الدفترخانة الشرعية
قال عيسى بن هشام: وعكفنا زمنًا نشتد في الطلب، والمحامي يشتد منا في الهرب، فلما
طال
علينا الأمَد في ارتياده، ويئسنا من لحاقه واصطياده، انتقلنا للبحث عن غلامه، حتى قبضنا
على
زمامه، فرأينا الخبيث يُصعِّب في الأمور والأحوال، لنسترضيه بالعطاء والنوال، وقال لنا:
أقول لكما الحق والحقَّ أقول، إنه ليس من المتصوَّر المعقول، أن نهتدي في هذه القضية
إلى
صورة الوقفية، بمجرد تاريخها أو اسم صاحبها، دون الوقوف على اسم محررها وكاتبها، ولا
يجول
في الخواطر والأوهام أن يَعثر عليها كاتب السجل بين تلك الآكام، من غير وحي أو إلهام،
إلَّا
بعد كر السنين ومرِّ الأعوام، وإن اعتراكما بعض الشك أو الريب، ولم تصدِّقا بظهر الغيب،
فهلمّا معي أطلعكما على ما يزول معه اللبس، وتقتنع به النفس، فقيَّدناه بقيود الترغيب
والتأميل، وأعطيناه ما يحضرنا من كثير وقليل، فانطلق أمامنا يثب ويحجل، حتى دخلنا بيت
السجل، فلما جاوزنا الباب، حيث يجلس الكتاب، ألفينا خُشُبًا مسندة، على خُشُب موطَّدة،
وهياكل تفترش الفراء، فوق الأقذار والأقذاء، لا تميز منهم وجه إنسان من إنسان، لعشوة
البصر
من ظلمة المكان، فتذكَّر الباشا عند ذلك ظلام الرمس، وكرّ راجعًا ينتظرنا في ضوء الشمس،
ثم
مال الغلام إلى أذُن أحدهم يكلمه، بما لا أعيه ولا أفهمه، فبادر الرجل بالنهوض والقيام،
وسار بالغلام وأنا في عقب الغلام، فما خطونا بضع خطوات حتى حِيل بيننا وبين ضوء النهار،
وتجللنا من حندس الليل بحُجُب وأستار،
١ فوقفت لا أبصر ولا أهتدي، فأخذ الغلام بيدي.
وقد عميت عليَّ وجوه المسالك، في هذه المخاوف والمهالك، وسرتُ فوق أرض تَهَشُّ تحت
القدم
وتلين، كأنها مفروشة بالهشيم تلبَّد في الطين، وما زلنا نمشي في أنحاء تلك المطمورة،
٢ على هذه الصورة، حتى تخيلت أنني في قبور قدماء المصريين، أو في هياكل الأسرار
بمعابد الرومانيين، أو في طريق الامتحان عند أحرار البنائين، فوجب القلب،
٣ من شدة الرعب، خشية أُحبولةٍ نُصبت، أو مكيدة رُتِّبت، ووجمت، ثم أحجمت، وقلت
للغلام: ليس بيننا ما يوجب الاحتيال، أو يدعو للاغتيال، وماذا تريد مني في هذا الغيهب،
٤ وليس معي من فضة ولا ذهب، ولا من شيء يستلب أو يُنتهب، فقهقَه الفاجر ثم أقسم
بالله وثنَّى بالطلاق، أننا نسير في أمان بين غرائر الدفاتر ولفائف الأوراق،
٥ وقال: كن آمنًا مطمئنًّا على نفسك، وسترى الحقيقة بعيني رأسك، وما كاد الشقي
يتم لي هذه العبارة، حتى عثرت قدمي في لُفَافة فوقعت على غرارة، وإذا بصائح يصيح من تحتها
متبرمًا متأففًا، ويقول لي متغطرسًا متعجرفًا: ما هذه الغشاوة يا عديم الإبصار، ونحن
لا
نزال في أديم النهار؟ فقمت متثاقلًا متساندًا، وقلت في نفسي منشدًا:
