عن تضامن المرأة العربية١
بعد كل هزيمة عربية أمام القوى الصهيونية المتصاعدة تبرز مشكلة التجزئة والانقسام بين أجزاء الوطن العربي كأحد الأسباب الرئيسية للهزيمة، وترتفع الأصوات منادية بالتضامن والوحدة العربية. ورغم أن المجتمع العربي نصفه من النساء، إلا أنه نادرًا ما تُدرس عَلاقة هذا النصف البشري الضخم بتحقيق الوحدة العربية أو التضامن العربي في مواجهة هذا الخطر، ولا تزال النساء العربيات متفرقات، لا تجمعهن حركة نسائية عربية موحدة، ولا تزال أغلبية النساء في مصر، وفي كل البلاد العربية، لا يُشاركن في العمل السياسي، وليس لهن دور في صنع القرار.
وقد برزت الحركة القومية العربية كحركة تقدمية تحارب الاستعمار الأجنبي وتستهدف الوحدة العربية سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، إلا أنها لا تزال في معظمها حركة رجال، تنعكس فيها بالضرورة العَلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في المجتمع العربي، ومن أبرزها عَلاقة الرجل بالمرأة، والتي هي في جوهرها، حتى اليوم، علاقة الوصيِّ بالقاصر، أو السيد بالتابع، رغم تغير أشكالها ودرجات السيطرة أو الخضوع داخلها، ولهذا السبب لم تتمكن المرأة العربية، بصفة عامة، أن تُشارك مشاركة فعلية، أو تقوم بدور الفاعل، أو دور الإنسان المتكامل القادر على المبادرة والفعل، ليس مجرد الشيء الذي يتلقى الفعل ويستجيب له، وفي كثير من الأحيان يعجز حتى عن الاستجابة أو القيام بردود الفعل. لم تتمكن المرأة العربية من القيام بدَور إيجابي في الحركة القومية العربية، وظل دورها سلبيًّا هامشيًّا، قد يزيد أو ينقص، حسب مقتضيات الظروف والأزمات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، وقد يتغير شكل الدور والوظائف التي توكل إليها، إلا أن جوهر عَلاقتها بالحركة أو عَلاقتها بالرجل داخل الحركة وداخل البيت وفي المجتمع الكبير، تظل محتفظةً بالطابَع الأساسي لها، وهي عَلاقة السيد بالتابع، وعَلاقة القائد بالمقود، وعلاقة الفاعل بالمفعول به.
وهذا القول لا يخص الحركة القومية العربية وحدها، ولكنه يسري بدرجات متفاوتة على معظم الحركات والأحزاب السياسية، بما فيها الأحزاب الاشتراكية التقدمية والأحزاب الشيوعية، فهي رغم مضامينها الثورية من حيث القضاء على الاستعمار الخارجي والداخلي، ومحاربة كافة أنواع الاستغلال، سواء كان استغلال أمة لأمة، أو طبقة لطبقة، أو إنسان لإنسان، إلا أن استغلال الرجل للمرأة (لم تصبح المرأة بعدُ إنسانًا) ظل بعيدًا عن الفكر والممارسة داخل ساحة النضال الأساسية.
إن ساحة النضال الأساسية، أو ساحة الصراع الأساسية، هي الساحة السياسية، التي لا يزال يعمل فيها الرجال وحدهم، بحكم قواهم السياسية المنظمة، وأحزابهم وحركاتهم الجماعية، التي حرَّمت على النساء أي حركة جماعية، وفرضت عليهن (عند الضرورة الملحة) دخولَ الساحة السياسية كأفراد متفرقات ضعيفات خاضعات، كل منهن محكومة داخل البيت برجل، ومحكومة خارج البيت برجل، ومحكومة داخل الحركة السياسية بقيادة من الرجال.
ويدلنا التاريخ على أن الأزمات الحادة، والتي هبَّت خلالها الحركات أو الانقلابات أو الثورات الشعبية في معظم البلاد العربية، قد دفعت الرجال إلى استخدام النساء في الثورة والنضال العسكري أو السياسي كأداة وقود للثورة، تموت أو تحترق أو تعيش، لكنها في النهاية، وبعد انتهاء الثورة، تعود إلى البيت أو الحقل أو المصنع أو المكتب، لتكون أداة من نوع آخر، وتقوم بوظائف متعددة، قد تتنوع حسب حاجة الرجل الاقتصادية أو الاجتماعية، لكنها رغم تعددها وتنوعها، فإنها لا بد وأن تشتمل على الوظيفة الأساسية النسائية، وهي خدمة الرجال في البيت، وخدمة الأسرة والأطفال.
لا شك أن الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية في بلادنا كانت لها سلبيات وإيجابيات، إلا أن من أهم إيجابياتها (بالإضافة إلى طرد المستعمر، أو التخلص من حكم مستغل فاسد) هو كسر المألوف، وخرق العادة، من أجل استخدام كل الإمكانيات البشرية والمادية الظاهرة والكامنة. وتمثل هذه الحالة فرصة نادرة أمام الفئات المقهورة من الشعب (ومنها النساء)، للخروج من القيد المفروض أيام السلم والهدوء واختفاء الأزمات والصراعات أو كمونها.
والمشكلة التي تواجه، على الدوام، مجموعة الرجال المسيطرين، أو الطبقات المسيطرة على الحكم المستتب، أو على الثورة غير المستتبة، هو أن حركة البشر داخل المجتمع، أو حركة التاريخ البشري، لا يمكن أن يحكمها أو يتحكم فيها فرد واحد، أو مجموعة من الأفراد، مهما احتكروا السلطة، لأنها حركة اجتماعية كبيرة، يُسهم فيها الأفراد والمجموعات والطبقات والفئات، بما فيهم من أسياد وعبيد ونساء وكبار وأطفال، وتلعب جميع العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، دورها الواضح أو غير الواضح.
وبسبب هذه المشكلة فإن فئات اجتماعية مقهورة، كالعبيد مثلًا، استطاعوا التحرر من حيث لم يرد لهم الأسياد إلا مزيدًا من الاستغلال والعبودية. وينطبق هذا القول على النساء.
إن الرجل أو الزوج مثلًا يدفع زوجته للعمل في مصنع ليخرج من أزمته الاقتصادية، وقد يخرج فعلًا من الأزمة عن طريق مساهمتها بأجرها، إلا أنه لا يضع في اعتباره أن هذه المرأة إنسان، وأن الإنسان حين يبدأ تذوق طعم بوادر الاستقلال، أو القدرة على المساهمة في مجال كان محرمًا عليه (المساهمة في الإنفاق في حالة المرأة)، فإنه يبدأ رفض العودة إلى حالته الأولى من الخضوع.
ويحدث هذا في الحركات السياسية والثورات. إن الرجال المسيطرين على الحركة السياسية يدفعون المرأة للعمل في الحركة أو في الثورة للخروج من أزمتهم السياسية أو العسكرية، وقد يخرجون فعلًا من الأزمة عن طريق مساهمة النساء وغيرهن من الطبقات الفقيرة الكادحة. إلا أن هؤلاء الرجال لا يضعون في اعتبارهم أن المرأة سوف ترفض العودة إلى الخضوع بعد أن تتذوق شيئًا من لذة المشاركة ولذة الفعل، وإن دفعت حياتها ثمنًا لذلك.
بسبب ذلك استطاعت المرأة، أثناء أي ثورة أو بعدها، أن تقاوم العودة إلى حالة الخضوع الأولى، واستطاعت رغم فشلها، بصفة عامة، أن تحقق بعض النجاحات الصغيرة، وتكتسب لنفسها مواقع جديدة في المجتمع والبيت، وتستجمع قواها، وتنظم صفوفها من أجل استكمال تحريرها، حدث ذلك في مصر أعقاب ثورة ١٩١٩م، وكوَّنت المرأة المصرية الاتحاد النسائي المصري سنة ١٩٢٣م، وحدث في الجزائر بعد الثورة الجزائرية، وحدث في معظم البلاد العربية في أعقاب الحركات أو الانقلابات أو الثورات. وحدث في الثورات في البلاد الأخرى. وكان من الطبيعي أن تنعكس على هذه التنظيمات النسائية القوى الاجتماعية السائدة في المجتمع، ولهذا تكوَّنت هذه التنظيمات بعد ثورة ١٩١٩م من زوجات الباشاوات والحكام الجدد ونساء الطبقات والفئات التي تسيطر على السياسة والاقتصاد. وبعد حركة الجيش أو ثورة يوليو ١٩٥٢م، حلَّت زوجات العسكريين محل الأخريات.
