العمدة في المرقص
قال عيسى بن هشام: ولما خرجوا من ذلك المحفل، ونحن أتبع لهم من الظل، سمعنا العمدة
يشكو
للخليع في طريقه، ما يجده من انقباض الصدر وضيقه، ويسأل التفريج لكربه، والترويح عن قلبه،
ويذكره بما كان من الوعود، ويطالبه بزيارة ذلك المجلس المعدود، ويقول له: تالله لقد أنصبتنا
وأجهدتنا، فهلم بنا الآن إلى ما وعدتنا، لنربأ عنا الهم بربيئات الخدود.
ونكشف عن الغم بكاسفات البدور، ونجلو أعيننا بنجل العيون، وننعش أنفسنا بناعسات الجفون،
ونستصبح ليلتنا بالوجوه الصِّباح، قبل أن يصبحنا جيش الصباح، فيقطع عليه الخليع كلامه،
ويدفع عن نفسه ملامه، بأن طول الانتظار، يذهب بحسن الاصطبار، ولا صبر لذوات الدلال، على
خلف
الوعود من الرجال، وقد جاءني رسولها في غفوتك برسالة، تشكو فيها ما لحقها من السآمة
والملامة، وتُنحي عليَّ بالعتاب المر، وأن ما فعلته معها ليس بفعل الحر؛ إذ اخترقت من
أجلنا
ما اخترقته من السجوف والكلل،
١ وتحملت في مجيئها ما تحملته من الخوف والوجل، حذر الوشاة والرقباء، وخشية الأهل
والقرباء، ثم إنها أقامت طويلًا في انتظار اللقاء، وهي على مثل حر الرمضاء، فإذا الوعد
بلا
وفاء، وإذا الدَّين بلا قضاء، وكأنما كانت تنتظر غائبًا لا يؤوب، وتستمطر سحابًا لا يسح
ولا
يصوب، فذهبت بحسرتها، ومضت لطيَّتها،
٢ وفاتنا ما كنا نبتغيه، وأيأسنا ما كنا نرتجيه، وتلك فرصة أضعناها، لنزغة شيطانٍ
أطعناها، فيقول التاجر: إذًا ما الذي اكتسبناه، بعد الذي احتسبناه؟ وماذا أفدناه، بعد
الذي
فقدناه؟ وأين منا ما نجم به شملنا، ونبدد به ليلنا؟ فيقول له الخليع: لم يبق أمامنا في
هذه
الساعة سوى ملاعب الرقص والخلاعة، عسانا نجد فيها بديلًا، مما لم نجد إليه سبيلًا، فيُخرج
العمدة دراهمه فيعدها، ثم يخشخش بها ويردها فيقول له التاجر: لا تهتم فدرهم الأنس ميسَّر،
ويقول للخليع: تقدم، فما من شيء عليك معسر، فيعطف بهما الخليع من غير إبطاء، إلى حان
للرقص
والغناء، فدخلوه ودخلنا من خلفهم، وجلسوا وجلسنا في صفهم، فرأينا المكان حومة وغى احتدم
وطيسه، وميدان حرب اصطدم خميسُه،
٣ عجاجته الدخان، ومتارسه الدِّنان، وسلاحه الأباريق والأقداح، ودروعه الغلالة
والوشاح، ونباله أصمة القوارير،
٤ وطبوله توقيع العيدان والمزامير، ومغافره العصائب والأكاليل،
٥ وأعلامه المآزر والمناديل، وقُوَّاده وشجعانُهُ، قُوَّاده وغلمانه، وكأن منصة
الرقص هي حصنه الحصين، وصاحب الحان هو قائد الكمين، وكأن المغنين هم الكماة والأقران
والراقصات الحماة والفرسان.
أولاتُ الظَّلم
٦ جئن بشرِّ ظلمٍ
وقد واجهنَنَا متظلِّمَات
فوارس فتنةٍ أعلام غيٍّ
لَقَينك بالأساور مُعْلمات
وترى كل ذات ثدي حاسر بارز تنادي: هل من منازل أو مبارز؟ ثم تتبختر وتجول، وتخطر وتصول،
فترمي كلَّ طامع في وصالها، بسهام اللحاظ ونصالها، ثم ترشق بها الدنان تارةً فتسيل بدم
العقار، وتشق بها الجيوب أخرى فتسيل بدم النضار:
وقد أُغمدن في أزُر ولكن
سيوفُ لحاظهن مجرَّدات
قد حن زناد شوقٍ من زُنودٍ
بنار حُليِّها متوقدات
وترى في وسط تلك المعركة، من كل هلُوكٍ مهلكة،
٧ تنساب في حلة رقصها وتسعى، كأنها حية في قميصها أو أفعى، لعاب الأفاعي القاتلات
لُعابها، وأنياب الأسود الضاريات أنيابها، تنفث السم رائحةً وتنتهش غادية، وإن رأيتها
شادنةً وسمعتها شادية، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.
قال عيسى بن هشام: ولما طال جلوسنا، وضاقت أنفاسنا، وكاد يغمى علينا من كريه الروائح
المنبعثة من أرجاء المكان المتصاعدة من أكنافه: رائحة عكر الخمور، ورائحة عرق الأبدان،
ورائحة زيت المصابيح، ورائحة الدخان والحشيش، ورائحة أنفاس المخمورين، ورائحة تلك المراحيض
التي لم يدخلها ماء، ورائحة الأرض التي تسقى بالأقذار ولم تسطع فيها شمسٌ ولم يتغير عليها
هواء، فإذا امتزجت هذه الروائح بعضها ببعض، انعقدت منها في جو المكان سحابة سوداء تمطر
الأدواء، وتساقط الأوباء، فتستنشقها الأنوف وتمتصها الرئات وتضوَى بها الأجسام وتتضاءل
منها
ذُبالات المصابيح تَضَاؤُلها في أجواف المناجم وبطون الكهوف، وكاد الباشا يختنق وهمَّ
به
الغثيان فهم بالقيام فأمسكت به وقلت له:
عيسى بن هشام
:
أيصير مثلي على هذا المقام، ولم أشهد في عمري معركة ولم أحضر معمعمةً، ثم يجزع
منه مثلك وقد مارست الحروب وشاهدت الوقائع تحت سحب العجاج وفوق جثث القتلى، وأشلاء
الجرحى لا تبالي برائحة الجيفة، ولا برائحة الدم ممزوجًا بصدأ الحديد؟
الباشا
:
لقد كان ذلك ولكن في الخلوات والفلوات، حيث تسطع الشمس وتجري الرياح، ولم أستنشق
تلك الروائح منحصرةً كانحصارها في هذا المكان، ومع ذلك أتجلد مثلك للبقاء به كيلا
يفوتنا شيء مما نحن بصدده من بداية الأمر إلى نهايته.
وبينا نحن كذلك إذا بصديق لي دنا مني فسلم عليَّ، وأظهر لي تعجبه من
دخولي هذا المحل، فأظهرتُ له تعجبي من دخوله أيضًا فأجابني بقوله:
الصديق
:
إن السبب في دخولي هنا هو البحث عن رجل احتال عليَّ في بعض الشئون ثم غاب عن
نظري، وأنا أعلم أنه يأوي إلى مثل هذا المكان فدخلته على كره مني بعد أن حرمت على
نفسي التردد عليه منذ زمان بعيد، وحُكمُ الضرورة مطاع، ولكن قل أنت ما الذي جاء بك
إلى هذا الوكر وكر الأفاعي، وأدخلك في هذا العُش عشِّ الشيطان؟
عيسى بن هشام
:
أدخَلَنَا فيه حب الاستطلاع والاستكشاف عن الأخلاق والعادات، ولكنني فيه غريب لا
أفقه كثيرًا مما أرى، والحمد لله الذي سخرك لنا في هذه الساعة؛ لتبين لنا ما غمض
وتُبدي لنا ما يخفَى.
