيتها وقوتها، واعتبارها خارجة عن طبيعتها، أو شاذة، تستوجب الكره أو الاستقباح، أو على الأقل السخرية والتهكم.
وبلغ من كره الرجل للمرأة الإيجابية القوية أن أسقط عليها كل خوفه القديم، فاقترنت صفات القوة في المرأة بالشر والخطر والغموض والكيد والرياء. والكذب والالتواء والمكر والإغراء والفتنة والسحر والشيطنة.
ويريد العقاد هنا أن يسلب المرأة إيجابيتها في المكر والرياء، كما سلب أسلافُه الفلاسفة إيجابية حواء في الشر، وقالوا: إن الشر لم يقع بإرادتها واختيارها، وإنما بإرادة آدم، أو إرادة الإله.
وبرغم محاولات الرجل المستميتة للإقلال من إيجابية المرأة وقوتها، وبرغم محاولاته المستمرة لاعتبارها أدنى وأقل، ولا تستحق أي اهتمام أو عناء، إلا أن المرأة ظلت تشغل أكبر حيز في ذهن الرجل، وبرغم أنه نجح في طردها من معظم مجالات المجتمع، إلا أنها ظلت كالشبح الجاثم على فكره، لا يستطيع طرده من ذهنه، ولا يستطيع الفرار منه حيثما ذهب.
إن من يستعرض إنتاج الأدباء في الشرق وفي الغرب قديمًا وحديثًا لا بد أن يدهش لهذا الكم الهائل من القصص والشعر والروايات التي تناولت المرأة. ورغم أن معظم هذه الكتابات تصور المرأة تصويرًا خاطئًا أو متناقضًا، إلا أنها تدل على أن الرجل لم يتخلص أبدًا من خوفه، وأن هذا الخوف قد أنتج الكراهية، وأن هذه الكراهية استحالت إلى نوعٍ من الحب المشبوب. فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما تقول الحكمة العربية القديمة، ومن الوسائل التي يحمي بها الإنسان نفسه ضد ما يكرهه هو أن يستسلم له ويحبه.
ولعل هذا يُفسر لنا بعض الأسباب التي جعلت عَلاقة الرجل والمرأة علاقة حب وكراهية في آن واحد، ولذة وألم، وإقبال وفرار، وراحة وعذاب، وقسوة وحنان، وسذاجة ومكر، إلى آخر تلك التناقضات التي تميز تلك العاطفة الشائعة بين الرجال والنساء، والتي سُميت على مر الأزمنة ﺑ «الحب» وهي تسمية خاطئة؛ لأن الحب بين الرجل والمرأة طَوال هذه الأزمنة لم يكن «حبًّا» وإنما رغبة في «الامتلاك».
وبمثل ما كان التناقض جوهر الحب في الأدب العربي، حوَت المرأة أيضًا في جوهرها على التناقض، ذلك أن الحب عند الرجل يرمز إلى المرأة، والمرأة ترمز إلى الحب، وكلاهما في نظره شيء واحد.
ويتضح لنا الآن كيف تنقلب الكراهية إلى حب مشبوب، إلى حب شبه مريض يستعذب الظلم والجرح والألم، حب ماسوشي، فيه من الذل والهوان إلى حد تقبيل اليد التي تقسو عليه وتضربه وتجرحه.
وتبلغ عداوة العقاد للمرأة أنه لم يُعطِ نفسَه وحده حق إيلامها وخيانتها وهجرها، ولكنه جعل من نفسه داعيةً في هذا المجال، وأخذ يحث الرجال على هجرها وخيانتها ويتغنى بذلك في شعره قائلًا:
ومعنى هذا في رأيه أن خيانة الرجل للمرأة تؤدي به إلى أن يصل إلى قلبها وحبها. فالمرأة في نظر العقاد لا تُخلِص إلا لمن يخون، ولا تحب إلا من يهجرها ويكرهها، ولا تقول نعم إلا حينما تريد أن تقول لا، وهي مراوغة، ماكرة، كاذبة، مخلوقة من عجينة الخداع والكيد، وإن «كيدهن عظيم» كما جاء في القرآن، وهو يقرر أن الكيد والخداع طبيعة المرأة وسلاحها مع الرجال الذين يكرهونها أو يحبونها، سواء بسواء:
ويخرج العقاد من ذلك بأن المرأة خُلقت لتُحب الرجل، وأن الرجل خُلق ليُحب نفسه في حبه إياها. وهذا في رأيي على نسق الفكرة الدينية اليهودية والمسيحية، أن المرأة خُلقت في صورة الرجل، وأن الرجل خُلق في صورة الإله (أن الرجل ظلُّ الله على الأرض، وصورته، وأن المرأة ظل الرجل).