لدينا في معظم البلاد العربية النماذج نفسها من التنظيمات النسائية، ولا تزال هذه التنظيمات في مصر وفي البلاد العربية تلعب دور التابع للتنظيمات السياسية والسلطات الرسمية والتنفيذية، التي يُنظر إليها في معظم الأحوال كإدارات في وزارة الشئون الاجتماعية، يقتصر عملها على مجال الخدمة الاجتماعية التطوعية (بغير أجر)، وقد يُسمح لها بالمساهمة في العمل السياسي عن طريق تلقي الأوامر العليا والمساعدة في تنفيذها على المستويات الدنيا من النساء، وينطبق هذا القول على معظم النقابات العمالية والمهنية في الأنظمة العربية والمفتقدة للديمقراطية الحقيقية.
ولا يمكن أن نسلب المرأة العربية تاريخها الطويل للنضال ضد وضعها الأدنى في البيت والمجتمع، فقد قاومت وناضلت في السلم والحرب، وفي الأزمات والثورات. ولعل نجاحها اليوم في أن تفرض على الفكر العربي ضرورة مناقشة حركتها السياسية دليل على تصاعد القوى النسائية العربية على نحو مضطرد، إن المشكلة الأساسية هي أنَّ تصاعد القوى النسائية العربية لم تتم بالشكل الكافي أو بالسرعة الواجبة، أو أنه استطاع أن يفرض نفسه على الفكر العربي كمجرد فكرة تناقش، ولم يستطع أن يفرض نفسه كممارسة تأخذ دَورها الحقيقي في الممارسة السياسية، المشكلة الأساسية، في رأيي، هي ذلك التحريم المفروض على القوى النسائية، التحريم بأن تصبح قوى حقيقية قادرة على الفرض (أي قوى سياسية منظمة)، وأن تظل محكومة بالرجال، وأن تظل محصورة في مجال الخدمة الاجتماعية (بمثل ما حصرت المرأة الفرد في مجال الخدمة البيتية أو الأسرية). بسبب ذلك التحريم لم تستطع النساء أن يكن جماعة قوية متماسكة، لم يستطعن أن يتخذن قرارات جماعية لصالحهن، ولم يستطعن المشاركة في الحركات السياسية كحركة نسائية سياسية قادرة على الدخول في الصراعات السياسية وانتزاع حقوقها بقوتها وفعاليتها.
ظلت المرأة تدخل الحركات السياسية كأفراد متفرقات، وليس كجماعة قوية، ظلت أفراد النساء المنضمات إلى الحركات السياسية قليلة بالنسبة لأعداد النساء؛ ولهذا عجزت المرأة عن التأثير في أي حركة سياسية عربية، وأصابها ما يُصيب القلة من مشاكل نفسية واغتراب؛ ذلك أنها تدرك الانفصال الواضح بين الواقع المفروض عليها وبين الواقع الذي تَنشُده لنفسها. وهي تحس أن الحركة السياسية لا تعبر عنها ولا عن مشاكلها التي تحسها كل يوم في الأسرة والعمل والمجتمع، كما أنها تشعر أنها مسلوبة الحق في التعبير عن نفسها ومشاكلها، بحجة أن هناك مشاكل أهم؛ ولهذا تلوذ معظم النساء بالصمت أو الخجل عند الكلام، ولهذا أيضًا تُحجم معظم النساء الواعيات، أو الثوريات، عن الاشتراك أو الانضمام إلى الحركات السياسية الموجودة في الساحة، وينتهي بهن الأمر إلى الانعزال أو السلبية، وعدم إخصاب فكرهن الثوري بالممارسة العملية.
أما هؤلاء النساء اللائي ينضممن إلى الحركة السياسية ويصبحن فيها عضوات، فيجدن أنفسهن في مُناخ لا يستطعن معه إلا أن يعتنقن أفكار الرجال المسيطرين على الحركة، ويرددن آراءهم وشعاراتهم، وينكرن وجود ما يسمى بمشكلة المرأة، أو إذا تم الاعتراف بها في تُدرج ضمن المشاكل الثانوية غير الهامة، أو التي لم يَحنِ الوقت للتفكير فيها أو علاجها، أو أنها سوف تُحل تلقائيًّا بعد التخلص من الاستعمار القومي أو الاستغلال الطبقي أو الحكومة الراهنة.
السياسة تولدت في المجتمع البشري بسبب نشوء الصراع بين الأسياد والعبيد. فالسياسة محاولة للتغلب على هذه الصراعات التي تنشأ في المجتمع بين المقهورين والقاهرين، هذا التغلب الذي يتخذ أشكالًا متعددة، سلمية كانت أو حربية، وبسبب تحريم السياسة على النساء، فقد ظل الصراع الخاص بهن كامنًا غير معترف به، واحتكر الرجال السياسة، وبذلك لم تظهر في الساحة السياسية إلا صراعاتهم. وقد حُرمت السياسة أيضًا على العبيد، ولا تزال تُحرم السياسة بشكل أو بآخر على الطبقات المقهورة. لم يبرز الصراع الطبقي كصراعٍ سياسي إلا أخيرًا، وبعد أن تصاعدت القوى الاجتماعية المنظمة للعمال والفلاحين والطبقات المضطهدة. كذلك الصراع القومي أو الأممي، يظهر ويختفي حسب تصاعد قوى الأمم المقهورة في مواجهة الأمم القاهرة.
لم يحدث في التاريخ أن القاهرين قد أباحوا السياسة، أو منحوا الفئات المقهورة الحق في التنظيم السياسي القوي المتماسك، فمثل هذا الحق لا يُمنح أبدًا؛ لأن القهر قد وقع أصلًا بسبب استلاب ذلك الحق وتحريمه على المقهورين، وإلا فسوف يصعد المقهورون ليمثلوا قوة في الصراع السياسي.
لهذا السبب، تُرفض حتى اليوم فكرة إنشاء حركة نسائية في أي بلد عربي لها استقلالها ولها قوتها الذاتية النابعة من النساء أنفسهن. وتُساق مختلف الأسباب والحجج، منها أن الرجل والمرأة ليسا طرفَي صراع، وليس هناك صراع بين الرجل والمرأة، أو ليس هناك صراع جنسي، والرجل والمرأة شريكان في الأسرة والمجتمع وليس هناك قهر ولا اضطهاد، ولا استغلال للمرأة. إن تجاهل أو إنكار الصراع بين الرجل والمرأة نتيجة طبيعية لغياب النساء كقوة سياسية من ساحة الصراعات. وليس على المرأة أن تنتظر حتى يصرح لها الرجل بإنشاء حركتها السياسية. ومن الأسباب التي تساق أيضًا لرفض الفكرة أن النساء لسن طبقة، وبالتالي لا يحق لهن عمل حزب سياسي، فالحزب السياسي مباح فقط من أجل الصراع الطبقي، وكأنما الصراع الطبقي هو الصراع السياسي الوحيد. وفي أحسن الأحوال، وبعد الاقتناع العقلي بوجود الصراع الجنسي، يوافق الرجل على قيام حركة نسائية، ولكن بشرط ألا تكون حزبًا سياسيًّا، وإنما مجرد حركة شعبية نسائية اجتماعية، وبشرط ألا تتحول إلى حزب أو قوة سياسية تفرض الصراع الخاص بها كأحد الصراعات السياسية الهامة، أي أن تظل محصورة داخل المفهوم الاجتماعي.
إن الصراع السياسي الهام في نظر الحركة القومية العربية هو الصراع القومي، وفي نظر الحركة الاشتراكية العربية هو الصراع الطبقي. أما الصراع الجنسي، أو الصراع بين المرأة والرجل، فسوف يظل غائبًا ومحرمًا حضوره إلى أن تفرضه القوة النسائية السياسية. إن الصراع القومي العربي ظلَّ كامنًا أو غائبًا تُحرمه قوى الإقطاع والغزو الأجنبي والاستعمار إلى أن استطاع أن يظهر كقوة سياسية هي الحركة القومية العربية. كذلك ظل الصراع الطبقي كامنًا وغائبًا ومحرمًا حضوره أو حتى الحديث عنه إلى أن استطاع أن يظهر كقوة سياسية هي الحركة الاشتراكية العربية، وبالمثل سيظل الصراع الجنسي كامنًا وغائبًا ومحرمًا فكرًا وممارسة إلى أن يظهر كقوة سياسية هي الحركة النسائية العربية السياسية، والتي لا بد أن تبدأ داخل كل بلد عربي.