الصديق
:
لك ذلك مني وفوق ما تريد.
قال عيسى بن هشام: وجلس الصديق معنا يحدثنا ويرشدنا، ويسرد علينا من غرائب الوقائع
وعجائب
النوادر في هذا الباب ما أدهشنا به، ثم انقطع الحديث بيننا بدخول رجل يتمايل سكرًا، فاخترق
صفوف الجالسين وقد سكنت ضوضاؤهم، وهدأت حركاتهم لسماع الغناء من إحدى القيان البارعات
فيه،
فأعناقهم نحوها مشرئبَّة وأبصارهم إليها شاخصة كأنهم جالسون تحت المنبر يستمعون أحسن
الحديث
من وعظ الخطيب، واستمر السكران في سيره يقع بينهم مرة ويقوم أخرى، حتى وصل إلى منصة الرقص
والغناء، فضرب عليها مرارًا بعصا في يده ونادى على من فيها بأعلى صوته يطلب العدول عن
الغناء إلى الرقص، فلم يسمعوا لندائه، فالتفت إلى زمرة من الجالسين وطلب منهم مساعدته
على
غرضه فنادوا معه: الرقص الرقص، ونادى الراغبون في السماع: الغناء الغناء، فانبرى لهم
السكران يهزأ بذوقهم ويسفههم في سوء اختيارهم، فأجابه سفيه منهم على سفاهته، فهجم عليه
السكران بعصاه فقفز صاحب الحان من مكمنه إلى السكران فأخذ بتلابيبه، ويقوم طالب الغناءِ
حينئذ من مكانه فيشبع السكران ضربًا وصفعًا فيتعلق السكران بخناقه وينادي: البوليسَ
البوليسَ، فيجتمع غلمان الحان يجرُّونه إلى الخارج وهو ممسك بعنق الضارب له لا يخليه،
حتى
إذا صاروا إلى الباب أدركهم جندي البوليس، وقبض على المتضاربين فيتعرض له صاحب الحان،
ويمنعه من القبض على الضارب ويقول له: ليس لك إلا أن تأخذ هذا السكران وحده فقد جاءنا
بعد
أن امتلأ سكرًا من الخارج يعربد في محلنا، وكأنه مأجور من أرباب الحانات الأخرى للإضرار
بنا
وإحداث الفشل في محلنا، فيأبَى الجنديُّ إلا أن يسوق المتضاربين معًا، فيغمزه صاحب الحان
ليلين له فيبتدره أحد غلمانه قائلًا له: لا لزوم لما تأتيه مع هذا الجندي من المصانعة،
وغرضُنا يُقضى بدونه فإن حضرة معاون القسم جالس عندنا داخل «البار» مع صاحبته.
صاحب الحان
(للجندي)
:
لم يبق لك من وجه لسحبهما إلى القسم، وتعالوا ندخل جميعًا عند حضرة المعاون في
«البار».
الجندي
:
هذه حيلة غير خافية تريد بها تهريب صاحبك، وكيف يكون حضرة المعاون موجودًا الآن
في «البار» والنوبة عليه الليلة في القسم!
صاحب الحان
:
ما عليك إلا أن تدخل وهما في قبضتك لتراه بعينك، فيجيب الجندي صاحب الحان إلى
ذلك، فيدخل فيرى المعاون جالسًا بجانب صاحبته خالعًا رداءه على كتفها، وطربوشه على
رأسها وهو يسقيها من كأسه وتعاطيه من كأسها.
صاحب الحان
(للمعاون)
:
لقد تعطل المحل يا حضرة الأفندي في هذه الليلة وتعطيله لا يرضيك، فإن هذا الرجل
دخل علينا سكران ولم يشرب من محلي شيئًا فعربد بين الجالسين، وأخلَّ بنظام
الاجتماع، ثم تعدى على هذا البك بالشتم والضرب وهو من أجل المترددين على المحل،
والغريب أن جندي البوليس هذا لم يسمع لقولي فيه، بل صمَّم على سحبه مع ذلك
المتعدِّي إلى القسم وهو من أبناء الكرام، ولا يليق بكرامته أن يساق مع هذا السكران
إلى المحاكمة.
المعاون
(للجندي بعد أن يلبس طربوشه)
:
ما هذا الذي أسمعه؟
الجندي
(رافعًا يده بسلام التعظيم)
:
لم أعلم بوجود حضرتكم هنا، والأمر إليكم.
المعاون
(للجندي)
:
إذا كان الرجل السكران في حالة سكر بين فخذهُ وحده إلى القسم، وما دام حضرة البك
لم يحصل منه اعتداء بشهادة حضرة الخواجة، فلا لزوم لذهابه معك، ويكفي أن حضرته
يعطينا وعدًا بالحضور غدًا إلى القسم لأخذ شهادته على هذا السكران.
(وعند ذلك يدفع صاحب الحان بالسكران إلى الخارج مع الجندي.)
الجندي
:
إذا كنت تطاوع غلامك كل مرة فيما يشير به عليك يا حضرة الخواجة، فليس يكون حضرة
المعاون عندك في كل ليلة والأيام بيننا.
صاحب الحان
:
أوصيك بهذا السكران شرًّا، ولا يكن عندك شك في دوام الرعاية بك.
قال عيسى بن هشام: وخرج السكران أمام الجندي مدفوعًا في ظهره، يقع ويقوم ويستعدي ويستنجد،
وعدنا إلى داخل الحان ننظر ما يجري فيه، فإذا صاحب الحان ومعه البك خصيم السكران قد جلسا
مع
حضرة المعاون والكئوس تغدو عليهم وتروح، فجلسنا ناحيةً نستمع لهم ونؤثر ما يجري من حديثهم
على نحو ما ترى:
صاحب الحان
(للمعاون)
:
لماذا أوعزت إلى صاحبتك بالقيام عند جلوسنا معك؟
المعاون
:
أنا لم أوعز إليها بشيء ولكنها هي التي قامت مُغضبة.
صاحب الحان
:
ولأي سببٍ أغضبتها؟
المعاون
:
لم آت سببًا يغضبها، بل هي التي انتحلت سببًا كدرتني به وكدرت نفسها
أيضًا.
صاحب الحان
:
لا شك أن ما حصل هو من باب الدلال دون سواه، وسأدعوها في الحال لعقد الصلح
بينكما.
المعاون
:
لا دخل للدلال هنا، ولكن جرى في أمر حضرة البك والسكران ما هو على خلاف هواها،
فإنها كانت ترغب في التضييق على الأول والتفريج عن الثاني؛ لأن حضرة البك هو من
أكبر أصحاب المغنية، والمغنية من ألدّ أعدائها.
