العرس
قال عيسى بن هشام: ولما فرغنا من زيارة تلك المحافل المشهودة، والمجالس المعدودة،
قلت
للباشا: قد آن أن نعود إلى ما كنا فيه من الانفراد والاعتزال، ونبتعد عن مثل هذا الاختلاط
والابتذال، فأجابني وهو يظهر التوقف، ويبدي التأفف: «ما بالُك تقطع عليَّ الطريق، في
البحث
والتحقيق؟ وما لَكَ تحرمني السعي والاجتماع، للاطلاع على العادات والطباع؟ ولِمَ تختار
أن
نقتصر على ما في الكتب والأوراق، لمعرفة الآداب والأخلاق؟ فنترك النظر للخبر، واللمس
للبس،
والممارسة للمقايسة، وأي الطبيبين أدقُّ صنعًا، وأكثر نفعًا: الطبيب الذي يقتصر على الكتب
في درس الأعضاء والأحشاء، أم الطبيب الذي يدرسها في تشريح الجثث وهي تسيل بالدماء؟ على
أنه
قد زال عني في هذه المدّة، ما كان يعترضني من الغضب والحدة، وانقلب العسر من أمري يسرًا،
وغدا التقطيب بحمد الله بشرًا، وصرت لا أقابل عيوب الخلق، بغير الحلم والرفق، وتعلمت
أن
أتحلم، ولا أتألم وأتبصر، ولا أتحسر، وأتدبر، ولا أتضجر، فأنا اليوم أتفكه بمخالطتهم
وأتروح
بمباسطتهم، فلم يبق لك من عذرٍ وجيه، ترتضيه بعد ذلك وترتجيه».
وما زال الباشا يجري على هذا النمط في الشرح والبيان، ويأخذني بالبرهان في أثر البرهان،
حتى ملكني بسلطان حجته، وأنزلني على حكم رغبته، وكنت دعيت فيمن دُعي من الناس إلى وليمة
عُرس من أكبر الأعراس، فقلت له: عندي اليوم حدّ الكفاية، في بلوغ الغاية، فهلمَّ إلى
المحفل
الذي تحتشد فيه المحافل، والمنهل الذي تتفرع عن المناهل، وسرت به منذ أرخى الظلام من
سجوفه
وأستاره، وبدأ في الطور الأول من أطوارِه، فما قرُبْنَا من قصدنا حتى وجدنا الليل هناك
نهارًا يتألق، وفحمة الدُّجى جمرة تتحرَّق، فدخلنا ساحة كأنها مدينة، تبرجت في يوم الزينة،
فوقفنا هنيهةً في وسط المزدَحم، لا نجد موضعًا للقدم، حتى أخذ بيدنا أحد المستقبلين بالباب،
من ذوي العلامات في الثياب، فدسَّنا بين جماعة لم نعرف منهم أحدًا، ولم يحسنوا لتحيتنا
ردًّا، فجزيناهم على ذلك بغضِّ الطرف، وأقمنا بينهم لا ننطق بحرف، ثم أخذنا نتلمّس بأعيننا
صاحب الدار، فلا نهتدي له على قرار، كأنما صنعت الوليمة في غيبته، وأقيم الاحتفال انتظارًا
لأوبته، أو أننا أخطأنا العرس إلى سواه، واشتبه علينا مقره ومثواه، فهممنا بالقيام والمسير،
لولا أن أشار لنا بالسلام مشير، فتبيناه صديقًا لنا من الخُلصاء، في جمع من الفضلاء
والأدباء، فقصدناهم فأفسحوا لنا بينهم مكانا رحبًا، وجلسنا معهم نجتني ثمر الحديث يانعًا
ورطبًا، وعلمنا منهم أن رب الدار في ذهول لا يدرك ما يذرُهُ وما يأتيه، وأن صاحب البيت
لا
يدري الليلة بالذي فيه، وأن لا تثريب عليه ولا لوم، فهو مشغول بتحية كبار القوم، ممن
لم
يخالطهم قبل اليوم.
الباشا
:
وهل يدعو الناس إلى أعراسهم من لم يعرفوه أو يخالطوه من قبل؟
أحد الأصدقاء
:
نعم يدعو الناس إلى أعراسهم كلَّ من علا له صيتٌ، واشتهر له اسم من الأمراء
والكبراء والعلماء، فمنهم من يجيب الدعوة ومنهم من لا يجيبها لعدم معرفته لصاحب
العرس، وبين الكبراء جماعة اشتهروا بأنهم لا يخيبون للداعي رجاءً، ولا يتخلفون مرة
عن إجابة الدعوة حتى صاروا من عمد الزينة وأساطين الأعراس.
الباشا
:
وما الغرض لصاحب العرس من هذا كله؟
الصديق
:
الغرض منه أن يذاع بين الناس تشريف هؤلاء الكبراء والعلماء لبيته، وأكثر الذين
نراهم يقيمون ولائم الأعراس ينفقون عليها جانبًا عظيمًا من ثروتهم لا غرض لهم منها
سوى ذلك وحده، وفيهم من وصل به حب الشهرة والفخفخة أن أنفق في إقامة العرس جميع
ماله، ثم بقي عليه من الدين ما أخلَّ بنظام معاشه، وأعرف تاجرًا من التجار أنفق
الجانب الأعظم من رأس ماله في إقامة عرس كبير، ثم قسم دفاتر تجارته إلى شطرين: شطر
يحتوي على بيان ما بقي لديه من أصناف التجارة وأجناسها، وشطر يتضمن أسماء من حضر
العرس من الأمراء والكبراء، وقل أن تشتري منه صنفًا إلا ويذكر لك منهم اسمًا يقسم
بحياته ورأسه أن الصنف جيد والثمن في جنبه هين.
الباشا
:
ما كنت أعهد أن الأعراس تكون على هذه الحال من استخدامها للشهرة والصيت، بل كنت
أعهدها أنها تقام لائتناس صاحب العرس بأصحابه وأصدقائه ومشاركتهم له في صفوه
وهنائه، ولإطعام المساكين ومساعدة الفقراء.
الصديق
:
ليس للفقراء اليوم ولا للمساكين نصيب في طعام الأعراس، بل هو من نصيب مثل هذا
الوفد الخارج أمامك وأضرابهم.
الباشا
:
إني أعرف من هؤلاء الخارجين ثلاثة أشخاص اجتمعت بهم في مجلس للعلماء.
الصديق
:
نعم هذا الوفد كله من كبار العلماء وحملة الشريعة وأئمة الدين.
الباشا
:
وما لي أراهم يسرعون ويُهَرولون في خروجهم، وما الذي وقع لهم حتى يتركوا العرس
منذ أول الليل، وليت شعري ما الذي أزعجهم وأخرجهم، أنزل بالدين مكروهٌ؟ أحل
بالإسلام خطبٌ؟ أحدث بين الناس حادث بدعةٍ يستدعي قيامهم للأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر؟
الصديق
:
لم يحدث من كل ذلك شيء ولم يعرض لهم عارض، وإنما هي عادة لهم ألفوها في الولائم
والمآدب إذا انتهوا من غسل أيديهم بعد تناول الطعام بادروا إلى الخروج من العرس،
فتراهم عند قول أحد الظرفاء «يدٌ في الكباب، ورجل في الركاب.» والذين يعتذرون لهم
يقولون: إنهم علماء عاملون بقوله تعالى: فَإِذَا طَعِمْتُمْ
فَانتَشِرُوا وإنهم يرون سماع الغناء مكروهًا في الدين فلا يجلسون في
العرس بعد الطعام خشية أن يبتدئ الغناء فيحل بهم المكروه.
