الأعيان والتجار
قال عيسى بن هشام: واستنهضت الباشا أزور به مجلسًا من تلك المجالس المعدودة، والأندية
المعقودة، مجلس الوجهاء والتجار، أهل الصيت المرتفع في الأمصار، فشهدت منه ازورارًا
وانقباضًا، ووجدت فيه انحرافًا وإعراضًا، ثم التفت إليَّ يعاتبني عتابًا شديدًا، ويوسعني
عذلًا وتفنيدًا، ويقول لي: ما عهدت منك منذ صاحبتك إلا الخير لي تريده، والنفع تبدؤه
وتعيده، وما زلت أشكر لك تلك اليد البيضاء في العزلة عن الناس والتخلص من مواقف القضاء،
دفعًا لما كنت تحذر وتخشى من شر الخاتمة وسوء العقبى بتزاحم الأحزان، وتراكم الأشجان،
وما
تعقبه من السقم والاعتلال، وسوء النكسة بعد النقه والإبلال،
١ فما بالك تستنهضني إلى مثل هذه المجالس والمجامع.
وربما كان فيها ما يؤذي العيون وينفر المسامع، وقد شاهدتني يكاد يصيبني التلف، من
شدة
الحزن والأسف، فقلت: أشهد الله ما أبغي لك إلا الخير والتوفيق، في كل مذهب وطريق، وقد
رأيت
التجارب أوسعتك كرمًا وحلمًا، وصروف الدهر أكسبتك معرفة وعلمًا، بعد قلة الاختيار، وكثرة
الاغترار، وسوء الابتدار، في الإيراد والإصدار، وما كان فيك من خشونة الملمس، وشموخ الأنف،
وضيق العطن، وصلف الرأي، وما أحب لك بعد ذلك أن ترى في أمور الناس إلا مشهدًا يُسلي عن
الكرب، وملعبًا يفرج عن القلب، فلا يكن نظرك إلى أعمالهم في غدوهم ورواحهم وفي أفراحهم
وأتراحهم، ونعيمهم وبؤسهم، ورجائهم ويأسهم، مثل نظر الحكيم «هيراقليط»، بل مثل نظر الحكيم
«ديموقريط»، كان الأول يشاهد أمور الناس فيبكي ويتحسر، وكان الثاني يراها فيضحك ويسخر،
فإذا
أنشد أحدهما في نصرة مذهبه:
الناسُ من دنياهم في مأتمٍ
فالسُّحب تبكي والرواعدُ تندب
أنشد الثاني في تأييد مشربه:
هذي الحياة روايةٌ لمشخص
فالليلُ ستر والنهار الملعب
ومن صواب الرأي أن لا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تذرف عينك من أجلهم العبرات، وهلمَّ
معي
أمتعك بزيارة مجلس يؤنس من وحشتك، ويكشف من غمتك، فأسلس مطاوعًا في القياد، ووافقني على
ما
تبين له من الرشد والسداد، فيمَّمت به دارًا عالية الجدران، واسعة الأركان، شاهقة البنيان
لأحد التجار والأعيان، فزاحمنا عند الباب سائسٌ يسحب فرسًا مصحبًا مطيعًا، ويحمل على
كتفه
طفلًا رضيعًا، يقول وقد أظهر الغيظ بواطنه الكامنة: «لست أدري والله أسائسٌ أنا أم حاضنة؟»
ومن ورائه آخر يحمل صفحةً متدفقةً بالمخلَّل، يقول وقد تلوَّث بمائها وتبلل: «علام أتعب
في
هذه الدار وأشقَى؟ وإلام يدوم هذا الشقاء ويبقى؟ ولست أدري والله أسائقٌ أنا أم سقَّا؟»
ولما ولجنا الباب إذا بالبواب يقول وفي يده صرة ثياب: «لا مردَّ للمقدور والمقضيّ، ولا
رجاء
في العيش الرخيّ، والله ما أدري أبواب أنا أم خصيّ؟» ولما جاوزنا دهليز المكان، إلى باب
الإيوان، وجدنا عنده غلامًا فتيَّ السن يتنهد ويئن، وبين يديه دخان وورق، وبجانبه كتاب
مطبق، وهو يقول: «عجبًا والله للوالد يشغل ابنه بسجاراتٍ يحشوها فيلهيه بها عن دروس له
يتلوها، لا غرو إن فاضت العيون بسواكبها، واحترقت القلوب بلواهبها، فما أدري والله أفراش
الدار أنا أم ابن صاحبها؟» فما أحس بنا حتى انتفض قائمًا، وتقدم مسلمًا، ثم ذهب أمامنا
ليذكر قدومنا، وإذا بالوالد مقبلًا علينا يتكفأ في مشيته، ويتعثر في جُبته، فسهل بنا
ورحَّب، وبالغ في التحية وأسهب، ودخل بنا على أهل مجلس مختلفي الأزياء والهيئات، متبايني
الأشكال والسِّمَات، فمن صاحب عمامةٍ يتعهد بيده رصفها وآخر يجدد لفَّها، ويحبك بالإبر
طرفها، ومن صاحب طربوش قد أماله على جبينه، فإذا تحرك أسنده بيمينه، فترى يده أبدًا لا
تسكن
ولا تستقر، كأنما هو في تأدية سلامٍ مستمر، ووجدناهم جميعًا قد كثر بينهم اللغو اللغط،
وسمعناهم يتحاورون على هذا النمط.
