قصر الجيزة والمتحف
قال عيسى بن هشام: ووصلنا إلى قصر الجيزة ومتحف الآثار، ومُلتقَى السيارة من سائر
الأقطار،
١ فدخلنا روضة تجري الأنهار من بينها، كأنها الجنة بعينها، ولما رأى الباشا مسالك
الروض منضدة وطُرقه مرصعة مزرَّدة، حسبها أرضًا مفروشة، ببُسُط منقوشة، وأشكل الأمر عليه،
فهم بخلع نعليه، فقلت: طريقٌ معبَّد
٢ لا فرش منجد، وحصباء ومرو
٣ لا بساطٌ وفرو، ثم شاهدنا قصرًا يكلُّ عنه الطرف، ويقصر دونه الوصف، فسرنا
نرتاد خلاله، ونتفيأ ظلاله، فإذا الأسود مقصورات في المقاصير، والأساود مكفوفات في القوارير،
٤ ورأينا النمور في الخدور، والرِّئال في الحجال،
٥ والذئاب في القباب، والظباء في الخباء، فقال الباشا: لمن هذه الجنان؟ وكيف
يسكنها الحيوان؟ وما علمت من قبل أن الليوث الضواري، تسكن مغاني الجواري، وأن أوابد
٦ البيد
٧ تتحجب في خدور الغيد. فقلت له: سبحان القادر العظيم، هذا بيت إسماعيل بن
إبراهيم، طالما كانت حُجُراتُه مطالع للأقمار، ودرجاته منازل للأقدار، كان إذا نادى صاحبه
فيه «يا غلام» شقيت أقوام وسعدت أقوام، ولبَّى نداءه البؤس والندى، بأسرع من رجع الصدى،
وكان من احتمى بظل هذا الجدار، تحامته غوائل الأزمان والأدهار، هنا كان يُفصل الأمر ويحكم،
وينقض الحكم ويبرم، هنا كانت تنفرط فرائد القلائد، من أجياد الخرائد، فتختلط بمنثور أزهاره،
وترصِّع لحين أنهاره، هنا كانت تتناثر الحلي من قدود الحسان، فتشتبه بأثمار الأغصان،
هنا
كانت تصدح القيان على المزاهر والأعواد، فتجيبها ذوات الأطواق فوق الأفنان والأعواد،
فأصبح
اليوم حديقة مبتذلة عامة، وموطئًا لأقدام الخاصة والعامة، وأصبحت أرضه تُكترى، وجنى أشجاره
يباع ويشترى، ودوَّى فيه صياح النسور وزئير الأسود، وامتلأت أرجاؤه بعواء الذئاب وهمهمة
الفهود، وزال ما كان فيه من عز وطول، ومجدٍ وصول وأيدٍ وحول،
٨ وصدق الكتاب فحقَّ عليه القول:
في هذا الدار، في هذا المكان، على
هذا السرير، رأيت الملك قد سقطا
وذكرت للباشا ما كان لصاحب هذا القصر، ومليك ذلك العصر، من الجد الصاعد، والبخت المساعد،
وما صار إليه بعد ذلك من أفول السعد، وما دهاه في الغربة إلى أن سكن اللحد.
نالُوا قليلًا من اللذات وارتحلوا
برغمهم فإذا النَّعماء بأساء
ثم وقف الباشا هنيهة فكر فيها واعتبر، وتلا: وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ
الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ
النُّذُرُ.
ثم إننا سرنا في وسط الحديقة حتى انتهينا إلى دار التحف العتيقة، فدخلنا نشاهد ما
أبرزته
يد البحث من الخفاء إلى الظهور، وما أعادته قوة التنقيب من البلى إلى النشور، وما صانته
ألحاد القبور من يد الفناء والدثور، وجمعته أحشاءُ الرُّموس من العفاء والدروس، وما أجنَّته
أرحام المعابد والهياكل من بقايا المواضي وخفايا الأوائل، وما انسدلت عليه سُجوف الأحقاب
من
ودائع الأسلاف للأعقاب، وما انشقت عنه الأرض من مكنون الدفائن، ومكنوز الخزائن، وعجائب
الفن
الدقيق، وبدائع الصنع الأنيق، بليت في اصطحابها جدة الأيام والليالي، وانحنت على احتضانها
ظهور العصور الخوالي، ومضت دول بعد دول، وذهبت أولٌ في إثر أول، واندثرت مدائن ونشأت
مدائن،
وبادت مواطن وقامت مواطن، وانقلبت الأغوار أنجادًا، والأبحار أطوادًا، وغدا العمار خرابًا،
والغمار سرابًا،
٩ والسرابُ غمارًا، والخراب عمارًا، وهي هي مصونٌ شكلها كما تركها أهلها، لسان
صادق وخبر ناطق، تنطق بالعبر، وتحدث عمن غبر:
مضت غبرات العيش وهي غوابرٌ
١٠
على الدهر مكتوبُ عليها حبائسُ
وأقمنا هناك نتنقل بين الأصنام والتماثيل، ونتأمل في التصاوير والتهاويل،
١١ ونتفكر في هذه العظام المنشَّرة، والرفات المنظرة، بما عليها من الحلي والزينة،
وتلك الأحجار الثمينة، كيف كانت ملوكًا للأمم.