الباشا
:
ومن هذا الشيخ المتخلف عنهم القادم علينا؟
الصديق
:
هذا الشيخ المتخلف عالم من أفاضل العلماء ونبهائهم، وهو قادم علينا للجلوس معنا،
فإن فينا من يأتنس به ويصبو إلى مجالسته.
الباشا
(للشيخ بعد جلوسه)
:
أرجوك أن تسامحني في فضول القول، فلا صبر لي عن الاستعلام والاستفهام خصوصًا إن
كان في الأمر ما يخص الدين، فقد قيل لي: إن السبب في مغادرة وفد العلماء للعرس في
عقب الطعام هو كراهتهم لحضور مجلس الغناء، فهل لك أن ترشدني إلى القول الأصح في هذا
الباب، وما الذي يجب أن يؤخذ به، وكيف انفردت أنت عنهم بالبقاء والجلوس ورضيت سماع
الغناء إن كان مكروهًا.
الشيخ المتخلف
:
الكلام في هذا الباب طويل، وما أظن السبب الأعظم في المبادرة بالخروج إلَّا طلب
الجسم للراحة بعد الامتلاء.
الباشا
:
إني أريد أن أهتدي بهديك في باب سماع الغناء وتقرير كراهته أو إباحته، فلا تبخل
علينا بفضلك وعلمك، والوقتُ وقت مسامرة، فإن أردت أن نقضي جانبًا منه فيما ينفع
ويفيد فقد أدَّيت واجبًا عليك في الدين، وجعلتنا لك من الشاكرين.
الشيخ المتخلف
:
اعلم أن طرب الغناء أمر غريزيّ راسخ في طبيعة الحيوان، ومن الحيوانات العجم
وضواري الوحوش ما تسمع الغناء فتحن إليه وتسكن به، فيضعف من قسوتها ويكسر من حدتها،
وربما ذلت به رقابها وأمكن قيادها، وهذه الفيلة وهي من أكبر الحيوان أجسامًا
وأشدِّها بطشًا إذا سمعت صوتًا مرنمًا أو كلامًا منغمًا لم يلبث هذا الجسم العظيم
أن يتمايل ترنحًا ويهتز طربًا — ولو كان في مواقف النيران — اهتزاز الحمامة
المطوَّفة على فنن من الأفنان، وهذه الإبل المعروفة بأنها أغلظ الحيوان أكبادًا
تراها إذا براها السُّرى وأضناها التعبُ وأهلكها الظمأ فتغنَّى لها الحادي ذهلت في
الحال عما أصابها، وتعللت بالغناء عن مناهل الماء، وهي على الخمس في ظمئها أو العشر،١ ونشطت به تستعيد القوى لاستئناف السُّرى، وطالما شاهد المشاهدون هوام
الأرض ودوابها تخرج من كهوف الجبال وبطون الرمال، فتجتمع جيوشًا تتبع جيوش الحرب في
مسيرها، وقد ظهر لأحد الباحثين من علماء الطبيعة عن علة ذلك الاتباع أن صوت
الموسيقى أمام الجيوش هو الجاذب لها، والدافع بها للخروج من أوكارها وأحجارها
للمسير خلف الجيش، ومن الروايات العتيقة أن أحد الموسيقيين من الفلاسفة كان عند
شاطئ بحر يبغي الشاطئ الآخر ولا يجد ما يحمله إليه فجلس يلهِّي نفسه بالغناء وإذا بدلفينٍ٢ قد شق أمواج البحر يتدنى من صاحب الصوت، فلم يزل في تدنيه والفيلسوف في
تغنيه حتى حاذى الشاطئ وسكن يستمع، فأيقن الفيلسوف أنه استهواه بتأثير الغناء
وذلَّله بقوة الطرب فامتطاه يسخره كيف شاء، فوق عباب الماء، كأنه مطية وَجْناء،٣ تسير في عرض البيداء على توقيع الحداء، وحكاية إبراهيم بن المهدي في
اقتياده الوحوش الضارية بسحر غنائه مشهورة مذكورة.
هذا بعض ما يُقال في تأثير الغناء في الحيوانات العجماء مع ضعف إدراكها وكثافة
إحساسها ونقص خلقها، فما بالك بتأثيره في الإنسان وهو أسمَى الحيوان رتبة، وأكمله
خلقةً، وأعظمه إدراكًا، وأصفاه جوهرًا، وألطفه روحًا؟
والغناء في تعريف قوم من الفلاسفة فنٌّ يقصد به تحريك النفس بتنسيق الصوت وتأليفه
على
طريقةٍ ترتاح لها الأذن، فتهتز له نفوس أرباب المدارك العالية والأمزجة الصافية، وهو
القوة
المساعدة لقوة النطق في التأثير في السامع، وكان القدماء يعتبرونه لغة عامة لسائر الناس
يفهمونها على اختلاف لغاتهم وألسنتهم، وكان لا بد لطالب الفلسفة عندهم من الإحاطة بفن
الموسيقا مع الرياضيات، وقد عبر عنه الحكيمان الكبيران «فيثاغورس» و«هرمز» أنه علم التنسيق
لكل شيء، ولذلك أطلقوا عليه لفظة «أرمُونيا» ومعناها النظم والتنسيق ومنه الترتيل، وكلهم
مجمعون على أن لا شيء في العالم يعادل تأثير الغناء في تهيئة النفوس وتوطئة القلوب لقبول
الفضائل والكمالات، وعندهم أن الذي لا يتأثر منه لا بدّ أن يكون به نقص في الخلقة، والغناءُ
مغروس في طينة الإنسان منذ نشأ في حجر الطبيعة، ومنذ استهل في المهد باكيًا فلا يسكن
إلا
به، ولا يُراح عنه إلا بتطريبه، وفضلُ تأثير الغناء في النفوس على تأثير الكلام كفضل
الشعر
البليغ في لغته على ترجمته كلامًا غير موزون إلى لغة أخرى.
