العمدة في الحديقة
قال عيسى بن هشام: وتمكن من الباشا حبُّ الاستكشاف والاستطلاع، لدرس الأخلاق وسبْر
الطباع، وتبدلت الوحشة عنده بالائتناس، في مخالطة الناس، فصار يلح عليَّ ويلج في الطلب،
أن
أذهب به في هذا السبيل كلَّ مذهب، وأنا أداوره وأحاوله، وأماطلُهُ وأطاوله، وهو لا ينفك
يستنجزني ويستقضيني، وإذا استعفيتُه لا يعفيني، فقلت له: لم يبق أمامنا من المجالس
والمنتديات، إلا ما اشتملت عليه الأزبكية من المخجلات المُنديَات،
١ وما تضمنتُه من صنوف الرجس والنكر، وفنون الفسق والسكر، وأنا أجلك أن أسلك بك
مسالك الظنة والتهمة، وأن أحلك محال الريبة والشبهة، وأربأ بسنِّك وقدرك أن تختلط بتلك
الزُّمر، وتدخل معهم في تلك الغمر، وتقسر نفسك الشريفة على ما لم تألفه من مثل ما يعملون،
وشروى ما يفعلون،
٢ فلا نأمن حينئذ نقد الناقدين، وطعن الطاعنين، وقاسمتُه إني لك لمن الناصحين،
فقال: ألي تقول ذلك وقد آتيتني من دروس الحكمة العالية، وضروب الفلسفة السامية، ما أزدري
معه عذل العاذلين، وأحتقر به لوم الجاهلين؟! ولن يضير النفس الشريفة الطاهرة، أن تجاور
النفس الخبيثة الفاجرة، وقل أن يُعدي المريض الطيبب، وتذهب رائحةُ الدَّفر،
٣ برائحة الطيب والإمعان في رؤية النقيصة والرذيلة، يزيد النفس الفاضلة تمسكًا
بالفضيلة، ولا يعرف قدر الرشد والهداية، إلا من نظر في أعقاب الضلالة والغواية، وبالظلمة
يُعرف فضل الضياء، وبضدّها تتبين الأشياء، ذلك من فضل ما علمتني مما عُلِّمت رشدًا، ولقد
كان من أدب الحكام في أيام دولتنا، وزمن صولتنا أن يغيروا من هيئاتهم، ويستروا من سماتهم،
ويبدّلوا من أزيائهم المعروفة، بأزياء غير مألوفة؛ ليتمكنوا من مخالطة الناس على اختلاف
أشكالهم ويقفوا على جلية أمرهم وحقيقة أحوالهم، فلم يكن ذلك مما يضر بسمعتهم، أو يحط
من
رتبتهم، عند ظهور أمرهم، ووضوح سرهم، فلا عليك إذًا أن تسلك بي ما شئت من المسالك، ولا
تخش
عليَّ شيئًا من تلك المعاطب والمهالك.
قال عيسى بن هشام: ولما لم يبق لي بد من امتثال حكمه، وتنفيذ عزمه، قصدت به من الأزبكية
روضتها الغناء، وحديقتها الفيحاء، فلما وصلنا إلى بابها، ووقفنا عند «دولابها»، وضعت
فيه
أجرة العبور، كما توضع النذور في صندوق النذور، ودرت فيه دورتي ودار الباشا دورته، فقال
لي
وهو يدافع الغضب وسَورته: هل كتب على الداخلين في هذه الجنة الزاهية أن يدور الإنسان
دورة
الثور في الساقية؟ فقلت له: نعم شاع التخوين بين الناس في جميع الأشياء، فاخترعوا لهم
مثل
هذه الآلة الصماء؛ لتكون رقيبًا عتيدًا، لا يستطيعون معها اختلاسًا ولا تبديدًا، فهي
ترقم
من الداخل عند كل دورة، ما ينقده الداخل فيها من الأجرة فلا يضيع منهُ مثقال ذرَّة. ولما
جاوزنا الباب أعجب الباشا حسن المنظر وازدهاه، وراقه بهاء المكان واستهواه، وتملكه الابتهاج
وتولاه، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله! لمن هذه الجنة من كبراء البلد؟ قلت: هي
ملك كل
واحد وليست بملك أحد، أنشأتها الحكومة من «المنافع العامة» لنزهة الخاصة والعامة. ثم
سرنا
نطوف في أنحاء الحديقة، بين أشجارها الوريقة، وأغصانها الرشيقة، وأزهارها الأنيقة، والباشا
يهتز طربًا ويميل عجبًا، لحسن هذا المنظر العجيب، والمنبت الخصيب، ثم وقف بنا وقفةً بين
