العمدة في الملهى
قال عيسى بن هشام: وعدنا إلى المدينة وقد مَدَّ الغروب حبالته؛ ليقتنص من الأصيل
غزالته،
فطارت نفسُها شَعَاعًا،
١ واضمحلَّ قرصها شُعَاعًا، وجَدَّت نافرة إلى كناسها، وهي تصعِّد الشَّفَقَ من
أنفاسها، ثم اختفت شقائقُ الشفق، تحت أكمام الأفق، ولمَّا أن اخضرَّ من الليل جانبه،
وطرَّ
شاربه، وتوقدت مصابيح السماء، في قباب الظلماء، قصدنا دار التشخيص والتمثيل، وبيت التصوير
والتخييل، فدخلنا مع الداخلين نساءً ورجالًا، أجناسًا وأشكالًا، واخترنا لجلوسنا الكراسي
دون الغُرف لتتيسر لنا المشاهدة من كل طرف، ثم جلسنا نحدد النظر، في مَن حضر، وإذا نحن
بين
أخلاط من الطبقات اختلفت أزياؤهم، واتفقت أذواقهم وأهواؤهم، وعلا ضجيجهم وصياحهم، وكثر
لعبهم ومزاحهم، سبًّا وشتمًا، ولكزًا ولكمًا، ثم يتمايل بعضهم على بعض، ويضربون بعصيهم
وأرجلِهم ظهر الأرض، رجالًا وغلمانًا، شِيبًا وولدانًا، متظاهرين بملل الاصطبار، ومطالبين
برفع الستار، ثم حوَّلْنا النظر إلى أعالي الشُّرَف، وجوانب الغُرَف، فرأينا من بينها
مقاصير عليها رقائق الستائر، تشفُّ عن لوامع اللآلئِ والجواهر، في نحور الحور، من مكنونات
القصور، وبَيضاتِ الخدور، ولولا التأدب لتخيلناها من بنات الفجور، فهن يزحزحن من الوشي
والحبَر، ويكشفن عن الطُّرَر، تضيء بالغرر، ضوء الليل تحت القمر، ويتراءين ترائي الكواكب
والنجوم، من خلل السحب والغيوم:
وتنقبَتْ بخفيف غَيمٍ أبيضٍ
هي فيه بين تخفُّرٍ وتَبَرُّج
كتَنَفُّسِ الحسناء في مرآتِهَا
كَمُلَتْ محاسنها ولم تتزوَّجِ
والرجال من تحتها ينظرون ويتشوفون، ويتشوقون ويتلهفون لا تنثني أبصارهم عن وجهتها،
ولا
يحولون الوجوه عن قبلتها فهم قائمون على عبادتها عاكفون، لا ينفكون عنها ولا هم يستنكفون،
وهن يوالين الضحكات، ويُتالين الحركات، ويتبادلن معهم الغمز، ويتبادلون معهن الرمز،
ويتراسلون بمراوح تُثير مكنون الهوى والغرام، ويشيرون بمناديل تغني عن فصيح اللفظ والكلام،
وقد خرقت الأصابع نسيج الأستار؛ لتنفذ منها رسل الأزهار، وتقابلت بينهم المناظير بالمناظير،
تدني البعيد وتكبر الصغير، وكل فتى يرى أنه المرميُّ دون سواه بالنظرات، وأنه المعنيُّ
بتلك
الإشارات، فيتصنع التجمل والتظرف، ويتكلف التأنق والتلطف، وفوق أعلى الشُّرفات أقوام
وأي
أقوام متزاحمين أكوامًا على أكوام، كأنهم في سوق من أسواق الأنعام، لا ينتهون فيه عن
الشجار
والخصام، وتفقدنا أصحابنا في أنحاء الملهَى، فوجدناهم في غرفة والعاهرة في أخرى، وقد
تزيَّت
بزيِّ الأجنبيات فنبذت الخمار والإزار، وتبدت في القُبَّعة والزنار، وهي تغامز العمدة
بعينيها، وتشير إليه بيديها، والخليع يكون تارةً في الغرفة عندها وأخرى يظهر في غرفة
بعدها،
إلى أن دق الجرس بالدخول، وارتفع عن الملعب ستره المسدول، وظهر فيه أمامنا طائفة من
الممثلات والممثلين، ما بين ملحِّنين ومرتلين، على طريقة يمُجها السمع، ويعافها الطبع،
وبكلام مبهم، وألفاظٍ لا تفهم، كأنهم حداة في مفازة،
٢ أو سعاة في جنازة، وهم في أزياء متعاكسة، وأشكال غير متجانسة وثياب تنافرت
ألوانها، على أشخاص تباينت أوطانها، وظلوا يعبثون بالأناشيد والتلاحين، ثم انصرفوا عنا
بعد
حين ثم ظهر من بعدهم رجل مكتهل، مزجَّج الحواجب مكتحل، مصبغ الخد والجبين، بأحمر كالورد
وأبيض كالياسمين، فأخذ يخطر ويتثنَّى ويهتف ويتغنَّى، وبجانبه امرأة نَصف، تتمايل وتنعطف،
لا تقل عنه شيئًا في باب التصبغ والتدهين، والتصنع والتلون، يقول لها في شكوى الغرام،
وشرح
الوجد بها والهيام: «يا حبيبة الفؤاد، وغاية المراد، ما ألطف هذا الشكل! فهيا بنا نغتنم
الوصل».
