العزلة في العلم والأدب
قال عيسى بن هشام: واعتزلتُ بالباشا مدة من الدهر، نستملح العزلة ونستعذب عليها الصبر،
ونعيش فيها عيش الحكماء، من حسن الرضاء، بحسن الاكتفاء، ونستروح راحة البعد عن هذا العالم
وأذاه، وإغماض الجفون على قذاه، مؤتنسين كل الائتناس، بالوحشة من الناس، بعد الذي شهدنا
من
أعمالهم ورأينا، وسمعنا من أقوالهم ووعينا، وقاسينا من عشرتهم ما قاسينا:
عَوَى الذئب فاستأنستُ للذئب إذ عَوَى
وصوت إنسانٌ فكدتُ أطير
إن سالمتهم حاربوك، وإن وادعتهم ناصبوك، وإن صادقتهم خانوك، وإن واثقتهم كادوك، وإن
خالطتهم لا تأمن الاعتداء، وإذا مازحتهم لا تعدم الافتراء، وإذا طالبتهم بحق فإنك لا
تسمع
الصم الدعاء:
فلو خَبَرتهم الجوزاءُ خُبرِي
لما طلعت مخافةَ أن تُكادا
ولو أنك لم تخالطهم إلا في مجالس أنسهم وصفوهم، ومعاهد لعبهم ولهوهم، لم تجن منها
إلا
كلَّ ما يبعد وينفر، وينغص ويكدر، تدخلها إذا دخلتها مُستروحًا مستبشرًا، وتخرج عنها
مستقبحًا مستنكرًا، فعيشتهم في كلتا الحالتين قرارةُ معايب، ومجتمع نقائص ومثالب، ومنابتُ
أكدار، وينابيع أضرار، ولا راحة في الدنيا إلا لمن تنسك وتزهد، ولا سلامة من الخلق إلا
لمن
اعتزل وتوحد، وأبعد الناس عن معاشرة البرايا، أقربهم إلى كرم السجايا:
بعدي عن الناس برءٌ من سقامهم
وقربهم للحجَى والدِّين أدواء
كالبيت أُفرد لا إيطاء يُدركه
ولا سنادَ ولا في اللفظ إقواءُ
١
وعكفتُ مع الباشا في عزلتنا أذهب به كل مذهب، وأنتقل به من مطلب إلى مطلب، في مطالعة
الأسفار والكتب، من تاريخ وأدب، ومن حكم متينة قويمة، وشتَّى علوم حديثة وقديمة، أهديه
من
كل طرف بطُرفة، وأتحفه من كل باب بتحفة، وأجتنب معه ما يدعو إلى الضجر والملل، ويُدني
من
الكد والكلل، فتارة أخوض معه عُباب البحار، وطورًا أجتاز به سراب القفار، فنرى مَنْ يحرق
في
البحر مراكبه، ليحمل على اقتحام المنايا كتائبه، ونسمع الشاعر في القفر يحدو بناقته،
ويشبِّب بمعشوقته، ثم لا يقعد به ذلُّ الغرام، عن التفاخر بعزِّ الكرام، ولا يُنسيه ذكرُ
الهوى، مواقف الحتف والرَّدى، فيخلط بالغزل الفخر، ويخاطب صاحبته من جوف القفر:
إنَّا محيُّوك يا سَلمى فحيِّينا
وإن سقيتِ كرام الناس فاسقينا
وإن دعوتِ إلى جُلَّى ومكرمةٍ
يومًا سَراة كرام الناس فادعينا
إن تبتدرْ غايةٌ يومًا لمكرُمة
تلقَ السوابق منا والمصلِّينا
٢
وليس يهلك منَّا سيدٌ أبدًا
إلا افتلَيْنا
٣ غلامًا سيِّدًا فينا
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
ولو نسام بها في الأمن أُغلينا
بيض مفارقنا تغلي مراجلُنا
نأسو بأموالنا آثارَ أيدينا
إني لمن معشر أفنَى أوائلهم
قِيلُ الكماة
٤ ألا أينَ المحامونا
إذا الكماة تنحَّوا أن يصيبهم
حدُّ الظبات
٥ وصلناها بأيدينا
ونرى الناقة تطرب تحته إلى مواطنها، وتشتاق إلى معاطنها، فتحن حنينه، وتئن أنينه،
