المحامي الشرعي
قال عيسى بن هشام: وأخذت طريقي، مع رفيقي، أنشد صاحبًا أسترشده، في محامٍ شرعيّ أقصده،
وبينا نحن نسير، ونسأل التيسير، إذا بصاحب لي عرفته، فاستوقفته، قال: ما خطبُك؟ قلت:
قضية،
في المحكمة الشرعية، فما طَرَق الخبر سمعَه، حتى أجرى دمعَه، وهوَّل الأمر وهولت، وحوقل
وحوقلت، ثم قال: لقد وقعتُ قبلك في هذا البلاء، ولمَّا تتم لي النقاهة من الداء، وأنا
أنصح
لك إن كنت مدَّعيًا أن تترك دعواك، وتصبر على بلواك، أما إن كانت الدعوى عليك، فليس الخيار
إليك، ولا مردَّ لحكم القضاء، بتدبير الآراء، فقلت: للضرورة أحكام، فأرشدني لانتخاب محامٍ،
يكون مشهودًا بعدالته، مشهورًا بطهارته، بعيدًا عن خُلْف الوعد، بريئًا من خُلق الوغد،
١ لا يتفق مع الخصم، ولا يسرق من «الرسم» قال: اطلب من أنواع المحال، أن يحمل
الذرُّ الجبال، ولا تطلب في محامٍ اجتماع هذه الشروط، فينتهي بك الأمر إلى اليأس والقنوط،
ولمحاولة الارتقاء فوق متن العنقاء،
٢ أيسر من ذلك مطلبًا، وأوسع مذهبًا.
وأُقسم لك بخالص الود، أني لا أثق منهم بأحد، وكيف تكلفني أن أنتقي لك ذئبًا من الذئاب،
وأحمل على كاهلي عبء اللوم والعتاب، فأعفني من هذا الاختيار والانتقاء، عافاك الله من
جميع
الأسواء، ثم ما لبث أن خلَّفني ومضَى، وتركني على مثل جمر الغَضَى، فسرت كئيبًا حزينًا،
أبغي سواه مرشدًا ومُعينًا، ولمَّا لم أجد من أصحابي مَنْ يتكفل عليَّ عهدته، باختيار
محامٍ
يُوثق بذمته، قصدت أحد المعلومين عندي بكثرة الخصومات، وطول المحاكمات، فكاشفته بطَلبتنا
ليكشف من مصيبتنا، فقال: اعلم أن المحامين الشرعيين أجناس وصنوف، فمنهم المبصر ومنهم
المكفوف، وفيهم — كتب الله لك السلامة — صاحب «الطربوش» وصاحب العمامة، وأنا أدلك على
أهونهم شرًّا، وأقلهم ضرًّا، وأخفِّهم رزيةً وبلية، وأكثرهم علمًا بالحيل الشرعية، فعليك
بفلان وبيتُهُ معلوم، في منتهى «حارة الروم»، فقصدنا البيت نشق طُرقًا معوجّة، ونخترق
ثنيّات مزدوجة إلى أن انتهينا إلى باب دار، كأنها مطلية بالقار،
٣ تسورت بأكوام من الأقذار، وتلفعت بتلالٍ من الأوضار، ورأينا عند مدخل الباب
صبيةً يلعبون بالتراب، ومن بينهم طفلة تجمَّع على وجهها من الذباب، مثل البرقع تنقبت
به قبل
أوان النقاب، ولما تخطيناهم غشيتْنا رائحة المرحاض، فاستندنا هناك على هضبةِ أَنقاض،
بجانبها مذْود أتان، يزاحمها عليه إوَزتان وبطَّتان، ثم اهتدينا إلى حجرة في جهة اليمين،
فرأينا أمامها فرَّانًا ينادي: «العجين» «والأجرة»، فسألناه عن رب الدار فأشار إلى الحجرة،
فدخلنا فوجدنا فيها حصيرًا تغطَّى بالغبار والحصباء، ومتكئًا تعرَّى من الفراش والغطاء،
وفي
زاوية من زوايا المكان، سراجٌ لا ينفذ نوره من تكاثُف الدخان، وفي أعلى رفوف الرواق،
أحمال
كتب وأوراق، قام لها نسيج العناكب مقام الوقاية والتجليد، وألصقتها الرطوبة فحفظتها من
التوزيع والتبديد، وفوق الأرض زجاجات مطروحة من المداد، وفي بياض الحائط تسويد وتخطيط
من
لعب الأولاد، وبصرنا برجل:
تغيّر حنَّاؤُهُ شيبَه