برد
الظلال وخرير الماء، ورفع ببصره يقدس باسط الأرض ورافع السماء، ثم رأيته ينحني للركوع
انحناء القوس بعد أن أنشد قول حبيب بن أوس:
أرضٌ إذا جردت في حسنها
فكرك دلتك على الصانع
وسمعته يتلو في الركوع والسجود، قول صانع الوجود: وَلله يَسْجُدُ مَن
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ، وقوله أيضًا عز من قائل: تُسَبِّحُ لَهُ
السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
ثم انثنيت به في طلب الراحة، فجلسنا على أريكة من أرائك تلك الساحة، ودارت بيننا هذه
المخاطبة، بما اقتضته المناسبة:
الباشا
:
كيف لا يكون هذا المكان بالناس غاصًّا، وبالمرتاضين مزدحمًا، يشاهدون جماله
ويتفيأون ظلاله ما دامت الحكومة قد أباحته لكل رائح وغادٍ كما تزعمه؟ وما لي لا أرى
فيه غير هؤلاء الأجانب في أزيائهم، بأبنائهم ونسائهم، فهل وقفته الحكوة على
الغربيين وحرَّمته على المصريين، فإنني لم أجد فيه أحدًا منهم منذ دخولنا إلى هذه
الساعة؟
عيسى بن هشام
:
لم تُؤثر به الحكومة قومًا دون قوم، ولكن المصريين كأنهم ألفوا التهاون باللذات
الروحانية وتغافلوا عنها، وأخصها معرفة ما حسن في الأشياء، وتمييز الجمال والكمال
ومواضع الإحسان والإتقان في صنعة الوجود، ورياضة الفكر والنظر في مطالعة كتاب
الكائنات، ونظام المخلوقات التي تسبح بحمد خالقها؛ أي: تدل عليه بصنعته فيها، وكأن
الواحد منهم قد حبس نفسه وقيد فكره في الوجود على الماديات، فلا يكاد ينظر في دهره
نظرة المشاهدة والإمعان في خلق السماوات وما يتألق فيها من الشموس والأقمار والنجوم
والكواكب، ولا في خلق الأرض وما ينبت فيها من النبات، ويدب من الحيوان ويجري من
البحار ويرسو من الجبال، وهي بجمال صُنعها وكمال وضعها.
تصيح بمن يمرُّ: ألا ترانِي
فتفهم حكمة الخلق العجيب؟
الباشا
:
جل الخالق الصانع، ولكن لأي سبب ألف المصريون غفلتهم عن التمتع بهذه النعمة؛ نعمة
المشاهدة ولذة المطالعة وصار الأجانب يتعلقون بها دونهم ويمتازون بها عنهم؟
عيسى بن هشام
:
لا سبب فيما أعلم إلا التمادي في التهاون والتراخي عن إيقاظ هذا الشعور الغريزي
الكامن في النفس، وتنميته بالرياضة والتفكير ومعاودة الإمعان والتدقيق، وقد اعتنى
الأجانب به عناية خاصة فاجتهدوا في تنميته وترقيته، حتى صار لديهم ملكة من الملكات
وفنًّا جميلًا من أرقى الفنون فدربوا عليه ومرنوا فيه وسرى في دمائهم يتوارثه
الأبناء عن الآباء، فترى الطفل فيهم إذا شب ودرج، وأراد أن يتحف أهله يومًا بادر
إلى الأرض، فاقتطف منه أول زهرة من الربيع وتسابق بها إليهم، كأنما عثر لهم على كنز
لحسن الوقع عندهم، ولقد برعوا في الصناعة بفضل هذا الشعور ودوام نموه، ولم يقتصر
الحال فيه عندهم على المرئيات الطبيعية، بل تجاوزه إلى المرئيات الصناعية، ففيهم من
يبذل الألوف من الدنانير والملايين من الدراهم لاقتناء صورة من الصور، ورسم من
الرسوم يحسن تمثيل زهرةٍ من الزهور أو دائرةٍ من الشفق أو راع من الرعاة أو حيوان
من الحيوانات بما لا مناسبة بين قيمته في الأصل الطبيعي، وبين قيمته في الشكل
الصناعي، وقل أن تدخل دار ميسور منهم إلا وتجد أنحاء الجدران مزدانة بألواح
التصاوير والتهاويل مما يُحاكي المناظر الطبيعية، فلا يفوت صاحب الدار أن يتمتع