تتمثل تقدمية الدعوة لحركة نسائية عربية سياسية في أنها دعوة تفترضها الديمقراطية الحقيقية، وتفترضها القومية العربية الحقيقية، وتفترضها الاشتراكية الحقيقية؛ لأنها حركة تُمثل نصف المجتمع، وتُمثل أشد أنواع القهر الغامض والظاهر، وهو قهر الإنسان للإنسان، أو قهر الرجل للمرأة، وهي تُمثل أيضًا القهر الطبقي والفئوي والمهني، بحكم أن الأغلبية الساحقة من النساء في بلادنا فلاحات أو عاملات كادحات فقيرات، وهي تُمثل أيضًا القهر القومي، بحكم انتماء النساء العربيات للأمة العربية التي يقع عليها القهر القومي من جانب الرأسمالية والصهيونية العالمية. وهذه هي خطورة الحركة النسائية العربية، وهي خطورة تنبع من خطورة القهر الواقع عليها، القهر المتعدد الأبعاد الضارب بجذوره في التاريخ، والهابط في قاعه وأعماقه إلى البيت وحجرة النوم وجسد المرأة، والصاعد في شموله واتساعه ليشمل الأمم والقوميات والدول وأحلاف الدول في تصارعها من أجل القهر والاستغلال. بسبب هذه الخطورة يزداد الخطر والتحريم على قيام تلك الحركة، وتُبذل الجهود من كافة المستويات العليا والدنيا الداخلية والخارجية لقتل الحركة قبل ولادتها.
لا شك أن الحركة القومية العربية حركة تقدمية لكونها تناضل ضد مصالح الصهيونية والأممية الرأسمالية أو الإمبريالية العالمية (والمصالح المتعددة الجنسية، والتي أصبحت مسيطرة على السوق العالمية) إلا أن مجال نضالها هو الصراع القومي أساسًا، كذلك فإن الحركة الاشتراكية العربية حركة تقدمية لكونها تناضل ضد الرأسمالية العالمية وضد الإمبريالية وضد الاستغلال الطبقي في الداخل والخارج، إلا أن مجال نضالها هو الصراع الطبقي أساسًا، ولكن الحركة النسائية هي الحركة المؤهلة بطبيعة القهر المزدوج أو الثلاثي الواقع على النساء أن تكون أكثر تقدمية وأكثر ثورية، لأنها تدرك أن تحررها الحقيقي لن يتم إلا بتوجيه الضربات القاضية على القهر الجنسي والطبقي والأممي في آن واحد.
لقد أنشأت الأممية الرأسمالية الحديثة أشكالًا جديدة للاستغلال ونماذج جديدة من القهر الاقتصادي الدولي، وما يدعمه من قهر ثقافي ونفسي يتجاوز حدود الدول والأمم. وبالرغم من أن الرأسمالية الحديثة في حاجة إلى رفع شعار «الأممية» من أجل توسيع مصادر تمويلها المتعددة الجنسيات وتصريف بضائعها في السوق العالمي، إلا أنها تحارب بشدة أي دعوة للأممية أو القومية بين البلاد والأمم المقهورة (أي بلادنا وغيرها من بلاد العالم الثالث). إنها تريد الأممية الاستغلالية، أي أممية الدول الصناعية الكبرى، من أجل امتصاص واستغلال الأمم الأصغر، وأي دعوة أممية وقومية تصدر عن هذه البلاد الأصغر تعتبر انتهاكًا لحرمة القانون الاقتصادي الدولي، والذي تم فرضه بالطبع بقوة الدول الصناعية الكبرى، ومن أجل تسويق بضائعها في البلاد الأخرى الأصغر (والتي تخلفت بالضرورة بحكم الاستغلال الطويل)، وهي تنشر ثقافتها الرأسمالية على أنها ثقافة عالمية وتحاول إلغاء الثقافات المميزة لكل قومية وأمة بمثل ما حاولت إلغاء الحدود الاقتصادية، وتُغلف الرأسمالية دعوتها الأممية بالطابَع الإنساني ووحدة الثقافة ووحدة الأديان، إلا أن هذه الدعوة إلى الوحدة سرعان ما تنقلب إلى ضدها إذا ما وُوجِهت بدعوة الوحدة النابعة عن مقاومة القوميات الأخرى، كدعوة الوحدة العربية. وينتج عن ذلك تلك التناقضات التي نشهدها في بلادنا، والتي تشتد وطأتها على النساء العربيات، بحكم أنهن أضعف الفئات الشعبية سياسيًّا واجتماعيًّا، وعليهن يقع القهر الثلاثي المضاعف. أحد تلك التناقضات هو أن الإمبريالية العالمية تدعو إلى وحدة الأديان لخدمة مصالحها، ثم تشجع الانقسام الديني والطائفي من أجل أن تحارب الوحدة العربية أو أي وحدة أخرى بين الشعوب المقهورة. ومن هنا يصبح الدين سلاحًا خطيرًا في يد الرأسمالية العالمية وأعوانها من الأنظمة المحلية. وقد يبدو غريبًا لبعض الناس كيف تحارب الإمبريالية الدين في إيران ظاهريًّا، وكيف تشعله في لبنان (وجميع البلاد العربية) من أجل خلق النزاع وتفتيت الوحدة بين المسلمين والمسيحيين وغيرهم من أصحاب الأديان والمذاهب. الدين يحاربونه إذا كان عامل توحيد وثورة ضد مصالحهم، ويشجعونه إذا كان عامل تفرقة وتفتيت وحماية لمصالحهم. وهنا تكمن إحدى المشكلات الهامة والمعقدة الخاصة بمشكلة المرأة العربية.
إن النضال ضد الصهيونية والإمبريالية في الوطن العربي يُعبَّر عنه بالشعور القومي، وأحيانًا بالشعور الديني، أي بالإسلام. ويمكن للدين الإسلامي أن يلعب دَورًا توحيديًّا تقدميًّا في الحركة القومية العربية إذا ما ارتكز على مبادئه الأساسية من حيث العدالة والحرية والمساواة بين البشر بصرف النظر عن اللون أو الطبقة أو الجنس. ومن هنا يمكن للدين أن يحارب التفرقة بين الطوائف والطبقات وبين الجنسين، ويلعب دورًا في التقدم. لكن المشكلة أن الدين لا يُؤخذ بواسطة المسيطرين (العالميين والمحليين) كمبادئ للعدالة والحرية، وإنما كنصوص ثابتة يختارون منها ما يناسب مصالحهم وينمِّقون من تفسيراتها ما يدعم استغلالهم. ولهذا يُقهر بالدين الفقراء والأُجراء والنساء. وقد صعدت قوى الفقراء والأُجراء كقوى عمالية سياسية بدأت تنتزع حقوقها وتكشف عن تلك الازدواجية في استخدام الدين، الاستخدام الرجعي والاستخدام التقدمي. ولأن المرأة هي الجنس المقهور بالدين أو بالاستخدام الرجعي للدين، فإن أي قوة سياسية نسائية ستكون بالضرورة قوة اجتماعية تقدُّمية تسعى مع القوى السياسية الأخرى الداعية إلى الاستخدام التقدمي للدين. ولن تقع الحركة النسائية العربية في تلك المصيدة التي تدفعها إليها الإمبريالية العالمية وأعوانها من الأنظمة المحلية، وهي الانجرار إلى معركة ضد الدين، وكأنما هو «العدو» وليس الإمبريالية وأعوانها المحليين، إلا أن الحركة النسائية ستكون أكثر «وعيًا» بحكم استفادتها من تجارب الحركات التقدمية السابقة، ستكون حركة نسائية جماهيرية تستمد فكرها وممارستها من «جماهير النساء»، وليس من مجموعة أفراد منعزلة داخل الأفكار النظرية. وعلى هذا النحو تصبح الحركة النسائية العربية في حمى من أن تسقط في تلك المصيدة التي سقط فيها غيرها، الذين بدءوا نشاطهم بإعلان الحرب ضد الدين، وبذلك نجا من ضرباتهم الأعداء الرئيسيون.
إن الدين جزء من المجتمع، وهو نتاج من نتاجات المجتمع البشري فكرًا وممارسة، وهو نتيجة لتفاعل عوامل اجتماعية متعددة، وله أثر على العقل الواعي والباطن للمجتمع والإنسان، لكنه ليس السبب التاريخي الأول الذي جعل جنس «الرجل» يسيطر على جنس النساء.
ما هو السبب التاريخي الأول الذي جعل من الرجل مسيطرًا على المرأة؟ للإجابة على هذا السؤال ستجد الحركة النسائية نفسها أمام مهمة جديدة لكنها ضرورية لمعرفة الأسباب الحقيقية التي دعت إلى قهر المرأة في تاريخ المجتمع البشري بصفة عامة، وفي تاريخ المجتمع العربي بصفة خاصة. إن الخطأ في تشخيص أسباب المرض يقود إلى الخطأ في علاجه، كذلك فإن الخطأ في تشخيص أسباب مشكلة المرأة العربية يقود إلى الخطأ في طريقة أو طرق حلها؛ ولهذا لا بدَّ للمرأة العربية أن تعيد قراءة التاريخ وأن تعيد فَهمه وإدراك خفاياه.
