المحكمة الشرعية
قال عيسى بن هشام: ولما صارت في يدنا الصورة، بعد تلك المواقف المذكورة، خطا غلامُنا
الثامنة من خطواته، في بعض روحاته إلى المحكمة وغدواته، فذهب إلى كاتب «الطلبات» لتحديد
إحدى الجلسات، ثم عاد فبشرنا بأن الكاتب اتفق مع الرئيس، على أن تكون الجلسة في يوم الخميس،
وأنه حرر «طلبًا» لحضور الخصوم، في الوقت المعلوم، فأقمنا أيامًا نعلل النفس بالأمل،
حتى
حلّ هذا الأجل، وسمح لنا الطالع بطلعة الشيخ المحامي ولقائِه، بعد طول احتجابه عنا
واختفائه، ورضيَ أن يتوجه معنا إلى المحكمة، ليكشف عنا بيُمنه كل مظلمة، فسرنا جميعًا
نقصد
بيت القضاء الشرعي، والحكم المرضيّ، والعدل المقضي، بوحي الإله وسنة النبي، حيث تقام
منابر
الهُدَى، وتشاد منائر التُّقى، وينبلج نور الحقيقة والعدالة، وتنكشف ظلمة البدعة والضلالة،
ويُؤخذ من الظالم للمظلوم، ويُنتصف من الحاكم للمحكوم، ويسار على الصراط السوي، في الحكم
بين الضعيف والقوي، حيث تتحد المواقف والأقدام، وتستقيم الأوامر والأحكام، وتغدو فيه
الثكلَى ربة الأيتام، أعزَّ من الفارس ربِّ الرمح والحسام، ويصبح الأعزل الشاكي، أقوى
من
المدجَّج الشاكي،
١ ويتساوى لديه رب الشُّوَيهة والبعير،
٢ برب التاج والسرير، نعم حيث يكون المقعد الموروث، عن النبيّ المبعوث، وحيث يعمل
بالسنة وآي الكتاب، فيُنتصر للذليل على العزيز، ويقتدَى فيه تارةً بسيرة عمر بن الخطاب،
وأخرى بسيرة عمر بن عبد العزيز، وحيث يكون مقرُّ المهابة والجلال، ومصدر الوقار والكمال،
وموضوع الطهارة والأمان ومنبع العفة والصيانة، وقبلة القنوت والخشوع، ومقام الطاعة
والخضوع.
ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات،
وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سُرُج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب للعظماء
والأمراء، في بعض مواكب الزينة والبهاء، وسألنا لمَن هذي الركاب، فقيل لنا: إنها لجماعة
الكتاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومَن يرزق بغير حساب، ونَحَونا نحو الباب، في تلك
الرحاب، فوجدنا عليه شيخًا حنت ظهره السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه العمَش
والصمم، ولجَّ به الخرف والسقم وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء، ثم صعدنا
في
السلم فوجدناه مزدحمًا بأناس مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابُّون ويتشاتمون، ويتلاكمون
ويتلاطمون، ويبرقون ويُرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم آخذٌ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون
بالحيطان، ويتساقطون على الأرض، وما زلنا نزاحم على الصعود في الدرج، والعمائم تتساقط
فوقنا
وتتدحرج، حتى مَنَّ الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج، في وسط هذا الجمع المتلاصق،
والمأزق المتضايق، ووصلنا إلى القاعة السُّفلى، فوجدنا عندها امرأة حُبلى، تتقلب على
الأرض
كالثعبان، وتستشهد بالأهل والجيران، أنَّ بعلها أنكر حملها، وحاولنا أن نخطو خطوة إلى
الأمام، فلم نستطع من شدة الزحام، وكيف بالتقدم في عباب موج ملتطم، ومنحدر سيل مرتطم،
من
نساءٍ صائحاتٍ مُوَلولات، ونائحات مُعولات، ونادبات باكيات، وصارخات شاكيات، كأنهن قائمات
في مأتم على مدافن الأموات، تقرحت فيه العيون، وبُحَّت الأصوات، وفيهن المسفرة والمتقنعة،
والمضطجعة والمتربعة، والحاسرة عن الذراع والرأس، وأختها تُفليها في وهَج الشمس، ومنهن
الكاشفة عن ثَدييها تُرضع طفلًا على يديها، وغيرها ترضع طفلين في حذاء، وزوجها يضرب رأسها
بالحذاء، وأخرى آخذةٌ بضفيرة ضرتها، ورضيعُها يتلهف على ضَرتها.