صاحب الحان
:
لقد حرتُ في أمر هذه الفتاة، فإن ضروب حماقتها لا حد لها وفي كل ليلة تأتيني بنوع
من المشاكل جديد ينتج عنه ما لا يعوَّض من خسارتي، ولولا منزلتك عندي ومنزلتها عندك
لما أبقيتها في المحل يومًا واحدًا، ولا كابدت إعطاءها في كل شهر مقدار ما يأخذه
وكيل المديرية مرتبًا من الحكومة، ولو شاهدت منها ما أشاهده كل ليلة من تسافهها على
الرجال، وتخاصمها مع النساء اعتمادًا على سلطتك واتكالًا على مساعدتك لعلمت مقدار
حماقتها وجنونها.
المعاون
:
نعم إن حماقتها عظيمة وطالما شددت عليها؛ لتجنب المنازعات والمشاجرات حتى لا
يقال: إن علاقتها بي هي التي تجرئها على ارتكاب ذلك، ولكنها على كل حال سليمة القلب
خفيفة الروح.
صاحب الحان
:
صدقتَ وهي مع ذلك تحبك حبًّا صادقًا.
(وهنا تدخل المغنية في البار بعد انتهائها من الغناء، فتتقدم نحو
هذا المجلس لتسأل من حضرة البك صاحبها عما تم عليه أمر المخاصمة مع السكران فيقول
لها.)
البك
:
أنا في غاية التشكر لحضرة المعاون الذي أنصفني، وفي غاية التكدر لما وقع له من
فلانة بسببي، فإنها اهتاجت غضبًا لما علمت بمساعدته لي وهي تبغضني لعلاقتي بك،
فبحياتي عليك إلا ما قبلت التوسط في الصلح بينكما، وإزالة ما في النفوس فتعود راضية
على حضرة المعاون ويتم الصفو لنا جميعًا.
صاحب الحان
:
أنا أوافق على هذا الرأي.
المعاون
:
وأنا لا أرفضه.
البك
:
وأنا أرسل في طلبها.
قال عيسى بن هشام: وتحضر الفتاة فيقع نظرها على المغنية جالسة مع المعاون وأصحابه،
فتشتعل
جذوة نار من الغضب وتنقلب لُبؤةً هاجت لفقد أشبالها، فتشتم وتسب وتقذف وتلعن وتنفل وتبصق
وتنقضُّ على المغنية فتأخذ ببرقعها فتزيلها من مكانها، وتلتفت إلى المعاون فتتوعده بالشكاية
والطعن فيه لدى رؤسائه، ثم إلى صاحب الحان فتتهدده بأنها لا ترقص في ليلتها، فلا يسع
صاحب
الحان إلا أن يتلافى الفضيحة، فيجرها إلى خارج البار بالقوة ليتمكن المعاون أن يتسلل
هاربًا، ثم أخذ ينصحها ويحذرها ويقول لها: إن المعاون قد ذهب إلى القسم الآن وقلبه مملوءٌ
منك حقدًا وغيظًا، فإذا أنت لم ترجعي عن حماقتك وتصعدي إلى المنصة للرقص أوعزت إلى المغنية
أن تمسك بك وتذهب معك إلى القسم، والحاضرون يشهدون أنك تعدَّيت عليها بالضرب، والمعاون
هناك
ينتظرك للتشفي منك.
قال عيسى بن هشام: فوقع هذا القول منها وقع الماء في النار، وإنذار الحجز على أهل
الدار،
فهدأ جأشها، وسكن طيشها، وصعدت للرقص على منصتها، تتأوَّه من حسرتها وغصتها، وعُدنا للجلوس
أمام الميدان. ننظر ما يكون من الغلبة والخسران.
قال عيسى بن هشام: وجاءَ دور الرقص فضجت الغوغاء، واشتدت الضوضاء، وامتدت الأعناق
بالصفير
والنعيق، واشتغلت الأكفُّ بالتصفيق، ترحيبًا وتأهيلًا، وتكبيرًا وتهليلًا؛ إذ قامت على
المنصَّة هلوكٌ ورهاء،
٨ عمشاء مرهاء،
٩ فطساءُ فوهاء، عجفاء شوهاء
١٠ مزجَّجة الحاجبين، محمرة الخدين، مبيضَّة الساعدين، مخضَّبة اليدين، قد ألبست
وجهها من الطلاء نقابًا، وأسدلت على أطرافها من الدهان ثيابًا بأصباغ شتَّى وألوان، بين
أبيض ناصع وأسود فاحم وأحمر قان، تتلوَّن تلون الحرباء، في هجير البيداء، وقد وارت ما
تعرض
من جسمها، وتعرى من لحمها، بأنواع العقود والقلائد والأساور والمعاضد، والدمالج والجلاجل،
والمناطق والخلاخل، فأخذت في الرقص والحجلان، على توقيع الضروب والألحان، وبجانبها خادم
ما
شككنا من قبح هيئته، أنه إبليس اللعين في طلعته، رُكِّبت منه أقبح هامة، على أسوأ قامة،
بوجه قُدَّ من الصخر، وعين كعين الصقر، وأنف كمنسر النسر، وفم يرمي بالزَّبد كالبحر،
وشفةٍ
مهدولة، وعمامة مجدولة، وفي يمينه قدح وإبريق، يسقيها منه بكأس من حريق، لا بكأس من رحيق،
ويعاطيها من غسلين أو قطران،
١١ ويجرعها من حميم آن، وكلما أترع لها كأسًا، همست في أذنه همسًا، ثم تشير بطرف
الكف، إلى بعض الجلوس في أول صف، فيصيح اللعين صيحة الأسد في عريسته،
١٢ وقع بصره على فريسته، فيجيبه غلام الحان جذلًا وابتهاجًا، ويأتيه بالزجاجات
أزواجًا، فيفض عنها الفدام، ويصففها أمامها تحت الأقدام، ولا يزال خادمها يملأ لها ويسكب،
وهي تشرب وتطلب لا تكتفي ولا تقتنع، ولا تروى ولا تنقع، كأنما يمتح لها من قليب،
١٣ ويصب في وادٍ جديب، أو يملأ من ماء منبثق، ويفرغ في دن منخرق، فإذا دبت في
عروقها نمال الخمر، واشتعلت في جوفها اشتعال الجمر، جدت في لعبها ودَوَرَانها، واشتدت
في
قفزها وجولانها، وتلوَّت كالحية في طرقها، ولعبت كالسُّلحفاة بعنقها، والخادم أمامها
ينازلها وتنازله، ويغازلها وتغازله، ويراقصها وتراقصه، ويقارصها وتقارصه، وهي ترسل على