أحدهم
:
نعم لا بد من ذلك إذا يسَّر الله وتم الاتفاق مع الخواجه فلان، فإن إقامة عمارة
أخرى بجانب تلك العمارة مما يأتي بأرباح لا يمكن أن تأتي بها الأشغال التجارية،
وأنا أنصحك يا أبا هاشم أن تترك التجارة جانبًا، فقد أصبحت الآن لا نفع يُرجى منها،
وتوكل على الله في الاشتغال معنا بالأبنية فهي أنجح وأربح.
الثاني
:
ومن أين لي زادك الله من النعمة والبركة ما يساعدني على هذا التوسع، والحال على
ما تعلم ضعيفة، والحمد لله على نعمة الستر، فهي الغنى الكامل؟
الأول
:
لا تقل هذا أيها السيد، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
فَحَدِّثْ ودعواك ضعف الحال إن هي إلا تواضع منك، والله يزيدك فضلًا
على فضل.
الثاني
:
أستغفر الله يا سعادة البك هذا حسن ظن منك وإلا فالحقيقة غير ما ظننت، وقد قلت
لك: إن الستر هو الغنى الكامل، وعلى كل حال فالبركة في التجارة، فمنها كان رزق
الآباء والأجداد، وربحٌ مستور، أبرك من ربح مشهور.
ثالث
:
تالله إنكم لفي ضلالكم القديم، وهل بقي في التجارة التي زاحمكم عليها الأجانب ربح
يذكر أو رزق يطلب، فاتركوا هذا الخمول وعليكم بأشغال الأقطان في البورصة، فهي الربح
المضاعف والرزق الحاضر يأتيك رغدًا بلا كد ولا تعب، وكم رأينا من فقير وَلَج
البورصة فخرج بفضل المضاربات غنيًّا كبيرًا، وهذا صاحبنا الخواجة فلان اليهودي
وفيكم من أدرك والدته تبيع الخبز بالحارة، قد مارس تلك الأشغال، فأصبح أكثر الناس
مالًا وأرفعهم حالًا، ونحن لا نزال على ما تركه لنا الآباء والأعمام، رحمة الله
عليهم.
رابع
:
ولكن فاتك أيها السيد أن صاحبنا هذا الذي تعنيه لم يصل إلى ذلك إلا بأشغال
السمسرة، وفيها من الحطة ما لا يخفى عليكم، وهل تريدون أن ينزل أحدٌ منا بنفسه إلى
هذه الأشغال بعد أن عشنا مثل هذا العمل؟
الثالث
:
حاشا لله أيها السيد ليس هذا من قصدي، وإنما أردت أن أبين لكم أن هذا اليهودي دخل
البورصة سمسارًا لا يمتلك مالًا، فأصبح من كبار الأغنياء، فما بالك بمن يدخلها وهو
صاحب ثروة، لا شك أنه يخرج منها بعد مدة قصيرة قارون زمانه.
خامس
:
ما وراء الربح الكثير إلا الخسران الكبير، وقد شاهدنا بأعيننا ما أنتجته أشغال
البورصة من تخريب البيوت العامرة، وتبديد الغنى الواسع وانحطاط العماد الرفيع، وأرى
أن الإقدام على هذه المهالك من الجنون المحض «فالله خيرٌ حافظًا».
سادس
:
أما أنا، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فقد كفاني تأديبًا ما تكبدته من الخسائر
في تلك المضاربات على الأقطان، ولولا فضل الله وبركة دعاء الوالدين لما نجوت من
الخراب.