والوقائع كثيرة جمة في التاريخ تشهد بقوة تأثير الغناء، منها أن أهل مدينة إسبرطة
كانوا
في فتنة اشتدّ لهيبها وعظُم شرها، فعمد جماعة من الموسيقيين إلى مكان الزعماء القائمين
بأمرها، فما زالوا يغنُّونهم حتى طربوا فصفت أرواحهم ورقَّت نفوسهم ولانت عريكتهم، فانتهوا
من أنفسهم عن إشعال نار الثورة فخمدت، وقام صياح الطرب، مقام صياح الشغب، ومنها أن أهل
سويسرا كانوا ينزلون عن رءوس الجبال للاحتشاد في الجند، فإذا انعقد جمعُهم أغرى العدوُّ
بهم
من يغني فيهم بلحنٍ لهم معروف يتغنى به الرعاة في قلل الجبال فيشتغل في نفوسهم لهب الوجد،
وتهيج فيهم ثائرة الحنين وينزع بهم الشوق إلى منازلهم فيلقي أسلحتهم عن أيديهم، ويذهب
بهم
على وجوههم، وقد تكرر وقوع ذلك فيهم حتى قرر رؤساؤهم الحكم بالإعدام على كل من تغنَّى
بينهم
بذلك الغناء، ومنها حكاية الحكيم أبي نصر الفارابي مع سيف الدولة بن حمدان؛ إذ أضحك أهل
مجلسه وأبكاهم ثم أنامهم وتركهم، وقد كان خطباء الدولة الرومانية يتسابقون إلى تنسيق
أصواتهم في الخطابة وتتبُّع النغم لتأثير القول في النفوس، وربما استصحب بعضُهم مع أحد
الموسيقيين بآلة من آلات الطرب، فيجعله بجانب المنبر حتى إذا وجده خرج عن النغم أو شدَّ
نبهه بصوت الآلة فيرجع إلى الأصل، ولسنا نجد بين الأمم أمة في بداوتها وحضارتها وماضيها
وحاضرها إلا وعندها الغناء في الجيش آلة من آلات الحرب تعين على ممارسة الأهوال، وتثير
إلى
منازلة الحتوف، وكان القدماءُ منذ عهد داود — عليه السلام — يعتقدون أن الغناء يشفي من
الأمراض والأسقام، وكان «إيسمين» في مدينة «تيب» يزعم أنه يشفي من عرق النَّسَا بصوت
الناي،
وكان «هوميروس» و«جالينوس» و«بلوتارك» من بعدهما يؤكدون أن الغناء يشفي من الطاعون ومن
داء
المفاصل ومن نهش الأفاعي، وقام اليوم جماعة من كبراء الأطباء في أوروبا يقررون بعد كثرة
التجارب أن الغناء دواء نافع لكثير من الأمراض، وأطلقوا عليه لفظة «ملُوترابيا» يعني
العلاج
بالطرب، كما قرروا من قبل «الهيدرُوترابْيَا» وهي المعالجة بالماء «والاليكترُوترابيا»
وهي
المعالجة بالكهرباء، وقد جرب أطباء فرنسا تأثير الغناء في وظائف الأعضاء بآلة حاسبة،
فوجدوا
أنه يزيد في دورة الدم وفي حركة التنفس سرعةً مقبولة، وذهب بعضهم أن للأخشاب التي تتخذ
منها
آلات الطرب تأثيرًا آخر على المريض مثل اتخاذ الناي من خشب الكينا فإن سماعه يشفي من
الحمى،
وبلغت العناية بهذا الفن في ألمانيا أنهم جعلوه درسًا من الدروس الأساسية يبتدئ به التلامذة
ابتداءَهم بحروف الهجاء، وينتهون منه انتهاءهم من دروس الفلسفة.
وجماع القول في هذا الباب من جهة البحث والنظر أن الخالق جلَّت عظمته قد جعل من فضله
ونعمته على الإنسان لكل حاسة لذة؛ فلذَّةُ النظر في تناسق المرئيات وترتيب أجزائها وذلك
هو
الجمال، ولذة الذوق في ائتلاف الطُّعوم وذلك هو العذوبة، ولذة الشم في لطف الرائحة وذلك
هو
الطيب، ولذة اللمس في تناسب أجزاء الملموس وذلك هو النعومة، ولذة السمع في اتساق الصوت
وحركة توقيعه وذلك هو الغناء.
وأما القول فيه من جهة الدين فقلَّ أن تجد دينًا من الأديان في أنحاء العالم إلَّا
ويستعان فيه على العبادات بالترتيل والترنيم والتنغيم، لما ينشأ عن ذلك من صفاء النفوس
وانتعاش الأرواح للتجرّد والاتصال بالعالم الرُّوحاني، وما كان الدين الإسلامي وهو دين
الأذان لينكر سماع الغناء ويحكم بكراهته، وشأنه في فطرة الإنسان على ما بَيَّنته لك،
وناهيك
بما ورد في الخبر الصحيح أن النبي ﷺ سمع نسوةً يتغنَّين في وليمة عرس، فلم ينكر ذلك
عليهن، وقد استقبله — عليه السلام — نسوة من الأنصار عند مقدمه من إحدى الغزوات بالدفوف
والمزاهر وهنَّ يتغنين على الإيقاع بقولهن:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
فلم ينكر ذلك عليهنَّ أيضًا، وهذا عمر بن الخطاب، على المعروف من غلظته وشدته في الدين،
قد سمع الغناء فلم ينكره ولم يكرهه بل استعاد ومزح، رُوي عن أسلم مولاه قال: مر بي عمر
—
رضي الله عنه — وأنا وعاصم نغنِّي فوقف وقال: أعيدا عليَّ. فأعدنا عليه وقلنا: أينا أحسنُ
صنعةً يا أمير المؤمنين؟ فقال: مثلكما كحمارَي العباديّ قيل له: أيُّ حماريك شرٌّ؟ قال:
هذا
ثم هذا، فقلت له: أنا الأول من الحمارين؟ قال: أنت الثاني منهما، وكان عبد الله بن جعفر
على
قرابته من رسول الله وصحبته له كثير الجلوس لسماع الغناء عظيم الاحتفال به.
ورُوي أن معاوية قال لعمرو بن العاص: امضِ بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسَعَى
في
هدم مُرُوءته حتى نعيب عليه فعله؛ يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدخلا إليه وعنده
من
المغنّين «سائب خائر» وهو يُلقي الغناء على جَوَارٍ لعبد الله، فأمر عبد الله بتحية الجواري
لدخول معاوية، وثبت سائب مكانه وتنحَّى عبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاوية عمرًا
فأجلسه إلى جانبه، ثم قال لعبد الله: أَعِدْ ما كنت فيه، فأمر بالكراسي فألقيت، وأخرج
الجواري فتغنَّى سائب بقول قيس بن الخطيم:
ديارُ التي كادت ونحن على مِنًى
تحُل بنا لولا نَجاءُ الركائب
ومثلك قد أصبَيْتُ ليست بِكَنَّةٍ
ولا جارة ولا حليلة صاحب
وردده الجواري عليه فحرَّك معاوية يديه وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه فجعل يضرب بهما
وجه
السرير، فقال له عمرو: اتَّئِدْ يا أمير المؤمنين فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالًا
وأقل
حركة، فقال معاوية: اسكت لا أبَا لَكَ فإن كل كريم طروب.
ودخل المغنون منزل سُكينة بنت الحسين سبط رسول الله، فأذنت للناس إذنًا عامًّا، فغصت
الدار بهم وصعدوا فوق السطح، وأمرت لهم بالأطعمة فأكلوا منها، ثم إنهم سألوا «حُنينًا»
أن
يغنيهم صوته الذي أوله:
هلا بكيت على الشباب الذاهب
فقال لهم: «ابدؤوا أنتم، فقالوا: ما كنا لنتقدمك ولا نغني قبلك حتى نسمع هذا الصوت،
فغناهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتًا فازدحم الناس على السطح وكثروا ليسمعوه، فسقط
الرواق
على مَن تحته فسلِموا جميعًا وأُخرجوا أصحاء، ومات حُنينٌ تحت الهدم، فقالت سكينة عليها
السلام: لقد كدَّر علينا حنين سرورنا.»