الحاضرين أقوالًا بذيئة، وتخاطبهم بألفاظ قبيحة رديئة، فتفتر لها الثغور، وتنشرح الصدور،
ليس فيهم إلا كل مستحسن مستزيد، ومستملح مستعيد، إلى أن تخُور قُواها، وتغور عيناها،
وتتقلص
شفتاها ويكلح شدقاها، وينضح العرق من أطرافها وتراقيها، وينعقد الزبد بنحرها وفيها، فتضطر
إلى إزالته، وتعمد لإزاحته، فتتناول المنديل تمسح به من وجهها وذراعها فيتلوَّن بأشكال
الصبغة وأنواعها، فيغدو المنديل كأنه قوس قزح، بما تصبب من أديمها وارتشح، وينكشف التمويه
والتلبيس، ويفتضح التلفيق والتدليس، فيظهر ما بطن ويبرز ما كمن، وتنقلب إلى صورة سعلاة،
تتراءى في سراب فلاة، أو غُول تكشر وتصول، أو دب يهتز ويدب، فحولنا عنها الوجوه استنكافًا
واستنكارًا، ولوينا الأناق استقباحًا واستقذارًا، ومال الباشا على الصديق يسائله في دهشته،
ويقول له في نفرته: أعلى مثل هذه تذوب القلوب، وتنشقُّ المرائر والجيوب؟ وهل وصل العمى
بالناس إلى هذا الحد، ولم يبق فيهم تمييز للغزال من القرد؟
الصديق
:
نعم إن هذه التي تهرب منها الوحوش لفظاعتها، ويتعوذ منها الشيطان لدمامتها، هي
عند هؤلاء الحاضرين دمية القصر، وفريدة العصر، كم ذهبت بأموال وأودت بأرواح، وكم
أضاعت شرفًا وأزالت مجدًا، وأذلت رقابًا وأفسدت حكامًا، وكم فرقت بين المرء وزوجه،
وولدت العقوق بين الوالد وولده، وألهبت العداوة بين الأخ وأخيه، وكم خربت بيوتًا
عامرة، ودنست أنسابًا طاهرة، وكم بذرت للشر أسبابًا، وفتحت للسجون أبوابًا، وهؤلاء
الذين تراهم جلوسًا في هذا المستنقع الوبيء والمرعى الوبيل يقضون فيه ليالي الشهر
تباعًا، وشهور العام ردافًا لا تتوهمنَّهم من أسافل القوم ولا من أدنياء الناس، بل
فيهم الكبير والأمير والسَّري والوجيه، وانظر عن يمينك إلى هذا الجالس بين إخوانه
جلسة الكبرياء، فهو أحد أبناء الأمراء، مات أبوه وترك له أموالًا جمة فالتف حوله
قرناء السوء من أهل البطالة والفراغ، فبدأ في تبديد تلك الأموال باقتناء الخيول
المسوَّمة، والمركبات المطهمة، ثم ثنى بالإسراف الفاحش في مهرجان زواجه، ثم ثلث
بتسليم ما بقي منها لأيدي العواهر والفواجر، وأخصُّهن هذه اللخناء التي لم يبق له
منها إلا التمتع بالنظر، وهي لا تنظر إليه، ولا تسأل عنه بعد أن استفرغت أمواله،
وانظر عن شمالك إلى هذا الجالس الذي يفتل شاربيه، ويحملق بعينيه، ويغمز بحاجبيه،
فهو من أبناء الكبراء أيضًا ماتت أمه فورث عنها أموالًا طائلة، ولم يمض على موتها
بعضة أيام حتى أوقعه سوء طالعه في مخالب هذه الخداعة الغرارة، فهو لا يصبر عنها،
ولا يقطع المجيء إليها في كل ليلة، وهي تسلبه كل ما تصل إليه يده من خفيف وثقيل،
وما كان لأمه من حلي وجواهر غير ما ينثرُه من الذهب والفضة في أرض هذا المكان،
وانظر أمامك إلى هذا الجالس معظَّمًا بين جلسائه مبجلًا، فهو من كبار الحكام في
الأرياف وقع في أشراك هذه المرأة فكادت لفظاعة أعمالها معه أن تسلخه من شرفه،
وتسقطه عن منصبه وهو مع ذلك لا يسلوها، ولا يلهو عنها، وليس له في مدة إقامته
بالقاهرة غير بيتها مأوى، ومرقصها ملهى، فإذا هو عاد إلى مقر وظيفتِه عاد بغير لبه،
فيسعى في استغواء العمد والأعيان لإقامة الولائم والحفلات، واستئجار هذه الراقصة
لإحياء لياليها، وانظر إلى هذا الشيخ الجالس منفردًا منزويًا ويده مرتشقة بين صدغه
وعمامته، فهو من أعيان البلد لم يمنعه وقار السن وهيبة المشيب من الوقوع في أسر هذه
الغاوية؛ فأخذ يبدد عندها في شيخوخته ما كان جمعه في شبيبته.
الباشا
:
لو أنه كان لهذه المرأة مزية ظاهرة من مزايا النساء لقلنا: الهوى في الناس داء
قديم، والولوع بالحسان أمرٌ بديهٌ والعذر غير معدوم، ولكن ما بالهم والمرأة في
القبح والدمامة بمنزلة الشيطان، والهروب منها مندوب إليه، فهل تعلم لذلك من سبب
خفي؟
الصديق
:
السبب فيه حب التباهي والتفاخر والأثرة، والاختصاص، وقد اشتهرت هذه البغي بإتقان
الرقص والتفرد فيه، وأنفُسُ الجهلاء مولعة بالشهرة الباطلة والصيت الكاذب يتشبثون
به عُميَ النواظر، عُمْهَ البصائر، فهم يرون أن الاختصاص بمثل هذه الشهيرة في فنها
وإن قبح منظرها، وساء مخبَرُها هو الفخر كل الفخر والسبق كل السبق، وهم مجبولون على
الحكاية والتقليد؛ فلذلك نفذ فيهم سهمها وسرى في عروقهم سمُّها.
الباشا
:
إن كان لا يوجد في هؤلاء الناس عقول تردعهم، ولا يوجد بينهم واعظ يرشدهم، أفلا
كان هناك من سلطان يزعهم، وحكم يكف الأذى عنهم؟
الصديق
:
لا واعظ ولا ناصح ولا سلطان ولا وازع، وقَلَّ بيننا من يشتغل للناس في نفع
الناس.