فتجيبه: «قد يكون ذلك أيها الخل الوسيم، إذا ساعدتنا أُمِّي نسيم، فدبِّر أنت ما عليك،
وها أنا ذاهبة لأرسلها إليك».
ثم تنصرف الفتاة ويبقى الفتى في انتظار حضور الأم فتدخل عليه، وإذا هي عجوز شوهاء،
وجُلُبّانة ورهاء،
٣ فيتصل بينهما الكلام وينتهي بالقبول والاتفاق، ويضع الفتى في يدها كيسًا من
الدراهم عند مفارقتها إياه، ثم ينفرد متجولًا ينشد ويغنّى مدة من الزمن، ثم يذهب لسبيله،
وتأتي الأم ومعها زوجها وإذا هو رجل قد أثقلت ظهره السنون ولم تفده التجارب شيئًا، فتحتال
عليه ليقبل زيارة الفتى وتردده على ابنته في بيته فيمتنع ويتعلل بقوله: «حقًّا إن ذلك
الشاب، هو ألح من الذباب، وهو عندي أفسق من الشياطين، وأخبث من البراذين، لا يترك من
النساء
الدون، ولا العجوز الحيزبون».
فتجيبه بقولها: «لا تخف أيها الزوج الأفضل، فما كل الطيور تؤكل، وابنتنا العاقلة الحلوة
لا يُخشى عليها منه في الاجتماع ولا الخلوة»، ثم يطول الكلام بينهما وينتهي بقبول الوالد
ما
دبَّره له كيد الوالدة، ثم يذهبان ويجتمع العاشق بالفتاة فيتعانقان ويتلاثمان وتقول له
في
حديثها: «الحمد لله أيها الشاب الأنيق، على التيسير والتوفيق، فقد سهلت أمي لنا الطريق،
ولم
يبق أمامنا إلا استرضاء الخادمة، حتى تكون لأسرارنا كاتمة» فيجيبها: «نعم وإن لم تطاوعنا
فإنها تصبح حزينة نادمة؛ لأني أقسم يا بنت الكرام بما بيننا من الحب والغرام أنني أذيقها
كأس الحمام بحد هذا الصمصام، إن امتنعت عن تسهيل الأرب بقبول ما في هذا الكيس من
الذهب».
فتقول له: «آه حبيبي ما أطرب الجلوة، وما أطيب الخلوة، حيث نصبح في بحر النشوة، وهيا
بنا
أيها الهمام، فإني أسمع صوت أقدام، وعندي الآن أن أحسن طريقة، أن نتنشق نسيم الصبا في
زوايا
الحديقة، فيقول لها: «حفظت يا سيدتي ومولاتي، ومنبع حياتي ومماتي، فالآن قد بزغت شمس
سعودي،
وعطر الأكوان عرف ندِّي وعودي».
ثم يذهبان ويحضر بعدهما غيرهما فيتداول الكلام بينهم مرة عن سرقة واحتيال، وخيانة
واغتيال، وأخرى عن اجترام واقتراف، واختلاس واختطاف، ثم يعلو بينهم الضجيج ويصيحون بغناء
كأنه ندب وعويل.