إن مشكلة التاريخ، أو علم التاريخ، أنه لم يكن أبدًا علمًا حياديًّا أو موضوعيًّا، ولهذا عبَّر التاريخ عن وجهة نظر ومصالح القوى السياسية المسيطرة، ولهذا أيضًا يتغير التاريخ من عهد إلى عهد، ونلاحظ دائمًا أن كل حركة سياسية برزت على السطح حاولت إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظرها ليخدم مصالحها.
إن الحركة القومية العربية مثلًا تعيد قراءة التاريخ العربي لتستمد منه الحقائق التي تكشف عن جذور القومية العربية وما زُيف منها لإضعاف القومية العربية. تبحث الحركة القومية العربية في التاريخ عما يقويها وينشطها ويجددها ويدفعها إلى الأمام لا إلى الوراء. إن إعادة قراءة التاريخ القومي تكشف عن أن القومية العربية لها قدم راسخة في التاريخ، وأن نشوءها يختلف عن نشوء القوميات الأوروبية أو القوميات الرأسمالية، فهي قومية نضالية تقدمية، لم تنشأ عن طريق الإنتاج الرأسمالي، وإنما لمواجهة الغزو الأجنبي والاستغلال القومي على مدى التاريخ ومنذ أربعة عشر قرنًا، وهي ليست قومية مصالح اقتصادية احتكارية واستغلالية ولكنها حركة أمة عربية، يجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والحضارة والمستقبل والمصير المشترك.
وكذلك الحركة الاشتراكية في كل بلد عربي. حاولت أيضًا إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظرها على أساس أن حركة التاريخ تعود إلى عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وأن الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة المصالح تعيش صراعًا يتمثل في الصراع الطبقي بين طبقة ملاك الأرض (أو الإقطاعيين) وطبقة الفلاحين، وبين من يملكون وسائل الإنتاج الصناعي (الرأسمالية) وبين العمال، وحاول بعض الاشتراكيين العرب إعادة دراسة الحضارة العربية على أساس هذه النظرة. وشهدنا بعض الدراسات التي تناولت الدين الإسلامي بإعادة القراءة وإعادة التفسير، واتضح ما سُمي باليمين واليسار في الإسلام، وقدم أبو ذر الغفاري، الذي بدأ مقاومة خلفاء «محمد» وأعوانهم ممن مالوا إلى تكنيز الذهب والفضة على حساب معاناة وفقر الأغلبية من الشعب، كما اتضح أيضًا استمرارية هذا التيار التقدمي النضالي على مر العصور الإسلامية، وظهرت حركات كالمعتزلة والقرامطة وغيرهما ممن تابعوا المسيرة حتى عصرنا الحديث.
إن نضال المرأة العربية قديم وطويل امتد في كل العصور، يزيد أو يضعف حسب ازدهار الشعب العربي أو خموله، ولم يقتصر صراع ونضال المرأة العربية على الصراع الجنسي والنضال ضد سيطرة الرجل، لكنه كان يشمل دائمًا الصراع ضد أنواع القهر الأخرى للقومية أو الطبقية، واشتركت المرأة العربية في النضال السياسي وفي الحرب، وفي الاقتصاد وفي العلم والأدب، حملت المرأة سيفها وحاربت مع العبيد والأُجراء من أجل التحرير ومن أجل كسر شوكة المستغلين في الداخل أو طرد الغزاة الأجانب.
وكان للمرأة العربية أيضًا فترات ركود وخمول في ظل ألوان أشد من القهر.
إن المرأة العربية الحديثة لن تملك شخصيتها الإنسانية العربية الأصلية المستقلة والواعية إلا بانسجام حركتها اليوم مع تاريخ نضال المرأة العربية، وتاريخ نضال الفئات المقهورة من الشعب العربي كله. وعلى هذا النحو تصبح الحركة النسائية حركة مستمرة في الماضي والحاضر والمستقبل، وتصبح إضافة للنضال الاجتماعي والسياسي والثقافي العربي على مر العصور، وتضيف إلى الفكر الإنساني والفكر العربي من فكرها وعقلها وتحليلها ونقدها، ذلك النقد الذي يجعل لها دورًا إيجابيًّا في التاريخ، فهي لا تتلقى التاريخ على نحوٍ سلبي، ولكنها تفعل التاريخ أو تشترك في فعله، وتتمثل الإضافة التي يمكن أن تُحدثها المرأة العربية في التاريخ في أنها ستكشف عن الأسباب الحقيقية وجذور نشأة القهر الجنسي والطبقي والقومي، وستكشف عن الجهود التي بذلتها النساء العربيات ثم طمسها التاريخ أو تجاهلها. وهي من خلال كل ذلك سوف تكتسب تلك القدرة النقدية الفاعلة بالتاريخ وليس المفعول بها، تلك القدرة النقدية التي تحميها من السقوط في متاهات الفخر الذكوري والتباهي الأعمى بماضٍ عظيمٍ زاهرٍ خالٍ من الشوائب، أو نقيض ذلك، وهو التخاذل والخزي الأعمى من ماضٍ مظلمٍ مختلفٍ خالٍ من الإيجابيات. إن إعادة صياغة التراث والحضارة العربية من وجهة نظر نصف المجتمع (النساء)، ومن كافة القوى الشعبية العربية التي قُهرت طويلًا أمر ضروري وحيوي، من أجل أن يصبح هذا التراث فكرًا وممارسة لصالح هذه القطاعات العريضة من الشعب العربي، ومن أجل أن يصبح العلم والعقل (لا الخرافة والأساطير) هي أساس الجدل والنقاش والفكر والعمل.
إن التفكير العلمي والعقلي له جذور ممتدة في التاريخ العربي القديم وليس هو بدعة نأخذها عن الغرب، بل إن الفلسفة المادية ذاتها عرفها وكتب عنها مفكرون فلاسفة عرب، كابن خلدون وابن رشد وابن سينا والرازي. إن الفكر العربي لم يكن كله فكرًا مثاليًّا، ولم يكن كله فكرًا غيبيًّا، لكن كان هناك العلماء العرب الذين رأَوا أن حركة التاريخ لا تحدث لسبب غيبي أو بقوة غامضة خارج الكون والمجتمع، ولكنها تنبع من المجتمع وتتحرك بفعل العوامل الاجتماعية بشتى أنواعها وأشكالها وصراعاتها، وأن الفقر والغنى ليست قوانين إلهية، ولكنها قوانين تنتج عن تحكم الأقلية التي تملك المال والأرض في الأكثرية التي يُفرض عليها الفقر. وأن سيطرة الرجل على المرأة ليست قانونًا إلهيًّا ولكنها قانون اجتماعي نتج عن امتلاك الرجل للأرض والعبيد والنساء وتدعيم ذلك بالفاميليات، وهي تعني في أصل معناها اللغوي ما يملكه الرجل من بقر وعبيد ونساء. وكانت الفلسفات المواكبة لتلك العصور تنكر على العبيد والنساء حق الحرية والمساواة بالأسياد والرجال والملاك.
إن إعادة تاريخنا واكتشاف الإيجابيات فيه لا يعني عدم إخصابه بإيجابيات الفكر في بلاد أخرى، ولا يعني إهمال جهود المفكرين من الرجال والنساء في مختلف الأزمة والأمكنة في العالم البشري، هؤلاء الذين لعبوا دَورًا هامًّا في تطور الفكر الإنساني التقدمي في مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية. وبالمثل أيضًا علينا أن نتتبع بالدراسة والفهم والنقد تجارب الحركات السياسية الأخرى في بلاد العالم، وبذلك نكون على دراية بما يحدث في التطور الفكري النظري والتجريبي في مختلف أنحاء العالم.
وهذا أمر هام يخص الحركة النسائية العربية أيضًا؛ لأن العالم في بلاد متعددة وخاصة في البلاد الرأسمالية الغربية قد أصبح يشهد ويتابع عددًا من الحركات النسائية التي أصبح لها صوت مسموع، ودراسات نظرية متعددة المذاهب، وممارسة عملية لأكثر من عشرين عامًا تحتاج منا إلى الفهم والدراسة، والدراسة هنا لا تعني التلقي السلبي، ولكنها تعني الفهم الذي يأخذ ويعطي في كلا الجانبين النظري والعلمي، وعلى هذا النحو يمكن للحركة النسائية العربية أن تعمل على إخصاب فكرها وممارساتها بالتفاعل مع أفكار وممارسات أخرى.
وبالرغم من أن بعض هذه الحركات النسائية تسقط في مصيدة الفكر الرأسمالي وتجعل الرجل (كرجل) هو عدوها الأساسي، وتعمل على الاستغناء عنه اجتماعيًّا وجنسيًّا أيضًا، إلا أن هناك حركات نسائية اشتراكية تقدمية تفهم القضية فهمًا أعمق وأنضج ولا تُصيبها ردود الفعل المتعصبة العنيفة التي تُصيب غيرها من الحركات النسائية.