وعندنا مثل شعبي في العربية يقول: ظل راجل ولا ظل حيطة، أي إن الرجل هو ظل المرأة، وبغير الرجل لا تستطيع المرأة أن تعيش.
أما نموذج المرأة الذي طغى واحتل أكثر صفحات الأدب العربي بصفةٍ عامة، فهو بغير شك نموذج المرأة «البغيِّ» أو العشيقة، ومقابله أيضًا بالأهمية نفسها، نقيضه، وهو نموذج «الأم» الطاهرة، أو العذراء، أو الزوجة العفيفة الطاهرة.
وهذه الفكرة التي قسمت النساء إلى نوعين: البغي أو الأم، لم يكن ليعرفها العرب إلا من أجدادهم القدامى الذين بدءوا النظام الأبوي، وبدءوا معه تقسيم النساء إلى زوجات وأمهات من ناحية، وإلى مومسات وعشيقات من ناحية أخرى، ثم ارتباط البغيِّ بالإثم والسقوط والفساد، لأنَّ البغيَّ هي التي تجسد الجنس، والجنس من فعل الشيطان أو حواء.
وقد لعبت المرأة العربية القديمة دورًا بارزًا في الملاحم والسير الشعبية، ورأينا النساء في تلك الملاحم فارسات مقاتلات من ذوات الذكاء الخارق، وتوصف المرأة المرغوبة بأنها «قتَّالة الشجعان»، تنتصر على أشجع الرجال في المبارزة بالسيف وبالحوار الذكي، ولا تتزوج إلا الرجل الذي تختاره والذي يستطيع أن يصمد أمامها في المباراة من مثيلات «ذات الهمة» و«زنانير» و«القناصة» و«ميمونة» وغيرهن كثيرات.
ولم تكن هذه المرأة الشجاعة الذكية شيطانة كما صوَّرها الأدب فيما بعد، وإنما كانت امرأة حقيقية وطبيعية، بل مرغوبة ومحبوبة.
ولأن الأدب — وعلى الأخص الملاحم والسير الشعبية — انعكاس لحياة الناس أو أغلبية الناس، فإن هذه الصورة القوية للمرأة العربية لم تكن إلا تعبيرًا عن قوة هذه المرأة وإيجابيتها ومشاركتها في الحرب والسياسة وأمور المجتمع الكبرى. وهذه حقيقة لا تخفى على أحد ممن يقرءون تاريخ العرب والمسلمين الأوائل، مما يثبت لنا أن تخلف المرأة العربية لا عَلاقةَ له بالعرب كجنس، ولا عَلاقة له بالإسلام كدين.
إن المرأة في أي مجتمع ترتفع أو تنحدر بارتفاع المجتمع أو بانحداره، وفي العصور التي ازدهر فيها المجتمع العربي ازدهرت المرأة العربية من مثيلات خديجة وعائشة وحفصة وفاطمة وهند ونسيبة وغيرهن كثيرات، وحينما أصاب المجتمع الركود وخضع لحكام فاسدين رضعوا المبادئ الطبقية الأبوية وأهدروا المبادئ الأساسية للإسلام، انحدر حال المرأة العربية. وفي عهد المماليك والأتراك انحدرت المرأة المصرية باشتداد وانحدار المجتمع وفساد الحكام وتسخيرهم للشعب المصري رجالًا ونساءً في العمل المضني بالزراعة، أما نساء الطبقات العليا فقد حُبسن بالبيوت مع أطفالهن وجواريهن وخصيانهن من الرجال العبيد، وفُرض عليهن الحجاب باسم الشرف والأخلاق والمحافظة على الدين.