قال عيسى بن هشام: وانتهت الراقصة من رقصها، فدخلت حجرة لتغيير لباسها وإصلاح ما
فسد من
حالها، ثم نزلت منها وقد جدَّدت ألوانها وأدهانها وسارت تتكسر في مشيتها بين الجموع وهم
يرمقونها رمق الشهوة، ويتطلعون إليها تطلُّع البهيمية فتزحزحت لها المجالس وحُلَّت لها
الحُبى، وأعد لها كل فريق كرسيًّا بجانبه وتناثرت عليها الإشارات بالتفضل بالجلوس، فلم
تعبأ
بشيء من ذلك ولم تلتفت إليه، واستمرت في تكسرها وتهاديها حتى وصلت إلى مقام صاحب الحان،
فوقفت معه ملاعبةً مداعبة وممازحة مضاحكة، وجاء خادمها في عقبها فاستوقفه إليه ذلك الحاكم
من حكام الأرياف، فوقف بجانبه يهزل معه ويمزح، ثم شاهدنا الحاكم يخرج من جيبه بعض الدراهم
فوضعها في يده، فانصرف الخادم إلى الراقصة فكلمها وأشار بيده إلى الحاكم يستعطفها له،
ويستدعيها إلى الجلوس معه، فأبانت عن أمارات الإباء والرفض في أول الأمر، ثم انتهت بها
لجاجة الخادم إلى الرضاء والقبول، فقصدت مجلس الحاكم وقصد الخادم غلام الحان، فما جلست
حتى
كان الغلام بجانبها يحمل في يده أربع زجاجات من الشمبانيا فبزلها كلها بمبزله،
١٤ ففارت وفاضت وانتشرت كلها حببا والغلام متلاه عنها لا يسرع الإملاء منها، حتى
إذا لم يبق بها إلا مقدار صبابه
١٥ صبَّها الخبيث في الأقداح وقدمها للفاجرة، فبادرت إلى لمس كل كأس لمسةً بيدها
وفيها، ثم يعود الغلام بعد هنيهة لأخذ الزجاجات الفارغة فتأمره بإحضار سواها، وهكذا يتوالى
الحال في طلب الأدوار حتى يبلغ إلى الدور الخامس في مدة يسيرة، وجميع الجالسين لا يتحولون
بنظرهم عنها يراقبون حركاتها وسكناتها، كأنما يرصدون نجمًا أو يرقبون هلالًا، ولما انقطع
ورود الزجاجات التفتت العاهرة إلى خادمها وهو على بعد منها، فرأته يشير إليها بحاجبيه
تارة
وبطرف لسانه أخرى فهمت بالقيام، فأمسك الحاكم بأذيالها فصفعته صفعة مزاح على قفاه، بعد
أن
لعنت أمَّه وأباه، استرضاءً له عن تركها إياه، فهش وبش اعتقادًا منه أنها لا تعامله بهذه
المعاملة إلا لسقوط الكلفة وتمكن الألفة، وتنسل من حضرته إلى حيث أشار الخادم، فتهبط
على
الفئة التي عن يميننا وفيها ذلك الشاب الذي أفنى في حبها ماله وأضاع في هواها شرفَه،
فخاطبته بلسان اللوم والعذل تسأله لأي سبب دعاها، ولأجل أية علة أقلقها من مكانها، فيتلعثم
المسكين ثم يجيبها بأنه دعاها لمصلحتها وقضاء حاجتها، فإن المحامي أخبره بنجاح قضيتها،
فتتبسم له قليلًا ثم تلتفت عنه إلى سواه، فيستحلفها بالود القديم والعهد العتيق أن تجلس
معه
لمحة ليقص عليها تفصيل الخبر، فتنفر منه فيرميها بسوء الوفاء وخيانة العشرة، ويبكتها
مذكِّرًا لها بما كان بينهما من الصفاء والهناء، وما أتلفه في معاشرتها من نضار وعقار،
فتلطمه على وجهه لطمة المعلم المؤدب وتجلس إلى جانبه، وتسأله أن يدع عنه ذكر تلك الليالي
والأيام الخوالي، وأن يحفظ عنها «قصة الأضراس» في باب الاعتبار.
وروت له هذه القصة التي هي عندهن عماد الصنعة وأساس الفن: زعموا أن فتى كان يهوى فتاة
وتهواه، فعاشا تحت جناح الحب زمنًا سعيدًا، ثم طرأ على الفتى سفرٌ يبعده عنها في طلب
المال
وجاءت ساعة الوداع، فانهملت العبرات وتوالت الزفرات، وأقسمت له بأن العيش لا يطيب لها
من
بعده، وأن الموت أهون عليها من بُعده، وسألته أن يُبقي عندها أثرًا منه تتعلل به في غيابه
ساعة الحنين، وتشم منه ريحه وقت هيام الذكرى، فقال لها: سأترك لك بضعة مني وأنتزع لك
أثرًا
من بين لحمي ودمي، ثم عمد بيده إلى فيه، فاقتلع لها ضرسًا من أضراسه غير مبال بألم الانتزاع
ووجع الاقتلاع، وناولها إياه يقطر بالدم فأخذته منه وأشبعته لثمًا وتقبيلًا ووضعته في
حقة
نفيسة، وسافر سفره ومضت عليه الأيام والليالي، ثم آب من سفره خائبًا لم يظفر بحاجته ولم
يفز
بطلبته رقيق الحال ضعيف الركن، فذهب إلى دار صاحبته وقد أضناه الشوق وبراه النوى فلما
طرق
الباب ولمحته من النافذة تنكرت له وأنكرته، فناداها أنا فلان فاسمحي لي بالدخول، قالت
له:
ومن فلان فإني لا أعرفه؟ قال لها: خليلك وحبيبك صاحب العهد الوثيق والعشرة الطويلة، قالت
له: كل الناس عاشر وفارق فأيهم أنت؟ قال لها: أنا صاحب الضرس، قالت: أَوَلَك ضرس عندي؟
قال:
نعم، قالت: فادخل فدخل فأجلسته وأحضرت أمامه حقة كبيرة وأمرته بفتحها ففتحها فوجدها مملوءة
بكمية عظيمة من الضروس، وقالت له: دونك إن كنت تعرف ضرسك من بين هذه الأضراس فأنا أعرفك
اليوم من بين الناس. ولما أتمت الواعظة وعظها انصرفت عن هذا المجلس إلى مجلس ذاك الشيخ
الوجيه، فيقوم لتحيتها واقفًا ويُبدي لها نواجذه متهللًا، فتجلس معه وغلام الحان فوق
رأسها
ينتظر طلب الزجاجات، فلا تلتفت إليه فيديم الوقوف فتأمره بالانصراف فيعود خائبًا، وتقول
للشيخ: إنها لا تريد أن تحمله في حبها مغرمًا ولا تقيسه عندها ببقية الحاضرين الذين تسلبهم
لصاحب الحان، فيخرج الوجيه من حزامه عقدًا يتلألأ فيضعه بين يديها، فتبسم له وتنعطف إليه
وتقيم عنده مدة في مضاحكة ومغازلة، ثم تقوم لتنصب على سواه شباكها، وترمي لصيد القلوب
أشراكها.
تُحيِّي وجُوه الشَّرب فعل مُسالم
١٦
يُضاحكه والكيد كيدُ محارب
قال عيسى بن هشام: وأقمنا نتأمل في أفعال هذه البغي الفاجرة، ونفكر في أعمال هذه
الخدّاعة
الماكرة، ونعجب كيف يقتدر مثلها على ختل الرجال، فترميهم في مهاوي الغواية والضلال، وهي
عارية من ثوب الجمال، مجرَّدة عن جميع المزايا والخصال، مفرعة في قالب الوقاحة، معجونة
من
حمأة الدمامة والقباحة، وما زالت الفاجرة تتقلب بين الجالسين وتتنقل، وتتجول بين الصفوف
وتتحول، وتروح إلى صاحب الحان وتغدو، وتخفَى آونةً ثم تبدو، منطلقة اللسان بالسب والثلب،
منبسطة اليد بالنهب والسلب، ممتدة الكف باللطم والضرب، دائبةً في السكب والشرب، وهي في
تنقلها تقطب تارة وتتجهم، وتفتر تارة وتتبسم، وتنبسط حينًا وتنقبض، وترضى ساعةً ثم تمتعض،
وتعامل كل إنسان بما يلائمه، وتجري معه على ما يوائمه، فتضل الألباب والنُّهى، ويقع الجميع
في أسر الهوى، وآية حبها وميلها، أن تصفع الصب بنعلها، فإذا أضافت إلى الضرب بالنعال،
شق
القباء ونتف السِّبال
١٧ كان في ذلك بلوغ الآمال، بدنو ساعة الوصال، واستوى المضروب يفاخر أصحابه
وخلانه، ويباهي أنداده وأقرانه، كالظافر في ساحة الطعان والضراب، والفائز بالغنائم
والأسلاب، فيغالي في إظهار الابتهاج والائتناس، وتنبسط يده في الكيس ويدها في الكاس،
والغلام على رأسه بالآنية، يصب لها زجاجة كل ثانية، وهي تصب الكئوس في الهاوية، كأن حلقها
قناة وكأن الساقي ساقية، وحانت منها التفاتة إلى الخليع وصاحبيه فإذا العمدة يشير بيديه،
ويغمز بحاجبيه، ويقول للخليع في اشتعاله والتهابه ويخاطبه في ارتباكه واضطرابه:
العمدة
(للخليع)
:
لقد أسعدنا الجدُّ وحلت لدينا عاقبة الصبر ولئن فاتنا الأنس بالغائب فما أكمل
أنسنا بالحاضر، وهذه الراقصة التي اجتمعت على محبتها القلوب وافتتنت بها العقول هي
عندي الضالة المنشودة والأمنية المطلوبة، ومن يبلغنا إياها سواك ويمن علينا بها
غيرك؟
الخليع
:
هذه هي الفتَّانة المشهورة بكثرة العشاق والطلَّاب ولا عيب فيها غير المزاحمة
عليها، والمورد العذب كثير الزحام، والوصول إليها من دونه أهوال.