دجًى تتشابه الأشياء فيه
فيُجْهل جنسها حتى يصيحَا
ثم تأملت فإذا أنا بخيال ينفض الغبار عن رأسه ولحيته، بذيل مئزره أو جُبته، فتولَّاني
الخوف والوجل، وقلت: من الرجل؟ فقال الغلام: كاتب من كتبة «السجلات»، ينبش عن أوراق في
«سجل
الأيلولات»، فقلت: وكيف يهتدي لذلك، وسط الظلام الحالك، فقال: أولئك قوم اعتادوا العمل
مع
احتجاب الضياء، فصاروا كالخفَّاش يبصرون في سواد الظلماء:
ولو سار كلُّ الوَرَى هكذا
لما حَسَدَ العمى من يبصرون
ثم انعطفنا من ذات اليمين إلى شبه قاعة، يلوح فيها من الضوء مثل جناح يراعة،
٦ وإذا هو لعاب الشمس يسيل من ثقب،
٧ في سقف الجُب، وهو يتموج بأنواع الجراثيم، تموُّج الماء بالهشيم،
٨ فخلت أن عجوز الفلك الدوَّار — أريد بها شمس النهار — خشيت أن تضل في ظلمة هذه
المفازة، فاتخذت لها من لعابها عكَّازة، تتوكأ عليها للاهتداء، وتدب بها في هذا العماء،
فمسحت على بصري، وأحدقت بنظري، فأبصرت وماذا أبصرت، ونظرت وماذا نظرت:
ما إن سمعت ولا أراني سامعًا
أبدًا بصحراءٍ عليها باب
نعم رأيت فضاءً متسعًا تراكم فيه من الأوراق الرثيثة والدفاتر البالية، مثل الرُّبى
الشاهقة والأكمات العالية، غير أن هذه تثمر وتُجني، وتلك تعثُّ وتبلَى، هذه تكون مخضرَّة
مخصبة، إن جادها الحيا أينعت بالغضِّ من النبات، وتلك سوداء مجدية، إن بلَّلتها الرطوبة
اهتزت باليابس من الحشرات:
فالأرض تبسُط في خد الثرى ورقًا
كما تُنشر في حافاتها البُسُط
والريح تبعث أنفاسًا معطرةً
مثل العبير بماء الورد مختلط
وهذه بَسَطت فوق الثرى ورقًا
لكنه للبِلَى والعُثِّ منبسط
وريحها تورث الأسقام ناشقها
كأنه من تراب القبر يستعط
٩
وما لبث أن استبان ليشخص الكاتب المرافق لنا، في لمحة ذلك السَّنا، فإذا هو قصير القامة،
كبير العمامة، ذو وجهٍ مقنَّع بالاصفرار، وعين مكتحلة بالاحمرار، وقد طَوى من خلفه الجبة،
ورفعها على ظهره كالجُعبة، وفي حزامه دواة من نحاس أصفر، وبين طيات العمامة أوراق بالتواريخ
«والنمر»، فاستعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، وقلت لذلك الغلام اللئيم:
عيسى بن هشام
:
هلم بنا أيها المراوغ إلى الباب لنعود إلى ضياء الحياة فقد يئست من أمرنا، وأنَّى
لهذا الكاتب أن يهتدي للبحث في هذا اللُّج القامس،١٠ والليل الدامس.١١
غلام المحامي
:
لا تنكرنَّ على مثله الاهتداء في دياجي الظلماء، ولا يهولنَّك تشتت الدفاتر
وتراكم الأوراق فهي مرتبة في حافظته ترتيبًا انطبع فيها من طريق الوراثة عن أبيه
وعن جده، فلا تخفى عليه مواقعها كما يتوارث رؤساء «البوغاز» في الإسكندرية هدايةَ
السفن عند دخولها بما علموه عن آبائهم من مواقع الأرض في قاع البحر، ولو كان معنا
اسم الكاتب لسهُل البحث ولوَصلنا إلى الغرض.
