أرباب الوظائف
قال عيسى بن هشام: وسرنا إلى زيارة مجلس من أرباب الحكم والولاية، وذوي السياسة والدراية،
ممن بيَدهم حلُّ الأمور وعقدها، وبملكهم شقاء الأمة وسعدها، الناشئين في مهد المعارف
والعلوم، والنابغين في أشتات المنطوق والمفهوم، والموصوفين بدقة النظر وبعد الهمم،
والواقفين على أخلاق الخلق وعادات الأمم، الذين تنكشف لضوء آرائهم غياهُب الخطوب الداجية،
وتنقاد للطف سياستهم أزمة القلوب الآبية، فوصلنا إلى دار يزهر بياضُها، ويبهر إيماضها،
قد
ضربت عليها المحاسن أطنابها، وخلعت عليها الزخارف جُلبابها، فسار بنا الخدم إلى حجرة
في
جانب الساحة، أعدت للانتظار والاستراحة، وإذا برجل جالس فيها يتمايل بين يقظان ووسنان،
فرأسُه كُرَةٌ والكرى صولجان، فلما أحس بقدومنا ودخولنا عليه، انتبه يزيح النعاس بإصبعه
عن
عينيه، فسلمنا فسلم، وهو يتثاءب ويتلعثم، فتخيلناه من ظاهر جملته، وبذاذة هيئته، أنه
صانع
من الصناع أو تبعٌ من الأتباع، ولكن ما لبث أن ظهر لنا من مخاطبته للغلام، أنه ذو رحم
في
البيت وذو مقام.
ثم التفت إلينا يخاطبنا ويقول، بعد أن ذهب الخادم مستأذنًا في الدخول: «قبح الله
الخدم،
فهم نقمة من النقم، شرّهم حاضر، وخيرهم نادر، والعناء بهم ليس له آخر، فكم أغضبوا حليمًا،
وآذوا كريمًا، وكم كسروا الصحيح، وخلطوا الصريح، وكم ارتكبوا جرمًا وإثمًا، وجاءوا إفكًا
وظلمًا وكم فتحوا الأغلاق، واختلسوا الأعلاق، وكم أحدثوا الشقاق وأذهبوا الوفاق، وكم
فرقوا
بين المرء وأهله، وحالوا بين الفرع وأصله، ولعنة الله عليهم في الدارين، فقد ذقتُ منهم
الأمرين، وكادت تصل بنا أفعالهم الشنيعة إلى ما لا يُحمد من الجفاء والقطيعة، وابني حرسه
الله ينظر ويُغضي، ويتحمل منهم ما لا يُرضي، وهم يتجنَّون علينا وينتصرون، وإذا أمرتهم
بأمر
لا يأتمرون، ويشهد الله أنني كلما رأيت مال ابني في أيديهم يتبعثر ويتبدد، وثقته بهم
تتضاعف
وتتجدد، ذاب الفؤاد فسال من العيون، مشوبًا بماء الشُّؤون،
١ وأما وكيل البيت، وما أدراك ما الوكيل، فحسبنا الله ونعم الوكيل، فتًى لا تخطئ
في النفاق مخيلته، ولا تطيش في البيت حيلته، دأبهُ المكر والخداع، وديدنُه الشقاق والنزاع،
يرضى طفلًا، ليسخط كهلًا، ويتملق للجارية في الحرم، وللوصيف من بين الخدم …»
هذا، وما زال الرجل يشكو ويتضجر، ويتأفف ويتحسر، فلم ينقذنا من هذه الشكوى التي تصم
الآذان، إلا رجوع الغلام بجواب الاستئذان، فانتهينا من شقشقة لسانه، وحمدنا الله على
كرمه
وإحسانه، ثم اقتفينا أثر الغلام إلى حجرة بادية الرُّواء، مضيئة بالكهرباء، مفروشةٍ بأثمن
فراش، وأبدع رياش، على اختلاف في الأجناس والأنواع، وتباين في الأشكال والأوضاع، فالتحفة
الشرقية، تقابلها الطرفة الغربية، وآنية الذهب يضارعها آنية الخشب، فوجدنا المجلس حافلًا
بأهل الولاية والقضاء، من الرؤساء والوكلاء، فأخذنا مجلسنا نستمع ما يدور من السمر، ونجني
من أدبهم ما يحلو من الثمر، ودونك بعض ما اقتطفنا وجنَينا، وسمعنا ووعينا:
أحدهم
:
نعم حبذا نصرة حزب الجيش على بقية الأحزاب في فرنسا، فإن في ذلك لو تعلمون تحرير
رقبتنا وانقضاء محنتنا.
