كبراء العصر الماضي
قال عيسى بن هشام: ومضينا نقصد أحد الثلاثة من قرناء الباشا ورفقائه، وبقية أخلائه
وأصدقائه، فانتهى بنا طول المسير، إلى بيت ذلك الأمير، وكأنه ميدان في اتساعه، وحصن في
ارتفاعه، ووقف بنا البيطار، عند باب الدار، فسلم على الخدم وحياهم، ثم سألهم عن سيدهم
ومولاهم، فأجابوه بالتجهم والعبوس، أنه في قاعة الجلوس، فخطونا في بحبوحة الميدان، فرأينا
في وسطه شجرة كثيفة الأغصان، حنَى قوامَهَا تَقادمُ الأزمان، كأنها الثكلى حلَّت شعورَها
في
مأتم الأحزان، وفي ظلها فرس يجن من النشاط والمرَاح، وبجانبه كبش ضأن للنطاح، وحولهما
ديكةُ
نزال وضراب، ظنابيبُها مسنونة كالحراب:
فحُمرٌ وسودٌ حالكاتٌ كأنَّها
سوامُ بني السِّيد ازدهتهُ القوائم
١
يزان لديها الطعن في حومة الوغَى
إذا زُيّنت للعاجزين الهزائم
وفيها إذا ما ضيَّع النكسُ غيرةٌ
تُصان بها المستصحبات الكرائم
٢
ثم وصلنا إلى قاعة مشيدة البنيان، فسيحة الأركان، في أحد جوانبها سلسبيل، يسيل ماؤه
من
أفواه التماثيل، والأرضُ مفروشة بالبسط الفارسية، وبجلود الضواري الوحشية، والحيطان مستورة
بأنواع السلاح، من خناجر وسيوف ورماح، وفوقها عدة صفوف، من الرفوف، تحمل الطرائف الكريمة،
والأواني الصينية القديمة، مع عيدانٍ للتدخين، من أغصان الياسمين، فخلعنا نعالنا، وتقدمنا
أمامنا، فوجدنا الأمير ومن معه جلوسًا متربعين، منصتين مستمعين، يُضيء في وجوههم نور
الشيب
والوقار، وتزدهيهم هيئة العزة والاستكبار، فانقطع الحديث عند دخولنا، برد سلامنا، ولكن
ما
لبث أن اتصل ما انقطع من الكلام، بعد رجع التحية وردّ السلام.
ولما استقر بنا المكان همست في أذن البيطار أن ينبئ بأسماء الحاضرين، فقال لي: هذا
المتصدر فيهم هو الأمير فلان رب الدار وهو رفيق مولانا الباشا في البيت الكريم الخديوي،
وقد
اعتزل الأعمال واعتكف في آخر عمره يتعبد ويتهجد ويسلك طريق النسك والزهد ويتقرب إلى الله
بدوام القيام والقعود، وطول القنوت والسجود، وله أموال عريضة ينفق منها فيما ينفق على
قَعَدَة المشايخ وقوَّام أهل الطريقة وطُوَّاف الآفاق من سكان الأماكن المقدسة؛ رجاء
أن
يغفر الله له ما تقدم من الذنوب، وأن يلحقه بالصالحين من أوليائه، وأما الذي عن يمينه
فهو
فلان باشا كان عضوًا من الأعضاء الكرام، في «مجلس الأحكام»، والذي عن جانبه عالم من جلة
العلماء الأعلام، والمشايخ العظام، وأما الجالس عن شماله فهو فلان الفريق الجهاديّ المشهور
في الوقائع والفتوح، والذي بعده هو فلان من كبار المديرين السابقين، وأما الذي تراه في
أخريات المجلس فهو فلان التاجر من تجار خان الخليلي.