ومن بينهن مَن يتقدمها طليقها، ويتبعها عشيقُها تشيع الأول باللعن والسباب، وتغمز
الثاني
بكفٍّ مزدانة بالخضاب، ورأينا العقيلة المخدَّرة مع «الأغا» لا يستطيع أن يحميها في حرمة
هذا الوغى، وشاهَدنا في الجمع جماعةً من فُجَّار الخلعاء، وتُبَّاع النساء، يغازلون كل
غانية هيفاء، ويغامزون كل غادة غَيْدَاء،
٣ ويتعرضون لفضِّ النزاع بين ذوات القناع، وفصل العناد والشقاق بين الطاعنات
بالأحداق، فتختلط غمَزَات الطرف بهمزات الكف، فيزول ما هنالك من الجدال والخصام، ويصيرون
جميعًا إلى الحسنى والرقيق من الكلام، ورأينا فيما رأينا من غرائب البشاعة، وعجائب الشناعة،
رجلًا وامرأةً يتسابقان في ألفاظ الفحش والهجر،
٤ ويتباذَّانِ في أقوال البذاءة والنكر، وهما يتجاذبان في أيديهما غلامًا، كأنما
يحاولان له اقتسامًا، ليأخذ كلٌّ منهما من أعضائه بنصيب، والغلام يبكي من شدة الألم
والتعذيب، فاستعذنا بالله السميع العليم، من موقف هذا الجحيم، وسمعنا من أفظع ما سمعناه
امرأةً تنتحب وتقول، ونقابُها بماء العين مطلول: «لو كان للنساء قضاة من النساء لما وصلنا
إلى هذه الحالة التعساء، فإن الرجال يميلون لجنس الرجال، ويتناصرون لبعضهم على ذوات
الحجال»، فاستعنَّا برب المثاني،
٥ وصعدنا في السلم الثاني، فإذا هو كالأول يتموج بالناس كبيوت النمل، أو خلايا
النحل، وانتهينا منه إلى قاعة ممتلئةٍ بصنوف الباعة، هذا يصيح: «الخبزَ والجُبن»، وذاك
ينادي «الدخان والبن»، وآخرُ يقول: «الزبدة والعسل»، وبعضهم يردد: «الفول والبصل»، وبائع
الضأن يفتِّتُ بسِكِّينه جماجم الرءوس، والثلاج يصفق بأكواز «العرقسوس»، وهناك «قهوة»
يدب
فيها الشهود بالعشرات، كدبيب الحشرات فيعرضون أنفسهم على الخصوم للشهادة أو التزكية بأجر
معلوم، وغلمان المحامين يروحون بين الجموع ويغدون، فيمكرون بهم ويكيدون، ويتقلبون بين
الخصوم ويحتالون، فيخدعون ويغتالون، ودخلنا حجرةً صغيرة من حجرات الكتاب، فثار في وجهنا
ما
على أطباق الباعة من جيش الذباب، فرجعنا على الأعقاب، ونجونا من الأوصاب، ثم انحدرنا
مع
غلام المحامي إلى حجرة كبيرة الساحة، فقال: اجلسوا هنا للاستراحة، فأجْلَسَنَا في صدر
المكان، بين الكتبة والغلمان.