وذُكر الدلال المغني عند عبد الله بن أبي عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق —
رضي
الله عنهم — فقال: إنه كان يحسن:
لِمَنْ رَبعٌ بذات الجَيـ
ـش أمسى دارسًا خَلَقَا
ثم استقبل ابنُ أبي عتيق القبلة يصلي، فلما كبَّر سلَّم، ثم التفت إلى أصحابه فقال:
اللهم
إنه كان يحسن خفيفَه فأما ثقيلُه فلا … الله أكبر.
ولقيَ «ابن أبحر» عطاء بن أبي رباح وهو يطوف بالبيت الحرام، فقال: اسمع صوتًا للغريض،
فقال له «عطاء»: يا خبيث أفي هذا الموضع؟ فقال ابن أبحر: ورب هذه البنية لتسمعنَّه خفيةً
أو
لأشيدن به، فوقف له فتغنى:
عُوجي علينا ربَّة الهودج
إنك إن لا تفعلي تحرجي
أني أُتيحت لي يمانية
إحدى بني الحرث من مذحج
نلبثُ حولًا كاملًا كله
لا نلتقي إلا على منهج
في الحج إن حجَّت وماذا مِنًى
وأهله إن هي لم تحجُج؟
فقال له «عطاء»: الكثير الطيب يا خبيث.
ووليَ قضاء مكة الأقوصُ المخزومي فما رأى الناس مثله في عفافه ونبله، فإنه لنائم ليلةً
في
جناح له؛ إذ مر به سكران يتغنى بصوت للغريض فأشرف عليه فقال: يا هذا شربت حرامًا، وأيقظت
نيامًا، وغنَّيت خطأ، خذه عني، فأصلحه له وانصرف.
وكان لأبي حنيفة — رحمه الله — جار بالكوفة يغني، فكان إذا انصرف وقد سكر يغني في
غرفته
فيسمع أبو حنيفة غناءه فيعجبه، وكان كثيرًا ما يغنِّي:
أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعُوا
ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فلقيه العسس ليلةً فأخذوه وحبس، فَفَقَدَ أبو حنيفة صوته تلك الليلة فسأل عنه من غد
فأخبر، فدعا بسواده وطويلته فلبسهما وركب إلى عيسى بن موسى فقال له: إن لي جارًا أخذه
عسسُك
البارحة فحُبس وما علمت منه إلا خيرًا، فقال عيسى: سلموا إلى أبي حنيفة كل من أخذه العسس
البارحة: فأطلقوا جميعًا، فلما خرج الفتى دعا به أبو حنيفة وقال له سرًّا: ألست كنت تغني
كل
ليلة:
أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا؟ فهل أضعناك؟ قال: لا والله ولكن أحسنت وتكرمت أحسن الله
جزاءَك، قال: فعُد إلى ما كنت تغنيه فإني آنسُ به ولم أر به بأسًا، قال: أفعل إن شاء
الله.
هذا جملة ما يذكر في طرب الغناء طولت فيه وأسهبت ليتبين لك منه القول الراجح والوجه
الصالح.
الباشا
:
تعالى الله ما شاء
وزاد الله إيماني
ما هذا الذي أراه من بحر العلم المتدفِّق والفكر المتعمِّق؟ وما هذا الإبداع
والتفنن في أطراف المعقول والمنقول؟ وما هذا التضلع في علوم الأولين والآخرين؟ وما
عهدت قبل اليوم في العلماء من اجتمع له مثل ما اجتمع للشيخ من دقة النظر وصحة
القياس، وسعة الاطلاع في تواريخ الأمم على اختلاف ألسنتها وأجناسها، يتنقل في تقرير
البرهان وشواهد البيان تنقُّل النحل على جنَى الأزهار فيخرج بنا من التاريخ
اليوناني إلى الروماني إلى الأوروبي إلى الإسلامي فعجبًا له، أأعجمي وعربي؟ وشرقي
وغربي؟ وكيف انفردت أيها الشيخ عن بقية إخوانك المشايخ ولم تأخذ بنهجهم في طريقهم،
فتقف عند حد العلوم الشرعية والأقوال الفقهية، ثم خالفتهم إلى التوسع في العلوم
الدنيوية والمباحث العقلية؟
الشيخ المتخلف
:
لم أخالفهم إلا لأن العلم حق شائع في بني الإنسان، ونورٌ ساطع يستضيء به جميع
الأنام، فلا يختص به أهل إقليم دون إقليم، ولا أهل ملة دون ملة، ولا يقف الإنسان
منه عند حد، ومن طلب العلم وارتاحت له نفسه لم يمنعه تخالفُ اللغات وتفرق الأجناس
عن اجتناء ثمره من أي لسان كان وفي أية أمة كانت وفي أي عصر من العصور، وما في
الأديان دين يبعث أهله ويحض بنيه على طلب العلم والتقاط الحكمة بأي وجه من الوجوه
مثل الدين الإسلامي، ولكن قد فشا في علمائه داء الكسل، فاقتصروا في طلبهم للعلم على
نيل رتبة العلماء دون العلم في ذاته، واعتقدوا أنهم على الهدى ومن سواهم في
ضلال.
الباشا
:
قل ما شئت في كسل علماء الدين الإسلامي وسواء تراخيهم واشتغالهم عن العلم لا
بالعلم، ولقد بلوت مجلسًا من مجالسهم ضاق منه صدري، وعيل صبري، ولا أزال كلما
تذكرتُه جاش بي الهم والغم وتملكني الأسف والحزن، وأراك أيها الشيخ الفاضل أحسنت كل
الإحسان بتوسعك في الاطلاع وتبحرك في طلب العلم، وتعلُّقك بأسباب العلوم الأوروبية،
ولكنني مع ذلك لا أتمنى لجميع علماء الدين مثل ما أنت فيه خشية أن تلهيهم هذه
العلوم عن علوم الشرع، وتستدرجهم إلى الخلط والخبط، وقل في الناس من يحكم نفسه
للتوسط في الأمور والاعتدال في المطالب، والوقوف عند الحد، ولست أدري إلى اليوم،
يعلم الله، أي العالمين أضلُّ سبيلًا وأسوأ مصيرًا: العالم الذي يتخبط في ظلمات
الخرافات، ويضرب في تيه الترهات ويغوص في لجج الأباطيل بلباس الدين، أم العالم الذي
يُوغل في علوم الأوروبيين، ويأتمُّ بسنة المخالفين للدين ويغتر بتمويه المموهين
فيضله الله على علم.
الصديق
:
ليس هذا وقت الجدال في تلك المباحث الدقيقة، والتفتوا بنا إلى سماع الغناء قليلًا
فقد احتشد له المغنُّون.