بحسن المنظر في داخلها إن حجبته عن مشاهدة جمال الطبيعة في خارجها، ولقد جرهم ذلك
إلى شدة الولوع بمشاهدة الآثار القديمة، والتنافس في اقتنائها والغلو في التحفظ
عليها والضنِّ بها، فكم رأينا من قطعة من الحجر أو غيره تزدريها الأعين بيننا ولا
يعبأ بها المصريُّ، فيطرحها في كناسة منزله فلا تزال كذلك حتى يلتقطها الأجنبيُّ في
بحثه وتنقيبه، فتصير عنده في قيمة فريدة التاج أو يتيمة العقد، وكم رأينا من السياح
من يتكبدون مشاق الأسفار ويتحملون أهوال البحار وأخطار القفار مع إنفاق الألوف
المؤلفة من الذهب والفضة لمشاهدة آثار الدمن، وما عفا من الرسوم في هذه الديار،
وربما رأينا المصريَّ ساكن القاهرة يشب ويشيب ويكتهل، ويشيخ ويعمر ويهرم، ولم ير من
الأهرام القائمة في جواره غير صورتها المرسومة على ورق البريد، وربما لم يلتفت إلى
رؤية ذلك أيضًا حتى يدركه الموت.
الباشا
:
تالله إن ذا لمن العجب، ولو كان الأمر يجري على القياس لكان المصريون في مقدمة
الأمم التي ينمو فيها الشعور بلذة التأمل في بدائع الكائنات، ومحاسن الموجودات لرقة
طباعهم، ولطافة شيمهم، وسرعة التأثر والانفعال في نفوسهم، ولما ميزهم الله به من
حسن الإقليم واعتدال الجو وفيض الماء وخصب التربة، ولانحصار موارد أرزاقهم ومعاشهم
في استنبات الأرض، وطول ممارستهم للفلح والحرث والزرع والحصد، وكلُّ من رأى الإقليم
المصري كالزبرجدة الخضراء في وسط رمال الصحراء، لا بد أن يحسد أهله على التحلي بهذه
الفريدة من عقد الطبيعة، ويغبطهم على دوام تمتعهم باجتلاء هذا المنظر الذي يجلو
البصر ويثلج الفؤاد وينعش القلب، ويلطِّف من هواجس النفس وبلابل الصدر فتصفو الروح،
فتخف من قيود العالم السفلي إلى الاتصال بمعارج العالم العلوي، فترتاح هناك هنيهة
مما تقاسيه في مصارعة العيش من ضروب الأكدار والآلام، وتفر من وجهها إلى وجه ربك ذي
الجلال والإكرام، واعلم — وهذه لفظة طالما أفادني تكرارها على لسانك فاسمح لي بها
مرة من لساني، وما أعلمك إلا عن خبرة وتجريب — أن الفرق بين الإنسان والحيوان لا
ينحصر في الخلقة، ففي الخلقة ما يشبهه، ولا في النطق ففي الحيوان ما ينطق، ولا في
الذكاء ففي هوامِّ الأرض ما يفوقه ذكاءً، وإنما المزية التي تميزه عن سائر
الحيوانات والخَصلة التي يفضُلُها بها هي إدراك حقيقة الوجود بالإمعان والمشاهدة
وطول الفكر والنظر في خلق السموات والأرض للاهتداء إلى معرفة خالقها، وعبادة
صانعها، قال — جل وعز — في محكم بيانه: أَفَلَا يَنظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ
رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ
* فَذَكِّرْ إِنَّمَا
أَنتَ مُذَكِّرٌ، هذه هي اللذة الروحانية التي أسعد الله بها الإنسان
دون سائر المخلوقات وهي أشرف اللذات، وأصفاها وأفضلها وأبقاها، وما يتقرب العبد إلى
الله زُلفى في عبادته بأجل من النظر والتفكير في حسن صنعه وكمال خلقه، قال وهو أحكم
القائلين: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا
مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ،
ولا يقف على مقدار هذه اللذة الروحانية تمام الوقوف إلا من تجرد مثلي يومًا من عالم
الأجسام والفناء، إلى عالم الأرواح والبقاء، ولا ينبئك مثل خبير.