فهل غيَّر الظهر لما انحنى
ووجدناه جالسًا على سجادة الصلاة، وعن يساره امرأة كأنها السِّعلاة،
٤ فسمعناه يقول لها في تسبيحه: «أتستكثرينَ — أدرَّ الله عليك خيرَه، وأبدَلَك
زوجًا غيرَه — ما أخذتُهُ منك لاستنباط الحيلة في التفريق، واستخراج الحكم بالتطليق،
فأبعدت
عنك زوجًا تكرهينه، لتتبدّلي منه زوجًا تحبينه؟» ثم إنه أحس بدخولنا من ورائه، فارتد
إلى
اتصال تسبيحه ودعائه، وانتفضت المرأة فتنقبت بخمارها، وتلفعت بإزارها، وخرجت وتركتنا
مع رجل
يخدع الأنام بطول صلواته، ويتلو سورة الأنعام في ركعاته:
إذا رام كيدًا بالصلاة مقيمُهَا
فتاركها عمدًا إلى الله أقرب
وجلسنا مدة ننتظر خلاصَه من هذا الرياء، وخلاص الملكين من صحيفته السوداء، وخلاصنا من
هذا
الكرب والعناء، وكنا نشاهد منه في خلال ذلك نظرات مختلَسَات نحو الباب، كأنه هو أيضًا
في
انتظار وارتقاب، إلى أن دخل علينا غلامٌ يصيح به: إلى متى هذه العبادة، فقد بليت السجادة،
وحاجات الناس موكولة إليك، وقضاء مصالحهم موقوف عليك، وهذا دولة «البرنس» ينتظرك في القصر،
منذ العصر، دَعْ مدير الأوقاف، و«نقيب الأشراف» فلم يعبأ المصلِّي بهذا الكلام، بل جهر
بالآية من سورة الأنعام: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، فجلس غلام الشيخ وهو يمسح العرق،
واشتد بنا الضجر والقلق، فقلنا: من يضمن لهذه الصلاة انتهاء، ولهذا التسبيح انقضاء، وهممنا
بالقيام، فالتفت الشيخ للغلام، وأشبعه من التأنيب والملام، ثم حيانا بألطف سلام، وقال:
بارك
الله فيكم وعليكم، وأنا في الخدمة بين يديكم، فقلنا: علمنا أنك رجل عدلٌ عف، فجئناك لقضية
في وقف، فقال الغلام: أتطلبون ريعَه، أم تريدون بيْعه، فقلت: سبحان الله وهل تُباع الأوقاف؟
قال: نعم ويباع جبل قاف، ثم تنحنح الشيخ وسعَل، وبصق وتفَلَ، وتسعَّط ثم تمخَّط، واقترب
منا
ودنا، ثم قال لنا:
المحامي
:
دَعونا من هذا الغلام وقُولا لي ما حقكم في الوقف، وما شروط الواقف، وكم يُقدَّر
ثمن العين لتقدَّر «قيمة الأتعاب» بحسبه؟
عيسى بن هشام
:
إن لصاحبي هذا وقفًا عاقته عنه العوائقُ فوضع سواه عليه يده، ونريد رفع الدعوى
لرفع تلك اليد.
المحامي
:
سألتك ما قيمة العين.
عيسى بن هشام
:
لست أدري على التحقيق، ولكنها تبلغ الألوف.
المحامي
:
لا يمكن أن يقل مقدم الأتعاب حينئذ عن المئات.
عيسى بن هشام
:
لا تشطُط أيها الشيخ في قيمة الأتعاب وارفُق بنا، فإننا الآن في حالة عسر
وضيق.
الغلام
:
وهل ينفع في رفع الدعاوى اعتذار بإعسار، ألم تعلم أن هذا شغل له «اشتراكات»
وللكتبة والمحضرين «تطلعات»، وأنَّى لكما بمثل مولانا الشيخ يضمن ربح الدعوى وكسب
القضية بما يهون معه دفع كل ما يطلبه في قيمة أتعابه، وهل يوجد مثله أبدًا في سَعة
العلم بالحيل الشرعية ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم، واستجلاب عناية القضاة؟
عيسى بن هشام
:
دونك هذه الدراهم التي معنا فخذها الآن ونكتب لك صكًّا بما يبقى لحين كسب القضية،
وليس يفوتك شيء من ذلك ما دام ربحها مضمونًا لديك على كل حال.