الباشا
(ملتفتًا)
:
نعم أصبت، وهل لك أن توفق لي بين حالة المغنين التي أراهم عليها الآن في احتشادهم
على منصة الغناء وبين ما سمعته آنفًا عن هذا الفن من الجلال والكمال، فانظر إليهم
تجد أحدهم يمزح ويقهقه، والآخر يتثاءب ويتمطَّى، وهذا يبصق يمينًا ويمخط شمالًا،
وذاك يصيح بأعلى صوته القهوة القهوة، وتأمل في هذا الواقف منهم فوق المنصة على رجلٍ
واحدة وبيده الرِّجل الأخرى يخلع منها نعله في وجوه الحاضرين، وأين ما ينبغي أن
يكون عليه المغنِّي من سكون النفس واجتماع الخاطر، وانشراح الصدر وصفاء الروح لحسن
تأدية الغناء، واستهواء النفوس إليه؟
الصديق
:
لا تؤاخذهم بما هم فيه فإنهم نشأوا في أمة يرى السواد الأعظم فيها أن صناعة
الغناء من سافل الصناعات، وأن في ممارستها حطة ونقصًا.
فصغُرت لذلك نفوس المغنين وهانت عليهم صناعتهم، ولم يروا فيها سوى أنها أداة
للكسب والارتزاق على مثال بقية الصناعات، فهم والحدّادون أو هم والبناؤون سواء
بسواء، وذهلوا كل الذهول عن جمال الصنعة وجلالها، وغفلوا كل الغفلة عن لذة الفن
وأدبه وصاروا يؤدونه كما يتفق لا كما ينبغي، وكما يجيء لا كما يُرضي، ولا يغيب عن
فطنتك أنه لا بدَّ للمغني من أن يثق في نفسه بتأثير غنائه في نفوس السامعين حتى
تثور فيه نشوة الطرب، ويتبادل معهم لطف الانفعال، فتتصل القلوب وتتجاذب الأرواح
وتصعد به نفسه في مراقي الفن وتسمو به في صناعته إلى مدارج الكمال، وإلا كان المغني
إذا غنى في غفلة السامع واشتغاله عنه كمن يقرأ للنائم كتابًا، أو يسرج للأعمى
سراجًا، فيحلُّ به من التواني والفتور ويعتريه من الانقباض والضيق ما يذهب برونق
الصنعة ويمحو بهجة الفن، وإنك لتحقق صدق ما أقول إذا نظرت معي نظرة إلى هيئة
السامعين في هذا المكان، فعن يمينك جماعة من الأعيان والتجار تراهم مشتغلين بمراقبة
كل داخل وخارج عساهم يحظون بإشارة تحية أو إيماءة تعطف، فهم لا ينفكون طول ليلهم في
قيام وسلام للتزلف إلى الكبراء والحكام، وحديثهم لا ينقطع عن التفاخر بمعرفتهم
والتباهي بأقدارهم، وعن شمالك خليط من القضاة والمحامين لا ينتهون أبدًا من
المناقشة في صنوف الدعاوى والقضايا، ولا يستريحون لحظة من تفسير المواد وشرح البنود
واستنتاج الأحكام، ولا يترك المحامون القضاة إلا بعد أن يحتالوا على استنفاد ما
عندهم من الأفكار والآراء في الوقائع المختلفة والمسائل المشتبهة؛ لينتفعوا بها
ويستندوا عليها في مرافعتهم أمامهم ويتأكدوا بها ربح ما لديهم من المشاكل والدعاوى،
ومن قدامك طائفةٌ من الأمراء والحكام لا همَّ لهم إلا أن يجتلبوا توقير الحاضرين
واحترامَهم بالتأنق في الجلوس، والتكلف في الشمائل والانتفاخ في الثياب والفتل في
الشوارب، أجسامُهم حاضرة وقلوبهم غائبة، وأبصارهم شاخصة وألبابُهم ذاهلة على هيئة
التماثيل والأصنام؛ فاسألوهم إن كانوا ينطقون، ولئن نطقوا بكلام فإنما يدور على أن
اليوم كان شديد الحر، وأن أوان الرحيل عن مصر قد حلَّ، ومن خلفك ثلَّة من الأحداث،
لم تهذبهم الأحداث، وشبان لم يُرَبِّهِمُ الزمان، مرمَى الغاية عندهم أن تكون
ملابسهم على الزيِّ الجديد، وأن تفرغ أجسادهم منها في قالَب من حديد، فهم لا
يتحركون حركة إلا بألف حساب، خشية أن ينفرط نظام الثياب، فإن قعدوا فكالقاعدين
للمصوِّر في حفظ الأشكال والأوضاع، وإن هم وقفوا فكالمصلوبين على الأجذاع، ولئن
تجاوز حديثهم حديث الملابس والأزياء، اشتغلت ألسنتهم بذكر النساء، وروَوْا عن زوج
فلانٍ أو بنت فلان، ما تنقبض منه النفوس وتقشعر الأبدان، ولم يبقَ غير هؤلاء من
طبقات الحاضرين من يلتفت إلى سماع الغناء ويتفرغ له إلا طبقة الغوغاء من الخدم
وغيرهم، فكيف يتيسر للمغنِّين في هذا المقام أن يتقنوا في عملهم، أو يتفننوا في
صناعتهم أو يحافظوا على أدب المجلس ويراعوا حرمة الفن؟
قال عيسى بن هشام: وانقطع الحديث بمرور صاحب العرس أمامنا مرَّ السحاب، فانقضَّ على
الواقفين عند الباب، كأنه بارقة شهاب، أو نازلة عذاب، يدفع بيديه عن الشمال وعن اليمين،
في
صدور القاعدين والقائمين، لا يشك من رآه أنه أسيرٌ حُلَّ عنه الوثاق، أو عبد من العبيد
يطلب
الإباق، فالتفَت الباشا يسأل الصديق: أجدار هَوَى في البيت أم حريق؟
الصديق
:
لا هذا ولا ذاك وإنما جاء الخبر لصاحب البيت بقدوم جماعة من رجال الإفرنج
ونسائهم.
الباشا
:
أتراهم يريدون إقامة ألعاب إفرنجية مع الأغاني العربية؟
الصديق
:
ولا هذا أيضًا بل هم قوم من السائحين الأوروبيين في البلاد الشرقية يتشوقون في
مطالعتهم الآثار المصرية إلى رؤية المحافل والأسواق، فإذا سمعوا بحفلة عرس هرعوا
إليها بنسائهم وأولادهم لتسلية الخاطر بدرس العادات والأخلاق.
الباشا
:
قد تبين لي آنفًا أن صاحب العرس من أهل الصعيد، فأية صلة بينه وبين سياح الإفرنج
تدعوه إلى دعوتهم في عرسه؟ أم من عاداتهم أن يهجموا على بيوت الناس بغير دعوة ولا
استئذان كالطفيليين.