من أهم ما يحمي الحركة النسائية العربية من المبالغة أو التعصب الأعمى (ضد الرجل أو ضد الدين) أو انعزالها أو انقسامها وانشغالها بالأمور النظرية البحتة والجدل البعيد عن الواقع الحي هو ارتباطها الدائم بالواقع الحي الذي تعيشه أغلبية النساء. بعبارة أخرى أن تبدأ الحركة النسائية العربية بداية ديمقراطية، وأن تنمو وتعيش وتتطور من خلال الديمقراطية. وعلى الحركة النسائية أن تستفيد من أخطاء وتجارب الأحزاب والحركات الأخرى التي غابت عنها الديمقراطية فانعزلت عن جماهيرها، وأصبح من السهل على السلطات الحاكمة أن تبطش بها أو تقضيَ عليها جزئيًّا أو كليًّا.
إن معنى الديمقراطية الحقيقي هو ألا ينقسم الناس إلى نوعين: قيادات وقواعد، كما هو متبع دائمًا في الحركات السياسية والأحزاب. الديمقراطية معناها أن يشعر كل فرد في مجموعة ما أنه يشترك في التفكير والتخطيط ووضع القرارات، لا أن الآخرين (القيادة) هم الذين يفكرون له ويخططون ويصنعون القرارات، وعليه هو التنفيذ. ولعل أصعب الأمور أمام الحركة النسائية العربية هو تحقيق هذا النوع الحقيقي من الديمقراطية. والمشكلة ليست مجرد الأمية أو الجهل أو الفقر أو الإرهاب الذي تعانيه الأغلبية الساحقة من النساء العربيات، بل هي الأمية السياسية، والأمية النفسية، التي تعيشها هؤلاء النساء، والتي لا يعالجهما التعليم في المدارس أو الجامعات، فالتعليم في بلادنا ليس تعليمًا تنويريًّا تثقيفيًّا، ولكنه تعليم تأهيلي لمهن ووظائف محددة، بالإضافة إلى أن علم السياسة وعلم النفس قد عانيا من المفهوم العبودي، الذي عانت منه الفلسفات والأديان وسائر العلوم والفنون في العصور التالية للعصر العبودي وحتى عصرنا الحديث.
إن عصرنا الحديث ما زال في جوهره عصرًا عبوديًّا. «الأسياد الملاك» هو «الطبقة الرأسمالية العالمية»، وأعوانهم المحليون والعبيد هو الطبقات الكادحة في «العالم الثالث». وعلى ذلك تصبح النساء العربيات الفلاحات والبدويات والعاملات الفقيرات هن «عبيد العبيد» أو «القاع الأدنى» في المجتمع البشري. لكن هذه «المعاناة» ذاتها هي التي تُشعل فيهن «شرارة الثورة»، وبشرط أن تخرج هذه «المعاناة» من ظلام العقل الباطن إلى نور العقل الواعي.
إن ديمقراطية الحركة النسائية العربية ترتبط بهذه العملية ارتباطًا وثيقًا، عملية تحويل المعاناة والآلام التي تعيشها المرأة إلى «وعي». وهي ليست عملية سهلة بحال من الأحوال. إن القرون الطويلة من المعاناة أو القهر تُغير الإنسان رجلًا كان أو امرأة. إن العبودية الطويلة تُشوِّه طبيعة الإنسان وتُغيرها، يصبح الإنسان ضعيفًا وجبانًا بعد أن كان قويًّا وشجاعًا. ويُصبح القهر جزءًا من التكوين النفسي والعقلي والجسدي للعبد، يعيش العبد القهر ويتمثله ويستعذبه، كنوع من الدفاع عن النفس ضد الألم؛ لهذا السبب تحوَّلت المرأة من «مقهورة» (بالرجل أو الآخرين) إلى «قاهرة» لنفسها، تحولت إلى نفسية مشوهة مريضة «ماسوشية» تستعذب الألم، وتفضل الرجل القاسي «الحمش» الذي يقهرها على الرجل الإنسان «الرقيق» الذي يُعاملها بالمثل. وتصوَّرت المرأة أن سعادتها تكمُن في خضوعها للرجل. وهذا هو «الوعي المزيف» الذي تعيشه النساء، والذي يعيشه أي إنسان مستعبد. هذا الوعي المزيف الذي يُصوِّر للعبد أنه حر وأنه سعيد، أو أن سيده الذي يقهره ليس مخطئًا وليس هناك من أسباب للتمرد عليه أو الثورة ضده.
إن «ديمقراطية» الحركة النسائية تعتمد أساسًا على تحرير عقول النساء من ذلك الوعي المزيف، وتحرير «طبيعة» المرأة من ذلك «التشويه» الذي حدث لها عقلًا ونفسًا وجسدًا. ومن هنا تختلف الحركة النسائية عن غيرها من الحركات السياسية العربية التقدمية، كالحركة القومية العربية، أو الحركة الاشتراكية؛ ذلك أنها لا تَنشُد فقط «الثورة السياسية» للقضاء على الاستغلال الخارجي والداخلي، أو «الثورة الاقتصادية والاجتماعية» لتغيير أسس العَلاقات الاجتماعية في العمل والإنتاج وقوانين المؤسسات العامة والخاصة والزواج والأسرة، ولكنها إلى جانب كل ذلك تنشد «الثورة النفسية» و«العقلية» لتحرير عقل المرأة ونفسها من مجموعة الصفات والقيم والوظائف، التي سُميت على توالي العصور باسم «الطبيعة الأنثوية».
وقد يكون ذلك هو أهم خصوصيات الحركة النسائية العربية، أهم أسباب قيامها كحركة مستقلة عن الحركات الأخرى، إن الحركة القومية العربية أو الحركة الاشتراكية العربية لا يمكن لها أن تُدرك معنى النضال ضد مجموعة القيم والصفات والوظائف التي أُطلق عليها اسم «طبيعة المرأة». إن هذا التشويه الاجتماعي والنفسي العميق الذي حدث للمرأة منذ نشوء النظام الطبقي والأبوي وعلى مدى القرون والذي أنتج تلك الطبيعة المزيفة للمرأة أمر بالغ الدقة والصعوبة، لم يكشف عنه في عصرنا الحديث إلا المرأة، ولن يستطيع النضال ضده إلا المرأة. ما هو مطلوب وضروري هو أن تُحرر المرأة «نفسها» من «نفسها المزيفة» التي فرضت عليها. إن هذا الجهد لا بدَّ أن تبذله المرأة كفرد أو كشخص، وليس هناك من شخص آخر يمكن أن ينوب عنها في هذا العمل، ورغم صعوبة هذا «التحرر النفسي الفردي» للمرأة، إلا أنه «ضروري» لقيام واستمرار الحركة النسائية العربية، وبالرغم أيضًا من أنه عمل فردي ذاتي يخصُّ المرأة وحدها، إلا أن نجاحه يعتمد على وجود حركة نسائية «جماعية» تُشجع كل امرأة على تحرير نفسها، وعلى الإحساس بأنها ليست وحدها، وأن هناك الكثيرات مثلها.
إن الثورات الجماعية الحقيقية، هي الحركة التي يقوم بها أفراد استطاعوا أن يحققوا الثورة الفردية في حياتهم الخاصة والعامة، وإلا فكيف يمكن أن تقوم الثورة الجماعية؟ إن هذا المفهوم «البديهي» للثورة طُمس أو تراجع إلى الوراء أمام الحركات السياسية التي تعجلت الثورة، أو اختارت أسهل الطرق إليها، وهو طريق استخدام السلطة، والسلطة هنا لا يقتصر مفهومها على الاستيلاء على الحكم والجيش والبوليس والإذاعة والصحف، لكن السلطة هنا تشمل أيضًا «احتكار القيادة» داخل أي حزب أو حركة سياسية، واحتكار القيادة هنا يعني أن أقلية من الرجال يحتكرون التفكير والتوجيه والخبرة والعلم، ويُطلقون على أنفسهم اسم «القادة»، ويُطلقون على الآخرين اسم «القواعد» أو «الجماهير»، وبالرغم من أن الثورة الحقيقية هي التي تقوم بها الجماهير عن وعي وإدراك «واعٍ» لأهدافهم ومصالحهم، إلا أن معظم الثورات، أو ما سُميت بالثورات، في بلادنا العربية، لم تكن حركة جماهير، وإنما كانت حركة «مجموعة» من الرجال، أو القيادات، من مختلف الاتجاهات والأهداف. إن هؤلاء القادة أو الزعماء (كما يسمون أنفسهم) لم يحتكروا القيادة والتوجيه والتفكير والخبرة في أي حركة من حركاتهم السياسية، ولكنهم احتكروا الثورة أيضًا، فالثورة هي حركتهم «هم»، وإن كانوا قلة، أو مجموعة أفراد، أو حتى «فردًا» واحدًا يستولي على السلطة. وعلى هذا النحو، تكاثرت الثورات العربية في بلادنا، ثورة وراء ثورة، وثورة «تُصحح» الثورة السابقة عليها. واختلط الأمر، فلم نعد نعرف الثورة الصحيحة من الثورة الخاطئة، أو المخطئة. إنها ليست إلا مبارزة بين قلة من القيادات والزعامات، ذات المذاهب والمصالح المختلفة. أما الجماهير العربية، رجالًا ونساءً، فهي غائبة عن المسرح غيابًا كاملًا، بالفكر والجسم معًا. ولأنهم «قلة» احتكروا الثورة، فقد «حرَّموا» الثورة على «الأغلبية» من الناس. ولأنهم «مجموعة رجال»، فقد «حرَّموا» الثورة على «النساء» ﮐ «مجموعات» أو حتى ﮐ «أفراد». إن «الثورة الفردية»، في نظرهم، نوع من «الانحراف»، خاصة إذا قامت بها امرأة. إن المرأة التي تُناضل للتخلص من زوجها أو أبيها أو أخيها المُستبد، امرأة لا تعرف «الطريق الصحيح للنضال». إنها امرأة فاقدة «للوعي السياسي الصحيح»، وهي امرأة ذاتية، منشغلة بمشكلتها «الخاصة» عن المشكلات العامة.