وكلما
رآها تشكو مثلَ شكواه، وتُصغي بأذنها إلى نجواه، وتردد برُغائها صداه،
٦ وتسعده بترجيعها في هواه، تأوَّه وتنهَّد، وترنَّم فأنشد:
لقد زارني طيف الخيال فهاجني
فهل زار هذي الإبْل طيف خَيَالِ
لعل كراها قد أراها جِدَابَهَا
ومسرحها في ظلِّ أحوى
٨ كأنها
إذا أظهرت فيه ذوات حجال
تَلَوْنَ زبُورًا في الحنين مُنَزَّلًا
عليهن فيه الصبر غير حلال
وأنشدن من شعر المطايا قصيدةً
وأودعنها في الشوق كلَّ مقال
ثم ننتقل إلى مشاهدة المعامع المشهورة، والوقائع المذكورة، فترى الدماء تجري أنهارًا
في
الوديان، والمهج تسيل انحدارًا من مسايل الأبدان، والموت واقفًا يحصد الرءوس، ويجني نفائس
النفوس، والفارس يمشي في الصفوف مشية الخُيَلَاء، ويطعن برمحه كل طعنةٍ نجلاء، ثم ينشد
في
وصف أثرها وبُعد غورها:
طعنتُ ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ
لها نَفَذٌ لولا الشعاعُ أضاءها
ملكت بها كَفِّي فأنهرت فَتْقَهَا
يرى قائمٌ من دونها ما وراءها
يهون عليَّ أن ترُد جراحُها
عيون الأواسي إذ حمدتُ بَلاءها
وتذكو شعلة الحرب فلا تنطفئ نارُها، ولا يخمد أُوارها، إلا وقد غادرت النساءَ أيامى،
والأطفال يتامى، والأموال نهبًا منهوبًا، والأعلاق سَلبًا مسلوبًا، والمدائن خالية خاوية،
والقصور بائدة بالية، والحربُ ينخذل فيها القويُّ لأوهى سبب، وينتصر الضعيف من حيث لا
يحتسب، فكم دالت بها الدول، ودارت الدوائر، وانثلَّت العروش، وسقطت الممالك، بعد لواء
العز
المعقود، وبساط المجد الممدود، وبعد ذلك التناهي في العظَموت، والتمادي في الجبَروت،
وبعد
أن لم يكن يدور في الوهم سقوطُها، ويخطر في الخيال هبوطها، كل ذلك يكون أسرع من لمح البصر،
إذا نزل القضاء وحُمَّ القدر، وكل مُلك مهما امتدَّ ظله زائل، وعند التناهي يَقْصُر
المتطاول.
ثم أدخُل به في مطالعتنا إلى حَلْقة حكيم واعظٍ يسلب الألباب بقوة بيانه، ويخلب العقول
بضوء برهانه، ويسترق النفوس بطلاقة لسانه، ويقول في حقارة الغنى وهوَانه:
«أيها الناس والله لدنياكم هذه أهون عندي من عُراق
٩ كلبٍ في يد مجذوم».
«والمخير بين أن يستغني عن الدنيا وبين أن يستغني بالدنيا كالمخير بين أن يكون مالكًا
أو
مملوكًا».
من سره أن لا يرى ما يسوءُه
فلا يتخذ شيئًا يخاف له فقدا
«والحياة الطيبة هي حياة الغنى، والغنى هو القنوع؛ لأنه إذا كان الغنَى عدم الحاجة
إلى
الناس فأغنَى الناس أقلُّهم حاجة إلى الناس، ولذلك كان الله تعالى أغنى الأغنياء:
غنى النفس ما يكفيك من سد خَلَّة
فإن زاد شيئًا عاد ذاك الغنى فقرَا
ويقول في محاسن الأخلاق: «الجود حارس الأعراض، والحلمُ فدام السفيه،
١٠ والعفو زكاة الظفر، والاستشارة عين الهداية، وأشرف الغنى تركُ المنى، وكم من
عقلٍ أسير عند هوًى أمير، ومن التوفيق حفظ التجربة، ومن لان عودُهُ كثفت أغصانه، ومن
لانت
كلمته وجبت محبته».