قال عيسى بن هشام: ولما وقفت من البيطار على معرفة ما عرّفنيه نظرت إلى الباشا، فأدركت
أنه لا يبغي المبادرة إلى كشف أمره قبل انتهاء الحاضرين من حديثهم، فأنصتُّ مع المنصتين
فإذا الفريق الجهادي يقول في اتصال حكايته وروايته:
الفريق
:
وكان «جنتمكان» محمد علي باشا الكبير معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلو الهمة
وبعد النظر، وإحكام عقدة التدبير واجتذاب القلوب، وتربية النفوس على الوفاء
والأمانة لخدمته، فكان له من الكُفاة من خدموه بالصدق وافتدوه بالأرواح، وأذكر منهم
المرحوم «محمد بك لاظ أوغلي»، فهو الذي دبر له قطع دابر المماليك في ساعة واحدة،
وقد حكَى لي المرحوم أخي، وكان حاضرًا في تلك الواقعة الهائلة، أن المماليك لما
رأوا أن المكيدة في استئصالهم قد استحكم عقدها واشتد رباطها، وأنهم أحيط بهم من كل
مكان تقدموا للبحث عن محمد علي في كل حجرة وزاوية من زوايا القصر للفتك به والتخلص
منه، فلم يقفوا له على أثر وأعياهم البحث والتنقيب؛ لأن «لاظ أوغلي» أخفاه عنهم
شديد الإخفاء، وقام له في ذلك الوقت — إن جاز التشبيهُ والتمثيل — قيام عليّ بن أبي
طالب مقام الرسول — عليه السلام — ليلة الهجرة.
عضو الأحكام
:
نعم وكان المرحوم محمد علي فوق ما يقال وما يتصوَّر في دقة سياسته لتربية الرجال
في خدمته، فكانوا كلهم طرازًا واحدًا في حسن الولاء وجميل الإخلاص، وربما كان يجذب
الرجل منهم بكلمة واحدة تطبعه له على الصدق في خدمته طول حياته، ومن ذلك ما حكاه لي
صديقنا المرحوم راغب باشا قال: «كنت أقرأ بين يدي المغفور له أوراقًا وأنا يومئذ
كاتبٌ من كتبة معيته، فدخل علينا سامي باشا في أثناء القراءة، ووقف معنا، فسأله
محمد علي عما يريده، فتلعثم تلعثم المتطلع لخروجي حتى ينفرد به فيعرض عليه ما عنده،
فقال له: «قل ما عندك في الحال فإني لا أخفي عن «راغب» سرًّا من أسراري، ولا فرق
عندي في المنزلة بين نسلي وذريتي وبين كتبة معيتي.»
فهل تعلمون يا قوم أنه يقوم مقام هذه الكلمة في جلب النفوس وجذب القلوب إلى النصح،
والولاء في الخدمة إنعامٌ بضياع أو إحسانٌ بأموال أو تقليدٌ لرتبة أو نشان، وانظروا إلى
ذلك الرجل العظيم كيف أتقن صناعة الألفة في تربية رجاله وما للمملوك صناعة غيرها، فإذا
أتقنها أحدهم فاز بالتسلط على النفوس، واحتكر مودات القلوب، فيصفوا له الملك ويطيب له
الحكم.
الشيخ العالم
:
أصبت وصدقت وقد اطَّلعت في التاريخ القديم على واحدة في هذا الباب للمنصور
العباسي، تدل على براعته ودقته في صناعة الملك، وهي أنه كان يأكل ذات يوم وبجانبه
ابناه مع شيخ من قواد جيشه ذهبت أسنانه لكبر سنه، فكان يسقط من فمه بعض الفُتات وهو
يأكل والأميران يتغامزان عليه، فالتفت إليهما الخليفة فرأى ما بينهما، فمد يده
فجَمَع ما سقط من ذلك الفتات فأكله، فقام القائد يقول له: «لم يبق إلا ديني أقدمه
لك يا أمير المؤمنين فأمرني بما تريد.»