واختفت صورة المرأة القوية الشجاعة الذكية من الأدب العربي. وظهرت صورة المرأة المحجبة عقلًا أو جسدًا، والتي لا يهمها من أمر الدنيا إلا المحافظة على أعز ما تملك، وهو شرفها، ويا ليته الشرف الحقيقي بمعناه الإنساني الشامل، ولكنه الشرف المحدود والضيق الذي لا يزيد على بضع ملِّيمترات. ولم نَعُد نرى في الأدب العربي الحديث بطلات مشاركات في الحرب والسياسة والمبارزات العقلية الذكية، وإنما نساء بيوت، أو زوجات غريرات سُذَّج، أو عشيقات، أو عاهرات. وأصبحت المرأة المرغوبة المحبوبة، أو البطلة المثالية، في نظر معظم الأدباء المعاصرين، هي المرأة الوديعة السلبية، أما تلك الضعيفة الغبية المطيعة، فهي ذات الأنوثة الكاملة. ولم تَعُد إيجابية المرأة أو قوتها أو ذكاؤها ميزة، بل أصبح عيبًا خطيرًا يعزلها من بين النساء الطبيعيات، بل من بين البشر والبني آدميين، ويضعها في مصافِّ الأبالسة والشياطين.
وأحد هؤلاء الكُتَّاب، وهو زكي مبارك، كتب يقول في وصفه للمرأة: «المرأة تملك أصول الشهوات، وهي باب الدمار والخذلان، والمرأة هي الجحيم، هي البلاء، يصبه الله على رءوس العباد، هي الشقاء المُعجَّل، والكرب الذي يسبق الموت، والمرأة في جميع أحوالها مصدر فساد، ولها مداخل إلى الفتنة يعجز عنها إبليس.»
ويُعتبر «طه حسين» من أكثر الأدباء العرب تقدمًا في نظرته للمرأة، إلا أن هذه النظرة لم تنعكس بوضوح في أشهر أعماله.
وفي رواية «دعاء الكروان» مثلًا، ينشغل الكاتب بالمفهوم التقليدي للشرف، وتتعرض البنت الصغيرة «هنادي» للذبح بسكين خالها، وبالتعاون مع أمها، تلك المرأة التي صوَّرها الكاتب عاجزة عن الدفاع عن ابنتها، بل ومشتركة مع الخال في القتل.
ولا تفكر آمنة على الإطلاق في عقاب خالها الذي ذبح أختها؛ لأن الكاتب يقول في قصته عن النساء إنهن «عورة يجب أن تُستر، وحرمة يجب أن تُرعى، وعرض يجب أن يُصان»، ويدور الصراع بين آمنة وذلك المهندس، صراع غير متكافئ من كل النواحي، فالمهندس متعلم، ومن طبقة أعلى من آمنة، وآمنة ليست إلا فتاة فقيرة جاهلة، لكنها تستخدم أنوثتها وفتنتها في الصراع. فالصراع هنا ليس صراعًا فكريًّا ولا اجتماعيًّا ولا ثقافيًّا يوضح للقارئ الظلم الواقع على المرأة، ولكنه صراع يؤكد أن سلاح المرأة في الحياة ليس إلا أنوثتها ودلالها وإغراءها وإقبالها وإدبارها، وتلك الألاعيب الأنثوية الشيطانية. ويحاول المهندس أن يخدعها كما ترفض أختها، لكن خداعها له ينتصر على خداعه لها، وتتمنع وتثير شهوته، لكنها ترفض أن يلمسها، فهي تدرك أن الرجل يزهد في المرأة التي ينالها جنسيًّا، ويلفظها كالنواة، كما فعل مع أختها.