وعلى هذا ينتهي الفصل الأول ويُرخى عليه الستار ويجدُّ الحاضرون حينئذٍ في الصفير
والتصفيق، والتأوه والشهيق، كأنهم جميعًا في نوبة من الصرع أو المس، ثم إنهم يتناثلون
إلى
الخروج لشرب الخمر والتدخين ونقيم نحن جلوسًا في مكاننا فيلتفت إليَّ الباشا ويقول:
الباشا
:
لقد سئمت — علم الله — ومللت من منظر هذه المراقص والملاعب، فما أشبه بعضها ببعض
وما أجمعها لأشتات النقائص والرذائل على اختلاف أوضاعها!
عيسى بن هشام
:
ليس هذا المكان في أصل وضعه بمرقص ولا بملعب، هذا هو «التياترو» المعروف عند
الغربيين بأنه أصل التثقيف والتأديب ومنبع الفضائل ومحاسن الأخلاق يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر، وهو عندهم توأم الجرائد، هذه تعظ بالخبر، وهذا يعظ بالنظر؛ فيغرس
في النفوس صورة الفضيلة مجسمة للأبصار بما يعرضه على الناظرين والسامعين من تاريخ
أهل الفضائل في الأزمان الغابرة أو الحاضرة، ويفعل في النفوس ما لا تفعله الرواية
والخبر، وهي في بطون القصص والسير، فيمثل لك محاسن الفعال، ومحامد الخصال، وما تأتي
به عواقبها من الظفر بالمرغوب والحصول على المقصود، وإن اعترضتك معها المصاعب،
ونالتك المتاعب، ويشرح لك شناعة الرذيلة ويصور فظاعة النقيصة وما يكون في عاقبتها
من السوء، وفي أثرها من المكروه وإن خلبتك بمنظرها ساعة وخدعتك ببهرجها لحظة،
فيجتمع لديك من الموعظة والعبرة ما عساه يردعك عن القبيح إن هممت به، ويردك إلى
الحسن إن تقاعدت عنه، ويهديك إلى الطريقة المثلى ويخرجها لك من الغيبة إلى الشهود،
ومن القول إلى الفعل، فتنجذب نفسك إلى أنواع الفضيلة من شجاعة وشهامة، وكرم ومروءة،
وأمانة ووفاء، وسماحة وسجاحة، وصبر وحلم. وينفر طبعك عما تجمعه الرذيلة من دناءة
وجبن، وخيانة وغدر، وجهل وحمق، وفحش وفسق.
الباشا
:
إن كان الأمر كما تقول فكيف تسنَّى للمصريين أن يقبلوا وضعه ويشينوا شكله،
ويجعلوا هذا المكان على مثل حال الحان؟ فلا فرق عندي فيما أنظره هنا الآن، وما
رأيته في الحانات الأخرى من الرقص والعزف ومعاقرة الخمر ومغازلة النساء، وتمثيل
أحوال العشق بأعظم شكل يغري به ويهيج من شهوات النفوس إليه، فإذا كان التشخيص على
هذا النمط معدودًا بينهم بابًا من أبواب الآداب، وهم يحضرونه ويشاهدونه على هذا
الاعتقاد فإن شره عندي أعظم من شر الملاعب والمراقص الأخرى؛ لأن الداخل إليه لا يرى
على نفسه من لائمة يتقيها في دخوله، ولا ينكر على أدبه منكر فيه، ولا يخشى انتقادًا
عنده فتسترسل النفس في غيها، ولا تجد منها لها رادعًا ولا وازعًا، بخلاف الحال في
الداخل إلى تلك الحانات، فإنه يدخلها وهو واثقٌ بأنه قادم على ما يلام عليه ويعاب،
فيأتيه وفي نفسه من الخجل والحياء ما عساه يصرفه يومًا عن غيه وجهله، والإقدام على
المحرَّم الصراح فيه من تأنيب النفس ما يزجر وينهى، لكن الإقدام على تحليل الحرام
وإباحة المنكر هو الداهية الدهياء، والمصيبة العامة فلا وازع من الخجل والحياء، ولا
زاجر من خوف الهلاك والعقاب.