ثانيهم
:
ما أبعدَ ما ترمي وما أسرع ما تحكم، فهلَّا نبأتنا لله أبوك كيف ترتيبك لهذه
القضية واستقراؤك لهذه النتيجة، وما نحن وخذلان الأحزاب الفرنسية ونصرة حزب الجيش
عليها!
الأول
:
أراك لست بعويص الرأي في السياسة، ولا ببعيد الغور في استخراج النتائج، ألا تعلم،
لا زلت مسدَّدًا، أن في انتصار حزب الجيش قلبًا لهيئة الجمهورية ورجوعًا بفرنسا إلى
الملكية والإمبراطورية أو القنصلية، فتأتينا بمثل أولئك الملوك والقُوَّاد الذين
دوَّخُوا الشرق والغرب، وقهروا الممالك وأخضعوا الدول، وأصبحت لهم الكلمة العليا
على أهل البسيطة، فلا يمانعهم في أغراضهم ممانع، ولا يعارضهم في مطالبهم معارض،
وإني لأعلم علم اليقين ممن عاشرتُ من كبار الفرنسيين وصاحبتُ أنه لولا هذه
الجمهورية لَمَا وصلنا نحن إلى هذه الحال.
ثالثهم
:
دعنا بالله من هذه الخيالات واتركنا من هذا اللغو، ومثلك لا يحق له الشكوى من هذه
الحال، فإنك متين العلاقة بالمستشار، وما بينك وبين الوصول إلى المنصب الذي تتطلع
إليه إلَّا قيد شبرٍ، وأنت مع ذلك في غنى عن خدمة الحكومة بما لَكَ من الغنى
واليسر، ولكن ماذا تقول في مَنْ هو في حاجة دائمة إلى البقاء في أسر الحكومة وذل
الخدمة، ولولا الاحتياج إلى المرتب والاضطرار إلى الرزق لما أقمت في الخدمة يومًا
واحدًا.
رابعهم
:
وأنا والله لا أنتظر إلا أن يتم لي نصف معاش فأهجر خدمة الحكومة، وأنجو بنفسي من
أسر الرق وذل العبودية، ثم أعتمد بعد ذلك على الاشتغال بالتجارة، فهي أهنأ عيشًا
وأعظم ربحًا وأبعد بصاحبها عن مواقف الذل والهوان.
خامسهم
:
ما أسخف الرأي وأضعف الفكر، ومَن ينكر أن خدمة الحكومة على كل حال هي أعلى قدرًا
وأرفع شأنًا من بقية الحرف والصناعات، وكل أسباب المعايش لا تخلو في هذه الدنيا من
المتاعب والأكدار، ولكن خدمة الحكومة أهونها حالًا وأقلها عناءً، ولا يفضل عليها
الاشتغال بالتجارة إلا من كان قليل التبصر في الأمور، ويكفيك برهانًا على ما أقول
أنك تستخدم التاجر وتسخره ما دام درهمك في يدك، ولكن التاجر في حاجة أبدًا إلى أصغر
موظف في الحكومة، وإن كان من أغنى الأغنياء، ولو تراهم إذ يفتخرون بينهم بزيارة
الكاتب ومجالسة المعاون وتحية القاضي ومخاطبة المدير، لعلمت أن خدمة الحكومة بلغت
في أعينهم وأعين بقية الطبقات مبلغًا عظيمًا من الشرف والرفعة، بحيث لو خيَّرت
أحدهم بين الخروج عن ماله وعقاره وتجارته وأطيانه وبين الدخول في صف الموظفين
بالحكومة لخرج من كل ذلك خروج السهم من قوسه والأرقم من جلده، ولَحكم بأن السعادة
كل السعادة فيما تعدُّه أنت شقاءً وبلاءً وتعتبره ذلًّا وهوانًا.