الثالث
:
لا حول ولا قوة إلا بالله إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ كيف تخشون الخسارة في أشغال الأقطان، وتتوقعونها والربح
فيها مضمون مع بعض الانتباه لمجرى الأخبار وحسن التخمين في الإحصاء، وتقدير المحصول
والمطلوب للتسليم، ومع القليل من الممارسة والجراءة في العمل.
سابع
:
كيف تدعي ذلك — حفظك الله — وهذا فلان المشهور قد انقطع لهذا العمل، واجتمعت فيه
معدَّاتُهُ فما زال يهوي في بحر البورصة حتى وصل في الخسارة إلى القرار، وإن كان لا
يزال ظاهرًا في أعيننا بمظهر الغنى الواسع والمال الجمّ.
ثامن
:
سبحان الله ألا تعجبون معي من اتساع الشهرة بيننا بالغنى والثروة، ثم لا نلبث أن
تنكشف الحال عن القلة والضعف، فكم سمعنا بأن فلانًا صاحب ثروة تقدر بألوف الألوف ثم
يظهر الخفيُّ ويتضح الباطن، فلا تبلغ الحقيقة معشار تلك الشهرة الكاذبة.
الخامس
:
نعم صدقت ألم تروا إلى المرحوم فلان كيف كان يفاخرني في كل مجلس، عندما أخذت
الرتبة بأنه أكثر مني مالًا وأعظم ثروة، وأن مقامه بذلك رفيع ومرتبته سامية، فلما
توفاه الله انكشفت الحال، ولم يرث عنه أولادُهُ ما يكفي لبقاء بيته مفتوحًا وبقاء
اسمه مذكورًا، وقس على ذلك أمثاله من هذا القبيل فسبحان الغني الدائم.
الرابع
:
دعُونا بالله من ذكر الأولاد والمواريث، فإنني كلما تذكرت أخلاق آبائنا في هذا
الزمن، ورأيت ما وصلت إليه ثروة فلان وما انتهى إليه حال أولاده من الفقر والضنك
بعد أن بدَّدوا تلك الأموال الطائلة، وأصبح ذكر أبيهم بينهم نسيًا منسيًّا فلا
يزورون له قبرًا ولا يطلبون له رحمة، هان عليَّ أن أنفق ما في حوزتي في حياتي، وأن
أتمتع بأموالي في مدة عمري.
الخامس
:
معاذ الله أن نفعل ذلك بأبنائنا، وما فائدتنا في هذه الدنيا إذا لم نجمع الأموال
وندخر الثروة لأعقابنا، ونترك لهم ما يغنيهم عن سؤال اللئيم بعدنا، ولا تجعل الذنب
كله على الأولاد في تبديد المواريث، بل الذنب كل الذنب على الآباء الذين يتركون
أموالهم هَمَلًا بعد موتهم، ويغفلون عن تقييدها بالوقف فينتفع الأولاد بالريع،
وتبقى العين قائمة والبيت مفتوحًا والاسم مذكورًا، ولا يحتاج أحد من الذرية وذرية
الذرية مع وجودها إلى …
السادس
:
لا مؤاخذة يا سعادة البك في مقاطعة الحديث، ألم تسمع بما حصل في وقف فلان وفلان
وغيرهما، وكيف اغتال النظار حقوق المستحقين، وذهب الوقف ضياعًا بين القضايا
والدعاوى والديون، حتى آل النظر والاستحقاق فيها لليهود، واندثرت البيوت وعفَت
الآثار، وذهبت أسماء أصحابها كما ذهب أمس قبل اليوم.
السابع
:
نعم ينفع الوقف ويبقى الميراث على شرط أن يكون بمثل الشروط التي وقف بها المرحوم
فلان، فإنه خصص جانبًا من الريع لذريته، واشترط أن يحفظ الباقي ويدخر، وكلما تكوَّن
منه نقد عظيم يُشترى به عقار ثم يوقف ويضاف إلى الوقف الأصلي ليكون في نمو متواصل
على توالي الأيام وصروف الحدثان، وبذلك يصير البيت في درجة عالية من الغنَى بعد
وفاة صاحبه فوق ما كان عليه في أيام حياته، فأنعم بها من طريقة وأحسن بها من
وسيلة.
الثالث
:
ليس ذلك من الحزم في شيء، ولكنه الغلو في البخل والشُّح ومحبة الادخار بعد مفارقة
الحياة، ولقد حرم المرحوم نفسه من التمتع بماله في حياته وحَرَمَ أولاده منه بعد
موته بابتداع هذه الطريقة الغريبة في شروط الوقف.