وإنك إن أرسلت طرفك رائدًا
لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلَّهُ أنت قادرٌ
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
التاجر
:
نعم هذه هي البضاعة الثمينة والسِّلعة الرائجة؛ فاز من حازها وخسر من فاتها، ولو
كانت الأيام أيام ربح ورخاء لصبا إليها القلب وولعت بها النفس، ولكن لرب العيال ما
يشغله عنها ويبعده منها.
العمدة
:
ليس يفوتنا على كل حال أن نتمتع بها الليلة بالمجالسة والمغازلة، ونروي بمحادثتها
الغليل ونشفي بكلامها الهيام.
الخليع
:
حبذا لو جلست معنا ساعة، ولكنك ترى من المزاحمة فيها والمنافسة بين الحاضرين في
الغرام بها، والغرم عليها ما يجعل نيل الغرض متعسرًا، ودرك الطلب متعذرًا.
العمدة
:
أما المزاحمة عليها فإن لنا من مهارتك ونباهتك ما يقرب الأمل بالوصول إليها، وأما
المنافسة في الغرم عليها فالأمر مستدرك والدراهم موجودة.
التاجر
:
ما أشك بعد هذا في نيل الغرض وقضاء الوطر، وستنتهي ليلتنا بمسك الختام.
قال عيسى بن هشام: ويدعو الخليع خادم المرأة، ويهم بإعطائه شيئًا من الدراهم فيسابقه
التاجر فيمنعهما العمدة ويقوم مقامهما، فيلقي الخليع في أُذن الخادم قولًا، ويطول الخطاب
بينهما همسًا، ثم يذهب الخادم فيعود بمولاته تتيهُ دلالًا، وتتثنَّى اختيالًا، وتبدي
الرضى
من خلال التمنع فتسلم على أهل المجلس، وتخص الخليع بابتسامة وتجلس بجانبه، وتسأله عما
جرى
في المجلس بعد انصرافها عنه بالأمس فيقطع عليها هذا الحديث بالقهقهة، ثم يبدأ بعقد التعارف
بينها وبين العمدة، ويطنب لها في علوِّ شأنه ورفعة مقامه فترحب به فيرفع العمدة يده إلى
رأسه مرارًا تشكُّرًا لها، فتلمح فص الخاتم يتألق في إصبعه ويتوهَّجُ فتضع يمينها في
يمينه
وتجرها إليها ترصد الحجر، فيسيل الرجل طربًا وابتهاجًا ويعتقد أنها كلفت به حبًّا وغرامًا،
فلا يروعه إلا أصوات الأصمَّة ينزعها الغلام عن الزجاجات تباعًا، وكلما أفرغ أربعًا عاد
بأربع حتى هال التاجرَ من ذلك ما هاله فمال إلى الخليع يناجيه، فسكَّنَ الخليع من رَوْعه،
وأزال الهواجس عنه، فيميل التاجر إلى الأقداح يسكب ويشرب، وإلى المرأة يهازل ويغازل،
ويعاطي
ويناول، والعمدة على حاله باهتٌ شاخص ومولَّع مولَّه، والخليع مسرور مبتهج، لا يرسل الكأس
عن فيه، إلا ممسكًا بأخيه، والمرأة تخدع وتكيد، وتقول للغلام: هل من مزيد؟ ثم يُخرج العمدة
ساعته من جيبه ويتشاغل عن النظر إليها بالحديث، فتقبض المرأة عليها تتمعن فيها وتقول
له: قد
آن أوان الانصراف وحانت ساعة الختام، وتقوم مودِّعة فيتلهف العمدة ويتحسر، ويسألها أن
تتم
جميلها بالبقاء معه بعد الانصراف في مجلس آخر، فتضحك له ضحكة القبول وتلطم الخليع بالمروحة
على خدِّه وتغادرهم إلى صاحب الحان فتجلس معه، ويأخذ الناس في الانصراف والخدم في رفع
الكراسي وإغلاق بعض الأبواب، ولا يبقى في المكان غير أصحاب الوعد من العاهرة: ذلك الحاكم
الوامق، وذلك الغلام الوارث، وذلك الشيخ المتصابي، وهذا العمدة المغرور بتاجره وخليعه،
فإذا
طال عليهم الانتظار ويئس الواحد بعد الآخر من صدق الوعد عمدوا إلى الانصراف يصحبهم الهم،
ويرافقهم الكدر إلا العمدة، فإنه يلح في الانتظار لشدة ما به من سكر الهوى وسكر
الخمر.
سُكران سكر هوًى وسكر مُدامةٍ
ومتى يفيق فتًى به سُكران!
ويقصد المرأة في مكانها عند صاحب الحان وهو يتعثر في مشيته، ويجرر في عباءته فيقف
بين
يديها يستنجزها الوعد، فتغضي عنه، فيلح عليها، فتلجُّ في الإعراض، فيخرج من جيبه كيس
الدراهم ويبسط به راحته راجيًا متضرعًا، فتظهر له الجفوة، فتشتد به الصَّبوة، فيترامى
عليها
فتدفعه برجلها عنها فيقع على الأرض فينتثر ما في الكيس، فيعمد الخليع لالتقاطه فيسبقه
إليه
صاحب الحان، ويتماثل العمدة واقفًا فيمد يده إلى المرأة فيأخذ بضفيرتَيها يجذبها نحوه،
فتسبُّه وتلعنه وتمسك بصاحب الحان، ويستمر العمدة في الشد والجذب فتخُونُه الصفيرتان
فيرتمي
على ظهره طريحًا، وهما في يده والمرأة باقية في مكانها تصيح وتستغيث، فينقضُّ من أقصى
المكان رجلٌ رث الهيئة قبيح الطلعة وسخ العمامة يرفع في يمينه هراوة ويتأبط في شماله
صرة
ثياب، فيقع على العمدة ضربًا بالهراوة، ويدفع العمدة عن نفسه ضربًا بالضفيرتين، ويتوسط
بينهما التاجر فيسأل الرجل عما يعنيه في الأمر فيقول له: إنه زوج المرأة وإنه يدافع عن
حريمه، ولا يرجع عن غريمه، فيتعرض له التاجر يمنعه عن الفتك بصاحبه، فينصحه الخليع بالرجوع
عنه؛ لأنه الرجل من أهل «الحماية» وفي التعرض له إلقاءٌ باليد إلى التهلكة، فإنه فوق
القانون يجني ولا عقوبة عليه، فما يسمع العمدة هذا القول حتى يستنجد بالخليع لينقذه من
بلائه، فيتقدم الخليع فيكلم الزوج طورًا والحليلة تارة وصاحب الحان أخرى، فينتهي النزاع
بينهم على أن يترك العمدة ما التقطه صاحب الحان من دراهمه مرضاة للمرأة عن إهانتها وعوضًا
لها عن خسارة الضفيرتين، ثم يقوم صاحب الحان وينادي غلامه وهو مشتغل بإطفاء الأنوار،
فيسأل
عن حساب العمدة فيكوّنه له فيلتفت إلى العمدة قائلًا:
صاحب الحان
(للعمدة)
:
والآن فادفع لنا ثلاثة عشر جنيهًا ثمن المشروب، وانظر ماذا تعطينا من العوض في
تعطيل المحل بهذه الأفعال الصبيانية.