إن هذا الفصل التعسفي الصناعي بين الخاص والعام، ليس إلا نوعًا من الجهل، أو التجهيل، بمشاكل الجماهير اليومية الملحة، ومن ثم إبعادها عن الثورة، أما «الوعي السياسي المألوف» فهو في حقيقة الأمر ليس إلا «وعيًا مزيفًا» بالسياسة، وما هي السياسة؟ وما هي الثورة؟ وما هو الوعي السياسي الصحيح أو الوعي الثوري؟
إنهم يتصورون أن «الوعي الثوري» «حقنة» من الكلمات الثورية تُحقن بها الجماهير، عن طريق جرعات من الخطب الحماسية، أو «كبسولات» مضغوطة من المحاضرات أو الكتب المنشورة. يتصوَّرون أن جماهير الرجال والنساء سوف يُصابون «بالحمى» أثر تلك الجرعات، ويهبون ثائرين تحت قيادتهم العظيمة، وتحدث «الثورة» المجيدة، في صباح يوم تاريخي، في شهر مبارك. وكم شهدنا، في بلادنا العربية، تلك الأيام التاريخية المباركة العظيمة، إلا أن الذي «لم» نشهده أبدًا هو «تغير» حالة الفقر والجهل والمرض (التي تعيشها جماهير الرجال والنساء والأطفال، في معظم البلاد العربية)، بالدرجة الواجبة والمناسبة، ربما يكون من الإنصاف أن تقول إن بعض تلك الأيام المباركة المجيدة، في بعض البلاد العربية قد غيَّرت، بعض الشيء، من حياة الجماهير، وخففت عنهم بعض «المعاناة الاقتصادية»، وخاصة في البلاد التي سعت جاهدة نحو «الاشتراكية»، وأن أوضاع بعض فئات النساء تغيرت بتغير النظام الاقتصادي والاجتماعي، إلا أن خضوع المرأة للرجل في الأسرة والمجتمع ظل «جاثمًا» بشبحه القاتم العتيق المترسب في وجدان الأمة العربية وثقافتها السائدة.
وتكمن المشكلة في رأيي في ذلك المفهوم الخاطئ «للثورة» و«القيادة»، فالقيادة الحقيقية ليست «احتكارًا» وليست عشقًا أبديًّا للوضع الأعلى، فوق الآخرين، وهذه مشكلة تخص «الرجل» أكثر من المرأة، وعلى الرجل أن يُحرر نفسه من عشقه للسلطة (في البيت وفي المجتمع)، وأن يتخلص من ذلك المفهوم الخاطئ ﻟ «الرجولة»، الذي ورثه على مدى القرون. ذلك المفهوم الذي يُصوِّر الرجولة على أنها «السيادة» و«السيطرة» على الآخرين، وخاصة «النساء» والطبقات الأدنى.
أما «الثورة» فهي ليست مجرد تغيير في النظام الاقتصادي والاجتماعي، بل هي إلى جانب ذلك تغيير في الفكر والثقافة، ونقل «حضارة» المجتمع العربي من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، أكثر عدالة وإنسانية. الثورة هي إحداث تيار جديد في العقل «الواعي» و«غير الواعي» للأمة العربية، رجالًا ونساءً وأطفالًا، الثورة هي أن يتحرر الفرد، كما يتحرر المجموع. وأن يتحرر العقل والوجدان والشعور بمثل ما يتحرر النظام الاقتصادي والاجتماعي، وأن يتحرر الرجل بمثل ما تتحرر المرأة، وأن يتحرر الطفل بمثل ما يتحرر الأب والأم. هذه الثورة التي يشترك فيها الجميع على قدم المساواة، ويلعب فيها كل فرد «دور الشريك» وليس دور «التابع».
لقد نشأت هذه القيود مع نشوء «الأسرة الأبوية» التي أعطت الأب، ومن بعده الزوج، حق السيطرة على المرأة، وحق تأديبها إذا ما امتنعت عن طاعته. وقد ارتبط ظهور الأسرة الأبوية، أو النظام الأبوي في التاريخ بظهور «الملكية الخاصة»، ونشوء طبقة العبيد والأجراء، ونشأت «الفاميليا»، وقد تغير شكل هذه «الفاميليا» وحجمها على مر العصور، من العصر العبودي، إلى الإقطاعي، إلى الرأسمالي، إلى الاشتراكي، إلا أنها حتى اليوم، وفي البلاد الاشتراكية المتقدمة ذاتها، لا تزال «الأسرة» التي يُسيطر فيها الرجل، ويحتكر نسب الأطفال إليه وحده دون المرأة. لقد قضت معظم البلاد الاشتراكية على النظام الطبقي بدرجات متفاوتة، إلا أن «النظام الأبوي» لا زال هو النظام السائد في معظم تلك البلاد، ولا تزال المرأة والأطفال ملكًا للرجل، لقد قضت بعض البلاد الاشتراكية على الملكية الخاصة للأرض أو العقار أو وسائل الإنتاج أو رأس المال، إلا أن ملكية الرجل الخاصة للمرأة والأطفال لا تزال موجودة في معظم هذه المجتمعات حتى اليوم، أما في البلاد الرأسمالية، فإن «الملكية» لأي شيء، بما فيها المرأة والطفل، لا تزال هي السائدة، بحكم استمرار النظام «الطبقي الأبوي». وفي حالة بلادنا العربية، حيث تتداخل المفاهيم القبلية، مع الإقطاعية مع الرأسمالية مع الاشتراكية بدرجات متفاوتة، فإن وضع المرأة العربية في الأسرة لا زال «الوضع الأدنى»، ولا زال الرجل هو من يملك الهجر أو الضرب أو الطلاق. وأحيانًا يحق للرجل أن يقتل ابنته أو زوجته أو أخته، دفاعًا عن «الشرف»، ويصبح في نظر العرف والقانون رجلًا «كامل الرجولة»، يؤدي واجبه المقدس، من أجل الحفاظ على شرفه. إن القانون المصري حتى اليوم لا يعتبر قتل المرأة بسبب الشرف جريمة كغيرها من جرائم القتل، والتي تستوجب إعدام القاتل، بل يُخفف الحكم إلى سجن، طويل أو قصير الأمد، حسب شفقة القاضي على الرجل المسكين الذي سُلب شرفه.
والشرف هنا هو «شرف الرجل»، أما المرأة فهي «موضوع الشرف»، وليست «صاحبة الشرف». المرأة ليست «إنسانًا» يمتلك الشرف، ولكنها «الشيء» الذي يُمكن أن يجلب «العار». ومن هنا تتولد بعض مظاهر «الازدواجية» الأخلاقية والاجتماعية والقانونية، السائدة في بلادنا العربية. فالشرف في يد الرجل وحده، وملكية الشرف المطلقة تعطي الرجل القوة والحق على من لا يملك هذا الشرف، وهي المرأة، لكن المرأة «مسئولة» وحدها عن هذا الشرف «مسئولية مطلقة».