ثم بقيت على بلَى الرمم، وتوالي القدم، في حال الوجود مع العدم.
ورأينا بجانبنا رجلًا من ذوي العمائم، مع فتى من الطرز المتحاذق المتعالم، ظهر لنا
من
أمرهما، وتبيَّن من شكلهما أن الرجل عينٌ من أعيان المدينة، وأن الفتى ابنٌ له وزينة،
وإذا
هما يتناظران ويتحاوران، فيما يريان ويبصران، فدنونا منهما وأنصتنا إليهما:
الابن
:
أشهدت مشاهد عزّنا ورأيت معاهد فخرنا، وعلمت كيف كان مقدار مجدنا، وإلى أية رتبة
بلغت بنا صناعة أجدادنا؟ فلله درهم ما كان أرقاهم في الفكر وأبدعهم في العمل! ولو
أن نوابغ الأمم اجتمعوا اليوم اجتماع مفاخرةٍ، ونزلوا إلى ميدان المناضلة
والمناظرة، لما سبق المصري منهم سابق، ولا تعلق بأثرهِ لاحق، ولكان له من بينهم
الكعب الأعلى، والقدح المعلَّى، وهذه الآثار في يده يفاضل بها ويفاخر، وينشد عليهم
قول الشاعر:
هذه آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
الوالد
:
ما أرى شيئًا في هذه الآثار التي تماجد بها، وتفاخر يفوق ما يكون في السوق من
البضاعة الكاسدة والسلع البائرة، وما يتخرج عن بيوت الناس من الأعراض الواهية
والأمتعة البالية.
الابن
:
كيف يكون منك هذا القول وهي بشهادة العالم أجمع أثمن من كل ثمين، وأنفس من كل
نفيس، لا تقويم لها ولا تقدير إلا بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وكيف غاب
عنك تهافت هؤلاء الغربيين أهل المدنية الحاضرة على اقتناء شيء منها بالمال الجم
تنافسهم في التمتع بمشاهدتها يتحملون لذلك الأسفار البعيدة، والمتاعب الشديدة، ولا
يعقل وهم هم، أهل الهدى والعلم، أن يشتغلوا بباطل، أو يجهدوا أنفسهم على غير
طائل.
الوالد
:
لكم دينكم ولي دين، وما أزال أكرر القول لك بأنني لا أجد في نفسي شيئًا مما
تشعرون به في هذا الباب، وما أراه من هذه الأحجار والتماثيل لا يساوي في نظري إلا
أنقاض بيوت عفت، أو طلول درست، وإن صح ما يقال عن هذه التماثيل إنها أشخاص قديمة
نزل بها السخط والمسخ، كان التعلق بها والتمجيد لها مما يغضب الخالق ولا يرضي
المخلوق، وأما قولك: إن فيها منتهى فخرنا ومجدنا؛ لأنها من صنع آبائنا وأجدادنا،
وإن آباءنا وأجدادنا هم من نسل هذه الرمم الفرعونية، فإنه إثم ونكر أستعيد بالله
منه كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن
يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ما كان أجدادنا وآباؤنا إلا أولئك العرب
الكرام، أهل الدين والإسلام، لا نفاخر إلا بمفاخرهم، ولا ننتسب لغير أصلهم، وأما من
جهة الصنعة في كل ما أراه هنا، فإن صبيان الفلاحين اليوم يشتغلون بصنع مثل هذه
الآثار والأحجار، ويتفننون في تقليدها فتخرج من أيديهم وهم بين الروث والطين أتقن
صنعًا من هذه المحجَّبة في القصور المصونة في البلور.