ولو كانت الأمور تجري على القياس أيضًا لاشتغل المصريون بلذة هذه المشاهدة، وسعوا
في نموها فيهم؛ إن لم يكن من جهة لطف الإحساس والشعور فمن جهة انصرافهم إلى تقليد
الغربيين، والعمل على نمطهم في مختلف أحوالهم كما شاهدته منهم عيانًا في جميع
حركاتهم وسكناتهم، ولكن لعل هناك من خفيّ الأسباب ما حرمهم اطَّراد التقليد في هذا
الباب.
عيسى بن هشام
:
لم يكن هناك من سبب يمنعهم غير ميلهم إلى الفتور والانقباض، سواء أكان في
الماديات أم الأدبيات، وهم على شدة وَلَعلهم بتقليد الأجانب لا يقلدونهم إلا فيما
خف وهان من الزخرف المموه والبهرج الكاذب والملاذ الشهوانية مما لا ينتج عنه إلا
سقم الأجسام ونفَاد الأموال، وما عدا ذلك من أمور المدنية النافعة فمجهول عندهم بل
مرذول لديهم، وإجمال القول في هذا الباب أن مثل المصري في أخذه بالمدنية الغربية
كمثل المُنْخُل يحفظ الغث التافه ويفرط في الثمين النافع.
الباشا
:
يا أسفا عليهم كأنهم تخلوا عن فضائل مدنيتهم القديمة، ولو يتحلوا بفضائل المدنية
الحديثة، فأصبحوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثًا.
قال عيسى بن هشام: وما زال الحديث يجري بنا على هذا النحو حتى وصلنا إلى المغارة المصنوعة
في بعض أنحاء الحديقة، فرأينا صنعًا جميلًا وشكلًا بديعًا، وأعجبنا تدفق الماء من ثنايا
الأحجار، فجلسنا على سُرر هناك أُعدّت للزائرين، وإذا بجانبنا ثلاثة أشخاص مِن المصريين
شغلهم اتصال الحديث بينهم عن الالتفات إلينا، فأقمنا نسترق السمع ونلتقط اللفظ، فتبين
لنا
من سياق كلامهم أن أحدهم عمدة من عمد الأرياف، وثانيهم تاجر من تجار الثغور، وثالثهم
فتًى
من أهل البطالة والخلاعة، ومما التقطناه من قول العمدة للخليع في مجرى حديثه:
العمدة
:
وأين الآن ما دخلنا الحديقة من أجله، فقد طال بنا الجلوس ولم نر شيئًا؟ وهل كان
جُل القصد ومنتهى الجهد أن نجلس هنا في وخامة الأشجار ورطوبة الهواء وعفونة الماء؟
وتالله ما أجد فرقًا بين هذا المنظر وبين منظر ذلك المستنقع الذي خلفته خلف بلدتنا،
ولعمري إن الأوز الذي يسبح فيه هناك أكثر عددًا وأعظم سمنًا من الأوز الذي يسبح
أمامنا، وما الفائدة في طول جلوسنا أمام هذه الأشجار العقيمة التي لا تثمر ولا تغني
من جوع؟ وأين نحن من ذلك الثمر الشهي والصيد الطري الذي وعدتنا به وأطمعتنا
فيه!
الخليع
:
مهلًا فلن يفوتك من هذا شيء وإن كنا أخطانا الغرض هنا؛ لأنني كنت أظن الحديقة على
عهدي القديم بها، وما كنت أتخيل أن الأمر وصل بها إلى مثل هذا الخراب من الظباء
والغزلان، إلا منذ أخبرني أحد الأصحاب بعد دخولنا بأن الحكومة اشتغلت بأمر هذه
الحديقة لخلو يدها من الأشغال، فباشرت الإصلاح فيها بمنع ذوات البراقع والمآزر من
دخولها والتجول في أنحائها، ولا أقول في هذه النازلة إلا قول الجرائد في التأفف من
أعمال الحكومة: «حسبنا الله ونعم الوكيل».
التاجر
:
وعلى هذا فقد ذهبت تلك الليالي والأيام التي كانت فيها الحديقة مرتعًا للحسان،
وملعبًا للقيان، ولطالما دخلتُ هنا وحيدًا فريدًا فما أكاد أنصب الحبالة، وأضع
الحبَّ حتى أقتنص من آرامها مثنى وثلاث وربُاع.