وقد نشأت الازدواجية بسبب ذلك الانفصال بين «الملكية» وبين «المسئولية»، أو الانفصال بين «القوة» و«المسئولية». فالرجل له القوة النابعة من الامتلاك (امتلاك الشرف أو المال أو الحكم أو الدين أو العلم)، لكنه «غير مسئول»؛ لأن «المسئولية» تقع على كاهل «غيره» (المرأة أو الأجراء أو الشعب)، ونتج عن ذلك أن الحاكم عندنا لا يُحاسب على أخطائه، ونتج أيضًا أن الرجل قد يُعاشر في السر أو العلن عددًا من النساء، ومع ذلك يظل شريفًا، أما المرأة فهي وحدها «المسئولة» وعليها يقع العقاب وحدها. إن «الفاعل» لا يُعاقب، لكن «المفعول به» هو الذي يُعاقب. هذا هو جوهر «الظلم» و«القهر»، الذي نشأ في الحياة الإنسانية، منذ نشوء النظام الطبقي. انفصال «القوة» عن «المسئولية»، وتحويل المرأة إلى «شيء» أو «أداة» تتحمل عن الفاعل الإثم والعقاب، كما تحملت «حواء» عن آدم الذنب والخطيئة، فلسفة عقاب الضحية هي فلسفة العبودية.
من أهم مجالات النضال أمام الحركة النسائية العربية، شق الطريق أمام المرأة في بلادنا لتتحول من «شيء» إلى «إنسان»، أو من «موضوع» إلى «ذات»، لها كافة حقوق الذات الإنسانية، وأولها حق «الفعل». ومعنى ذلك أن تتحول المرأة من «مفعول به» إلى فاعل، وكلمة «فاعل» ليست مفرد «فعَلة»، أو الأُجراء العبيد، الخاضعين للسخرية والعمل المضني بغير أجر، أو بأقل أجر ممكن (كما هو حال أغلبية النساء الكادحات في البيوت والحقول والبادية، دون التمتع بمردود أو حقوق ذلك العمل، سواء كانت حقوقًا اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية)، لكن كلمة «فاعل» هنا تعني «الإنسان الذي يحق له الفعل»، و«يختار» ما يفعله، ويتحمل «مسئوليته» و«يجني ثماره» أو «يجني مرارته وعقابه».
على الحركة النسائية أن تدرك هذا المفهوم للفعل أو «العمل»، حين ترفع شعار «عمل المرأة»، أو المطالبة بحق المرأة في «الخروج من بيتها للعمل». إن مثل هذا الشعار قد يكون «مضللًا» عن حقيقة هامة، هي أن الأغلبية الساحقة من النساء في بلادنا يخرجن من بيوتهن «كل يوم» للعمل في الحقول «دون» أن يُعتبر ذلك «عملًا»، ودون أن يتقاضين «أجرًا». كذلك أيضًا أن أغلبية النساء في البيوت يعملن «عملًا» متواصلًا في «خدمة» الأسرة والأطفال «دون أجر»، ودون أن يُعتبر ذلك «عملًا»، كذلك أيضًا قطاع خدمات البيوت، وسائر البنات والنساء اللائي يشتغلن في البحر أو البادية أو المتاجر لحساب الزوج أو الأسرة. إلى جانب كل ذلك، فإن رفع شعار خروج المرأة للعمل في ظل نظام لم تتحرر فيه المرأة من كونها «شيئًا مملوكًا» للرجل، سوف يقود بالضرورة إلى أن يتضاعف الاستغلال الواقع عليها، وبدلًا من أن تكون «أداة» للعمل «داخل» البيت فحسب، تصبح بالإضافة إلى ذلك «أداة» للعمل خارج البيت، ولحساب زوجها أو رجال الأسرة. وهذا هو ما حدث بالنسبة لمعظم النساء المتعلمات والمهنيات، من الطبقات المتوسطة وفوق المتوسطة اللائي خرجن إلى العمل في السنين الأخيرة، في معظم البلاد العربية. لا يُمكن أن ننكر أن «قلة» من هؤلاء النساء، قد استطعن، عن طريق العمل بأجر، أن يتحررن «اقتصاديًّا» من سيطرة الرجال، إلا أن هذا التحرر ظل جزئيًّا، ولم يشمل جوانب الحياة الأخرى، الاجتماعية والسياسية والفكرية والنفسية والأخلاقية. إن اعتبار المرأة «إنسانًا» وليس «شيئًا» أو «أداة للعمل»، سوف يُخوِّل لها، بالضرورة، حقوق الإنسان الأساسية، وهي الحرية والمساواة، والحرية تعني حرية اختيار العمل أو المهنة التي تريدها، والرجل الذي تريده، والمساواة تعني حقها في الحصول على «ثمار» عملها «بالتساوي» مع أمثالها. وعلى هذا النحو، لا يُفرض على المرأة عمل لأنها «امرأة»، ولا تُعتبر بعض الوظائف في البيت أو خارجه «أعمالًا نسائية». وتُصبح جميع الوظائف والأعمال بأجر عادل، بما في ذلك الأعمال في البيت، وتربية الأطفال، وأي جهد يقوم به أي إنسان. وعلى هذا يُمكن القضاء على ظاهرة «تقسيم العمل على أساس الجنس»، أو على أساس الوراثة، وتُطلق جميع الأعمال «حرة» ومفتوحة أمام الرجال والنساء، كلٌّ حسب «كفاءته»، كما يُفتح جميع أنواع التعليم والتدريب أمام «الأطفال» بصرف النظر عن الجنس أو الطبقة، كما تُفتح أنواع «الصحة» والغذاء الكامل «جسدًا» و«عقلًا» أمام جميع الناس «دون قيد أو شرط».
لا شك أن ظاهرة «تقسيم العمل بين الرجال» على أساس «الطبقة» قد حوربت من قبل الفكر الاشتراكي واكتساب العُمال والطبقات الكادحة لقوى سياسية متزايدة، إلا أن «تقسيم العمل على أساس الجنس»، أو بين الرجل والمرأة، لم ينَلْ حظه من اهتمام الحركة الاشتراكية العربية. وهذا شيء طبيعي، فكيف يمكن لحركة يسيطر عليها الرجال أن تُحارب شيئًا يُمكن أن «يسلب» الرجل بعض حقوقه القديمة التي توارثها وتعوَّد عليها؟ وقد تعوَّد الرجل على أن يجد في البيت امرأة تخدمه، وتطبخ طعامه، وترعى أولاده «بالمجان» إن أمكن، ولا مانع من خروجها للعمل لتعود إليه بشيء من المال، ولا مانع من اشتراكها في الحزب الثوري، الذي هو فيه، «بشرط» ألا تفقد «طبيعتها الأنثوية»، وتفقد معها «التزامها» الدائم بخدمته في البيت، وأداء واجباتها المنزلية المعروفة.
وهنا تتضح الحاجة لقيام حركة نسائية عربية «مستقلة» عن الحركات والأحزاب السياسية الأخرى، التي يُسيطر عليها الرجال، وذلك من أجل أن تحارب النساء «كقوة سياسية» ضد ظاهرة العمل على أساس الجنس، وضد الترابط العتيق المقدس، بين الطبخ والكنس، وبين طبيعة المرأة.
هذه الأسرة الأبوية كانت نواة النظام الطبقي الأبوي، كانت «الخلية الأولى» التي يرضع فيها الطفل الذكر «القيم الطبقية» والسيطرة، وترضع الطفلة الأنثى «الخضوع» والمذلة، وقد مُنح الرجل سيطرة «مطلقة» على نسائه وأولاده وبناته، إلى حد تشريدهم أو استغلالهم، دون أن يعارضه عرف أو قانون. وقد آن الأوان لأن تتحرر الأسرة من مضمونها الطبقي الأبوي، وتصبح «أسرة إنسانية» تقوم على «الحب» والمساواة و«حرية الاختيار»، وليس على القهر والظلم و«الإجبار». بالرغم من أن «الرجل» هو الذي «يملك» الأسرة، و«يملك» فيها «النسب» والأطفال والنساء، إلا أنه لم يكن أبدًا مسئولًا عن الأسرة أو تفككها أو تشرد الأطفال. كانت المرأة هي «المسئولة» وحدها عن الأسرة والأطفال.