سادسهم
:
على رِسلك أيها القاضي لا تعكس القضية، ولا تقلب الحقيقة، ولا تحمل ما تراه في
أخلاق أهل التجارة والصناعة والزراعة من الاستهانة بحرفتهم والاستعظام لأهل الحكومة
على أن حرفتهم خسيسة في ذاتها، بل ذلك حادث فيهم من جهلهم وضعف إدراكهم، وإلا فلو
تخلَّى أحدهم عن طبقته، ودخل في طبقتنا يومًا لأدرك في الحال ما كان فيه من نعمة
الاستقلال في العمل والحرية في الرأي، ولَعَلِم أن الموظف قد باع للحكومة حريته
ووهب لها نفسه تتصرف فيها تصرف المالك في ملكه مقابل مقدار من المال يعُد لأجله
ساعات اليوم وأيام الشهر، ويربحه الواحد من أولئك الجاهلين بأحوالنا في يوم واحد
وهو أمير نفسه وسيد أهله، ويا ليت آباءنا كانوا انتبهوا إلى تعليمنا الصنعة
وتمريننا على التجارة، ولكن بئس ما صنعوا وبئس ما خلفونا له، ولو أنهم كانوا أدركوا
ما انتهت إليه حال الخدمة في الحكومة اليوم، ولم يغتروا بما كان للحكام في الأزمان
السالفة من الصول والطول والقوة والحول، واكتساب المال من الجاه، ولو علموا أنه
سيأتي زمان على هذه الحكومة التي كانوا في أيديها كالأيتام في يد الوصي يكون أرباب
المناصب فيه كالأطفال في حجر المرضع؛ لعضُّوا الأنامل ندمًا ولأرسلوا بدل الدمع
دمًا على ما فرطوا في أمرنا وأهملوا في شأننا.
الخامس
:
إنك لتتكلم بكلام العجائز اللائي يقنعن من دهرهن بالخسيس من الملبس والمطعم، وأين
أنت هداك الله من طلب المعالي وابتناء المفاخر، وتشييد المجد وخدمة الوطن وارتقاء
المناصب للقدرة على النفع والضرة، وأين أنت من قول الشاعر الحكيم:
ولو أنَّ ما أسعى لأدنى معيشةٍ
كفاني، ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنَّما أسعى لمجدٍ مُؤثَّل
وقد يُدرك المجدَ المؤثَّل أمثالي
وإلى الله المشتَكَى من زمن صغرت فيه النفوس، وضعفت الهمم وماتت العزائم، ورضي
الناس فيه بالخمول والسكون وبالعيش الدون.
السادس
:
إني لأعجب منك أيها الفاضل كيف يغيب عنك الصواب إلى هذا الحد، فترى أن في خدمة
الحكومة سؤددًا وعلاءً ومجدًا وسناءً، وما هي إلا الذل والشقاء، والبلاء في أثر
البلاء، وأنا أفصِّل لك الحال تفصيلًا لتعلم أن بقاء أمثالك في خدمة الحكومة مع
القدرة على التنحي عنها عجزٌ وضعف، وجهلٌ براحة الحياة وأيّ جهل فأقول:
تنقسم الرغبة في خدمة الحكومة إلى أربعة أقسام:
-
القسم الأول: الرغبةُ فيها للمال؛ أعني لسَدِّ العَوَزِ وكفاف العيش، وصاحبُ هذا
القسم يكون في حال المضطر الذي حكم عليه الدهر باحتمال الهوان لضرورة
الرزق، فهو مثلي يغبط حال كل صانع وتاجر وزارع، ويتمنى على الدوام أن
يخرج من خدمة الحكومة إلى صف أهل الصناعات الحرة.
-
والقسم الثاني: الرغبة فيها للجاه؛ أعني عزة المنصب ونفوذ الكلمة ومضاء الحكم، وهو
ميدان بعيد الشأو واسع الأطراف ليس لشوطه نهاية، ولا لحدوده غاية، ولا
بُدَّ فيه للجواد من كَبوة، وللسيف من نَبْوَة، وطالما كان اعتلاء
المناصب، وارتقاء المراتب، داعية للرزايا والمصائب، ومجلبة للبلايا
والنوائب.