ويقول في مساوئ الصفات: «الكاذبُ في نهاية البعد من الفضل، والمرائي أسوأ حالًا من
الكاذب؛ لأنه يكذب فعلًا وذلك يكذب قولًا والفعل آكد من القول، فأما المعجب بنفسه فأسوأ
حالًا منهما؛ لأنهما يريان نقص أنفسهما ويُريدان إخفاءه والمعجب بنفسه قد عمي عن عيوب
نفسه،
فيراها محاسن ويُبديها، وإني لأعجب للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ويفوته الذي إياه
طلب،
فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء، وأعجب للمتكبر الذي كان
بالأمس نطفة وفي الغد جيفة، وأعجب لمن يُغفل صبرَه ويشكو إلى الناس دهره، فإن كان عدوًّا
سرَّه وإن كان صديقًا أساءه، وليس مسرة العدو ولا مساءة الصديق بمحمودة:
ولا تَشَكّ إلى خَلْقٍ فتُشْمِتَهُ
شكوَى الجريح إلى العِقبان والرَّخَمِ
«والعجز عجزان: أحدهما عجز التقصير وقد أمكن الأمر، والثاني الجد في طلبه وقد
فات».
ويقول في ذكر الحياة والموت: «إنما المرء في الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا ونهبٌ تبادره
المصائب، ومع كل جرعة شَرَق وفي كل أكلة غصص، ولا ينال العبد نعمة إلا بفراق أُخرى، ولا
يستقبل يومًا من عمره إلا بفراق آخر من أجَله، فنحن أعوان المنون وأنفسُنا نُصب الحُتوف،
فمن أين نرجو البقاء وهذا الليل والنهار لم يرفعا من شيء شرفًا إلا أسرعا الكرة في هدم
ما
بَنيَا وتفريق ما جمعا، وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى من يموت.»
ويقول في وصف العلماء: «الخيِّر من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذي هو بالرحمة
أحق منه بالغلظة، ويعذره بنقصه فيما فرط منه، ولا يعذر نفسه في التأخر عن هدايته».
ثم يختم وعظه بقوله:
الدِّين إنصافك الأقوام كلَّهم
وأي دين لآبي الحق إن وجبا
والمرء يُعييه قوْدُ النفس مُصحِبةً
للخير وهو يقود العسكرَ اللَّجِبَا
١١
اللهم اكفني بوائق الثقات ومكايد الأصدقاء.
ثم أنتهي بصاحبي إلى مجلس محاضرات بين الأدباء، ومفاكهات بين الندماء، فنقرأ من لطيف
بَوَادرهم، ورقيق نوادرهم ما ينير ظلمة الفهوم ويجلو صدأ الهموم:
لفظ كأن معاني السُّكر تسكنه
فمن تحفَّظ شيئًا منه لم يفق
جزلٌ يشجع من وافَى لهُ أذنًا
فهو الدواءُ لداء الجبن والقلق
إذا ترنَّم شاد للجبان به
لاقى المنايا بلا خوفٍ ولا فرق
وإن تمثَّل صاد للصُّخور به
جادت عليه بعذبٍ غير ذي رنق
وهكذا قضيتُ مع الباشا زمنًا ليس بقصير أستخرج له نفائس الأعلاق، من بطون الأوراق،
وأقتطف
معه زهر الأدب العاطر، من حدائق الكتب والدفاتر، إلى أن قال لي ذات يوم بين ندم
ولَوم:
الباشا
:
إنَّ أعظم ما آسف عليه اليوم تلك الأيام التي أضعتُها من سالف عمري فيما لا يُجدي
ولا يفيد من مشاغل الدهر وملاهي العيش، ويا ليتني كنت قصرت همي منذ صباي على مثل
هذه المعيشة مع هذا التفرغ لاجتناء فوائد العلوم واقتناء فرائد الآداب مغتبطًا
سعيدًا لا حاسدًا ولا محسودًا، أتنقل من مطالعة الكتب إلى مذاكرة العلماء، ومن