الصديق
:
هم من المدعوين لا من المتطفلين، ولا يلزم لدعوتهم أن يكون لصاحب العرس أدنى صلة
بهم أو أن يعرف أشخاصهم ويفقه لسانهم، ولكن حضورهم في حفلة العرس أمر مرغوب فيه عند
صاحبه ينشرح به صدره، ويزهو به عنده قدره، ويراه فخرًا له يعلو به ذكره، ومجدًا
للبيت يرتفع به عماده وهو في دعوتهم بالخيار إما أن يرسل إلى بعض تراجمة الفنادق
فيعطيهم عددًا من تذاكر الدعوة بغير أسماء معينة ليوزعها على من يكونون في خدمتهم
من السياح، فيبيعها التراجمة إليهم بقيمة معلومة من الدراهم كأنها تذكار الملاهي
العامة، ويعتقد الأجانب أن تلك عادة من عادات الشرقيين أن يدخل الناس إلى أعراسهم
بأثمان معينة، وإما أن يترقى صاحب العرس، فيخاطب أصحاب الفنادق الكبيرة بأن لديه
حفلة عرس في الليلة الفلانية، ويرغب أن يحضرها كذا عددًا من السياح، فيتحف صاحب
الفندق نزلاءه فيما يتحفهم به بالدعوة إلى العرس، فإذا شرفوا صاحب العرس بحضورهم
هرع إلى حسن استقبالهم، وبالغ في التلطف والترحيب بهم، وأنزلهم فوق منازل الأمراء
والكبراء ونسي كل من في العرس سواهم، وتفرغ طول ليلته لخدمتهم كما تراه من صاحب هذا
العرس، وانظر إليه كيف يتيه عجبًا ويشمخ كبرًا وهو يتقدم نساءهم ليدخل بهن إلى بيت
الحرم لمشاهدة زفاف العروسين بعد أن أجلس رجالهن على رءوس العظماء والأمراء في صدر
المكان.
الباشا
:
وما هذا الذي أراه في أيدي النساء يحملنه معهن، كأنه الأسفاط فيها الحلي لهدية العروس،٤ فهل بلغ بهن الكرم إلى تكليف أنفسهم تقديم الهدايا لعروس لا يعرفنها
ولا يعرفن أهلها من قبل؟
الصديق
:
هذه آلات الرسم والتصوير يحملنها ليأخذن بها مناظر الحرم وصور النساء في زينتهنَّ
وتبرجهن، وما تكون عليه هيئة الزفاف ليتهادَين بها إذا رجعن إلى ديارهن، وربما
نُسخت منها ألوف النسخ لتباع في الأسواق الأوروبية وتنشر هناك للاستهزاء
والسخرية.
قال عيسى بن هشام: ومنذ عاد صاحب العرس من تشييع السائحات إلى الحرم، كالصاعدات إلى
الهرم، تقدم إلى صدر المكان، ونظر في الوجوه بإمعان، ثم دنا من طائفة الكبراء والأمراء،
وقصد الأمير المقدّم فيهم بلا مراء، فوقف أمامه وقفة الإجلال والإعظام، ودعاه لافتتاح
قاعة
الشراب والطعام، فقام الأمير يمشي أمام الصفوف في خُيَلائه، مشية القائد يوم بلائه، وفتح
له
الباب ففتح المائدة، ولا فتح سعد للقادسية، والمعتصم لعمورية، ومحمد للقسطنطينية، نعم
ولا
فتح جدِّه الأعلى للأقطار الحجازية، ودخلت في أثره صفوف الجموع، وهم في سكون وخشوع، دخول
التُّقاة، للصلاة، والعفاة للصلات، ثم ما لبثوا أن هجموا على المائدة هجوم الفوارس البواسل،
على الحصون والمعاقل، لا بل هجوم الأسود الضارية، على الأشلاء الدامية، والذئاب الخاوية،
على الشياه الراعية، والنسور على القبور، والذباب على الشراب، واشتد الزحام وزلت الأقدام،
وضلت المذاهب، واصطكت المناكب، وشخصت الأحداق وامتدت الأعناق، وتهدَّلت الشفاه، وتحلبت
الأفواه، وتحركت الأشداق، وتقارعت الأطباق، وتصاولت الأيدي بالمُدى، كالظُّبى في الوغى،
والتفت الساق بالساق، واشتد الهول وضاق الخناق، ثم انجلت المعمعة عن شهداء التخم، وأسراء
البشم، وقتلى الطعام وصرعى المدام:
بأجسامٍ يحرُّ القتل فيها
٥
وما أقرانُها إلَّا الطعامُ
ولعبت الكئوس بالرءوس، والشمول بالعقول،
٦ والراح بالأرواح، وذهبت العقار بالوقار،
٧ والبطنة بالفطنة، فاختلط الحابل بالنابل، والعالي بالسافل، والرفيع بالوضيع،
والأمير بالحقير، هذا يمزح، ويقهقه، وذاك يتمتم ويتهته، والآخر يقيء طعامًا، وسواه يقيء
كلامًا، ولم نسمع بينهم من قولٍ يفهم ويعقل، أو حديث يؤثر ويُنقل، إلا ما سمعناه يدور
بين
شاب متكلف متصنع، وكهل مجرب متضلع.
الكهل
:
أليس من أسوأ الأسواء وشر البلاء ما نراه من حال هذا الصعيدي صاحب العرس كيف
اعتزل سنة آبائه وأجداده، وانسلخ عن مألوف العادة في قومه ودياره وطفر طفرة واحدة
إلى العمل بعادات الغربيين والتقليد لبدع الإفرنج، فجرى في الاحتفال بالعرس على
نمطهم وأسلوبهم مع جهله بها، وعدم ملاءمتها لطبعه، وكيف لا يُرثى لحال هذا المسكين
وقد أنفق جانبًا عظيمًا من أمواله لإقامة المهرجان على هذا الطراز الغريب عن ذوقه،
فهو في حيرة وذهول لا يدري ما صنع، ولا يعلم ما يفعل في وسط هذه السوق القائمة
والزحام الهائل، وانظر إلى مقدار السخط النازل فوقه والاعتراض المصبوب عليه من أكثر
الذين دعاهم ليرضيهم بعمله، ويكرمهم بحسن صنعه بعد أن تكلف لهم ما يفوق الطاقة،
وارتكب ما يخالف العادة، ثم اشهد معي بأنه أساء إلى نفسه وجنى على أهله.
الشاب
:
ما أراه إلا أنه أحسن صنعًا وأجاد عملًا، وأخذ بالسنن الأرشد في التحلي بشعار
المدنية والتعلق بأسباب الترقي في الحضارة، وقد آن أن يستوي أهل الأرياف بأهل المدن
في السير على النهج الغربي لهوًا كان ذلك أو جدًّا، وأن يخلعوا عن رقابهم أغلال
العادات العتيقة وربقة الأفكار القديمة، فترتفع الأمة وتنتفع البلاد.
الكهل
:
أي نفع يرتجَى لأهل البلاد بخراب البيوت ودمار الدُّور، ولئن امتد الزمن قليلًا
على عمد الأرياف وأعيانها وهم يرسلون بأبنائهم إلى البلاد الأوروبية، ثم يهجرون
مساكنهم ومساكن آبائهم، ويتركون مزارعهم ومرافقهم ليسكنوا معهم عاصمة البلاد بعد
عودتهم ويتخلقوا بأخلاق الغربيين ويتبرأوا من كل ما كانوا فيه من قديم وعتيق؛ لم
تلبث الأموال أن تذهب ضياعًا، والدور أن تمسي خرابًا، وأن تصبح المزارع بأيدي
الأجانب الذين يقلدونهم في امتلاك الأطيان وزراعة الأراضي، كما يقلدونهم هم في باطل
المدنية وزخرف معيشتها.
