المدنية الغربية
قال عيسى بن هشام: وما وصلنا إلى البيت حتى عمد الباشا إلى غرفة نومه، يحاول أن يشتفي
بالرقاد من غمه وهمه، فتركته في غرفته، ورغبت في النوم كرغبته، وبينا أنا غريق في المنام،
أسبح في بحر الأحلام؛ إذ سمعت الباشا يناديني نداءً متتاليًا، فقمت إليه مسرعًا وملبيًا،
فأخبرني أن طول التفكر نفى عنه الرقاد، وأورثه الأرق والسهاد، وطلب مني أن نحيي الليلة
بالسمر، وأن أقتلها معه بالسهر، فجلسنا نتجاذب أطراف الحديث، من قديم في الزمن وحديث،
إلى
أن صارت الليلة في أخريات الشباب فاستهانت بالإزار والنقاب، ثم دب المشيب في فودها١ وبان أثر الوضح في جلدها،٢ فعبثت بالعقود والقلائد، من الجواهر والفرائد، ونزعت من صدرها كل منثور ومنظوم،
من درر الكواكب ولآلئ النجوم، وألقت بالفرقدين من أذنيها، وخلعت خواتيم الثريا من
يديها.
ثم إنها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها، وبرزت للناظرين عجوزًا شمطاء، ترتعد متوكئة
على عصا
الجوزاء، وتردد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته
البيضاء، ثم قبرها في جوف الفضاء، وقامت عليها بنات هديل،٣ نائحة بالتسجيع والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال عرس اجتلاء، وتغير النحيب
بالغناء، لإشراق عروس النهار، وإسفار مليكة البدور والأقمار، وما نشعر إلا وقد طلع الصديق
علينا مع الشمس للموعد الذي كان بيننا من أمس، فسألنا كيف أصبحنا، وهل نعمنا واسترحنا،
فأخبرته بما كان من اتصال السهر إلى الآن، وما كانت تجري عليه المسامرة، وتدور به المذاكرة،
وجملتها أن الباشا لا يزال يدهش مما يراه في رحلته، ولم يكن له أثر في أيام دولته،
ويستخبرني عن سرعة هذا الانتقال من حال إلى حال، وما الأسباب والعلل في انتشار هذا الفساد
والخلل، فذكرت له بعض ما حضرني منها، وما علمته عنها، وإنك لخليق أيها الصديق أن تكشف
لنا
عن وجه الحق الصريح، وتخبرنا بما عندك من السبب الصحيح.
الصديق
:
السبب الصحيح في ذلك هو دخول المدنية الغربية بغتة في البلاد الشرقية، وتقليد
الشرقيين للغربيين في جميع أحوال معايشهم كالعميان لا يستنيرون ببحث ولا يأخذون
بقياس، ولا يتبصرون بحسن نظر ولا يلتفتون إلى ما هنالك من تنافر الطباع وتباين
الأذواق، واختلاف الأقاليم والعادات، ولم ينتقوا منها الصحيح من الزائف، والحسن من
القبيح، بل أخذوها قضية مسلَّمة، وظنوا أن فيها السعادة والهناء، وتوهموا أن يكون
لهم بها القوة والغلبة، وتركوا لذلك جميع ما كان لديهم من الأصول القويمة، والعادات
السليمة، والآداب الطاهرة، ونبذوا ما كان عليه أسلافهم من الحق ظهريًّا، فانهدم
الأساس، ووهت الأركان، وانقضَّ البنيان، وتقطعت بهم الأسباب، فأصبحوا في الضلال
يعمهون، وفي البهتان يتسكعون،٤ واكتفوا بهذا الطلاء الزائل من المدنية الغربية، واستسلموا لحكم
الأجانب يرونه أمرًا مقضيًّا وقضاءً مرضيًّا، وخربنا بيوتنا بأيدينا، وصرنا في
الشرق كأننا من أهل الغرب، وإن بيننا وبينهم في المعايش لبعد المشرق من
المغرب.
الباشا
:
قد يكون ذلك، ولكن لست أدري لأية علة أخذ الشرقيون بباطل المدنية الغربية وارتدوا
بلباسها، ولم يلتفتوا يومًا للرجوع إلى سابق مدنيتهم الصحيحة وعمرانهم القويم، فهم
أهل السبق في ذلك كله، وعنهم أخذ الآخذون وقلد المقلدون في كل زمان ومكان.
الصديق
:
لا أعلم لذلك من علة إلا ما أعقب العزة السابقة من البطر والأشر، وما يتولد عنهما
من طول التواني والتواكل، وسوء التراخي والتخاذل، فغفلوا عن ماضيهم، وذهلوا عن
حاضرهم، ولم يكترثوا لمستقبلهم، وقعدت بهم هماتهم عن مشقة التكاليف التي كان يتباهى
أسلافهم باحتمالها، ويتفاخرون بممارستها، وراقهم أن يأخذوا بهذا الطلاء الحاضر من
مدنية الغربيين بلا مشقة ولا تعب ولا جدٍّ ولا كدٍّ، فعظم مقدار أهل الغرب في
أنظارهم وتوهموا أنهم من طبقة عالية فوقهم، فخضعوا وذلوا، وقهر الغربيون
وغلبوا.
الباشا
:
ألا ليت شعري كيف يمكنني الوصول إلى البحث والنظر في أصول المدنية الغربية ظاهرها
وباطنها، وأن أقف على خافيها وباديها في أرضها وديارها، ولكن بعدت الشقة وعزّ
المطلب.
عيسى بن هشام
:
لا تستبعد أيها الأمير حصول الغرض ونيل المطلب في يومٍ من الأيام، فإنه لا يزال
يدور في خاطري أن أرحل معك رحلة إلى البلاد الغربية تجتني منها ثمرات العلم والبحث،
فإن كان هذا العزم من غرضك أيضًا فأنا أجهز له أمرنا.
الصديق
:
وأنا إن شاء الله معكما.
قال عيسى بن هشام: ثم قمنا وعقدنا النية على تحقيق هذه الأمنية، ونسأل الله أن يسلك بنا سبيل الهداية في المبدأ والنهاية.
١
الفود: معظم شعر الرأس مما يلي الأذن.
٢
الوضح: بياض الصبح.
٣
بنات هديل: الحمائم.
٤
تسكع الرجل: تمادى في الباطل.