المحامي
(بعد أن استلم الدراهم يعدها)
:
أنا أقبل منك هذا العدد القليل الآن ابتغاء ما ادَّخره الله لعباده من الأجر
والثواب في خدمة المسلمين، وعليك بشاهدين للتوكيل.
عيسى بن هشام
:
وبأية طريقة يكون التوكيل.
المحامي
:
يجب عليك أن تستحضر شاهدَين يشهدان أمام المحكمة بأن فلان بن فلان بن فلان وكَّل
فلان بن فلان بن فلان «في المرافعات والمدافعات والمخاصمات والمصالحات، والقبض
والاستلام والتسليم وفي المطالبة والدفع والإقرار، وفي كل ما يصح فيه التوكيل
شرعًا، وفي أن يوكل عنه في الدعوى غيره، وأن يعزله وأن يفعل ذلك مرارًا وتكرارًا
كلما بدا له فعله المرة بعد المرة والكرةَ بعد الكرة»، وأنا أنتظر حضوركما غدًا مع
الشاهدين ومستند الوقف.
عيسى بن هشام
:
ليس لدينا الآن إلا شاهد واحد يعرف أصل الباشا ونسبه.
غلام المحامي
:
هذه أول خطوة في تكاليف القضية ومشاقها ولعلك تعرف قيمتها، ونحن نجد لك بتيسير
الله من يعرف أصل الباشا ونسبَه ويشهد به بين يدي الحق.
عيسى بن هشام
:
وليس في يدنا أيضًا مستند للوقف.
المحامي
:
أما من جهة المستند فينبغي استخراج صورة من السجل «المصان» «كذا» وهذه خطوة ثانية
في متاعب القضية.
قال عيسى بن هشام: وعند ذلك قطع الشيخ المحامي كلامه معنا، واستقبل القبلة بوجهه
يتنفل
ويتبتل، فقمنا للانصراف وسرت مع صاحبي وأنا غريق في الأفكار أتدبر وأعتبر، وأعجب مما
رأيت
من سكون الباشا وسكوته وحسن احتماله وصبره بعد أن كان شديد الحدة سريع الغضب، يرى القتل
واجبًا لأدنى هفوة وأقل سبب، فأصبح بفضل وقوعه في هذه الخطوب المتتالية والرزايا المتتابعة
ليِّن العريكة واسع الصدر موطّأ الكنف كثير الاحتمال، حتى إنه لم يأنف ولم يتأفف من كل
ما
رأيناه في يومنا هذا، بل كانت حالته حالة الفيلسوف الحكيم الذي يجعل دأبه البحث والتأمل
في
أخلاق الناس أثناء التعامل معهم، وازددتُ يقينًا بأنه لا شيء أسرع في تهذيب النفوس وتربيتها
على التخلق بالأخلاق الفاضلة مثل ممارسة الخطوب ومصارعة النواب، وأن أسوأ الناس أخلاقًا
وأنكدهم عيشًا هم هؤلاء الأغمار
٥ المنعمون المترفون الذين لم يأخذوا العيش عن تجارب الحدثان، ولم تهذبهم صروف
الأزمان، ولم يزدني الباشا في كلامه أثناء الطريق على أن قال:
الباشا
:
قلتَ لي: إن المحامين الشرعيين فيهم صاحب «الطربوش» وصاحب العمامة فهل تراهم
جميعًا على هذا النمط الذي شاهدناه أم بين الفريقين فرق؟
عيسى بن هشام
:
اعلم أن الخيرة في الواقع، والحمد لله على كل حالٍ فإن فيهم تحت «الطربوش» مَن هو
أشد فتكًا من ضواري الوحوش، وأعرفُ طربوشًا منهم أقسم أمامي بالطلاق ثلاثًا من
زوجته، ومن كل زوجة يتزوج بها في حياته على إنكار كلام نَطَقَ به في مجلس كنت
حاضرَه؛ إرضاءً لأحد أرباب القضايا، وإغضابًا لخالق البرايا، واستهانةً بحكم
الشارع، واعتمادًا على قول الشاعر:
وإن أحلفُوني بالطلاق أتيتُها
على خير ما كنا ولم نتفرَّق
وإن أحلفوني بالعِتَاق فقد درَى
عُبيدٌ غُلامي أنه غير معتَق
قال عيسى بن هشام: ومضت علينا الأيام ونحن نقصد الشيخ المحامي في كل يوم فلا نتمكن