الشيخ الكاتب
:
نعم لا تنكر علينا بارك الله فيك اهتداءنا للبحث في هذه الأوراق، والله يعلم أن
هذه الدفترخانة مرسومة في ذهني منذ الصغر على أحسن ترتيب وتبويب، فهي مقسَّمة إلى
عدة سجلات منها «سجل الباب العالي»، تسجل فيه الأعيان المبيعة غير الموروثة، ومنها
«سجل القسمة العسكرية»، تسجل فيه الأعيان المبيعة الموروثة، ومنها «سجل الأيلولات»،
تسجل فيه الأعيان المحصورة من تركة تُخصص أو تباع بالمزاد، ومنها «سجل الإعلامات»،
تسجل فيه المواد التي تصدر فيها أحكام من المحاكم الشرعية من أي نوع كان، ومنها
«سجل التقارير»، تسجل فيه تقارير النظار وقفًا وغيره، ومنها «سجل الوقفيات»، وتسجل
فيه نفس الوقفيات، ويدخل فيه التوكيلات والوصايا والتصادق.
عيسى بن هشام
:
سبحان الفاتح الوهاب، ومَن يهديني إلى طريق الباب!
الشيخ الكاتب
:
… ومنها «سجل الديوان العالي»، تسجل فيه الفرمانات المتعلقة بتولية القناصل
وعزلهم، والإعلامات الصادرة من مجلس استئناف مصر في الهيئة التي يحضرها القاضي
الشرعي أو النائب عنه مع جملة من كبار العلماء من المذاهب، ومنها «سجل القسمة
العربية»، تسجل فيه الأعيان الموروثة المختصة بالذِّميين.
عيسى بن هشام
:
اللهم ارفع عنا الأذى والمقت، وهلم فقد ضاق بنا الوقت.
الشيخ الكاتب
(مسترسلًا)
:
… ومنها «سجل إسقاط القرى» يسجل فيه ما يأخذه الأمراء ويعطونه من الأطيان والقرى،
وليس يخفى أنه كان في مدينة مصر محاكم شرعية سياسية وكانت السيطرة عليها للقاضي من
قبل السلطان، وكان لكل واحدة سجل تسجل فيه جميع الأنواع «وقد حُفظت تلك السجلات
كلها بهذه الدفترخانة»، وكانت مراكزها في جهات «باب الشعرية» «وقناطر السباع»
و«جامع طولون» و«جامع قيسون» …
عيسى بن هشام
:
يكفي أيها الشيخ فقد وجب الرحيل، ولا حاجة بنا إلى هذا التطويل والتفصيل.
الشيخ الكاتب
(معدِّدًا)
:
وفي جهات «درب سعادة» و«باب الخلق» و«الصالحية» و«النجمية» و«أحمد الزاهد»
و«البرشمية» و«مصر القديمة» و«بولاق» و«جامع الصالح» و«جامع الحاكم» …
عيسى بن هشام
:
تباركَ من له الأسماء الحسنى، ومَنْ يعيدني إلى الحياة الدنيا.
الشيخ الكاتب
:
… ثم «محكمة الباب العالي»، وهي المحكمة الكبرى وقاضيها هو المسيطر على الجميع
المولَّى من القسطنطينية، و«محكمة القسمة العسكرية»، وقاضيها يعين كل سنة من دار
السعادة كقاضي المحكمة الكبرى، ويسمى «القسَّام» وشغله المواريث بأنواعها فقط، و…
عيسى بن هشام
(للغلام)
:
لقد مل سمعي، وضاق ذرعي، فاخرج بنا وأنقذني من شر هذه الدار، ومن ثرثرة هذا الشيخ
المهذار.
الغلام
:
لا تضجر ولا تقنط وأنظرني قليلًا حتى أستنير برأي الشيخ لعلنا نجد عنده حلًّا
للعقدة، وفرجًا للكربة. (ثم مال على الشيخ منفردًا به
فسمعته يقول له):
مثلك لا يعجز عن استخراج الوقفية بدون الوقوف على اسم كاتبها، وأنت لا تأبى الربح
والكسب لنا جميعًا، وأصحاب القضية من كبراء الناس أهل السماحة والكرم.