مذاكرة العلماء إلى مسامرة الفضلاء، ومن مسامرة الفضلاء إلى مطارحة الأدباء، والله
يعلم أن أسفي ليزيد شدة، وأنَّ ندمي ليعظم حدة كلما تذكرت ما كانوا يحدثونني به في
أيام دولتي عن مجالس العلم والأدب، فما كنت آبَهُ ولا أنتبه إليها، وكنت أظن أهلها
قومًا من أهل الكسل والفراغ يجلسون للدفاتر والكتب كما تجلس النساء للغزل والردن،١٢ والحمد لله الذي أرشدني إلى الهدى آخر الدهر، فعلمت مقدار هذه النعمة
التي حببت إليَّ الحياة ثانية، وهونت عليَّ احتمال متاعبها، وما إخالك تبخل عليَّ
بعد الآن وقد علمت نفع ذلك لي، بمداومة السير معي في هذا الطريق الحميد، وما أرى من
بأس في أن نترك هذه العزلة حينًا بعد حين للاجتماع بالناس في مجالس الأدب ومجامع
الفضل وأندية العلم لنتذاكر معهم ما نطالعه ونأخذ عنهم ما يحفظونه، وقد زالت
المخاوف واطمأنت الخواطر بزوال الأوبئة والطواعين، والحمد لله رب العالمين.
عيسى بن هشام
:
لا تطمعن أيها الأمير — دفع الله عنك المكاره — في مثل هذه المجالس فقد طوتها
الأيام ورمستها الليالي، ولم يبق اليوم من يأنس إليها وينافس فيها.
الباشا
:
كيف يكون ذلك وأنا لا أزال أسمع ما تزعمونه من كثرة المدارس الآن، وانتشار العلوم
والفنون وتعدّد الطالبين، وسهولة الحصول على الكتب ووفرة المطابع وإطلاق الأفكار من
القيود، وأين هذا مما كنا عليه في الزمن الأول من تعسر الوصول إلى الكتب وتعذّر
استنساخها لضن أربابها كأنها لديهم خفايا الكنوز، حتى لقد كان الجهلاء الذين لا
ينتفعون بها ولا يفقهون منها شيئًا هم أول من يفاخر باقتنائها، ويعتبرونها ضربًا من
ضروب الزينة والزخرف كأنها اليواقيت والجواهر يعجز عنها من يروم الانتفاع بها إن لم
يكن ذا ثروة واسعة تمكنه من استنساخها أو ابتياعها، فلا بد اليوم أن يكون في يد كل
مصريّ كتاب يطالعه، وأن يكون كل واحد منهم قد أصبح في العلوم والفنون أليف محاضرة
وحليف مذاكرة تُزدَهى به مجالس الفضل وتزهو أندية الأدب، وكيف لا يكون ذلك وقد ذقت
من حلاوة المطالعة والمذاكرة ما أنساني حلاوة كل لذة في العالم؟
عيسى بن هشام
:
نعم شاعت العلوم في هذا العصر، وترقت الفنون وكثرت المطابع وسهُل على الناس
اقتناء الكتب ومطالعتها، ولكن قل بيننا عدد الراغبين فيها والمطالعين لها، فكسدت
سوقها وبارت تجارتها وأغفلها من ينتفع بها للاشتغال بسواها من الأمور الباطلة
والأشياء التافهة، ورغب عنها من كان يقتنيها للزينة لكثرة الانتشار والتبذل، والناس
اليوم في حركة لا شرقية ولا غربية قد اشتغل بعضهم ببعض، واكتفوا من دهرهم بحوادث
يومهم فتعطلت بينهم مجالس العلم، واندرست مجامع الأدب، واقتصروا على مطالعة أخبارهم
في الجرائد والصحف دون الدفاتر والكتب، وأنَّى يكون لهم الاستقرار في المجالس وهم
لا يستقرون في مكان، ولا يهدأون من حركة ولا ينفكون عن غدوّ ورواح ولا ينتهون عن