إذا طلَّق الزوج امرأته لاشتهائه امرأة أخرى، فالمرأة هي المسئولة. إذا تشرد الأطفال بسبب هذا الطلاق، فالمرأة هي المسئولة. إذا هرب الأب من الزواج، وترك الأم وحدها بغير زواج، فهي وحدها المسئولة، ويُنسب «العار» إليها وإلى «طفلها». وهذا مثل آخر يشهد على انفصال الملكية أو القوة عن المسئولية، أو أحد مظاهر العصر «العبودي»، الذي لا يزال مستمرًّا في «العصر الحديث» و«الأسرة الحديثة»، رغم تغير أشكاله وأنواعه. لا شك أن العقبات ستكون متعددة أمام الحركة النسائية العربية، وربما يكون أهم تلك العقبات أن تُسدد إليها الضربات والاتهامات على أنها حركة «معادية للرجل»، وهدفها «تفكك الأسرة»، إلا أنها اتهامات «مغلوطة» ومعكوسة، فالوضع الحالي للأسرة لا يسر أحدًا، ولا يُرضي إلا الرجل المسيطر، الذي تشوهت طبيعته الإنسانية، وأصبحت طبيعة أخرى سُميت بالذكورة، أو «الرجولة المزيفة». حينما تناضل المرأة ضد طبيعتها الأنثوية، فهي تساعد الرجل، بالضرورة، على التحرر من طبيعته «الذكورية المشوهة»؛ لأن الخضوع والسيطرة وجهان «لعملة واحدة»، وهما متلازمان بالضرورة، فإذا ما زال أحدهما، فلا بد من زوال الآخر. ومن هنا ندرك أن «تحرير المرأة لنفسها» شرط أساسي «لتحرير الرجل» و«لتحرير الأسرة»، وهذا أمر يدعو إلى قيام حركة نسائية مستقلة عن الحركات الأخرى، فالمرأة لا تستطيع أن تحرر نفسها من خلال حركة يُسيطر عليها الرجال، ولكنها في حاجة إلى مناخ آخر، تشعر فيه أن السيطرة «غير موجودة»، وأنه ليس هناك رجل يراقبها، أو يهددها، أو يحكم عليها، أو يقودها، أو يوجهها. إنها تحتاج إلى مُناخ جديد، تسوده «علاقات متساوية»، و«خبرات متشابهة»، والأم «متقاربة»، ولن يتوفر لها هذا المناخ إلا في ظل حركة نسائية مستقلة عن الرجال، تشعر فيها أن ضعفها، أو خجلها، أو جهلها، ليس صفة خاصة بها وحدها، وأنها تستطيع أن تُعبر عن نفسها، وعن مشاكلها، دون أن تتعرض للنقد أو السخرية أو الإهمال أو النسيان، وعلى هذا النحو، يمكن للمرأة أن تكتسب «الثقة بنفسها» وتفكيرها، وتستطيع أن تكشف مع زميلاتها وأخواتها في النضال «نماذج أخرى» أكثر صحة، وأكثر إنسانية للزواج والعمل والأنوثة والأمومة والأبوية. إن هذه القدرة على اكتشاف بديل أفضل لحياتها هي التي تفتح الأبواب أمام عقلها ونفسها لتدرك ما لم تكن تدركه، وتدرك أنها مسئولية المرأة وحدها، وأن مفهوم «الأسرة» يجب أن يتغلب على مفهوم «الفرد» بالنسبة «للأب والأم معًا» وبالتساوي، وليس بالنسبة للأم وحدها. وأن الملكية والنسب والقوة والمسئولية والإنفاق والعمل والأخذ والعطاء، كلها واجبات وحقوق تشمل «الأم والأب» بالتساوي.
إن انتشار هذه «المجموعات النسائية» هو الأساس لقيام الحركة النسائية في أي بلد عربي. وقد لاحظت خلال جولاتي في البلاد العربية، في السنين الأخيرة، أن هذه المجموعات قد تكوَّنت فعلًا في معظم البلاد العربية، في المغرب وتونس وسوريا والأردن ولبنان ومصر والكويت والبحرين والإمارات واليمن والسودان، وغيرها. وفي المؤتمر الإقليمي الثاني في الخليج والجزيرة العربية، الذي عُقد في الكويت، في مارس ١٩٨١م، ظهر واضحًا ما لهذه المجموعات النسائية من قدرة على المبادرة والتوجيه والنشاط، إلى حد «تغيير» مسار المؤتمر الأصلي، بل وكوَّن «مؤتمرًا شعبيًّا نسائيًّا» فُرض على المؤتمر الرسمي، واستطاع أن يطرح العديد من المشاكل، التي كثيرًا ما «تُحجم» عن مناقشتها المؤتمرات الرسمية للمرأة العربية، أو تتجاهلها «الممثلات» الرسميات للمنظمات والاتحادات النسائية العربية. وقد أدهشني في هذا المؤتمر، هذا العدد الكبير من الطالبات والنساء العربيات من بلاد الخليج العربي، اللائي ملكن «المبادرة» والثقة بالنفس والوعي السياسي، إلى الحد الذي جعلهن يكوِّنَ «مؤتمرهن الشعبي»، ويواصلن الاجتماعات، خارج قاعة المؤتمر الرسمية، ليلًا ونهارًا، وأن يخرجن في النهاية بقرارات جماعية تنظم صفوفهن، وتوحد أهدافهن، وتضع للمبادرات الفردية والجماعية خطة موحدة، تكفل لهن الاجتماعات المنتظمة المستمرة، واختيار أهدافهن القريبة والبعيدة. وقد لاحظت حرص هذه «المجموعات النسائية» على تدعيم «استقلالها الذاتي» في مختلف المستويات، وحثها النساء والفتيات على تكوين مجموعات أخرى قادرة على الحركة والوعي والعمل، بحيث تنمو بالتدريج شبكة واسعة من المجموعات النسائية، التي تُعبر عن نفسها في اجتماعاتها، وتفرض آراءها، وتقترح وسائلها وخططها لحل مشاكلها. إن هذا التعدد والتنوع والتفرع في المجموعات النسائية، والذي يطلق «مبادرة» الجماهير النسائية، ويطلق سراح إرادتها وقوتها الكامنة، ويعطي لها الفرصة للتعبير عن نفسها بشكل مستمر وفعال، وبالحرية والاستقلالية التي تُمكنها من تحديد موقفها إزاء مختلف الشئون التي تهمها، بما فيها «الشئون السياسية» دون الخضوع لأي مجموعة أخرى، هذا هو الضمان الوحيد لأن تسود الحركة النسائية «الديمقراطية الحقيقية»، وتنبع من الحركة ذاتها أسس «الوقاية» ضد سيطرة قلة من النساء على إرادة جماهير النساء، كما أنها الحماية الوحيدة لأن تظل الحركة النسائية ديمقراطية في طبيعتها ونشأتها، وتحمي لها استقلالها وحيويتها الدائمة، «خصوبتها» المستمرة، بسبب الإسهام المستمر فيها لأعداد متزايدة من النساء من مختلف المجالات.
إن هذا الشكل الديمقراطي في النشأة والتنظيم أمر هام للحركة النسائية العربية، وما يضمن لها النجاح فيما فشل فيه غيرها، فقد رأينا أنه في معظم الحركات السياسية العربية، كان وما زال ذلك الاتجاه لممارسة «القيادة والسلطة» على المنظمات الجماهيرية، بحيث أفرغها من مضمونها، تحت شعار الواقعية والروح العملية، وحوَّلها إلى مجرد «أجهزة وأدوات» بغير مبادرة ولا روح، وافتقدت الحيوية والقدرة على التفكير المستقل والعمل الفعال، وأصبحت مجرد هياكل «بيروقراطية» تُردد مواقف وشعارات قيادات الحركة أو الحزب، وهكذا انكمشت وضعفت المنظمات الجماهيرية، التي هي مؤهلة بطبيعتها وحجمها العريض وتنوعها، أن تكون «مصدر» الفكر والعمل و«الرقابة» على قيادات الحركة أو الحزب. وأدى ذلك إلى انفصال القيادة عن الجماهير، وانفصال «الديمقراطية» عن «النضال» في سبيل «القومية» العربية أو «الوحدة» و«الحرية» و«الاشتراكية».
إن مثل هذه الحركات والأحزاب في الساحة العربية، قد تُحقق «بعض» النجاح في تكوين «منبر» للرأي، أو الفكر القومي، أو الاشتراكي، وقد تنجح في وضع «برامج» سياسية «قصيرة» أو طويلة المدى، وقد تنجح في خلق مجموعات «قيادية» تعاونها في «الحكم» أو «السلطة» داخل الحزب، إلا أنها «لا تنجح أبدًا» في تحقيق مصالح الجماهير العربية العريضة.
وعلى الحركة النسائية أن «تتعلم» من «تجارب» الحركات الأخرى، وأن تدرك أن «الديمقراطية» هي «الشرط» الأساسي لقوتها النابعة من قوة الجماهير النسائية المنظمة، وهذه القوة التي تُحقق لها استقلالها ونموها. وبهذا الاستقلال يُمكن للحركة النسائية أن «تتحالف» مع الحركة القومية العربية، ومع الحركة الاشتراكية العربية، دون أن تفقد استقلالها وإرادتها، ودون أن تأخذ وضع التابع، وبذلك تُمثل الحركة النسائية العربية «قوة تقدمية» جديدة فاعلة، تُسهم بفكرها الخلَّاق المتجدد في «إخصاب» الفكر العربي.
هوامش
وهكذا يتم التناوب بين النساء حسب ظروفهن. هذه الأنشطة فضلًا عن أنها تزيد من تآزر النساء وتجمعهن، فهي تحل كثيرًا من مشاكلهن اليومية المُلحة، والتي تعجز عن حلها الدولة والمؤسسات الرسمية.