عيسى بن هشام
:
لا تأخذن ما تراه هنا من التقصير دليلًا على أن هذا الفن غير مفيد للآداب، فقد
قدمت لك أنه فن غربي، ووصفته لك بمقدار ما وصل إليه من الإتقان لدى الغربيين، وهو
لا يزال هنا على حال القصور والانحطاط لم يلتفت المصريون إلى إتقانه وحسن وضعه،
وجهل الناس أصل الغرض المقصود منه، فحسبوه نوعًا من أنواع اللهو والخلاعة على ما
ترى، وعذر الذين يشتغلون بهذا الفن في تقصيرهم أنه لا بد من مساعدة أهله بالمال؛
ليتمكنوا من السعي في ارتقائه وإتقانه، وهم يلومون الحكومة المصرية في كل يوم حيث
تبذل المال لمعاونة الممارسين له من جماعة الغربيين أسوة ببقية الحكومات الغربية،
ثم إنها تحرم أهل بلادها كل مساعدة من هذا القبيل.
الصديق
:
قد سمعت مقالك وعندي أنه يجب على الباحث في الأمور المتعلقة بتربية الأخلاق،
وتهذيب الطباع أن ينظر أولًا إلى تأثير التربية، والإقليم وإلى تركيب الغرائز
والفِطَر وإلى العادة والعُرف، ولا يتحتم أن ما يكون ذا نفع عند الغربيين يكون له
نفع عند الشرقيين؛ لاختلاف ذلك كله فيهم وتفاوته بينهم، والشواهد كثيرة جمة على أن
ما يكون في باريس حسنًا يكون في برلين قبيحًا، وأن ما يكون في لوندرة حميدًا يكون
في الخرطوم ذميمًا، وما يكون في رومية حقًّا يكون في مكة باطلًا، وما يكون عند
الغربيين جدًّا يكون عند الشرقيين هزلًا، ولست أرى أن هذا الفن لو تم لأصحابه ما
يبغونه من وفرة المال ومعاونة الحكومة أن يصلوا به إلى حد الإتقان المطلوب، ولا أن
يكون له النفع المقصود في تربية الأخلاق وحسن الآداب لما فيه من المنافرة البينة
لطبائع أهل المشرق، وأخص بالذكر منهم أهل الإسلام لا بل ربما كان منه الضرر البحت،
ولا يغيب عنك أن هذا التشخيص والتمثيل قائم على أساس العشق يدور فيه بكل أدوار، ولا
تخلو قصة من قصصهم التي يمثلونها عن ذكر العشق والغرام، وما من رواية لهم إلا
والعاشقان يكونان فيها كالفاتحة والخاتمة لها، هو إن كان مقبولًا عند الغربيين
مسموحًا به لموافقة العادة عندهم، ولكونه شيئًا لا عيب فيه يجهر به فتيانهم
وفتياتهم، بل هو أصل من أصول التزاوج بينهم لكنه غير مقبول عند الشرقيين، ولا مسموح
به في عاداتهم ولا يدخلونه في أبواب الفضيلة ومحاسن الآداب، ولذلك كان شأنه الكتمان
والتستر لا التجاهر به والتظاهر، ولقد جرى العشق في بعض البلاد الشرقية مجرى العيب
المحض والعار الفاضح، وكان عند بعض قبائل العرب إذا اشتهر أحد فتيانهم بعشق فتاة
منهم منعوه عن التزوج بها لهذا السبب، وربما رفعوا أمره إلى السلطان إن شهَّر بها
في شعره فيهدر دمه، فهذا العشق الذي هو الركن الأكبر والسبب الأعظم في حصول التزاوج
عند الغربيين هو من أكبر الموانع في التزاوج لدى الشرقيين.