المدير السابق
:
وأنا أقص عليكم واحدة أخرى للمغفور له محمد علي تشهد بلطف سياسته وحسن عطفه على
الأهالي وشفقته على الرعية، وهي أن أحد المديرين أراد أن يفوق إخوانه في الخدمة
لينال مكانة عالية من أميره، فجد في تحصيل الأموال، وتغالى في طريقته، فأخذ ما عند
الأهالي من المال جملة واحدة، فضجَّ ضجيجهم واشتد صياحهم حتى بلغ مسامع وليّ النعم،
فأمر بإحضار المدير، فلما وقف في حضرته قال له: ادن مني، فلما دنا منه أخذ بعنقه في
قبضة يده وصار ينتزع من رأسه شعرة ومن قفاه شعرة ومن عارضه شعرة ومن حاجبه شعرة؛
حتى جمع في قبضته خُصلة من الشعر والمدير لا يجد لذلك من الألم إلا أثرًا خفيفًا،
ثم إن الأمير انتقل إلى لحية الرجل، فانتزع منها خصلة دفعة واحدة من جهة واحدة
بمقدار تلك الخصلة المتفرقة، فنَبَع من تحتها الدم وصرخ المدير من شدة الألم، فقال
له محمد علي: «هكذا تختلف المعاملة مع الرعية في جباية الأموال، إذا أنت أخذت من
هاهنا درهمًا ومن هاهنا درهمًا آنًا بعد آنٍ خف الوقع على الأهالي ولم يدركوا
الألم، وحصلتَ منهم على مثل المقدار الذي تأخذه جملة واحدة في وقت واحد مع شدة
الألم، كما رأيت الفرق بين انتزاع الشعرات متفرقات وبين انتزاعها مجتمعات، والكميةُ
واحدة والألمُ بينهما مختلف، فإياك أن تعامل الناس بعد اليوم بما يلجئهم إلى الشكوى
ويبعثهم إلى الاستغاثة.»
الشيخ العالم
(منشدًا)
:
فلا تُكثروا ذكرَ الزمان الذي مَضَى
فذلك عصرٌ قد تقضَّى وذا عَصْرُ
ورحم الله الماضي وأعاذنا من الحاضر وأجارنا من المستقبل، وإني لأراكم أيها
الأمراء مهما أسهبتم في محاسن المغفور له وأفضاله، وأطنبتم في حميد أخلاقه وخصاله،
فلستم ببالغي حق الشكر، ولا موفين بجميل الذكر، ويكفيه من الحسنات التي يُغني
ذكرُها عن الإجمال والتفصيل، وتحكم لهُ بالسبق في باب التمييز والتفضيل، أنه كان
يقرّب العلماء ويعظمهم، ويدنيهم منه ويكرمهم، ثم يَقضي حاجاتهم، ويتبرك بدعواتهم،
ولقد رأيت لهُ رؤيا صالحة تحكم له في أخراه، بأن له جانبًا مع الله، وأنه نال جزاء
الإحسان، بسكنى فراديس الجنان.
قال عيسى بن هشام: وأقبل في أثناء هذا الحديث رجل من أهل مكة المعروفين بالمطوِّفين
أو
المزوِّرين فتقدم إلى رب الدار فقبّل يده، وإلى الشيخ العالم فلثم ذيله، ثم وضع عن يده
صُرة
فأخرج منها قطعة من الحرير الأخضر وجزءًا من التمر ومشطًا ومُكحلة وسُبحة وشيئًا من الحناء،
ثم قرأ الفاتحة وخاطَبَ الأمير بقوله:
المكيّ
:
قد جئتك أيها الأمير بالقطعة التي أمرتَني بإحضارها من الكسوة الشريفة، وأتيتك
بجزءٍ من تمر النخلة المباركة التي غرستها الزهراء البتول بيدها الكريمة.
الشيخ العالم
(بعد أن ذاق التمر واستطابه)
:
إيهٍ إيهٍ صدقتَ أيها الرجل ومن كان صائمًا فأفطر على تمر المدينة كُتبت له
الجنة.