من
لقائه، فإن ذهبنا إليه في البيت قيل لنا: إنه في المحكمة، وإن ذهبنا إلى المحكمة قيل
لنا:
إنه في القصر الفلاني أو القصر الفلاني من قصور الأمراء والكبراء حتى حَفِيت الأقدام،
ومللنا الاصطبار، فاخترنا أن نربط له أمام بيته عند الثلث الأخير من الليل فنصطاده عند
خروجه، وقعدنا بعيدًا عن الباب حتى خرج علينا راكبًا أتانَهُ، فتقدمت إليه فقال لي: أرجو
المسامحة في هذا التأخير، فالذنب فيه لكثرة مشاكل الأمراء ودعاويهم. فتقبلنا عذره وتوجهنا
معه إلى المحكمة، فذهب بنا إلى «كاتب الإشهادات» فوجدناه جالسًا يلمِّع في ثيابه: من
حُمرة
الحذاء في رجله وزُرقة الجبة على كتفه وصُفرة الحزام في خصره وبياض العمامة فوق
رأسه:
تعددت ألوانُهُ
كأنه قوسُ قُزَحْ
وكان الشيخ المحامي قد تركَنَا مع الغلام والشاهد الذي اختاره لنا، فنظر الكاتب إلى
الشاهد نظرة المتوقف، وقال: إنه شاب صغير السن وإنه وإنه … فمال عليه غلام المحامي، وألقى
في أذنه بعض القول فقام معنا من فوره إلى قاضي الجلسة لسماع الأشهاد بعد أن قال لنا الغلام:
وهذه الخطوة الثالثة في تكاليف القضية، ثم انتهى الأشهاد بحمد الله وحسن العناية بنا
في
أثناء يوم واحد، وقال لنا الغلام عند الانصراف: يجب بعد هذا أن نقدّم عريضة لحضرة القاضي
بطلب الكشف من الدفترخانة عن الوقفية في السجل، وأن نوضح فيها نمرة الوقفية وتاريخها
وَمِن
«عملية» مَنْ هي «يعني اسم الكاتب الذي كتبها في زمانها»، فخرجنا نبحث عن أحمد أغا البيطار
لعله يعرف طريقة توصلنا إلى مطلوبنا، فعثرنا عليه وأعلمناه بغرضنا، فقال: إن عندي ورقة
فيها
نمرة الوقفية كنت تحصلت عليها بطرق مختلفة بعد الجهد الشديد والزمن المديد لإثبات حقي
في
ريع الوقف، ثم ذهب إلى بيته وعاد إلينا بالورقة فوجدناها قاصرة على ذكر النمرة والتاريخ،
ولم يذكر فيها اسم الكاتب الذي عمل «العملية»، فقصدنا غلام المحامي وتوجهنا معه إلى
المحكمة، فكتبنا العريضة وقدمناها لحضرة القاضي فوضع عليها إشارة لحضرة الباشكاتب ليتحرى
عن
مسألة «الشأن» وطلبوا منا شهودًا يُشترط فيهم أن يكونوا من أهل جيل الباشا ليثبتوا شخصيته،
ويشهدوا بأنه صاحب الوقف وأن سواه وضَعَ يده عليه، فأدركتنا الحيرة في الأمر فتكفل لنا
الغلام باستحضار أولئك الشهود أيضًا بعد أن قال لنا: وهذه الخطوة الرابعة في تكاليف القضية،
ولما نظر الباشكاتب في العريضة ووجد أننا لم نبين فيها اسم الكاتب صاحب «العملية» قال
لنا:
إنه لا يمكن الاهتداء في الدفترخانة بدون ذلك، وإنه لا بدَّ لنا من انتظار السنين والأعوام
حتى يمكن العثور على صورة الوقفية في السجل بالنمرة والتاريخ وحدهما، فعاودَتنا الحيرة
فقال
لنا الغلام: لا تحزنا فأنا أساعد على سرعة الإنجاز، وأتوجه معكما إلى الدفترخانة إن شاء
الله، وهذه هي الخطوة الخامسة في تكاليف القضية، وما زال الخبيث يعدُّ لنا الخطوات، ونعُدُّ
له في كل خطوة دريهمات، ونحن نسأل الله أن ينقذنا مما أصابنا من حُكم الدهر، وأن يعجِّل
بانقضاء القضية قبل انقضاء العمر.