ويرى طه حسين في روايته المرأة عاجزة في سقوطها حين تفقد عذريتها، وعاجزة في انتقامها حين تقرر الانتقام، وعاجزة في حبها حين تحب، وهي دائمًا واقعة في فلك الرجل، لا حيلة لها ولا قوة، وهي مقتولة بالرجل دائمًا، مقتولة لأسباب متعددة، مقتولة بالشرف، ومقتولة بالحب، ومقتولة بالكراهية والانتقام، ومقتولة بالعجز والانسحاق تحت الرجل، ماديًّا ونفسيًّا وعاطفيًّا وأخلاقيًّا.
ويتعاطف الكاتب أحيانًا مع المرأة، لكن تعاطفه ليس إلا تعاطفًا تقليديًّا، فيه رحمة الذكر القوي الأعلى على الأنثى الأضعف الأدنى، وكم يلذ له وصف ذلك الصراع الجنسي بين آمنة والمهندس، صراع الرجل بكل أسلحته وقوته ضد الأنثى بضعفها وانكسارها وخضوعها، وهي عَلاقة تكاد تكون سادية ماسوشية من كلا الجانبين.
والمرأة في معظم روايات عبد الحليم عبد الله سلبية ضعيفة، لا وجود لها إلا من خلال رجل، فإذا لم يكن هناك رجل، فإن المرأة تموت، إما بالموت الجسدي الحقيقي، أو بالموت حزنًا على الحبيب، وحزن عبد الحليم عبد الله على المرأة حزن فيه من القسوة والازدراء أكثر مما فيه من الرحمة والاحترام، وهو يشبه إلى حدٍّ كبير حزن المنفلوطي على بطلاته. وقد حكم عبد الحليم عبد الله بالموت على جميع بطلاته تقريبًا، فقد ماتت «ليلى» في لقيطة، و«زينب» في شجرة اللبلاب، والسيدة «ف» في شمس الخريف، و«سميرة» في رواية من أجل ولدي، أما تلك التي لا تموت فإنها تُذوى بعيدًا عن الرجل وتنسحق.
وتظل المرأة في أدب «نجيب محفوظ» هي المرأة سواء في فقرها أو ثرائها أو جهلها أو تعلمها، فلا تزال هي المرأة التي يتركز شرفها على حياتها الجنسية وعذريتها. وهي تسقط وتفقد شرفها في معظم الأحوال بسبب الفقر. وقد كان الأدباء الرجال قبل نجيب محفوظ يرون أن المرأة تسقط بسبب غريزتها أو شهوتها أو ضعفها كأنثى أو ضعف عقلها، أما نجيب محفوظ فيرى للسقوط أسبابًا اقتصادية كالفقر، لكنه لا يغير مفهومه عن الشرف، ويظل شرف المرأة عند متركزًا في تلك المنطقة المحدودة من جسمها.
ويُلقي الرجل – سواء كان أبًا أو زوجًا – مسئولية اقتصادية جديدة على المرأة، لكنه يظل يحكم عليها بالسقوط إذا مارست في حياتها الشخصية ما يمارسه الرجل، وهي التي تسقط وحدها، وعليها يقع عقاب الكاتب في معظم الموقف.
وتظل المرأة هنا لا تملك سوى أنوثتها وفتنتها كسلاح. ويناقض الكاتب نفسه حين يدافع عن غريزة المرأة الأنثوية، ثم يعود فيدين هذه الغريزة ذاتها؛ لأنها سبب سقوط المرأة، والمرأة أيضًا هي التي تسقط وحدها، وقد حكم نجيب محفوظ على بطلته نفيسة الساقطة بالانتحار لأنه لم يجد حلًّا للساقطة سوى الموت.
ويُعتبر «نجيب محفوظ» أكثر تقدمًا من العقاد أو ممن سبقوه، وقد تعرض في كتاباته لقضايا اجتماعية متعددة، لكنه في موضوع المرأة ظل حريصًا حذرًا، لا يمس العقائد ولا يُغير من القيم الأخلاقية النابعة من قوانين الزواج، رغم وقوع معظم أبطاله وبطلاته في الحب.