قال عيسى بن هشام: فرأيت الباشا يتأفف بجانبي ويزمجر، ويتململ ويتضجر، ويهمّ بأن يتكلم،
فالتفت صاحب الدار عند ذلك إلى البيطار يسأله عن شأن هذا المتأفف المتضجر، فتقدمت له
بشرح
القصة على الحاضرين، وذكرت خروج الباشا من القبر ورجوعه إلى الدنيا، فمنهم من صدَّق ومنهم
من كذَّب، فتنحنح الشيخ العالم، وأشار فيهم بإشارة الاستماع ثم اندفع يقول:
الشيخ العالم
:
اعلموا أنه ليس للمعجزات حد ولا للخوارق حصر، ولا تنكروا على الرجل حياته بعد
موته، فليس من حسن اليقين، أن ننكر بعث الدفين، والرجوع إلى الدنيا بعد الفناء أمر
معلوم بلا امتراء، تخص القدرة به من تشاء، ببركة الأصفياء والأولياء، وأقربُ ما
أستشهد لكم به على ذلك من كتاب «مناقب تاج الأولياء وبرهان الأصفياء للقطب الرباني
والغوث الصمداني السيد عبد القادر الكيلاني» ما أرويه لكم بحرفه ونصه:
ذكر في «رسالة حقيقة الحقائق» أن امرأة غرق ولدها في اليم وجاءت إلى الغوث
الأعظم وقالت: إن ولدي غرق في البحر، واعتقادي جازم بأنك تقدر على رد ولدي
إليَّ حيًّا، فقال لها رضي الله عنه: ارجعي إلى بيتك تجدي ولدك في بيتك، فراحت
ولم تجده، فجاءت ثانيةً وتضرعت، فقال لها الغوث أيضًا: ارجعي إلى بيتك تجدي
ولدك في بيتك، فراحت ولم تجده، فجاءت ثالثةً بالبكاء والتضرع، فراقب الغوث
وانحنى برأسه ثم رفع رأسه فقال لها: ارجعي إلى بيتك تجدي ولدك في البيت، فراحت
ووجدت ولدها في البيت، فقال الغوث الأعظم بطريق المحبوبية: يا ربِّ لِمَ
أخجلتني مرتين عند تلك المرأة؟ فجاءه الخطاب من الملك الوهاب: إن كلامك حين
قلتَ لها كان صدقًا، ففي المرة الأولى جَمعت الملائكة أجزاءه المتفرقة وفي
المرة الثانية أحييتَه وفي الثالثة أخرجتُه من اليمّ وأوصلتُه إلى دارها، فقال
الغوث: يا رب خلقت الأكوان بأمر «كنْ» ولم يسبق زمان ولا آن وفي وقت البعث تجمع
أجزاءها المتفرقة التي لا نهاية لها وتحشرهم في طرفة عين، وجَمع أجزاء جسد واحد
وإحياؤه وبعثه إلى دارها شيء جزئي، فما الحكمة في هذا التأخير؟ فجاء الخطاب من
الرب القدير: اطلب ما تَطلب فقد أعطيناك عوضًا من انكسار قلبك، فتضرع الغوث
ووضع وجههُ في التراب، وقال: يا رب أنا مخلوق فبقدر مخلوقيتي يليق بي الطلب،
وأنت خالق فبقدر عظمتك وخالقيتك يليق بك العطاء، فجاءه الخطاب: كل من يراك يوم
الجمعة يكون وليًّا مقرَّبًا، وإذا نظرت إلى التراب يكون ذهبًا، فقال: يا رب
ليس لي نفع من هذين أعطني شيئًا أعظم منهما ويبقى بعدي لينفع في الدارين، فجاء
الخطاب من الله العزيز القدير: جعلت أسماءك مثل أسمائي في الثواب والتأثير، ومن
قرأ اسمًا من أسمائك فهو كمن قرأ اسمًا من أسمائي.