ثم إن تهذيب الأخلاق بهذا الفن لا يأتي إلا من الطريق المألوف والمسلك المعروف
عند أهل كل بلد، فتشخيص هذه الأقاصيص والروايات الغربية الموضوعة على أخلاق أمة
بذاتها لا يؤثر في أمة أخرى، ولا بد أن يكون التشخيص والتمثيل بين الشرقيين مطابقًا
لأحوالهم وظروفهم جاريًا على مقتضى عرفهم وتاريخهم، وليس من المقبول عندهم حصول هذا
التشهير والتمثيل في معيشة الأهل والولد، وما تنسدل عليه الحجب والستور في البيوت
والدُّور، وليس في الدين الإسلامي ما يسمح باشتراك النساء مع الرجال في تأدية هذا
الفن؛ لأنه ينهى النساء عن التبرج بالزينة فضلًا عن الاختلاط بالرجال، ويأمرهن بغض
البصر فضلًا عن طموحه، ولا من أدب المسلمين أن يمثل بينهم تاريخ الإسلام وتاريخ
خلفائه وصلحائه على أسلوب يبتدئ بالعشق والغناء، وماذا ترى في أبي جعفر عاشقًا،
وأبي مسلم مغنيًا، وأبي الفوارس راقصًا، كما يجترئ عليه الآن أهل هذا الفن، وذلك
أكبر إهانة للأسلاف وأعظم خرف في التاريخ، وإن أردت أن أكاشفك بكل ما يجول في خاطري
قلت لك: إن هذا الفن الذي تغالى الغربيون في إتقانه وارتقائه لم يفدهم أدنى فائدة
في باب الآداب، وضرره بينهم اليوم ظاهر ونفعه غير باد؛ لأن المعول عليه عندهم في
هذا الفن أن يظهروا الفضيلة من خلال تمثيل الرذيلة، ويبينوا عن العفاف بتصوير
الشهوات إلى حد المبالغة التي يذهب إليها خيال الشاعر، فتوضيح الرذائل وتبيين
الشهوات وعرضها على أصحاب الرذائل في القوالب المختلفة بما تنطوي عليه من وجوه
الحيل والمكر والخداع والختل مدرجة إلى تعمق صاحب الرذيلة في رذيلته، واقتناعه فيها
بتلك الوجوه المنوعة فلا يسبقه إليها سابق، وكم تدرب اللصوص ومهرة الأشقياء وبرَّز
أهل الفسق والفجور بحضورهم تمثيل الروايات فاكتسبوا منها ما كان ينقصهم، وأخذوا
عنها ما كان يعجزهم، ومن تأمل قليلًا وجد أن الشرح والإسهاب في خفايا الرذائل التي
يندر حدوثها ويقل وقوعها كان من الأسباب في انتشارها، ولذلك قالوا: إن توضيح
الجرائم التي من هذا القبيل في القوانين مما لا يؤمن معه تيقظ المجرم إليها، وقد
سئل الشارع الحكيم اليوناني عن سبب إغفاله عقوبة القاتل لأبيه في شريعته فقال: ما
كنت لأتصور أن يونانيًّا في الوجود يقدم على قتل أبيه، فكان قوله هذا أنفَى لوقوع
هذه الجريمة من تدوينه شدة العقوبة عليها، واكتساب صاحب الفضيلة من كشف الرذيلة لا
يقوم بمقدار الضرر الذي يلحق بأهل الشر منها.
قال عيسى بن هشام: ودق الجرس وعاد الناس إلى مقاعدهم واشتدت بينهم الجلبة وعلا الصياح،
وزيَّن السكر لأحدهم أن يقوم فيهم واعظًا خطيبًا، فما زال يهذي في القول حتى سقط على
الأرض
يتخبط في قيئه ورجيعه، لا في دمه ونجيعه، ثم ارتفع الستار عن منظر غابةٍ يدور فيها ذلك
الفتى ويتغنى بغناء يشبه أذان المؤذن ومن ورائه عشيقته تتلفت وتتعثر، ثم رأيناه قد ترك
الغناء مرة واحد وتقدم نحو الحاضرين يخاطبهم بالزجر والتأنيب على جلبتهم وصياحهم، ويشكو
مر
الشكوى من الانصراف عنه في غنائه.