ولا بد لكل كاتب هناك من غلام، يقوم مقامه في تدوين الأحكام، فسمعت الكاتب الجالس
عن
اليمين، يُقسِم على أقواله بكل يمين، بأنه لولا اعتراض مركبات الكهرباء وضيق الميدان،
لما
تأخر حمارُهُ عن حمار فلان، وسمعت صاحبه بجانبه، يحلف بجدِّه وأعز أقاربه، أنه لولا حبسه
للعنان، لسبق كل الحمير في يوم الرهان، ويقول له وهو يتلفف في العباء: «قد بلَغَنا عن
الأجداد والآباء، أنه إذا صحَّت الشعرة الخضراء، لم يتعلق بذيل الحمار الهواء»، ثم التفتُّ
ذات الشمال فوجدت كاتبًا منهم غضَّ الشباب، عظيم التأنق في لبس الثياب، فهو يتلألأ ويتألق،
في سندس وإستبرق، كأنما خاطوا له قَباءً من أزهار بستان، مختلفة الأشكال والألوان، يُفعِم
الأنوف بعِطره، ويُعبِّق الجوَّ بنشره، وأمامه رجل في يده صرة ثياب ينشرها ويطويها، فيأخذها
«السيد» منه ويرميها، ويقول له في حدَّته، وشدة سَوْرته:
السيد
:
هذه ثياب لا أرضاها ولا أقبلها، وبئس المفصِّل مفصِّلها.
الخياط
:
كيف ترى ذلك أيها السيد، وأنا أقسم لك بالقرآن المجيد، أنها أوسع من ثياب
السيدَين عبد العزيز وعبد الحميد.
السيد
:
كذبت وربِّ الكعبة فإن استدارة الكُم ضيقة والرقبة لا تنطبق على الزي
الحاضر.
الخياط
:
وماذا أصنع وذلك كل ما في عرض الحرير، ولو كنا على الزي القديم لدخل مع السيد في
طي ثيابه، اثنان أو ثلاثةٌ من أصحابه.
أحد أصحاب القضايا
:
صبح الله السيد بالخير والإنعام.
أحد الكتبة الظرفاء
(مُنكتًا)
:
لا، بل بالخيل والأنعام.
صاحب القضية
:
أرجو سيدي أن يعطيني «الإعلام».
السيد
:
اذهب حتى يأتي الغلام.
الكاتب الظريف
(موَرِّيًا)
:
عليك به في شارع أم الغلام، تجده جالسًا نصًّا تحت الأعلام.
قال عيسى بن هشام: وعافت نفسي هذه النكت الباردة والمعاني الساقطة، فأعرضت عن الإصغاء،
وسرحتُ طرفي في بقية الأنحاء، فرأيت الكتبة كلَّهم يتفاكهون ويتسامرون، هذا يَلُتُّ في
يده
أفيونه، وذاك يكور بين أصابعه معجونه، والغلمان يشتغلون تارةً بأوراقهم، وطورًا يتباحثون
في
أذواقهم، وأرباب الحاجات بين أيديهم يقاسون سوء الرد، ومطل الوعد، وسمعت أحد الكتبة يخاطب
صاحب قضية، بألفاظ بذيَّة، ويقول له: «كيف تعطي الغلام هذا المبلغ الزهيد؟ أتظنه كان
لك من
العبيد؟ أتريد أن يكتب لك ويتعب، (وهو لا أجرة لهُ في المحكمة ولا
مُرتب) بغير ربح ولا مكسب؟ إن هذا لمن أعجب العجب!» وجاء رسول القاضي يطلب أحد
الكتبة الرؤساء فوجده راقدًا كالنُّفَسَاء، فبعضهم أشار بتنبيهه من غفلته، وقال بعضهم:
لا
بل اتركوه في رقدته، أنسيتم حكم عادته، بأنه لا يفيق من غفوته، قبل أن يسيل الأفيون مع
الدم
في دورته، ثم اتفق معهم الرسول، على أن يرجع فيقول: «إنني لم أجد الشيخ مكانه، وعلمت
أنه
نزل إلى الدفترخانه»، ثم استيقظ الراقد بعد مدة فتثاءب وتمطَّى، ثم تدثر وتغطَّى، ثم
عاد
إلى ما كان فيه من السُّبَات، وهو ينشد للمعرِّي من أبيات:
وفضيلة النوم الخروجُ بأهله
عن عالمٍ هو بالأذى مجبول
ثم جاءه بائع كتب وأوراق فصاح به حتى أفاق، وقام بعون الله وحوله، يخاطب البائع
بقوله:
الكاتب
:
هل أحضرت ما طلبته من الكتب؟
البائع
:
نعم جئتك بكتب قديمة، لا تقدر لها قيمة، منها كتاب «حل الرموز، لفتح الكنوز»،
ومنها «أصول المراسم، في فك الطلاسم»، ومنها «حسن إرشاد الناس في استخراج الذهب من
النحاس»، ومنها «القول المأثور في تأثير البَخُور»، ومنها …
الكاتب
:
ألم تعثر لي على كتاب في «الاستحضار»؟
البائع
:
نعم معي كتابان أحدُهما «قلائد اللؤلؤ والمرجان في استحضار الجان.» والآخر «خير
المواقيت، لرؤية العفاريت».