ورُوي فيه أيضًا عن السيد الشيخ الكبير أبي العباس أحمد الرفاعي — رضي الله عنه —
قال: «تُوفي أحد خدّام الغوث الأعظم وجاءت زوجته إلى الغوث فتضرعت والتجأت وطلبت
حياة زوجها، فتوجه الغوث إلى المراقبة فرأى في عالم الباطن أن ملك الموت — عليه
السلام — يصعد إلى السماء ومعه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فقال: يا ملك الموت
قِف وأعطني روح خادمي (وسماه باسمه) فقال ملك
الموت: إني أقبض الأرواح بأمر إلهي وأؤديها إلى باب عظمته، كيف يمكنني أن أعطيك روح
الذي قبضته بأمر ربي؟ فكرر الغوث عليه إعطاء روح خادمه إليه فامتنع من إعطائه وفي
يده ظرف معنوي كهيئة الزنبيل فيه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فبقوَّة المحبوبية
جر الزنبيل وأخذه من يده فترفقت الأرواح ورجعت إلى أبدانها، فناجَى ملكُ الموت —
عليه السلام — ربه وقال: يا رب أنت أعلم بما جرى بيني وبين محبوبك ووليك عبد القادر
فبقوّة السلطنة والصولة أخَذَ مني ما قبضته من الأرواح في هذا اليوم، فخاطبه الحق
جلا جلاله: يا ملك الموت إن الغوث الأعظم محبوبي ومطلوبي لِمَ لا أعطيته روح خادمه
وقد راحت الأرواح الكثيرة من قبضتك بسبب روح واحد، فتندم هذا الوقت.»
قال عيسى بن هشام: وما انتهى الشيخ من روايته حتى رأيت الباشا قد انتفض قائمًا يقول
لهم
والغضبُ بادٍ على وجهه والغيظ يتقد في صدره:
الباشا
:
اعلموا أيها الإخوان أن مغفرة الرحمن وسكنى الجنان لا تنال بكثرة الصوم، وأكل
التمر أو التبرك بالآثار والتحصن بالأوراد، وما تُكتسب الدرجة الرفيعة عند الله إلا
بالعدل والإحسان وفعل الخير، واجتناب الشر والرحمة بالضعفاء والمساكين من عباد
الله، وقد غرني في دنياي ما يغركم الآن، فكنت أسمع قبل مماتي من مثل هذا الشيخ
العالم ما يهوِّن عليَّ ارتكاب المخزيات وفضائح الشرور في معاملة الناس ارتكانًا
على نهار أصومُه، وليلٍ أقُومه، وحرزٍ أحمله، وأثرٍ أقبِّله، فنمت عن عمل الخير
وغفلت عن بذل المعروف، فلما توفاني القدير العليم وسكنت في حفرة القبر علمت ما لم
أكن أعلم، فلم يغنني ذلك وحده من الله شيئًا وما خفَّف عليَّ أهوال القبر وهوَّن
عليَّ سؤال الملك إلا حسنة واحدة كنت أتيتها في إغاثة مظلوم استجارني فأجرته، وهو
في يد الجلَّاد بين السيف والنطع،٣ فعليكم بالعدل والإحسان وتقوى الله في عباده وإفشاءِ البر والمعروف في
خلقه، ولا تطيعوا النفس الأمَّارة بالسوء فتركنوا إلى الاغترار بالأمل، وتطلبوا
المغفرة بلا عمل، بل استكثروا من الخير قبل حلول الأجل، وتذكروا قول الله الأجَلِّ:
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
واعتبروا بقول عليٍّ رضي الله عنه: «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ،
وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء.» واسمعوا لقول حكيم
الشعراء:
ما الخير صومٌ يذُوب الصائمون له
ولا صلاةٌ ولا صوفٌ على الجسد
وإنما هو تركُ الشر مطَّرَحًا
ونفضك الصدرَ من غِلٍّ ومن حسد
ولا يستقيم أمر المسلم إلا إذا جمع بين فرائض العبادات وحسن المعاملات.
الشيخ العالم: إني لأخالُك أيها الرجل شيطانًا في زي إنسان وزنديقًا يتستر بدعوى النشور من
القبور، تعسًا لهذا الزمن ما أكثر أضاليله، وبؤسًا له ما أعظم أباطيله، ولم يبق
علينا من مُدَّخرات عجائبه إلا أن يخرج الميت من قبره فيخبرنا بما رأى وبما
سمع.