وقد نشر «محمد حسين هيكل» هذه القصة في طبعتها الأولى سنة ١٩١٤م، وخشي أن يوقِّعها باسمه، خوفًا من أن تؤثر على عمله في المحاماة والسياسة، ووقَّعها باسم «مصري فلاح»، وقد كان محمد حسين هيكل من رواد الأدب العربي المعاصر، ومن أوائل من صوروا الظلم الفادح الواقع على المرأة في المجتمع العربي، إلا أنه لم يستطع أن يقدم حلًّا لمشكلة الفصل بين الحب والزواج سوى موت البطلة.
وقد كان الفصل بين الحب والزواج إحدى نتائج الفكرة القديمة التي تُمجد الحب العذري أو الروحي، أما الزواج الذي يتضمن الجنس فهو نوع من الإثم، وقد أدى كل ذلك إلى أن تصبح النساء نوعين: «الأنثى» أو ذات الجاذبية أو الشهوة الجنسية … و«الأم» الطاهرة العذراء الخالية من أي جنس أو شهوة.
ويزخر الأدب العربي بنماذج متعددة لهذين النوعين من النساء النقيضين. وترمز الأم إلى الحب العظيم السامي، وترمز الأنثى إلى الحب الأدنى المدنس.
وقد وقع المازني هنا في تناقضات عدة، أو خلع على الحبيبة أوصافًا متناقضة، بعيدة عن الحقيقة والعقل، فهي مشرقة جذابة، لكنها طاهرة، وهي طاهرة (بكل ما في الطهر من معاني الرقة والعذرية والوداعة والسلبية والضعف)، لكنها مرهبة كجيش، بكل ما في الجيوش من قوة وخطر محدق.
وهذا في رأيي تعبير عن نفسية رجل ربط الطهر بالجمال وبالإرهاب، وهي تشبه نفسية الطفل الذي يخاف أمه ويرهبها ويشتهيها، ولكنها طاهرة محرمة، وهو يحبها، وحبه لها أقوى حب في حياته.
إلا أن إعجابه بهذا النموذج من المرأة المتحررة يتكشف عن أنه إعجاب غير حقيقي؛ لأنه سرعان ما يزدري «ليلى» المتحررة؛ لأنها دفعت «شرفها» وعفافها ثمنًا لتحررها، ويصرح بأن التحرر دنَّسها. ويُعبر المازني عن أزمة الرجل العربي المتعلم الذي تجسد في بطل روايته، والذي أراد أن يحطم سجن التقاليد ليفوز بالفتاة التي أحبَّها، لكنه في الوقت نفسه يرفض الفتاة المتحررة من هذه التقاليد ذاتها التي أراد تحطيمها.
ويقف أبطال المازني حائرين سلبيين أمام النماذج المختلفة، فالمرأة الأنثى المتحررة مرفوضة وتصدم عقلية الرجل العربي المحافظ على مفهوم شرف الفتاة وعذريتها. والمرأة العاملة المكافحة خشنة فقيرة، لا تُرضيه، لأنه تعوَّد على نساء منعمات عاطلات في البيت. أما الفتاة الطاهرة التي ترضيه فهي فتاة تقليدية بالطبع، وتحول بينها وبينه التقاليد.
وتتدرب المرأة على فتنة الرجل على يد أمها أو خالتها، كما تدربت نساء ألف ليلة وليلة على الكيد والفتنة والسحر على أيادي «شواهي» و«تودد» ودواهي، وغيرهن من الساحرات الكائدات.
ويصوِّر نجيب محفوظ المرأة «رباب» على أنها لا تحب مثل هذا الزوج ولكنها تعشق رجلًا آخر، وتخون رباب زوجها مع عشيقها، ولا يغفر لها الكاتب ذلك فيجعلها تموت أثناء عملية الإجهاض.
وتمثل المرأة الأنثى للرجل خطرًا وخوفًا قديمًا مرتبطًا بالجنس، ولذلك هو يريدها طاهرة كأمه، أو غير أنثى، ويريدها كالملاك الضعيف المستكين، لكنه في الوقت نفسه يشتهي الأنثى ويشتهي فتنتها وسحرها، لكنه يفزع من هذه الفتنة التي يقع أمامها صريعًا فاقد القوى.