العمدة
:
يعلم الله أن العاصمة أصبحت على حال لا تصح معها الإقامة إلا مدة قضاء الحاجة
والرجوع إلى البلد فورًا، وإلا فقد عرَّض الواحد منا دَرَاهمه للضياع وصدره
للانقباض، وإلى الآن تراني في غاية الأسف والحزن على ما جرى لي أمس في سهرتي مع
فلان الموظف؛ إذ جرَّني للنزهة معه فطاوعته على هواه أملًا في إنجاز حاجتي عنده
فسحبني من مكان إلى مكان، ومن حان إلى حان يشرب هو وأصحابه على حسابي، وكأنما
أجوافهم دنانٌ متخرقة فلا تمتلئ أبدًا من الخمر، وكأنما كيسي كنز لا يفنى بالإنفاق،
وما كدنا ننتهي من حانات الخمر حتى اندفعوا إلى بيوت القمار، فأصبحت مصدَّع الرأس
من الخمر، فارغ الكيس من القمر.
التاجر
:
ولِمَ تطاوعه على أغراضه وتنقاد مع أصحابه، وتنفق مثل هذا الإنفاق من غير حظ ولا
لذة؟ وإن كانت لك حاجة ترجو قضاءها منه كما تزعم فيكفي في ذلك أن تضع «المبلغ
المناسب» في يده، وتتخلص منه ومن أصحابه فلا تسايرهم، ولا تعرِّض نفسك للتورط معهم
كما فعلت.
العمدة
:
يحق لك أن تعترض وتلوم فقد أراحكم الله معاشر التجار في المدن من متاعبنا
ومصائبنا مع الحكام؛ فإن أشغالكم لا تتعلق بهم كما تتعلق أشغال الفلاحة في الأرياف،
فنحن في اضطرار دائم إلى استرضائهم «والمبلغ المناسب»، الذي تقول عنه لا يكفي وحده
في قضاء الحاجة، بل يلزم الإنفاق عليهم في كل زمان ومكان علاوة على تلك المبالغ،
وإن لم يكن لك عندهم حاجة في الحال، وكم من كلمة واحدة من موظف صغير كانت سببًا في
تعطيل عمل كبير، وما يدريك أن الذي تغضي عنه الليلة ولا تلتفت بنظرك إليه في حانات
الأزبكية يصبح غدًا قاضيًا في المحكمة أو حاكمًا في المديرية؟
الخليع
(مقاطعًا)
:
إذا كانت الليلة الماضية قد انقضت على غير هواك، فلنا عنها عوض من ليلتنا هذه إن
شاء الله.
العمدة
:
أنصدِّقك في وجود العوض وقد أخلفتَ وعدك معنا في هذه الحديقة، وآذن الليل بالدخول
وليس في اليد شيء من الصيد؟
الخليع
:
صدِّقني بالله، فإني ما كنت أعلم بما أصاب الحديقة من أمر الحكومة؛ لأنني كنت
مقيمًا بحلوان مدة طويلة، وجئت وأنا أحسبها على حالها الأول، ولكنني قد رتبت لك
الآن سهرة في فكري تفوق في حسنها كل سهرة مضت، فإني أعرف صاحبًا لي أخبرني عن
بَيْضة خدر من بيت فلان باشا، فقوموا بنا وأنا أذهب للحصول عليها هذه الليلة بما
يمكن من الحيل، وسأكتم عنها أمرَكما إلى أن تصير معي في الموضع الذي أختاره، ثم
أرسل إليكما من هناك بمن يأتيني بكما، فيكون دخولكما على حين غفلة، فلا تستطيع
الاختفاء ثم تضطر إلى البقاء في مكانها، وحينئذٍ يدور بنا المجلس معها دورة الأنس
والسرور، ولكن لا أخفي عنكما أن مقدار ما معي من الدراهم الآن لا يكفي لإعداد
معدَّات هذا المجلس، وأخشى إن أنا ذهبت إلى البيت لآخذ دراهم أخرى أن يمنعني أهلي
من الخروج ثانية، كما هي العادة عند النساء في التضييق على الرجال.
العمدة
:
لا عليك فعندي من الدراهم ما يكفي وزيادة.
قال عيسى بن هشام: وقاموا في الحال للسعي وراء اللهو والمجون، وقام الباشا يسحبني
وراءهم
للعلم بما سيكون.