الأول
:
أطلبُ منك العفو والسماح وعدم المؤاخذة، فمن يقول: إن المرحوم كان شحيحًا مقترًا،
قد والله عاشرته الزمن الطويل فما رأيته يحرم نفسه أو يقتر عليها، وما كانت مائدته
لتخلو من الضأن أو الحمام أو الدجاج، وحقِّ جدِّك، وإنما كان الرجل حازمًا لا ينفق
ماله إلا في الوجوه النافعة.
الثاني
:
لا اعتماد عندي في هذا الباب على الوقف أو الملك، وخير ما يدخر الوالد لأبنائه
وأفضل ميراث لهم أن يحسن تعليمهم وتهذيبهم في المدارس، وأن لا يعودهم في حياته
الإنفاق والتبذير، بل يروضهم على التوفير والتدبير ومعرفة قدر الدرهم
والدينار.
الأول
:
وهل جاءتنا المصائب في أولادنا إلا من هذه المدارس وتعليمها، وهل زادهم ذلك
التهذيب إلا ما شئت من الفظاظة والوقاحة والكبرياء والمكابرة، ولقد أدهشني فلان
بالأمس، وأضحكني في شكواه مرّ الشكوى من حال ابنه المتهذب المتعلم في المدارس
والمجالس؛ إذ قال لي في حديثه: «ما زال هذا الولد يزيد في تعذيبي وتكديري منذ خروجه
من المدرسة، فأصبح لا يكلم أهله إلا بالرّطانة ولا يعرب عن غرضه إلا بالتعنيف
والتأنيب، ولا يرضى عن شيء في البيت، فإذا جاءوا له بالماء قال: فيه الميكروب، وإذا
أتوه بالخبز والجبن قال: عليَّ بالميكروسكوب، ثم ترى الشقيَّ يقسِّم الأطعمة
أقسامًا، فيقول: البيض واللبن غذاء كامل، والخُضر غذاء ناقص، لا ينفع ولا يمري، وأن
الأرز وما شابهه من «المواد النشائية» لا فائدة منها سوى أنها تحترق كالوقيد في
الجسم، وما زاد منه عن الحاجة فهو شحم يغلظ به الجسد وتتورم به الأعضاء، وأن
الفواكه لا بد أن تؤكل من ساعتها إذا تشققت خصوصًا البطيخ؛ لأنه أسرعها قبولًا
لتولد الحيوانات السامة، وهلم جرًّا حتى حير الخبيث أهل البيت في طعامه وشرابه فوق
ما حيَّرني في اختلاف ملابسه وتعدُّد أزيائه، وكلما عارضته في شيء شمخ بأنفه
استكبارًا ولوى عنقهُ استحقارًا، وسخر بي لجهلي وفخر عليَّ بعلمه، هذا هو منتهى
التأدب الذي يكتسبه أبناؤنا من علوم المدارس، يتعالون على آبائهم ويعيرونهم بعد أن
كان الولد كالبنت البكر في الزمن الماضي لا يرفع طرفه في وجه والده حياءً ووجلًا،
وكان لا يجرؤ على مكالمته إلا مجيبًا عن سؤالٍ من صغره إلى كبره.
الثاني
:
ولكن فاتك أن تعليم أبنائنا في المدارس يفيدنا فائدة عظيمة يُغتفر لها كل ذنب،
وهي دخولهم في سلك الموظفين في الحكومة وارتقاؤهم المراتب والمناصب، ويا ليت آباءنا
كانوا التفتوا في أيامهم إلى تعليمنا في المدارس فكنا استغنينا عن ممارسة التجارة
وذل البيع والشراء، وكساد السوق وترويج السِّلعة بالأقسام والأيمان، فما العيش إلا
عيش الموظفين الذين يأخذون مرتبهم في آخر كل شهر نقدًا عينًا وذهبًا خالصًا دفعةً
واحدة سالمة لأيديهم بلا مطل ولا تسويف، في مقابل جلوسهم بالديوان ثلاث ساعات من كل
يوم يقضون الجزء الأعظم منها في المسامرات والمفاكهات، ثم ناهيك بما لهم بين الناس
من التوقير والتعظيم، وما في قدرتهم من مساعدة الأصحاب ونكاية الأعداء، ورأس المال
في ذلك كله الإحاطة ببضعة كتب في المدرسة، فأخبرني حينئذٍ أي ربح في التجارة وأي
شأن لها يوازي هذا الربح وهذا الشأن في خدمة الحكومة، وسبحان من قسم الحظوظ فلا
عتاب ولا ملامة.