الشاب
:
أظنك كنت تريد أن يقام الاحتفال بزواج هذا الشاب المتمدين بين الأحواض
والمستنقعات في قرية أبيه، وبين الأوباش والهمج من فلاحيه ومزارعيه، فيبدل المقاصير
بالخيام، والكهرباء بالمشاعل، و«البوفيه» بالسماط، والصحاف بالقصاع، والأباريق
بالجرار، و«الدِّيند» بالدفين، و«المايُّونيز» بالعصيد والهليون بالفول، وعشَّ
الغراب بالحلبة، و«الموستارْدَا» بالمش، و«المربَّى» بالرطب، و«المانجو» بالدوم،
و«التكريز» بالجميز، و«الشمبانيا» بالمزهَّر، و«الكاب» بالحليب، و«الكنياك» بعرق
البلح، والموسيقى بالمزمار، والأوتار بالأذكار، و«البيانو» بالأرغول،
و«الأوركِسْتِر» بالرباب، و«الباللو» بالسحجة، و«مس أُوستن» ببنت أم شنب، وموكب
الزفاف بلعب الهوَّارة، ثم يدعو مشايخ العربان بدل القناصل العظام، ونظار الزراعة
بدل نظار الحكومة، وكتبة المراكز والصيارف، بدل أمراء البورصة والمصارف، ويضع على
رءوسهم سعف النخيل والعراجين، بدل أكاليل الأزهار والرياحين.
الكهل
:
يكفيك فقد أسهبت في الشرح والوصف، وأنا أقول لك: نعم يعجبني أن يكون الأمر على
مثل ما تسخر منه ما دام من عاقبته عمران البيوت وحفظ الأموال، وبقاء الأحساب وإطعام
المساكين، وبر الأقارب وإسداء الخير للأصحاب والجيران، وإدخالُ السرور على النفوس
بما يرضيها ويلائم أذواقها، بهذا ينتفع أهل البلاد ويرضَى الناس بعضهم عن بعض، ولا
أرضى أبدًا أن ينقلب الحال كما أراه ما دام من ورائه عواقب الخراب وسخط الناس،
وعقوق الأهل ولصوق العار، ووقوع الفضيحة وسوءُ المصير، ومن الذي يعارض فيما أقول من
أهل العقول الصائبة، وهو يرى هذا الرجل العريق النسب في أهل الصعيد أهل الشهامة
والحمية، وذوي الغيرة والأنفة، ومن حوله الخصيان على ما نشاهده الآن يطالبون أن
يأمر الخدم بحمل صناديق الخمر لشرب النساء في الحرم، وهو يعرف حكاية الأعرابي الذي
سقوه الخمر في أحد الأعراس، ولم يكن ذاقها من قبل، فلما ثارت سَوْرتها قال لمن حوله
من أهل البيت: «إن كان نساؤكم يشربنها فقد زنين ورب الكعبة.» ولست أدري على كل حال
ما الغرض الدافع لصاحب هذا العرس إلى احتمال كل هذه الفضائح والمعايب، فإن كان غرضه
إرضاء أهل العاصمة بإنفاق تلك الأموال الطائلة في إقامة الاحتفال، فقد أغضبهم
وأسخطهم جميعًا على ما نسمعه ونراه، وليس فيهم إلا كل منتقد لعمله معترضٍ على فعله
يرميه بعضهم بالتبذير ويرميه بعضهم بالتقصير، وإن كان الغرض من هذا التوسع في
الإنفاق إذاعة الشهرة بعظم الثروة والغنى بين الناس، وانتشار ذكره بالكرم والجود،
فلهذه الشهرة وجوهٌ أخرى تفيده وتفيد الناس، ولابتناء المحامد سبلٌ شتى تُرضِي
النفوس وتسر القلوب، ولو كان اقتصر في إقامة الوليمة على نصف ما أنفقه فيها، وبذل
النصف الآخر في باب من أبواب البر والإحسان مثل مساعدة الفقراء وإنشاء الملاجئ،
وإقامة المستشفيات وإعانة ذوي الصناعات لخلد ذكره بين قومه بالعمل الصالح، ولأقاموا
لمجده صروحًا من طيب الأحدوثة وجميل الثناء.
قال عيسى بن هشام: وما نشعر إلا وقد انقطع علينا سماع بقية الحديث بصياح جماعة من
خدم
المائدة يدعون المدعوين للخروج من القاعة، حيث لم يبق على المائدة من طعام ولا شراب،
ويعدُونهم بالعودة إليها بعد غسل الآنية وتجديد الألوان، فلم يسمع لهم أحد ولم يُلتفت
إلى
صياحهم، فأخذوا في التصفيق بالأكف تنفيرًا لهم كتنفير الدجاج، فلم ينتقلوا ولم يتحركوا،
فعمد الخدم إلى آخر حيلة يضطرونهم بها للخروج، فأطفأوا الأضواء، وتركوهم يتخبطون في الظلمات
ويتساندون على الجدران يطلبون الأبواب، فسبقناهم إلى الخروج، والتقينا في خروجنا عند
الباب
بصاحبين يتنازعان في هذه الحال، ويتخاصمان في شدة السكر، فلطم أحدهما صاحبه فسقط على
الأرض
يتخبط في قَيئِه، وينشد هذه الأبيات في هذره وهَزئه:
شربتُ الخمر حتى قال صحبي:
ألست عن السِّفاهِ بمُستفيق؟
وحتى ما أوسد في مبيتٍ
أنام به سوى التُّرب السَّحيق
وحتى أُغلق «البُوفيه» دوني
وآنست الهوان من الصديق
وسمعنا الآخر ينشد وهو ينتفخ تيهًا وعجبًا، ويصغر خده صلفًا وكبرًا:
شربت الخمر حتى خلتُ أني
أبو قابوسَ أو عبد المَدَان
وسمعنا في الخارج عزف الموسيقى تتقدم العروس لزفافه عند دخوله الحرم، فسكت المغنون
وضج
المكان واضطرب الحاضرون، ووقف الجالسون، وصعد بعضهم فوق الكراسي يتطاولون لمشاهدة العروس
وهو في زمرة من إخوانه وأترابه يخطر بينهم، ويرفل حتى إذا توسطوا ساحة الدار وقفوا به
وقفةً، فقام أحد الحاضرين فصعد على منصة المغنين صعود الخطيب على المنبر، فشخصت نحوه
الأبصار ومالت إليه الأسماع، وإذا هو يخطب بخطبة هذه نسختها:
أيها الحاضرون والغائبون، هذه ليلة قامت فيها أعواد السرور، على منابر الحبور،
وأشرقت فيها أهلة المسرة والبدور من سماء القلوب وأرض الصدور، وطلعت فيها كواكب
السعود من أفق العيون، فانجلت عن بصائرنا غمائم الأحزان ووبل الشجون، ولو أني لست
من فرسان هذا الميدان، الراكبين لحيازة قصب الرهان، ولا من المجرِّدين لسيوف الخُطب
وخُطَب السيوف، بحروف الرماح، ورماح الحروف، ولا من الممتطين في شروح البلاغة متون
الضوامر، ولا من السابحين في بحور النظم والنثر على كل كامل ووافر، ولا من الساحبين
في حلة سحبان، ولا من المتدرعين في حصون المعاني والبيان، وقد حيل بين العَير
والنَّزوان، إلا أن ما أعرفه في هذا العروس من العلم والإقدام، وما له في مستعمرات
التربية من وطأة الاحتلال ورسوخ الأقدام، وما أعتقده فيه من محبة الأوطان ومصادقة
الإخوان، كما أن ما أعلمه وأتحققه في العروس التي تزف إليه هذه الليلة، من علمها
بتدبير المنزل وفروض العَيْلة، وما هو مشهور عنها لدى كل قاص ودان، مما يوجب حسن
القبول والامتنان، وما شهد لها به معلمو المكاتب ومدرسو المدارس، بأنها أنس المحافل
وبهجة المجالس، وما أراه على وجوه الحاضرين من الكرم والسماح، وأتوسمه في جباههم من
الفرح والانشراح، كل ذلك هو الذي جرأني على الوقوف في هذا الموقف الحرج، وسط بحر
هذا العرس المتموج، وإني أتوجه إليكم بوجهي لتضربوا عن تقصيري صفحًا، وأتقدم لكم
بنفسي لتطووا عن هفواتها كشحًا، وأطلب منكم أن تشربوا معي نُخَب الكئوس، في نَخب
العروس، وتقولوا معي: فليحيَ هذا الشاب في هناء وسرور، ورخاءٍ وحبور، ممتعًا بنشأة
الرفاء والبنين، وناشئة الأولاد الناجحين، ما ناح القمري في رياض البساتين، وصاح الأخدري
٨ بين الأعشاب، آمين آمين.
