الوباء
وكنت كلما زدته من هذه الموعظة والحكمة، أراه قد زاد في الإعراض عن شكر تلك النعمة، فتحققت أن المرء إنما يذكر النعيم في البؤس ولا يذكر البؤس في النعيم، وينسى المرضَ في الصحة ولا يذكر الصحة إلا وهو سقيم، وقل من يحمد النعماء في لبسها، ويدرك سعادة الحياة إلا في نحسها، فهذا معنى من معاني الآية الشريفة: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ، فسألته عما دهاه وأذهله عن شكر الله، فأجابني يقول، في حال الخَبل والذهول:
«وليس في باب النوازل والخطوب ما يهُول النفوس ويروع القلوب أعظم ولا أكبر من مصيبة الموت وبلاء هذا الوباء؛ فلذلك لا نرى بأسًا من الكلام بشيء عما يجده المستقرئ لأحوال الناس من طبقات المصريين وهم بين أيدي هذه النازلة العظمى والمحنة الكبرى».
«فطبقة العامة أناس جُبلوا في مثل هذه النوازل العامة على التسليم لأحكام القضاء وتفويض الأمر لأقدار السماء، وهم لا يعلمون من أمر الوباء، ما جراثيم الداء، ولا علة المرض والشفاء، ولا سبب الهلاك والنجاء، وليس في قدرة قادر من البشر أن يزحزحهم عن اعتقادهم أو يحولهم عن يقينهم، ولا في استطاعة أحد من أبلغ الوعاظ وأفصح الخطباء أن يضع في رءوسهم أن الوقاية تمنع من المقدور، وأن الحذر ينجي من المكتوب، وأن طب الأطباء يؤجل في الأجل المحدود، وأن صنوف الدواء تنفع في رد القضاء المحتوم، وهم يرون كل ما يؤمرون به من وسائل الوقاية وأسباب الحيطة أمورًا تضر ولا تنفع فلا تزيد في عمرهم ساعة، ولا تكف عنهم غرب المنون، ولا تفيض دونهم يد قابض الأرواح، فهم بمعزل عن الخوف والهلع، وفي أمانٍ من الذعر والفزع، وفي ضمان من الوسواس والهواجس، وإن كانوا مقيمين في غفلة عما يجب عليهم لأنفسهم من المحافظة على صحة الأبدان، وتعهد الأجسام بما يدرأ عنها الاستعداد لقبول الداء والوقوع في مخالب الوباء؛ لبعدهم عن فهم قوله عليه الصلاة والسلام: «اعقلها وتوكل.» لكنهم لا يزالون على كل حال في صحة من الأرواح وإن أعوزتهم صحة الأبدان».
«وطبقة الخاصة ونعني بهم أهل الدين واليقين، وهم الذين يعتمدون أيضًا على التسليم لأحكام القضاء وحسن الاعتقاد بتحديد الآجال، والإيمان بأنه لن ينالهم إلا ما قدره الله لهم، ولا تفتأ تجري ألسنتهم في مثل هذه الأهوال بتلاوة الآيات البينات من كتاب الله: ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ؛ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ؛ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ؛ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ تعالى الله أحكم القائلين، وهم الذين يعلمون علم اليقين أن الموت أمر واقع لا مرد منه، وأن الإنسان عرضة له في كل وقت ولحظة، وأن طعمه واحد، سواء أكان بمرض الوباء أو صواعق السماء، أو زلازل الأرض، أو كان بغصة شراب أو عثرة قدم أو لسعة حشرةٍ، وأن نفس المرء خطاه إلى أجله فعليهِ أن ينتظر ساعته في كل حركة وسكون، وعند كل قيامٍ وقعودٍ:
«وهناك طبقة ثالثة حديثة النشأة حديثة التربية لا من هؤلاء ولا من هؤلاء لم يرسخ الإيمان في قلوبهم، ولم تتمكن التربية الدينية من نفوسهم، ولم يتأدبوا بأدب الدين، ولم يرتاحوا لحسن اليقين، بل اقتصرت بضاعتهم على ما تلقَّوْه في المدارس من العلوم الآلية والفنون الصناعية دون علوم التربية النفسانية والفضائل الروحانية، وخلَت صدورهم من آيات الله والحكمة، قد أخذوا عن بعض الغربيين عادة التهاون بالشرائع والازدراء بالإيمان، ولم يحيطوا بشيء من العلوم الموضوعة لتقويم النفوس، وتطهير الطباع ومعرفة الحقائق ورياضة القلوب على التجلُّدِ والثبات عند وقوع المكروه ونزول المُلِمَّات، فتجدهم قد ظهروا للناس في هذه النازلة الوبائية، وانكشفوا لأهل البحث والنظر أصغرَ خلق الله نفوسًا وأجبنَهُم قلوبًا وأكثرَهم هوسًا ووسواسًا، وأشدَّهم قلقًا واضطرابًا وأعظمهم خوفًا ورعبًا وأكبرَهُم بلاءً وكربًا، يتمثل لهم الموت في أعينهم على أفظع الصور وأشنع المناظر، فيحاولون الفرار منه وهو ممسك بنواصيهم، ويهابون دُنُوَّهُ وهو آخذ بتلابيبهم، حَلَّ الخوف مفاصلهم واستلَّ الرعب نخاعهم؛ فهم يرون في كل عُود نعشًا لهم ويحسبون كل صيحةٍ عليهم، أولئك لا إيمان لهم يثبت أقدامهم، ولا علم لديهم يرجح أحلامهم، بل هم على مثل حال المغشي عليه من الموت أو الممسوس من الشيطان يتوهمون طعم الموت ومذاق الوباء في تنفس الهواء وتناول الغذاء وشرب الماء وملامسة الأيدي ومخاطبة الناس، فإذا رأى المسكين منهم تلك الآلة الحدباء تحملُ أحد المصابين بالوباء جمد دمه وسال عرقُه وخمدت أنفاسه والتَوَت أعصابه وأمسك من بجانبه يستنجد به ويستغيث ليحميه من شر العدوى، ويدفع عنه نزول البلوى، وما أشبههم في حالهم هذه من الخور والهلع والفزع والجزع إلا بمثل أناس قضي عليهم بالإعدام لوقتهم فهم وقوفٌ بين يدي الجلاد والسياف؛ إذا قُدِّم أحدهم للسيف والنطع مات الذي يليه من الخوف قبل القتل.
ومنهم من اعتكف على الخمر يشربها ليله ونهاره عساها تجهله كيف اطمأنت به الحال، ومنهم من يبالغ ويغالي في تناول العقاقير السامة والجواهر القتالة مما وضعه الأطباء لقتل الجراثيم، فهو يشربها ويستعطُها ويدهن بها جسده ويغمس فيها ثيابه ويبلل بها فراشه ويغسل بها آنية طعامه وشرابه، وكلما سمع بزيادة العدد في المصابين زاد في مقدار ما يستعمله منها يومًا بعد يوم حتى أصبحت أجسامهم مسمومةً وأبدانهم مهزولة وشفاههم متقلصة وعيونهم غائرة ووجوههم مغبرة وأناملهم مصفرة ينطبق عليهم قوله جل وعلا: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ، إذا رأيتهم حسبتهم في حال المصابين بالفعل لولا أن هؤلاء يفضلونهم بالخلاص من ألم الداء براحة العدم والفناء، ولما كان الخوف والوسواس من أكبر وجوه العذاب في الحياة، ومن أعظم الأسباب في رأي الأطباء لجلب الداء كانوا هم أعداء أنفسهم بأنفسهم، وهم أصحاب الأرواح السقيمة، في الأجسام السقيمة، لهم النكد في هذه الدنيا ولهم الخزي في الآخرة».
فأين تَضع نفسك الشريفة أيها الباشا من هذه الطبقات؟