العمدة
:
ما هذه الحسبة وما هذا الكلام؟
صاحب الحان
:
أما الحسبة فصحيحة، وأما ما أتيته فإنه لا يليق بمقامك وأنت رجل من أهل الوجاهة
والرفعة، ولكنها الخمر أم الشرور، وإن خالها الشارب أمَّ السرور، وما كان لك أن
تتعلق بهذه المرأة المشهورة بتمنعها عن أهل التنافس فيها، والنساء غيرها كثيرات في
المحل، وإن كان لا بد لك منها فأنا أسعى في الصلح بينكما عند تشريفك المحل في
الليلة الآتية، وأرجو أن لا تتوقف في دفع هذه الحسبة الصغيرة، فإني لا أرضى لك
الإهانة ولا ترضى لنفسك الفضيحة.
العمدة
(للتاجر)
:
هل عندك ما نسدد به هذا المبلغ؟
التاجر
:
لا وحقِّ العشرة وحرمة الصحبة، فلم يبق معي من الدراهم لا قليل ولا كثير.
العمدة
(للخليع)
:
دبِّرني يا صديقي في أمري وانظر لي طريقة الخلاص.
الخليع
:
يعز عليَّ والله ما نحن فيه ولكن عزت الحيلة، ولو كان صاحب الحان يقبل مني ساعتي
هذه رهنًا على هذا المبلغ لرهنتها عنده، ولكنه ربما استضعف قيمتها عن قيمة المطلوب،
ولو كان في الوقت سعة لذهبت لاستحضار النقود بأية طريقة كانت.
العمدة
:
إن كان الأمر ينقضي بالرهن، فهذه ساعتي أثمن من ساعتك وهي عندي أعز عليَّ من
روحي؛ لأني أخذتها هدية من دائرة «البرنسيس» يوم بعتُ لها أطيانها، وعليها حروف
اسمها منقوشة، وقد قدرها لي الجوهريّ بخمسين جنيهًا.
الخليع
:
إن كان الأمر كذلك فلا يليق رهنها، وعندك الخاتم ترهنه مكانها.
العمدة
:
هذا هو الأصوب وإن كان الخاتم أغلى من الساعة قيمة، فخذه يا حضرة الخواجة رهنًا
عندك حتى أسدد لك المطلوب في الغد.
صاحب الحان
:
أنا لا آمن لهذه الفصوص اللماعة، فقد غشوني فيها مرارًا بإحكام التقليد في
صناعتها، وليس هنا الآن من أثق به من أهل الصناعة ليكشف لي عن حقيقة هذا
الفص.
التاجر
(بعد أن يمعن في الفص)
:
كيف تقول ذلك وهو من الماس القديم وقيمته لا تنقص عن مائة جنيه، وأنا مستعد لرهنه
عندي على خمسين جنيهًا، فانتظروني ريثما أذهب إلى محل مبيتي وأرجع إليكم
بالمبلغ.
صاحب الحان
(مكفهرًّا)
:
ليس عندي وقت للانتظار فقد مضى الميعاد المقرر لإغلاق المحل، وهذا جنديُّ البوليس
واقف أمامنا يتعجلني في مطاوعة أوامر الحكومة.
الجندي
:
نعم مضى الميعاد ولا بد من الإغلاق حالًا، فانظروا معكم شيئًا آخر للرهن يفضُّ به
هذا المشكل.
الخليع
(للعمدة)
:
أعطه الساعة، فلا حول ولا، وليس هناك ما تخشاه عليها فإننا نستخلصها غدًا بعد أن
تقابلني في الصباح بقهوة الموسكي.
صاحب الحان
(بعد التأمل في الساعة)
:
هذه الساعة لا توفي قيمة المطلوب وحدها، فاترك الخاتم معها أيضًا.
العمدة
:
هذا لا يصح مطلقًا، فإن المبلغ المطلوب لا يزيد عن ثلاثة عشر جنيهًا على فرض
صحته.
الخليع
:
ما دام العزم أكيدًا على فك الرهن غدًا، فسيان رهن قطعة أو قطعتين، وأنا أرجو
الخواجة أن يتجاوز لنا عما يطلبه من العوض في تعطيل المحل.
صاحب الحان
:
إني أتجاوز عنه لأجلك.
قال عيسى بن هشام: ويشدد جنديُّ البوليس في طلب الإغلاق في الحال فلا يسع العمدة إلا
التسليم في الخاتم والساعة، وبينا الجميع يتأهبون للخروج والمرأة واقفة تهزأ وتسخر؛ إذ
دخل
رجل قبيح الخلقة جهم الوجه عريض القفا جاحظ العينين واسع المنخرين أهرتُ الشدفين، فأخذ
يجيل
في الحاضرين نظرهُ يمينًا وشمالًا، ثم تقدم إلى المرأة فسبها ولعنها ولطمها ولكمها وقال
لها: قد فات الوقت ومضى الميعاد وأُغلقت الحانات، وأنا قاعد في انتظارك بالبيت وأنت واقفة
هنا تلعبين وتسخرين، فأين هذا الصيد الذي ألهاك عني وأنساك أمري يا عاهرة، فتجيبه مع
الذل
والانكسار بأنها أخطأت، ولكن لها العذر فقد وقعت حادثة مع بعض العمد يشهد بها الحاضرون،
وتذكر له ما كان من هجوم العمدة عليها ونزع ضفيرتها، فيشهد زوجها مع خادمها بتفصيل الواقعة،
فيزمجر الرجل ويتوعد ويعمد للحاق بالعمدة وهو يعدو نحو الباب، فتستعطفه الفاجرة وتطلب
منه
أن لا يكدر على نفسه صفاء الليلة بالوقوع في مخاصمة أخرى، وتطلب منه الإسراع إلى البيت
في
صحبتها.
وخرجنا مع الباشا نتعوذ من كيد النساء، ونتأسف على وقوع الرجال في أشراك المكر والدهاء،
وكيف نزل العمى بهم والجهل، حتى يستسلموا لهذا الخدع والختل، ويخرجوا عن مثل هذا المكان
الدنيء والموطن الرديء، وقد خرجوا من الثروة والشرف، ودخلوا في البؤس والتلف، ونزلت بهم
أنواع المرض والسقم، وصُبَّ عليهم سوط الأحزان والنقم، ثم التفت الباشا إلى الصديق، يسائله
في أثناء الطريق:
الباشا
:
ألا تخبرني أيها الناقد الخبير كيف يصبر مثل هؤلاء الناس على الإقامة في هذا
المكان، وكيف يترددون عليه لياليَ متتابعاتٍ، ولا يدركون ما يدركهم فيه من الهلاك
والوبال، وقد كاد يُقضى عليَّ للإقامة فيه بضع ساعات، فما وجار الضَّبع وما وكر الظربان١٨ وما قبر الميت، يرحمنا الله وإياك، بأنتن رائحةً ولا أقذر مكانًا ولا
أسوأ مقامًا من هذا الذي كنا فيه.