ثم نزل الخطيب فقابلته الأكف بالتصفيق والأفواه بالتهليل، والصدور بالتبجيل وصدحت
له
الموسيقى ثلاثًا بالسلام، ثم أعقبه على المنبر شاعر من المشهورين بين الخاص والعام، فأنشد
هذه القصيدة النادرة والمدحة الباهرة:
بأوقات الهناء الصافيات
تجلَّى الأنس من كل الجهات
لقد قام البشير بها ينادي
على أهل العروسين الهداة
في تلك الصدور الفرح يجري
كما تجري خيول الصافنات
فبشرى أيها الشهم المفدى
بخير الغانيات الآنسات
ظفرت بدرة في عقل ماس
من المتأدبات الراقيات
وقد زفوا بهذا الأفق بدرًا
إلى شمس الهدى والمكرمات
تغذت بالمعارف والمعالي
فحازت زينة المتعلمات
يرجَّى أن يكون كذا بنوها
لدى أيامنا المستقبلات
بهم تزهو الشبيبة في المرامي
وتغدو للحمى أقوى الحماة
بهم ترقى المواطن مرتقاها
وتصبح قدوة المتربيات
كجيش في البلاد عَرَمرميّ
وجند في الحروب مبرزات
وتمشي التيه في أوج المراقي
وترفل منه في حلل الثبات
فتصبح أنت خير أبٍ كريم
وتصبح تلك خير الأمهات
ودمتم بعد ذاك بألف خير
ونعمى بالبنين وبالبنات
ولولا الاختصار وضيق وقت
لجئت بألف بيت شاهقات
ثم انتهينا بحمد الله من الشاعر بعد الخطيب، وعاد المغنون إلى اللحن والتطريب، فأخذت
أجيل
النظر وأقلب الطرف، من ركن إلى ركن ومن صف إلى صف، فلم أجد في الحاضرين بلا استثناء من
هو
ملتفت إلى سماع الغناء، بل رأيتهم يوجهون النظر إلى السماء، ويكثرون من الإشارة والإيماء،
كمن يتضرع بالدعاء، لكشف المحنة والبلاء، فرفعتُ مثلهم نحو السماء بصري، فدهيت من حيث
أدري
ولا أدري؛ إذ رأيت نوافذ الدار، مهتوكة الأستار، وفي كل نافذة هيفاء مسفرة النقاب،
كالدُّمية في المحراب، أو كالصورة تتألق في إطارها كالشهاب، أو كالبدر بدا مسفرًا من
خلل
السحاب، تُنفذ منها مثل خيوط الغزالة
٩ للمغازلة، وتُجرد من اللحظات مثل سيوف الكماة للمنازلة، فتصيد طيور القلوب
الحوائم، وتفتك بمهج النفوس الروائم، ثم تراها تومئ بكأس الصهباء، إلى شفتها الحمراء،
وتلمس
واسطة العقد، بزهرة من الورد، فيشتبه على الرائي وجه الأمر، باختلاف اليواقيت كالجمر،
ياقوتة الخمر، بياقوتة الثغر، وياقوتة الزهر، بياقوتة النحر، ثم لا تفتأ ترسل الإشارة
تلو
الإشارة، تارة بالمروحة وأخرى «بالسجارة»، مع ابتسامات توضح عن مكنون الصدور، وتفصح إفصاح
المعاني في السطور، والرجال من تحتهن يجاوبونهن على أعين النظار، طورًا بإشارات الأيدي
وطورًا بلغة الأزهار، وكل مغازل فيهم يعتقد أنه امتاز على سواه، وتغلَّب على أهل النوافذ
بهواه، وأضرم فيهن نار العشق وجواه، وخلع قلوبهن بدعواه، وما بالنوافذ سوى أزواجهم وبناتهم،
أو أخواتهم وبنات أخواتهم، والمغنِّي يستقبل وجوههن في هذه الأثناء، بوجه ليس فيه أدنى
حياء، فيغنيهن من الأصوات والألحان، ما يثير من الغرام ويهيج من الأشجان، والخصيان يصعدون
إلى الحرم بأوراق وينزلون منه بأوراق يتخيّرن فيها الأدوار السائرة على ألسنة العشاق،
في
وصف حرارة الأشواق، ومرارة البعد والفراق، وما زالت الحال تتزايد قحةً ووقاحة، وتتضاعف
هتكًا وفضاحة، حتى قام في وسط المكان جماعة من الأصحاب، يتقاذفون بألفاظ القذف
والسباب.
ثم إنهم انتقلوا من التلاعن والتشاتم إلى التضارب والتلاكم، فقام الحاضرون على الأقدام،
لمشاهدة ميدان النزال والخصام، ثم توسط رجال الشرطة بينهم لفضِّ المخاصمة، وسوقهم إلى
المحاكمة، بعد أن تمزقت الثياب تمزق الأوراق، وتخضبت الوجوه بالدم المهراق، فصارت الأفراح
أتراحًا، وانقلب الغناءُ نواحًا، وقلت لصاحبي: هلمّ بنا إلى الفرار، من مواقف التهمة
والعار، وخرجت به أسوقُه أمامي، وأقول له في بعض كلامي: لقد حق لك بعد الذي رأينا ونظرنا،
وبَلَونا وخَبَرنا، أن تلتهب بالغضب والحنق التهابًا، أو يذهلك الدهشُ والعجب فلا تعي
جوابًا، وهل بقي بعد ذلك فرقٌ بين سرور الدنيا وحزنها، أو فضلٌ لظهر الأرض على بطنها،
فأجابني بلسان الحكيم المدرَّب، والحليم المهذَّب، وهو يبتسم استهزاء، ويهزّ كتفيه ازدراء:
لم يبق في بفضل الحكمة فضلٌ للسخط والغضب، وعجبي اليوم مما أرى يكون من العجب.