الرابع
:
كل هذا معلوم ومسلَّم به، ولكن من أين لك أن ينال ابنك الشهادة وأنت تعلم حال
القابضين على زمام التعليم، فقد خرج أكثر أبنائنا من المدارس بلا شهادة وخسرنا
عليهم الأموال في نفقاتها، ومن صادفتهُ العناية منهم ونال الشهادة مثل ابني، فإنه
لم يزل يتردد على أبواب الحكومة في تطلب الخدمة، والوظائف مشحونةٌ ونظار الحكومة لا
يجددون سواها.
السادس
:
عسى الله أن يبدل الأحوال وتسقط هذه النظارة ويمنَّ علينا برجوع أولئك النظار
الذين يهتمون بمصالح أهل البلد وأبناء الوطن، فترى حينئذ كيف يكون تقدم أبنائنا في
المناصب.
الخامس
:
حقًّا إذا ذهب هؤلاء النظار وعاد صاحبك إلى النظارة، فقد أقبل علينا السعد وانجلت
الكروب وصفت الأوقات، وأنا أرجو أن لا تنسى ابني عند السعي لأنجالك فقد كان معهم في
مدرسة واحدة، وهو دائمًا يطالع الجرائد، ويترقب الحوادث التي يكون من ورائها سقوط
هذه النظارة.
الثامن
:
أراكم تخبطون في أمر أولادكم على غير هدًى، والأصوبُ عندي أن نعلّمهم العلوم
ليكونوا أسوة أهل زمانهم معرفةً واطلاعًا، لا لأجل التوظف في الحكومة والخروج عن
طبقاتهم، وأما من جهة حفظ المواريث في أيديهم بعد مماتنا فأحسن الطرق أن لا نقتر
عليهم في النفقة أثناء حياتنا، وأن لا نتركهم بمعزل عن أشغالنا، بل نخصص لهم قسمًا
من المال يشتغلون به على حدتهم تحت أعيننا ليتمرنوا على العمل، ويدركوا لذة المكسب
بأنفسهم فتتربَّى لهم ملكة الحرص على المنافع، وينتفعوا بعلومهم في اتساع تجارتهم
والتفنن في أبواب المرابحة، وقد جربت ذلك في أولادي وأنا أرجو فيهم الخلف الصالح إن
شاء الله.
السادس
:
هل جاءت جريدة اليوم؟
صاحب البيت
(مناديًا لابنه)
:
ائتنا بالجريدة واقرأها علينا.
(يحضر الغلام وفي يده الجريدة ناشرًا لها.)
الأول
:
اقرأ لنا من الأول.
الغلام
(قارئًا)
:
الحرب.
السادس
:
هل وقعت الحرب؟
الغلام
:
ليس يتبين ذلك من أول المقالة.
السادس
:
اقرأها من آخرها.
الخامس
:
اتركها من أولها إلى آخرها، واقرأ في «المحليات» فلا فائدة لنا في وقوع الحرب أو
اجتنابها.
الغلام
(قارئًا)
:
تأليف الشركات.
الرابع
(للسادس)
:
لا يذهب عن فكرك مشروع الشركة الوطنية التي كنا تكلمنا في تأليفها منا لمشتري
الأطيان المعلومة من الحكومة.
الخامس
:
إن شاء الله يكون لنا نصيب معكم في هذه الشركة.
الثالث
:
مَنْ أعضاؤها، ومن الرئيس؟
السادس
:
أعضاؤها فلان وفلان وفلان ورئيسها فلان.
الثالث
:
معاذ الله أن أقبل الدخول مع فلان في شركة، وهل نسينا ما وقع منه.
الثاني
:
وأنا لا أقبل الدخول في شركة بعد تلك الشركة المشهورة بخيبة المسعى ما لم أكن أنا
الواسطة في مقابلة الحكام والمداولة معهم.
السابع
:
وأنا لا أقبل الدخول فيها إلا إذا كانت «أسهمي» في التأسيس أكثر من فلان.
الأول
:
وأنا لا أقبل أن يكون فلان رئيسًا عليَّ في شركة أبدًا.
قال عيسى بن هشام: واشتد بينهم الجدال والخصام فحملقت العيون وعبست الوجوه وتحركت
الضغائن
وثارت الأحقاد، ورأينا كل واحد منهم يضمر لأخيه من الشر والأذى، ما لا يضمره القرن لقرنه
في
ساحة الوغى، فانصرفنا عنهم وتركناهم يموج بعضُهُم في بعض، كأنهم في موقف الحشر ويوم
العرض.