الكاتب
:
بارك الله فيك وجزاك خيرًا، فإن عندي نسخة محرقة من هذا الكتاب الأخير فاصحَبني
إلى البيت لنقابلها ونصححها.
قال عيسى بن هشام: وقام هذا الكتاب مع البائع، وأقمت أسخط على هذا الجهل الشائع،
والعمل
الضائع، وبينا أنا كذلك إذ أشار علينا غلام المحامي بالقيام، فقد آن نظر قضيتنا، فخرجنا
فوقفنا عند باب الحجرة التي تنعقد فيها الجلسة، فرأينا الزحام خارجها وداخلها على أشد
حالاته، وسمعنا الحجاب ينادي تارةً بصوت عالٍ وتارة بصوت منخفض، فسألت الغلام عن ذلك
فقال:
إنه يخفض الصوت حتى لا يسمع أرباب الدعاوى النداء فتسقط القضية وهو من باب الشفقة والحنو
بالمدعى عليه، وفوق ذلك فإن للحجَّاب أن يدخلوا الجلسة من أرادوا، ويحجبوا عنها من أرادوا،
ثم نودي علينا فدخلنا مع شهود المعرفة الذين استحضرهم الغلام لنا، فوجدنا الجلسة مؤلفة
من
ثلاثة أعضاء برئيسهم وهم جلوس كل واحد منهم بمعزل عن الآخر، وقد تعسر عليَّ أن أفهم كلام
الباشا وهو بجانبي يخاطبني لشدة الضوضاء وعلو الأصوات، ثم دخل كاتب الجلسة يرقص في مشيته،
وكأنه الطاووس في هيئته فجلس ووقفت عنده بحيث أبصر ما يسطره، فوجدته قد تناول القلم بأطراف
بنانه يضعه في الدواة تارة ويضعه في أذنه أخرى، ثم يلهو بتفقد ثيابه ويشتغل بلمس الإبر
التي
تتشبك بها العمامة، ثم ابتدأوا في سماع القضية، وتقدَّم الباشا مع الشهود فلم أسمع شيئًا
مما قالوه أو قيل لهم لكثرة الجلبة والصياح، وإنما رأيت الكاتب يكتب في دفتر الضبط —
وكأنما
يكتب من عنده — ما أنقله بحرفه وهو:
استحضر أمام الجلسة المدعي والمحامي والشهود فتقدم المدعي، وعرف أنه فلان بن فلان
بن فلان وسمَّى شاهدي معرفته وهما فلان بن فلان بن فلان، وفلان بن فلان بن فلان
الساكنان بالجهة الفلانية شياخة فلان بن فلان بن فلان، وشهد كل منهما على انفراده
بأنه يعرف المدعي المذكور، وأشار إليه بيده وهو فلان بن فلان بن فلان المذكور، ثم
قال المدعي المذكور: إن لي قِبَل فلان بن فلان بن فلان دعوى نظر على وقف ومعي مستند
دعواي والمدعى عليه لم يحضر مع استلامه علم الطلب المحدد له فيه الحضور في هذه
الجلسة.
ثم أمرت المحكمة بانصرافنا للمداولة والنظر في المستند، فوقفنا ناحية من الحجرة ننتظر
مع
من ينتظر، ثم نودي علينا بعد مدة فقالوا لنا: إن المحكمة تعلمنا بمضمون المادة ٧٢ من
اللائحة وهي تقضي — على ما أخبرنا به المحامي — بالإعذار إلى المدعى عليه، وقال: لا بد
أن
نطلب ذلك من المحكمة؛ لأنه لا يسوغ لها أن تُعذر إلا بناءً على طلب المحامي، فقدمنا الطلب،
فتقرر إصدار الإعذار، والله يكفيك شرَّ ما في هذه الدار، من الأقضية والأقدار، وكثرة
الهموم
والأكدار.