والشرُّ يجلبُهُ العَلاء وكم شَكا
نبأً عليٌّ ما شَكاهُ قَنْبَر
٢
ولو سلمنا أن صاحب المنصب سلم من المعاطب ونجا من الخطوب، فهو لا
يزال طول حياته في هم ونصب كلما ارتقى في المنصب درجة، وجد فوقها درجة
أخرى يحسد من يليها، ويحقد على من يعتليها، ولا يفتأ مستعظمًا لما فوقه
طامعًا فيه مستصغرًا لما في يده راغبًا عنه، فهو في ذهول دائم عن
التمتع بلذة الحياة التي يجري وراءها غير راض عن نفسه، ولا الناسُ عنه
راضون، وهذا هو منتهى الشقاء والبلاء وملتقَى الكمد والكدر.
ذلك الخائبُ الشقيُّ وإن كا
ن يُرَى أنه من السُّعَدَاء
يحسبُ الحظُّ كلُّه في يديه
وهو منه على مَدَى الجوزاءِ
وأخلِقْ بمن كان همُّه أبدًا التطلع إلى غير ما في يده أن يكون أنحس
البرية حالًا وأمضهم عيشًا، ولذلك زهد الراسخون في العلم من الفلاسفة
والحكماء في اعتلاء المناصب، ورغبوا عن اغتراب غاربها، وحذَّروا
العقلاء من السعي وراءها وشغل النفس بها، هذا كله إذا كان المنصب عظيم
الجاه نافذ الأمر، وكان الوصول إليه من طريق الفضيلة والشرف، والحصول
عليه من باب الجدارة والاستحقاق، فأما والطريق إلى المناصب كما نراه
اليوم قاصرٌ على التوسل والتوسط وإهراق ماء الحياء، والمنصب على ما
تعلم لا أمر فيه ولا نهي، ولا حل ولا عقد، فالفرار منه أجدر بطالب
الجاه وأحرى، والتباعد عنه أشرف بذي الفضل وأسنى، والنزول عنه نعم
المنصب العالي، لطلاب المعالي.
-
والقسم الثالث: الرغبة في المنصب لشغل النفس دون سواه دفعًا للسأم والملل وتضييعًا
لأوقات الحياة وساعات العمر في الاشتغال بحاجات الناس، والتلهِّي بها
عن تهذيب النفس، ولا يدخل في هذا القسم إلا من كان فارغ الفؤاد خاوي
الصدر خاليًا من كل أدب وفضل مشغول الضمير بالوساوس والهواجس، فأكره
شيءٍ لديه نفسه وأثقل حمل عليه حياته، ولا بد له من مشاغل متجددة
ومسائل متعددة تشغله عن الخلوة بنفسه التي صارت عنده إذا هو خلا بها
لحظةً كأنها خليَّة من خلايا الزنابير أو وكرٌ من وكور الأفاعي، وهيهات
أن يبلغ المسكين غرضه يومًا؛ لأن من ضاقت عليه نفسهُ كان العالم عليه
أضيق، ومن ثقلت عليه أخلاقه فالخليقة عليه أثقل.
-
والقسم الرابع: الرغبة في خدمة الحكومة لخدمة الوطن ونفع الأمة، وهذا مطلب عقيم
النتيجة أيضًا؛ لأنه لا يتفق لنا الجمع بين المحافظة على البقاء في
المنصب، وبين الاستقلال في الرأي الذي تقتضيه مصلحة الوطن، ومن أراد أن
يخدم وطنه فليتخلص من قيود الحكومة ويخدمه، وهو مطلق اليدين واسع
التصرف.
ولا تنس فوق هذا كله ما يعقب حلاوة الولاية من مرارة العزل، خصوصًا
في بلد ينسبون فيه إلى صاحب المنصب كل فضيلة وينزعونها عنه إذا سقط
منه، فالرجال عندنا بالمناصب لا المناصب بالرجال على عكس ما قد
قيل:
إنَّ الأمير هو الذي
يُضحي أميرًا يوم عزله
إن زال سلطان الولا
ية لم يزُل سلطان فضله
فمن ذا الذي يقبل الدخول في خدمة الحكومة، وهو يجد عنها محيصًا إلَّا
من أضله الله على علم، ولذلك فإني عاهدت نفسي أن أتخير لأولادي في
تعلمهم صناعة يتعيشون بها أحرارًا، وتكون معهم أينما حلوا وساروا لا
يسلبها منهم تقلب السياسة وتغير الحوادث، ولا يؤثر فيهم غضب زيدٍ أو
رضى عمرو.
سابعهم
:
لله أنت ما أحلى بيانك، وأجلى برهانك! وأنا معك في هذا الحكم، وعلى هذا
العزم.
