الشرطة أو البوليس
ولما غادرنا ساحة القلعة انحدرنا في الطريق، وبينا نحن نسير؛ إذ تعرض لنا مُكار يسوق حماره وقد راضه الخبيث على التعرض وسد الطريق على المارة، فكلما سرنا وجدنا الحمار في وجهتنا والمكاري ينبح بصوت قد بُحَّ حتى أمسك بذيل صاحبي يقول له:
قال عيسى بن هشام: ثم أمسك الباشا بعنق المكاري وأوسعه ضربًا، وأخذ المكاري يستغيث وينادي: يا «بوليس» يا «بوليس»، وأنا أجتهد في إنقاذه من مخالبه وأستعيذ بالله من شر هذا اليوم، وأقول للباشا: ليس هذا مما يُحمد عقباه، فاتَّق الله أيها الأمير في عباد الله، فما أتممت هذا القول حتى رأيته اشتد به الغضب وتغلبت عليه الحدة فتغير وجهه، وانقلبت حَماليقه، وتقلصت شفته واتسع منخره وضاقت جبهته، فخفت أن يحمله جنون الغضب على البطش بي مع المكاري فتداركت أمري وقلت له: مثلك — أدام الله عزك — لا يتنزل لمثل هذا الفعل، فأنت أرفع قدرًا من أن تمس بيدك الشريفة مثل هذه الجيفة، فسكَّنت بذلك من حدته، وعمدت إلى المكاري فوضعت في يده دُريهمات على غير علم من الباشا وطلبت إليه أن ينصرف عنّا، فما ازداد اللئيم بذلك إلا استغاثة بالشرطة واستنجادًا بالبوليس.
قال عيسى بن هشام: فقلت في نفسي: كيف أنادي البوليس وأنا أحمد الله على سكوته وسكونه، وهو بمقربة منا لا يكترث بنداء المستغيث، ثم التفتُّ إلى الباشا وقلت له: إن البوليس هو الذي تراه أمامنا وليس يفيد فيه الآن صياحٌ أو نداء فإنه مشتغل ببائع الفاكهة كما ترى، ولما لمح المكاري البوليس أمامه أسرع إليه وتبعَه من تجمَّع حولنا من النظَّارة، فوجدوه واقفًا، وفي يده منديل أحمر قد امتلأ بأصناف متنوعة مما جمعه في صباحه من باعة الأسواق في محافظته على «النظام»، وهو لاهٍ بصاحب الدكان يأمره أن يضع في داخلها ما عرضه في خارجها من «عيدان القصب»، وفي يده عود منها يهدده به ويهزه في وجهه هزَّة الرمح، ثم هو يضاحك من جهة أخرى طفلًا على كتف امرأة ويناغيه، حتى إذا أقبلنا نحوه أقبل علينا والمنديل في يد «وعود القصب في الأخرى».
قال عيسى بن هشام: وجَذَب الشرطيُّ صاحبي من ذراعه، فكاد يُغمى عليه من الدهشة فلم يدر ما يصنع، وأودع البوليس ما كان في يديه من الفاكهة وغيرها عند الرجل الذي أودع المكاري حماره عنده، وسار صاحبي مسحوبًا بذراع الشرطي، والمكاري خلفهما، والجمع على أثرهم إلى «القسم»، فلما وصلوا إليه وصعدوا السُّلم بدأ المكاري يَصرخ ويصيح، فقابله أحد عساكر «المراسلة» فضربه ليسكته؛ لأن «حضرة المعاون» غريق في نومه، فدخلنا جميعًا في حجرة «الصُّول» لضبط الواقعة فوجدناه يأكل والقلم في أذنه وقد نزع «طربوشه» وخلع نعليه وحلّ أزرار ثيابه. وبجانبه اثنان من الفلاحين، أظنهما من أقربائه، يشاهدان ما يتمتع به من لذة الأمر والنهي وسعَة سلطانه على الكبير والصغير في عاصمة القطر وقاعدة المُلك، وما في قدرته من حبس أي شخص كائنًا من كان وشهادته عليه بما يجري في هواه، فطَرَدَنَا جميعًا من الحجرة حتى ينتهي من طعامه، فخرجنا ننتظر، وأراد الباشا أن يستند على الجدار من شدة ما ألمَّ به من الحزن فخانته يده فسقط فوق جنديّ كان يكنس الأرض هناك، فأخذ الجندي في السب والشتم ودخل إلى حجرة «الصول» هاجمًا فقال له: إن المتهم الذي يشتكي منه المكاري تعدَّى عليَّ «في أثناء تأدية وظيفتي» فضربني بكل جسمه، فأمر «الصول» بإحضاره ونادى كاتبهُ العسكري، فطلب منه أن يحرر «محضَرَين» محضر مخالفة ومحضر جنحة، وأملى عليه كلامًا مصطلحًا عليه لم أفهم منه حرفًا، وبعد أن شهد «البوليس» الذي جئنا معه في محضر المخالفة بما ينفع المكاري في تأييد دعواه، وشهد «الصول» نفسُهُ في محضر الجنحة بأنه شاهد المتهم يتعدى على أحد عساكر القسم في أثناء تأدية وظيفته، ختم المحضَرَين وأمر بالمتهم أن يُؤخذ إلى «خشبة المقاس» وتحرير «ورقة التشبيه»، فجاء العسكري صاحبُ الدعوى وأخذ بيمين صاحبي وأجرى ذلك عليه بنفسه وأذاقه أنواعًا من الأذى في مقاسه، كل هذا والباشا كالمغشي عليه من الدهشة والذهول، حتى إذا أفاق من غشيته التفتَ إليَّ يقول:
قال عيسى بن هشام: ولما وقفنا أمام الكاتب لتحرير «ورقة التشبيه» سأل الباشا هل له من ضامن يضمنه، فقدَّمت نفسي لضمانته فلم يقبلوا مني إلا بتصديق «شيخ الحارة» فحرتُ في أمري، ومن أين أجد «شيخ الحارة» في الحال؟ فألقى بعض العساكر في أذني أن اخرج فإنك تجد «شيخ الحارة» بالباب فأعطه عشرة قروش للتصديق على الضمانة، فخرجت ولحقَني ذلك العسكري فدلني على شيخ الحارة وتوسط بيننا في مناولة أجرة التصديق، ثم اشتغل عني بمشاركة العساكر في ضرب أرباب القضايا الذين علا صياحُهم وعويلُهم ليخرسوهم خشية أن يوقظوا المعاون من رقاده، ثم ما لبثوا أن رأيتهم قد امتنعوا عن الضرب في أقلّ من لمح البصر وتفرقوا مُهرولين كأن نازلًا نزل عليهم من السماء، ووجدت مَنْ كان من بينهم أشد إيذاءً لعباد الله وأعظم حرصًا على راحة المعاون في منامه قد هجم على باب الحجرة، فدفعه بكل قواه ففتحه وأخذ يهز السرير هزًّا عنيفًا، فاستيقظ المعاون فزعًا، وعلمَ أن «المفتش» قد شوهد داخلًا من باب القسم، فأسرع إلى ثيابه فلبسها في لحظة وهروَلَ إلى استقباله، فلما رآه وقف «وقفة النظام»، ولكن كان من نكد طالعه أنه ذهل عند لبس «الطربوش» فلم يجعل زرَّه جهة اليمين بل تركه فوق الجبهة، وكان الشَّعر قد تجدد في عارضيه؛ لأنه لم يتمكن من حلقه في يومه، فأخذ المفتش عليه ذلك ودخل إلى الحجرة مُغضبًا فاشتغل بكتابة تقرير لمحاكمة المعاون على مخالفته في الزي «للأوامر المستديمة».
ولما رأى الباشا سكون الضرب والصياح مرةً واحدة، وما تولَّى العساكر من الخوف والاضطراب، وما شاهده من حركات المعاون، سألني عن شأن هذا الداخل الذي أورث ذلك الانقلاب، فأعلمته بأنه «المفتش» جاء إلى «القسم» للتفتيش والتنقيب في «الأحوال» والنظر في شكوى الشاكين، وتطبيق أعمال العمال على ما يقضي به القانون والنظام، فقال: إذًا فلندخل إليه لنعرض عليه ما أصابنا من الإهانة، فدخلنا فوقفنا أمامه فوجدناه يكتب في تقريره، فالتفت إلينا وسألنا عن أمرنا، ولما بدأنا بذكر القصة أمر أحد العساكر بإخراجنا من حضرته، ثم رأيناه قد وضع التقرير في جيبه بعد كتابته ونزل مسرعًا لم يلتفت في التفتيش والتنقيب لغير زيِّ المعاون، ولما انصرف عاد الضرب والصياح والضجيج في أنحاء القسم إلى أشد ما كان عليه قبل حضوره، وصاح أحد المضروبين في شدة ألمه بأنه لا بد أن يشتكي عمال القسم إلى «النيابة»، فدخل أحد العساكر إلى المعاون ليخبره بما يقول الرجل فوضعتُ أذني عند الباب فسمعت المعاون يحادث نفسه بقوله: «ما هذه الخدمة وما هذا الذل؟ ولعنة الله على ضرورة الحاجة في المعاش، ومع ذلك فالحمد لله؛ إذ كان هذا المفتش من الأجانب ولم يكن من «أولاد العرب» فهو خير منهم؛ لأن عجزه في فهم اللغة وجهلَهُ بالعمل جعله يقتصر في التفتيش على طربوشي ولحيتي، ولو كان من «أولاد العرب» لاطلع على الاختلال الواقع في القضايا وما يرتكبه عمال القسم من مخالفة «الأصول»، ثم التفت إلى العسكري وسمع منه ما ينقلهُ إليه من قول ذلك الرجل الذي عزم على الشكاية إلى «النيابة» فازداد همه واشتد غضبه، فأمر بحبس المتهمين جميعًا أربعًا وعشرين ساعة، والباشا داخلٌ فيهم فذهبت إلى المعاون وكلمتُه فيه ليطلقهُ بعد ضمانتي له فأبَى ذلك، وقال لي بوجه عبوس: الأولى أن يبقى في القسم إلى الغد حتى يُكشف على «السوابق» ثم يرسل من هنا إلى النيابة. فدخل الباشا الحبس مع الداخلين.