ويكاد يُشبه هذا الوصف نساء ألف ليلة وليلة، وخبرتهن، وتمرينهن على وسائل السحر والفتنة وكيفية إيقاع الرجل في الشرك. وبرغم اشتهاء الرجل العربي لمثل هذه الأنوثة الساحرة سحر الشياطين، إلا أنه لا يشتهيها إلا للمتعة فحسب، أو العشق. أما المرأة التي يريدها أن تكون زوجةً له وأمًّا لأولاده، فهو يختارها طاهرة كأمه، وهو يريدها شريفة عفيفة، وليست أنثى أو جريئة، كتلك المرأة الغربية المتحررة.
وكان من الطبيعي أن يشعر البطل بانجذاب أشد نحو المرأة التي يحبها، خاصة وأنها كانت جميلة الجسم، ولا بد أن هذا التقزُّز الذي اعتراه لم يكن لقبحها، وإنما هو شعور دفاعي يلجأ إليه الرجل المحافظ على التقاليد. وهو بدلًا من أن يعترف أنه غير طبيعي يتهمها بأنها بغيضة وغير طبيعية.
وتزداد حَيرة الرجل العربي الحديث إزاء تزايد خروج المرأة العربية للعمل والمشاركة في المجتمع، وخاصة بعد غزو الأفكار الاشتراكية للشرق العربي، وينعكس ذلك في الأدب. وبرغم تأييد الرجل لخروج المرأة للعمل، إلا أن الهدف الوحيد من عملها هو مساعدة الرجل في نفقات الأسرة، ويظل عملها خارج البيت في نظره ثانويًّا، ومهمتها الأساسية والأولى في الحياة هي أعمال البيت وخدمة الزوج ورعاية الأطفال. وعلى هذا فقد ظلت المرأة المثالية في الواقع وفي الروايات هي تلك المرأة الجميلة الوادعة المطيعة غير الجريئة وغير الطموحة، بعبارة أخرى، المرأة الطاهرة القديسة. أما المرأة الجريئة أو الطموحة أو المتفتحة العينين ذات الجسارة والقوة، فهي غالبًا ما ترمز إلى الدمامة أو الفُجر أو عدم الاحتشام، بعبارة أخرى، المرأة العاهرة أو البغي.
وهذا هو التقسيم نفسه الذي أحدثه النظام الطبقي الأبوي بين النساء، فالمرأة إما أن تكون الأم الطاهرة المقدسة، أو الزوجة العفيفة المخلصة الباردة المحترمة، وإما أن تكون المومس أو العشيقة الحارة والجذابة والمحتقرة. والحب إما أن يكون طاهرًا مقدسًا، وإما أن يكون جنسيًّا منحطًّا.
وقد حاول نجيب محفوظ أن يستخدم الاعتداء الجنسي على المرأة كرمز للاعتداء على شعب بأسره، ففي الليلة التي اعتدى فيها «ياسين» على نور جارية زوجته، واعتدى أبوه على أم مريم جارتهم، إذا بالإنجليز يدخلون الحي. وبرغم هذا الرمز إلا أنه على مستوى حياة الأفراد فإن شرف المرأة عند نجيب محفوظ ظل مختلفًا عن شرف الرجل، وظل هذا الشرف في رواياته يتعلق بسلوك المرأة الجنسي أكثر مما يتعلق بأي شيء آخر.
وكم من نماذج للبغي أو المومس في أدبنا المعاصر، وبالذات أدب نجيب محفوظ، الذي كثيرًا ما حاول أن يغلف صورة المرأة المومس بإطار إنساني فيه كثير من الرحمة بها والتفهم لظروفها كضحية للمجتمع، لكنه يظل دائمًا تفهمًا ناقصًا يعترف بمأساة المرأة الاجتماعية، لكنه لا يصل إلى أعماق هذه المأساة، ولا يكشف عن أسبابها الحقيقية، أما مأساة المرأة الأخلاقية فهذا هو المجال الذي لم يطرقه معظم الأدباء العرب المعاصرين.