الثاني
:
اتركوا هذه الخطب المكدّرة والأفكار المحزنة، وخذوا بنا في حديث غير هذا يفرّج
عنا ويروّح، ولا تجمعوا علينا بين ذل النهار وهمّ الليل، وهل لك يا فلان أن تقوم
معي للمسابقة والرياضة بالبسكليت؟
الأول
:
الأحسن من هذا أن تأتونا بالفونوغراف نستمع إليه.
ثامنهم
:
أو قوموا بنا إلى عرس فلان فقد بلغني أن فيه «بوفيه» لم يُسمع بمثله حسنًا
ووضعًا.
الأول
:
أنا معك.
الثامن
:
لكن على شرط أن تقيم معي هناك نستمع الغناء.
الأول
:
لست معك في هذا، بل نخرج من البوفية إلى الأزبكية لسماع الموسيقا الإنجليزية أو
الأوبرا التليانية.
الرابع
:
أنا لا أتوجه معكما؛ لأنني ذاهب إلى «الكلوب».
السابع
:
انتظروا قليلًا حتى نقرأ جرائد المساء.
الخامس
:
عليَّ بالجرائد الفرنسية منها فهي أصح من العربية أخبارًا وأغزر مادة.
الثالث
:
اقرءوا الجرائد العربية أولًا واحدة بعد أخرى أو بعضها مع بعض.
الثاني
(قارئًا)
:
«آسيا في أوروبا وأمريكا في أفريقيا».
الرابع
:
ماذا جرى لصوابك يا عزيزي؟ اقلب الصحيفة الأولى فما لنا ولهذه المقالات
الافتتاحية، وما لنا ولهذه الأفكار الصبيانية؟
الثاني
(قارئًا في الصحيفة الثانية)
:
«الإسكندرية لمكاتبنا»؛ «الأمة برجالها والمناصب بأربابها والمعارف هي التي تخرج
لنا رجال المستقبل، ومن أين لنا بالرجال إذا كانت تبخل بالمال، فالمستقبل حينئذ
مظلم والوطن آسف ولا نهضة للأمة إن لم تنهض العواطف لإنشاء مدرسة كلية أو معارف
أهلية وبخلاف ذلك كان» …
الرابع
:
حسبك أيها القارئ حسبك، أما قلنا لك: لا تقرأ هذه المقالات المعلومة؟
السابع
:
اترك «الإسكندرية» إلى غيرها.
القارئ
(الزقازيق لمكاتبنا)
:
يثني العموم بلسان واحد على حضرة مأمور البندر لاهتمامه بالكنس والرش …
الثامن
:
أنعمْ به وأكرم وأكثر الله من أمثاله في خدمة الوطن عليك يا صاحبي بالحوادث
الداخلية.
القارئ
:
«يسافر سعادة العضو الوطني في السكة الحديدية إلى الإسكندرية في هذا المساء،
ويحضر سعادة مدير البوستة إلى العاصمة على إكسبريس الصباح …»
الثامن
:
اترك قراءَة هذا «المانيفستو» أيضًا.
القارئ
:
«سبقنا فذكرنا أن مجلس النظار بحث في الجبانات، والآن نذكر نص القرار …»
الثامن
:
جعل الله الجنة قراره ومثواه، فدعه واقرأ لنا سواه.
القارئ
:
«وصل سعادة السردار إلى أم درمان، وقد بلغنا عن ثقة أن أهم ما يشتغل به الآن هو
السؤال عن أحوال السودان».
الثامن
:
سبحان الله كنت أظن أنه سيشتغل هناك بالسؤال عن أخبار اليابان وحوادث
اليونان.
القارئ
:
«يسم البوليس الكلاب الضارة …»
الثامن
:
نسأل الله السلامة والهداية للجميع.
القارئ
:
«كتب إلينا أحد أفاضل الأطباء بأنه اكتشف علاجًا يشفي من كل داء مزمن ومرض عضال،
ويقول — حفظه الله — في آخر رسالته: إنه من غرامه بصدق لهجة جريدتنا صار لا يفارقها
حتى ولا في منامه على فراشه …»
الثامن
:
لا نزاع في هذه الكفاءة وسبحان الموفق.