الابن
:
علم الله لو كان في لغتنا العربية من الكتب المؤلفة في مزايا هذه الآثار مثل ما
في اللغات الأجنبية لعلمت منها ما لم تكن تعلم، على أن مجرد النظر يكفي وحده لإثبات
هذه الآيات والمعجزات في حسن الصنعة والدقة، أفلا تنظر إلى هذا التمثال البديع
تمثال شيخ البلد وهو قطعة واحدة من خشب الجميز، فما أدق الصنع، وأتقن العمل وما
أكمل الشبه وأجمل الصورة!
الوالد
:
نحن في كل يوم نشاهد مائة شيخ بلد من لحم ودم لا من خشب وحجر، فدعني على غباوتي
وجهلي وبارك الله لك في علمك وعقلك.
الابن
(بصوت خفي)
:
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّين،
(ثم يجهر بالقول) — لا لزوم حينئذ لطول
إقامتنا هنا وهلم بنا فقد حل الميعاد المضروب بيني وبين ذلك السائح الذي زارنا
بالأمس؛ لتناول العشاء معه في «أوتيل شبرد».
الباشا
(للصديق بعد انصرافهما)
:
ماذا تقول في هذه المناقشة وما دار من الكلام بين الولد والوالد؟
الصديق
:
ما عساي أن أقول غير ما قاله الله عز وجل: فَخَلَفَ مِن
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا، وماذا نرى هنا غير الذي رآه هذا الوالد الساذج،
قبور مقلوبة، ورموسٌ معكوسة وأجداث منبوشة، فإن كان الغرض من عرضها العبرة أو
الموعظة فإن فيما هو أمامنا كل يوم من هبوط الملوك عن ذهب العرش، إلى خشب النعش،
ومن وسائد الحبر، إلى مساند الحجر، ومن ظهور الصافنات الجياد، إلى بطون الديدان في
الأكفان والألحاد، لنعم الموعظة الحاضرة للنظر والحس، والحكمة البالغة للعقل
والنفس.
الباشا
:
هذه هي الحقيقة بعينها في نظري الآن، وقد كنت أحسب أن لهذه الآثار شأنًا عظيمًا
فيما مضى من دهري، عندما كنت أرى تهافت الغربيين عليها في زمن الولاة السابقين،
ولكن لعل شأنها عندهم وعلو قيمتها لديهم هو لأجل توغُّلها في البلى والقدم ومحلِّها
من التاريخ، وما تحمله منقوشًا عليها من أساطير الأولين.
الصديق
:
نعم إن كان من وراء هذه الآثار والأشلاء قيمة عند الغربيين، فإنما هي كما تقول
لتعلقها بمباحثهم في أخبار الأوائل وفلسفة التاريخ، وزد على ذلك حبهم للاقتناء
وولوعهم بالاختصاص بالنادر، ولذلك علت قيمتها عندهم وارتفع قدرها بينهم، وليس
للمصريين منها أقل فائدة سوى الشهرة بأن في مصر آثارًا تفوق في القدم مثلها من بقية
المتاحف، ولو أنك عرضت أهل مصر على هذه الآثار واحدًا واحدًا لما استفادوا منها
شيئًا، ولا أفادوك عنها شيئًا، ولما وجدوا لها قيمة تُذكر سوى النزر اليسير من
المقلدين للغربيين، ولم تجد بين عشرة الملايين اليوم سوى شخص واحد يفقه لغة
«الهيروغليف» أعني لغة آبائهم وأجدادهم كما يزعم الزاعمون مع كثرة الخبيرين بها من
الأمم الغربية، والله أعلم بمقدار علمه بها، ولو تمنيت الأماني لقلت: عسى الله أن
يخفف بقيمتها العالية بعض ما على الحكومة المصرية من أثقال الديون، وما على
المصريين من أعباء الضرائب والمكوس، ويا ليت المصريين يخرجون عنها لا عليهم ولا
لهم، فإنها تكلف الأمة المصرية نفقات على البحث عنها في خبايا الأرض وجمعها والتحفظ
عليها، ونقلها من أماكنها إلى المتحف، وناهيك بنفقات المتحف التي أنفقتها الحكومة
أولًا على متحف بولاق، وثانيًا على متحف الجيزة، وما تنفقه ثالثًا على المتحف
الجديد بقصر النيل، فإنها تُعدُّ بالملايين.