الشيخ الكاتب
:
مهلًا فقد كدت أتذكر اسم كاتب الوقفية على ذكر السماحة والبذل، فإن لكتابتها
حكاية مشهورة في الجود والعطاء منذ ذلك العصر، ولا يزال للخلع التي خُلعت على
كاتبها بقايا إلى اليوم عند أهله وذريته وهو المرحوم الشيخ فلان، فدونك وأصحاب
القضية فاتفق معهم لوضع هذا الاسم في ورقة النمرة والتاريخ، وجئني بها نافعةً تشفع
لنا أجمعين، والله ينفعنا بنفع المسلمين.
الغلام
(لعيسى بن هشام)
:
قد تيسرت الحال بإذن الله ووصلنا إلى معرفة اسم الكاتب الذي تُستخرج به الصورة،
والرأي لك في هذه الخطوة السادسة.
قال عيسى بن هشام: ثم انطلق الغلام أمامي يسحبني وراءه حتى خرجنا بحسن صنع الله من
الظلمات إلى النور فجَهَرت
١٢ عيني وسدرت
١٣ فلم أُبصر في الشمس عند الباب إلا بعد التردد مرارًا بينها وبين الظلام، ولما
التقيت بالباشا في الموضع الذي كان ينتظرني به سألني عن طول هذا الغياب، فلم أرد أن أضيف
إلى مصائبه مصيبة أخرى بوصف ما كنت فيه، بل كتمته إياه وأخبرته بتيسير الحاجة، ثم اتفقنا
مع
الغلام على أن يباشر وضع اسم الكاتب في الورقة، ويعود في اليوم الثاني إلى الشيخ الكاتب
ليأتينا بصورة الوقفية، بعد أن نقدناه ما نقدناه.
ثم دارت بعد ذلك علينا الأيام ومضت الشهور، ونحن نتردد على الدفترخانة تارةً في صحبة
الغلام، وتارةً بدونه إلى أن حل الأجل وآن الأوان، فجاءنا الغلام ذات يوم يبشرنا بالوقوف
على الوقفية ففرحنا فرح الغوَّاص بدُرَّة التاج، تحت تلاطم الأمواج، ونهضنا معه إلى
الدفترخانة فرأينا الشيخ الكاتب عند الباب يتيه إعجابًا بمهارته في الاهتداء عليها مع
قِصَر
الوقت، ويحمد الله على حسن الطالع وسعود الجَد فحمدناه على همته العالية وصنعه الجميل،
فأخرج من تحت إبطِه أوراقًا بالية متخرقة متآكلة لا تستوي منها ورقة مع أختها فيها سطور
متقطّعة وخطوط متوزعة لا يستطيع أن يحلها إلا من كان عريقًا في كشف الرموز وفك الطلاسم،
فقلت له: إن الاهتداء إلى نقل صورة مفهومة من هذه الأوراق لأعظم مشقةً وأدهى بليةً من
الاهتداء على موضعها من تلك الصحراء المظلمة، فقال لي: إن كثرة التعود تيسر العسير وتهوّن
الصعب، وقد ورثتُ عن المرحوم والدي أيضًا قراءة هذه الخطوط وتلفيقَ مارثَّ من أواخر السطور،
والعبارةُ واحدةٌ لا تتغير تقريبًا في كل باب من أبواب السجلات، ورأيته يستعد ليسترسل
في
أبواب الشرح والوصف، وخفت أن تشتد به نوبة الهذر والإكثار فودعناه وانصرفنا، وكلفنا غلام
المحامي أن يأتي لنا بالصورة من عنده بعد انتهائها، فطلب منا أن ندفع «رسمها» وأن نأتي
بشاهدين يشهدان علينا باستلامها، ووعدنا بأنه ينوب عنا في اجتلابهما بعد أن طالبنَا
بالمكافأة الواسعة، على هذه الخطوة السابعة.