القارئ
:
«رزء عظيم: قد فجع الإسلام وانهدم ركن الدين وأظلم الكون؛ إذ قصفت المنون غصن
نقيب الأشراف بالدير الطويل عن ست وتسعين سنة قضاها في عمل البر والإحسان؛ فكان
لنبأ موته أسف وحزن في قلوب أهل بلده خصوصًا والقطر المصري عمومًا».
الثامن
:
لا حول ولا قوة إلا بالله، لا بد أن تكون أسعار البورصة هبطت لهذا النبأ هبوطًا
فاحشًا في القطر المصري، خصوصًا وفي الولايات المتحدة عمومًا.
القارئ
:
«نفيد حضرات القراء أنه لا يزال التحقيق جاريًا في قضية التزييف، ولم يتم فيها
شيء للآن، ومتى تم نبادر إلى نشره إفادةً لحضراتهم كما هي عادتنا في نشر الأخبار
بأوقاتها.»
الثامن
:
أفادكم الله ونفعنا بهذه الأخبار.
القارئ
:
«فاتنا أن نذكر أن حضرة وكيل دائرة الهياتم كان في مقدمة المشيعين لجنازة المأسوف
عليها، وردة جعلان في الأسبوع الماضي، وكذلك فاتنا أن نهنئ حضرة مكاتبنا الفاضل
«بنزلة واكد»، حيث رزقه الله بولادة مولود جعله الله من أولاد السعادة.»
الثامن
:
جلّ من لا يغفل ولا ينسى، ولكن فاته أن يذكر أكان ذكرًا أم أنثى.
القارئ
:
«لدغت عقرب ابنة في قسم الوايلي.»
الثامن
:
نعوذ بالله هذا كله ناشئ من إهمال الحكومة في «الاحتياطات الصحية»، ومن غفلة
البوليس عن ضبط الوقائع الجنائية.
القارئ
(للثامن)
:
يكفيك يا حضرة القاضي من السخرية والاستهزاء واسمع لهذا النبأ العظيم.
الثامن
:
سمعًا وطاعة.
القارئ
:
«بلغنا اليوم أن الحكومة تبحث الآن في مشروع فتح شارع المرور، ونحن بلسان العموم
وبالنيابة عن الأمة المصرية الأسيفة نحذرها من عواقب هذا المشروع الوخيمة، الذي
يكون من ورائه رسوخ قدم الأجنبي في البلاد، وسنشرح لحضرات القراء مضار هذا المشروع
في مقالة افتتاحية.»
الأول
:
إن هذا الخبر لا يعلم به أحد سواي، فكيف وصل إلى الجرائد؟
الثامن
:
إني لأخشى إن دام إفشاء الأسرار على هذه الحال أن يعمد أرباب الحل والعقد إلى
استخدام الخُرس في مجالس الحكومة رجوعًا إلى العادة القديمة في مجالس الوكلاء
بالدولة العثمانية.
الرابع
(للثاني)
:
اقرأ بقية الأخبار المحلية.
الثاني
:
لم يبق في الجرائد الثلاث إلا التلغرافات والإعلانات.
الرابع
:
أراك لم تقرأ إلا جريدة واحدة فما قولك: «الجرائد الثلاث»؟
الثاني
:
هي كما تعلم نسخة واحدة في الأخبار، وإن كانت مختلفة في الأسماء.
الرابع
:
اقرأ لنا التلغرافات.
الثاني
(قارئًا)
:
«ديروط الساعة ٨ والدقيقة ٣٧ كان الاحتفال بتوديع حضرة النشيط معاون بوليس المركز
هائلًا، وتليت الخطب وأنشدت القصائد والتفصيل بالبوستة.»
الرابع
:
ما هذه الصغائر؟
الثاني
:
هي التلغرافات الخصوصية.
الرابع
:
علينا بالعمومية.
قال عيسى بن هشام: وما قرأ القارئ التلغرافات السياسية حتى استدار أهل المجلس حلقةً
يكثرون اللغط في شرحها، ويرجمون الظنون في تأويلها.
وما فيهم إلا من هو على خلاف لرأي صاحبه، وإذا هم قد عادوا إلى مثل ما كانوا فيه وقت
دخولنا عليهم، ولما وجدنا الجدال يحتدم بينهم اشتعالًا، خرجنا من بينهم انسلالًا، وتركناهم
في سياستهم يتيهون، وفي ضلالهم يعمهون.