الصديق
:
يصبر الناس على الإقامة في هذا المكان ويكثرون من التردد عليه بحكم التدرج، وإلف
العادة وقوة التمادي، وكأنما أبدانهم تتلقح شيئًا فشيئًا بسمه فلا تحس بضرره وألمه،
كالمريض يذهله المرقد عن ألم الداء وبتر الأعضاء، وإن شئت فكالهندي يتدرج ويرتقي في
تناول الأفيون وهو سمٌّ قاتلٌ حتى ينتهي بجسمه إلى حال لو لسعته معها عقربٌ أو
لسبته حية لم يؤثر سمها فيه.١٩
الباشا
:
أفدت بما شرحت، وقد بقي عليك أن تفسر لي ما أشكل عليَّ من أمر الرجلين مع
العاهرة، أحدهما الذي يقول: إنه زوجها، والثاني الذي أخذت بيده أمامه إلى
بيتها.
الصديق
:
أما الزوج فإنه رجل من سفلة المغاربة المنتمين إلى دولة أجنبية تحميه من سلطة
القوانين المصرية أن تناله عند مخالفتها، وهذه المزية هي التي تؤهله عند العاهرة
للتأهل به، فتدخل حينئذ في حمايته وتخرج ببركته عن دائرة المحاكمة والعقوبة إذا أتت
في فسقها وفجورها ما يخالف أوامر الحكومة، ويعيش الرجل معها زوجًا بالاسم وديُّوثًا
بالفعل، وذلك في مقابلة شيء من الدراهم يتناوله منها في كل ليلة، وهذه الطريقة قد
تألفها الناس ولم تقتصر على العواهر، بل تعدتهن إلى أرباب القضايا وأصحاب الجرائد،
فترى صاحب القضية يتنازل في الظاهر عن قضيته إلى أحد أولئك المسخرين من رعايا الدول
الأجنبية؛ ليخرج بها من نظام المحاكم الأهلية إلى نظام المحاكم المختلطة إن ترجح
لديه نجاح قضيته فيها، وترى صاحب الجريدة الذي يزعم أنه الواعظ المرشد بين الناس
إلى محاسن الأخلاق وغرر الفضائل يضع على جريدته اسم الواحد منهم بأنه هو المسئول
عما يُنشر فيها ويطبع، يملؤها بما تسول له نفسه من الطعن على أولياء الأمور وأرباب
الحكومة وأشراف الناس، ويسوّد صحيفته بكل فاحش من القول وبذيءٍ من الكلام، فإذا
عوّل أحد الناس على محاكمته يومًا من الأيام وارى وجهه على المحاكم بوجه الأجنبي
وقال لك: ما ذمَّ الأمراء ولا هجا الأشراف ولا طعن في الناس إلَّا صاحب الاسم
المسئول فعليك به، فإذا التمسته وجدته بائع نعال يصفق بها في عرض الطريق، وينتسب
إلى دولة من أكبر الدول الأجنبية يمتنع بحمايتها من سلطة المحاكم والقوانين
المصرية، ولا سبيل إلى محاكمته إلا في بيت القنصل.
وأما الرجل الذي سحبته العاهرة بيدها إلى بيتها فهو صاحب ودِّها وحبيب قلبها
تفضله في آخر ليلها على كل رجل يتعلق بهواها، ويبذل نفسه في سبيل رضاها، ولا تعجب
من سوء معاملته لها وسوء غطرسته عليها، فذلك مما يزيدها فيه حبًّا ويولعها به
شغفًا، والنفس الدنيئة الحقيرة لا تميل إلا لمن يبادرها بالإهانة والتحقير ولا
تنقاد إلا لمن يتناولها بالضر والأذى، فهو يضربها ويؤذيها على ما شهدت ورأيت، ثم
يتمتع بها دون المتهالكين عليها وينتفع بما تجمعه له من أموالهم لفضل هذا الوحش
الضاري عندها على تلك الدواجن التي تدب حولها.
الباشا
:
لا شك أن في هذا نوعًا من الجزاء لهذه البغيّ على بغيها في الناس وسلبها للأموال
وفتكها بالأرواح، وقلَّ لمثل هذا الجزاء المعجل في الدنيا قبل العذاب المؤجل لها في
الآخرة.
الصديق
:
لا تستهينن أيها الأمير الجليل بما ينال مثل هذه العاهرة في دنياها من الجزاء،
فإنهن جميعًا في معيشة كلها هموم وأدواء، ومن تأمل في حقيقة أحوالهن خفف من سخطه
عليهن ووجدهُنَّ أحق بالشفقة من القسوة، فإن هذه الأموال التي ينهبنها والأسلاب
التي يسلُبنها لا تلبث في أيديهن إلا ريثما ينفقنها في الحليّ والحلل، والعاهرة لا
تنتهي حاجتها من الزينة ولا تخلو من حبيب تكفله وخليل تقوم عليه، فهي على الدوام في
عسر شديد ودين ثقيل، وإن جميع ما عليها من الحليّ والجواهر وما يتألف في عنقها من
القلائد وفي معصمها من الأساور وفي رجليها من الخلاخل إنما هي كلها في الحقيقة
أغلال وقيود يسحبها بها الصائغ والجوهريُّ في أسر لا فكاك لها منه طول الحياة، وهي
كما رأيت تقضي ليلها إلى الصباح في شرب السُّموم من الخمور وفي تحريك الأعضاء
والأحشاء بتلك الحركات المنهكة لقُوى الأبدان، وفي اشتغال الفكر بمراقبة الناس
وتكلف التحبب إليهم، وفي التفنن للتحايل عليهم، ثم التعرض لسوء المنازعات
والمخاصمات مع دوام التذلل والخضوع لصاحب الحان، فإذا انتهت من ذلك كله وصلت إلى
بيتها منحلَّة الأعضاء مفككة المفاصل فترتمي على فراشها كالرمة في مكان هو أقذر من
ذلك الحان وأفسد منه هواءً، وربما لم تذق في يومها طعامًا ولم تتناول في ليلها
غذاءً، فإذا قامت من نومها بعد نصف النهار كالذي يتخبطه الشيطان مصدَّعةً مخمورةً
لا تشتهي طعامًا ولا تسيغ شرابًا حتى إذا تماسكت قليلًا بادرت إلى إصلاح الفاسد
منها ومداراة القبيح فيها بأنواع الزينة واللباس، وقعدت لمقابلة زائريها إلى أن
يدخل عليها المساء فتعود لما كانت عليه، لا تزال المسكينة هكذا دائرة في حلقة من
التعب والوصب ولا خلاص لها منها إلا بحلول الأمراض والأوجاع، ثم يُقضَى عليها وهي
في المعصية بعيدةً عن ذوي الحنو والإشفاق من الأهل والأقارب، وذلك هو البلاء العظيم
والعذاب الأليم.
قال عيسى بن هشام: وما راعنا في طريقنا إلا صوت الديك يُؤذن بالصباح وصوت المؤذِّن
يؤذن
حي على الفلاح، فأسرعنا نطلب مأوانا، وندرك أم مثوانا، ونحن نسأل رب الأرض والسموات،
أن
يغفر من ذنوب المسلمين والمسلمات.