ثم إنه يعود إلى ما كان فيه من الغناء، ويأخذ بيد خليلته للهروب فيدخل والدها عليه
في تلك
الحال فيحول بينها وبين عشيقها، فينبري له الفتى بضربة حسام تلقيه على الأرض صريعًا،
ويدركه
قومه فيصوب الفتى عليهم أسهمه ونصاله، فيلجأون إلى الفرار، وتقع المرأة مغشيًّا عليها
ويقع
العاشق باكيًا تحت أقدامها، وعلى هذا يسدل الستار وينتهي الفصل ويعود الناس إلى مكان
الشرب
والتدخين، فنتبع أثرهم ونجلس ناحية في بعض زوايا الحان، وإذا بالعمدة وصاحبيه وعاهرته
جالسون جانبًا أمام إحدى المنافذ وأمامهم الراح والكئوس مترعة، وإذا برجل عابس الوجه
بين
الغلظة قد وقف أمامهم يقول للمرأة في كلامه: «أتظنين أن الهرب وخُلف الميعاد يمنعك مني
ويؤجل وفاء القسط المطلوب لي منك، وأنا لا أزال أقتفي أثرك منذ الصباح إلى الساعة، وتحملتُ
في البحث عنك تعبًا عظيمًا، والحمد لله؛ إذ عثرت عليك في هذا المكان ولست أبرح من هنا
حتى
تعطيني مبلغ القسط أو تردي إليَّ هذه الحلي التي يتزين بها صدرك أمام عشاقك وخلانك، ويمد
يده ينتزع الحلي من صدرها فيمنعه الخليع متوسطًا بينهما، ويقول له: ليس هذا وقته وليس
هنا
محل المطالبة وأمامك المحاكم، فلا يرجع الرجل عن عزمه بل يقول: «أنا لا أطالب بحقي أمام
المحاكم وأمامي مالي في صدرها.»، ثم يمد يده ثانية فتقبض العاهرة على حليها وتميل على
العمدة تستغيث به وتستجير، فتأخذه الحمية والنخوة فيدفع عنها الصائغ بيده فيقول له: «إن
كان
قد عز عليك يا حضرة العمدة مطالبة صاحبتك، فالشهامة تقضي عليك بأن تدفع لي المبلغ من
عندك
لا أن تدفعني عن حقي بيدك.» فيسأله العمدة عن مقدار المطلوب له فتقول له المرأة: إنه
لا
يزيد عن عشرين جنيهًا، فينقد الصائغ الدراهم في الحال ويطلب منه ورقة الاستلام، ثم يقدمها
إلى المرأة بيد والكأس بيد أخرى فتقبِّل حافة الكأس شكرًا له وحمدًا، وينصرف الصائغ ضاحك
السن قرير العين، ويعودون إلى شربهم وحديثهم، فيقترح العمدة عليهم أن يغادروا هذا المكان
إلى سواه، وأنه يفضل الذهاب إلى منزل صاحبته، ويطلب من الخليع أن ينظم له مجلسًا هناك
فوق
سطح المنزل في ضوء القمر.
وبينما هم في أخذٍ ورد إذا بصاحب الحان الذي تشتغل فيه المرأة واقف على رأسها واضع
يديه
في خاصرتيه يبكتها بقوله: «أهذا هو المرض الذي تعتذرين به عن تأخيرك في هذه الليلة عن
الشغل، وهذا هو المستشفى الذي تتعالجين فيه؟ وأظن أن حضرة العمدة هو الطبيب الماهر في
هذا
العصر الحاضر.» ثم يجرها بيده لتذهب معه إلى مباشرة الشغل في الحان، فيمسكها العمدة من
أذيالها ويقول له: «ما هذه الوقاحة، وما هذا التهجم بعد أن أخذت منها عشرة جنيهات في
نظير
تأخرها عن الشغل في الحان، ورضيتَ بهذا العوض لتكون على حريتها في هذه الليلة؟» فيقول
له:
«إن كانت أخذت منك هذا المبلغ لدفعه إليَّ فقد كذبت في دعواها وادخرت الدراهم لنفسها،
فإما
أن ترد إليَّ المبلغ وتتعهد لي بأنك لا تجتمع بهذه المرأة في غير محلي، وإما أن تستعد
للقضية التي أقيمها عليك بطلب التعويض الذي لا يكفيني فيه دخل أطيانك.» ويشتد بينهم اللجاج
والخصام فتنبري إحدى الممثلات الجالسات في الحان ممن انتهى دورهن، فتستصرخ البوليس
لإخراجهم، فيأتي البوليس ويصمم أن يسوقهم إلى «القسم» جميعًا، ونخرج وراءهم لاتباعهم،
فيأبى
الباشا ذلك كل الإباء وينفر عنه كل النفور، ويقول: أنا لا أتوجه إلى «القسم» لا شاكيًا
ولا
شاهدًا ولا مراقبًا ولا مستخبرًا، فقد جربت ما يقع فيه، وكفاني ما علمتُه من ظواهره
وخوافيه، وقد شعرت بسأم في النفس، وصداع في الرأس، فلنذهب إلى البيت لنتمتع بشيء من الراحة،
ونخلص من رؤية هذه الحُرُمات المباحة، فأجيبه بالطاعة والانقياد، ونترك الصديق على
ميعاد.