الباشا
:
كنت أرى رأيك هذا وأتمنى أمنيتك لولا أن يقال: إن المحافظة على هذه الآثار والحرص
على بقائها بمصر مزية أدبية لها قدر عظيم يعرفه من عرف مقدار حرص أهل الممالك
الأخرى على الآثار والتحف، وشدة ضنهم بها، فلا يرغبون البتة في بيعها والتخلِّي
عنها ويرون فيها فخرهم ومجدهم، فلا يليق بمصر أن تشذَّ عن هذا السبيل.
الصديق
:
إنَّ حرص أهل الممالك على ما في متاحفهم من الآثار وتفاخرهم بها هو؛ لأنها عندهم
علامة من علامات التغلب والانتصار، وإشارة إلى المجد القديم والعز التليد، ولكن أين
علامة التغلب والانتصار عند المصريين، وما هي إشارة المجد والشرف في هذه الرمم
البالية، رمم أهل الجهل والظلم من أغبياء الملوك الأقدمين، ولأن الغربيين في غير
حاجة إلى قيمة أثمانها فهي عندهم من الكماليات، أما عندنا فالأمر بالعكس، ولم تأتنا
هذه الآثار من جهة الفتح والنصر، وإنما جاءتنا من طريق النبش والحفر، والمصريون في
حاجة إلى المال لإنفاقه في ضروريات المعايش، وقلما يمر عام إلا ويكشف المكشفون في
مصر من هذه الآثار الشيء الكثير، بحيث يوجد لكل نوع منها أشباه كثيرة، فما ضرَّ
المصريين لو تخلوا عن بعض هذا الكثير الزائد، وعن تلك الأشباه المتعددة، وانتفعوا
بقيمة أثمانها في بعض شئونهم العامة، ويبقى في المتحف مع ذلك من الآثار ما يكفي
للفخفخة والمباهاة ومباراة الأمم في تشييد المتاحف، وإن كان قد جاز لحكام مصر
السابقين أن يهادوا ملوك أوروبا وأميركا بالجانب العظيم والقدر الجليل من هذه
الآثار القائمة اليوم في الأنحاء المختلفة من أقطارهم، وأن يغضُّوا النظر عن
الوافدين على الديار المصرية لسببها أو ابتياعها من أيدي الفلاحين بدرهم أو دينار،
فلِمَ لا يجوز التخلي عن بعضها للانتفاع بأثمانها وهي على ما تراه — ما لا يباع
فإنه يُتَقسم — وجملة القول: إن الانتفاع بها اليوم قاصر على الأجانب وحدهم إما
بمشاهدتهم لها في ديارنا أو بانتقالها مسلوبةً إلى ديارهم، وأي عار على الأمة
المصرية أن تتصرف في بعض الآثار المتشابهة التي تنبتها لها الكهوف والتلال في كل
يوم؛ لتنتفع بأثمانها في ترقية شأن المعارف وبث الأدب بطبع تلك الكتب المخزونة
للأرضة بدار الكتب المصرية في المطبعة الأميرية، التي طالما أفادت الناس بطبع الكتب
النافعة في أيام الحكومة السابقة حكومة الجهل والظلم، وخبروني — ناشدتكم الله — أي
نفع وفائدة للأمة المصرية الإسلامية في أن تنشر بين يديها رمم الفراعنة في
الانتكخانة، وتقبر أرواح العلماء والحكماء في الكتبخانة؟ وأي الأمرين أعظم نفعًا
وأكثر ربحًا، أن يُعرض على أعيننا تمثال «إيبيس» وصورة «إيزيس» وذراع «رعمسيس» وفخذ
«امينوفيس» أو أن تتداول الأيدي كتابًا للرازي ومقالة للفارابي وفصلًا لابن رشد
ورسالة للجاحظ وقصيدة لابن الرومي؟ وما تجري الأمور عندنا شهد الله إلا على
التناقض، وما تسير إلا على خلاف المصلحة.
قال عيسى بن هشام: وجاء أوانُ الخروج، فقمنا نسعى لنلحق بأصحابنا في الملهى، ونشاهد
ما
يتم عليه حالهم، وينتهي إليه مآلهم.