صاحب الدار (للباشا): سألتك بالله أن تخبرني بأية لغة كان سؤال الملكين لك، أبالعربية أم التركية أم
السريانية، فإن هناك اختلافًا وأقوالًا بين العلماء.
الشيخ العالم: ناشدتكم الله أن تقصروا عن هذا الرجل ولا تخاطبوه، فإنه فتنة من فتن إبليس اللعين
ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال عيسى بن هشام: فلم يسع الباشا إلا الخروج من هذا المجلس وهو يهدر ويَغلي ويستعيذ
ويستعدي، فانخرطتُ وراءه وأنا أذكر قول عمر — رضي الله عنه — في مثل هذا الشيخ الغليظ
البدين: «إن الله يكره الحَبْر السمين.» وأردِّد قول أبي تراب كرم الله وجهه: «أشكو إلى
الله من معشر يعيشون جهالًا ويموتون ضلَّالًا، ليس فيهم سلعةٌ أبْور من كتاب الله إذا
تُلي
حقَّ تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعًا وثمنًا من الكتاب إذا حرِّف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر
من
المعروف ولا أعرف من المنكر.»
ولحِق بنا البيطار في خروجنا ومعه التاجر الذي كان مقيمًا في المجلس ينادياننا، فوقفنا
لهما فتقدم التاجر إلى الباشا ومال على يده يقبلها ويقول له:
التاجر: أُشهد الله أيها المولى أنني مصدّق بأمرك وليس بعد العيان من برهان وما أخطِّئ
نظري فيك، فأنت سيدي الباشا بعينه، وأنت صاحب اليد التي أتذكرها طول عمري، وما بي
من نعمة فمنك، وما أصبحت فيه من ثروة فَبِيُمنك وفضلك، ولست أنسى أنّ أصل شهرتي
واتساع تجارتي هو أنك جلست في دكاني مرة عندما عثرت بك رِجلك وأنت تقصد زيارة
الحسين، فارتفع بتلك الجلسة قدري واشتهر ذكري وأقبل عليَّ الناس من دون التجار
لتوهمهم فيَّ أن لي برحابك صلةً وبجانبك نسبةً، فأصبحت ولله الحمد في غنى ومالٍ
كثير، وقد بلغني من أحمد أغا هذا ما أنت فيه من الحاجة إلى الدراهم لأجرة المحامي
التي جاءت بك إلى هذا المجلس، ولكنك أنفتَ من ذكرها عندما غضبت لله، وأنا أتضرع
بخالق الخلق أن تتنازل فتقبل مني ما تسد به حاجتك وتتخلص به من مطالبة
المحامين.
(وأخرج التاجر كيسًا مملوءًا فقدمه إلى الباشا وهو يرتعد من خيفة
الرد، فأخذه الباشا وقال له):
الباشا: إني أشكرك جميل الشكر لحسن صنيعك، وأسأل الله لك حسن الجزاء فهلمَّ أكتب لك صكًّا
بالمال لأرده إليك عند استرداد أوقافي.
التاجر: حاشا لله أن أكون من أهل هذا الزمن الذين أصبحوا لا يثق بعضهم ببعض، فلا يأمن
الأخ أخاه ولا الوالد ولده ولا الصاحبُ صاحبه ولا الجار جاره على درهم واحد إلَّا
بعقود وصكوك، بل أنا لا أزال من أهل ذلك الزمن الذي لم يكن يتعامل التجار فيه بينهم
بغير الثقة والائتمان دون احتياج إلى تحرير الأوراق وتسطير الصكوك، وما يكون
الاستيثاق إلا عند توهم الخيانة والعياذ بالله.
قال عيسى بن هشام: فكرر الباشا شكره للتاجر مضاعفًا، وقال لي: انصرف بنا إلى المحامي
نستنقذ رقابنا من أسره، ثم نذهب إلى المحكمة الشرعية للمطالبة بالوقف، فقلت له: لا بد
لنا
من محامٍ شرعيّ يطالب لنا بحقنا، فما نخرج من قبضة محامٍ، إلَّا إلى قبضة محامٍ، ونسأل
الله
السلامة في الختام.