نقلة وسفر، وأكثر ما يكون جلوسهم في المركبات، مركبات الخيول أو البخار أو
الكهرباء، وأهل اليسار منهم يقضون جزءًا من شهور العام مترحلين في بلاد الأجانب
متنقلين في ديار الغربة للنزهة والتفكه، وقُصارى العلم عندهم أن يتلقى الطالب
أشتاتًا منه في المدرسة وأطرافًا، وهو بالسن التي لم يصل فيها بعد إلى تمام التعقل
وكمال الإدراك، فيحفظها ويؤديها كالببغاء، فإن أسعده الحظ في آخر الدراسة ونجح عند
الامتحان تأبط صك الشهادة ونفض يده من تلك العلوم، وطرحها عنه طرح الثوب الخلق،
ونبَذَها نبذ القادم على أهله ما أسن من ماءٍ١٣ وما جف من زاد انتقامًا لنفسه مما عاناه من مشقة، وقاساه من تعب في
درسها وحفظها من غير أن يفقه لها مزية في ذاتها أو يذوق لها حلاوة في طعمها، فإذا
هو بلغ إربته ودخل في خدمة الحكومة أصبح كالعامل من العمال لا العالم من العلماء،
وقل فيهم بعد ذلك من يصبو إلى العلم وأهله أو يحن إلى الأدب وكتبه، ولئن مال بعضهم
للمطالعة، فإنها لا تتجاوز حدّ الكتب المتعلقة بأصول وظيفته، ولذلك أصبحت كتب العلم
والأدب مملولة منبوذة، وثَقُل على الناس مطالعتها لما هم فيه من كثرة الحركة
والتنقل، وطول الانهماك في الأشغال المتجددة، فلا يقوى أحدهم على مطالعة صحيفة من
كتاب إلا وقد بلَّله العرق ودهمه الكلال والملال، ونزل به الضجر والسأم، وإنك لترى
مثل هذا بيِّنًا في حديثهم فهم لا ينصتون إلى قصة متصلة، ولا يتبعون في الكلام قضية
مُرتبة، ولا يعجبهم منه إلا ما كان متقطعًا مبتورًا أو مقتضبًا مجذومًا.
الباشا
:
ما أكاد أُخليك أيها الصديق من غلو في وصف هذه الحال، وهل خلا أو يخلو زمان في
البداوة كان أو في الحضارة من مجالس للعلم، ومجامع للفضل وأسواق للأدب، وما كان
زماننا الذي كنت فيه ليخلو من آثارها حتى لقد رأينا فيها كثيرًا من الكبراء
والأمراء ممن لا نصيب لهم من العلم والأدب لا يُغفلون مجالسهم من وجود شاعر مجيد أو
فاضل أريب، أو نديم أديب أو محدِّث ظريف تتفكه به النفوس وتستريح له القلوب، هذا
والكتب بين الناس قليلة التداول والعلم بعيد التناول، فما بالكم اليوم على هذه
الحال التي تصف والصحف منشورة والكتب مطبوعة وأسماء العلوم مذكورة.
عيسى بن هشام
:
قد استغنى كبراؤنا وأمراؤنا اليوم عن تزيين مجالسهم بالعلم والأدب، وقصروا هممهم
فيها على التفاخر بالمقتنيات المزخرفة والأدوات المصنَّعة من عمل الغربيين، فترى
الكبير أو العظيم يقلب في يده العصا المضيئة بالكهرباء مثلًا أو الساعة التي ترنُّ
بعدد الثواني وهو يعتقد أنها أجل قيمةً في العين، وأجمل أثرًا في النفس من جميع
العلوم التي تستضيء العقول بممارستها، ومن جميع الكتب التي تصفو ساعات الحياة
بمطالعتها، ولا تتوهمن أنني أجزم لك بخلوِّ هذا الزمن عن مجالس للعلم ومحافل للأدب،
وما كان كلامي إلَّا على الوجه الأعم، وقد آن أن أجيبك إلى ما طلبت فأزُور بك بعض
المجالس والمحافل لينقطع رَيبك، وليطمئنَّ قلبك.